أول شيء لاح لي من مدينة الموصل قبل دخولي إليها براً بسيارة أجرة، كان عمودُ دُخانٍ بعيد يشير إلى حدوث كارثة ما. قبل عشر سنوات، عندما سلكت طريق هجرتي إلى خارج البلاد، ألقيت نظرتي الأخيرة إليها من ذات المكان، وكانت أعمدة دخان التفجيرات تتراقص في البعيد مثل تلويحات وداع.
حالفني الحظ يومها، فلم تمضِ سوى أيام قلائل على إقلاع الطائرة التي أقلتني مع أسرتي الصغيرة من مطار أربيل في إقليم كردستان إلى النرويج، حتى سيطر تنظيم داعش على الموصل (405 شمال بغداد)، وكان ذلك في العاشر من حزيران/ يونيو 2014، بعد حرب شوارع يومية خاضتها عناصره مع القوات الأمنية العراقية، على مدى سنوات.
أنا نجوت من كل ذلك، بخلاف أكثر من خمسين صحافياً زملاء لي سقطوا برصاص التنظيم أو بشظايا عبواته الناسفة أو مركباته المفخخة التي كان يوزعها بسخاء في الشوارع الرئيسة والأحياء السكنية والأسواق.
“رائحة البارود المحترق ماتزال صامدة في أنفي، وأصوات الرصاص ودوي القنابل في رأسي”، قلت هذا بهدوء لسائق سيارة الأجرة الشاب الذي أقلني من مطار أربيل ووافق على أخذي في جولة للموصل. شدّ قبضتيه على المقود كأنه يستعد لسباق، ورد علي بنبرة قلق “هل سمعت شيئاً جديداً في الأخبار؟”.
ويبدو أنه أدرك بأنني واقع تحت تأثير ذكرياتي عندما أخبرته بأنها زيارتي الأولى للمدينة بعد عقد كامل من الغياب، فأخذ يشرح لي مثل مرشدي السياحة، كيف أن جراح حرب التحرير من التنظيم التي انتهت في تموز/ يوليو 2017 اندملت، وأن مظاهر الموت قد اختفت تماماً.
لم تعد هناك نقاط تفتيش موزعة في الشوارع ومداخل جسور المدينة الخمس كالسابق، أي قبل 2014، ولم تعد الأفرع الداخلة إلى الأحياء السكنية مغلقة بالحواجز الكونكريتية، ولا تفرض ساعات منع التجوال “من السادسة مساءً حتى السادسة من صباح اليوم التالي”.
ثم استدرك بنبرة حزن: “لكن ثمة ندوب هنا وهناك”، ولم يكن بحاجة ليشرح لي جملته الأخيرة، فمنارة الحدباء التي جاوز عمرها ثمانية قرون، وبوابات مدينة نينوى الأثرية وقصر النمرود الأثري وقبر البنت لم تكن في أمكنتها، إذ فجرها التنظيم خلال فترة سيطرته التي امتدت نحو ثلاث سنوات، بذريعة أنها “معالم شركية”. كذلك الأمر مع جامع النبي يونس أقدم جوامع المدينة، فقد اختفى تماماً. حين كان السائق يتكلم تذكرت تلك الحكاية التي لطالما سمعتها في طفولتي عن ذاك النبي يونس، الذي ارتبط اسمه بالموصل، وعن الحوت الضخم الذي ابتلعه فبقي في جوفه ثلاثة أيام بلياليها يدعو ربه إلى أن استجاب له وحدثت المعجزة. لم أكن أعلم في ذلك الوقت أن الحوت سوف يبتلع ليس فقط النبي يونس، بل كل المدينة ومعالمها الأثرية والحضرية.
خلال جولتي تلك التي اقتصرت على نهار واحد فقط، كنت واثقاً في قرارة نفسي، بأن الخراب الذي أحدثه “داعش” وحرب التحرير منه، لم يقتصر على الأبنية بل طال كذلك الإنسان، وهذا تحديداً ما لا يمكن للجرافات أن ترفعه، ولا يمكن للحيتان أن تلفظه من جوفها.
محنة الأقليات
قابلت العديد من معارفي، بدأت مع البعض منهم من حيث انتهينا قبل الشتات. كانوا مثلما تركتهم تماماً، وكأن أحدهم أوقف المشهد لثوانٍ وليس لعشر سنوات ثم أعاد تشغيله فجأة، أما البعض الآخر، فقد مدّوا لي في البداية أكفّ السلام بتوجس واحتجنا إلى بعض الوقت لاستعادة ألفتنا القديمة.
صديق طفولتي رامي الذي ينتمي إلى عائلة مسيحية معروفة في المدينة، سألني وهو يتلفت أمام باب منزله في حي نركال شمالي الموصل “هل تصدق بأن بيتي هذا كان محكمة شرعية لتنظيم داعش؟” ثم روى لي، كيف أن التنظيم يوم استيلائه على المدينة، خيّر أسرته وعموم المسيحيين في المدينة بين دفع الجزية، أو النزوح بالثياب التي عليهم دون أخذ شيء معهم، أو الموت.
تابع أسئلته وهو يلف ذراعيه على صدره “هل تعرف ماذا اخترت؟” ثم أجاب نفسه بنفسه: “أن أخرج مع أفراد أسرتي دون أن نأخذ معنا سوى مستمسكاتنا الشخصية.. لقد أخذوا منا كل شيء ملكناه”. فكر قليلاً وعينه على الأرض قبل أن يواصل حديثه: “أنا واحد من بين 150 مسيحي فقط عادوا إلى الموصل بعد تحريرها، وقسم منهم لم يمكثوا طويلاً، إذ غادروا مجدداً حين وجدوا أنفسهم غرباء في مدينتهم”.
أخذ رامي يروي لي كيف أن خمساً وثلاثين كنيسة ومركزاً دينياً مسيحياً في الموصل مغلقة أبوابها، باستثناء عدد قليل، وأن المدينة التي كانت مسيحية قبل قرون، تناقص فيها المسيحيون من 50 ألف شخص عند سقوط النظام العراقي السابق في 2003 إلى خمسة آلاف قبل سيطرة داعش عليها.
أفرد أصابع يديه أمامه وقال: “نحن الآن نعد على الأصابع وقريباً ستخلو الموصل وللمرة الأولى في تاريخها من أي وجود مسيحي، فلم نعد نثق بمحيطنا الاجتماعي هنا. نشعر بالخوف على الدوام من أن تتكرر تجربة داعش”.
هاجس الخوف المعشش في ذهن رامي، وغيره من المسيحيين المتبقين في المدينة، هو ذاته الذي جعل الموصل خالية من الأقليات الأخرى كذلك، فلا أثر للأيزيديين والكاكئية في شوارعها، وقسم كبير من الشبك ولاسيما الشيعة منهم وهم الأغلبية، نزحوا واستقروا في قرى في سهل نينوى شمال وشرق المدينة.
زميل الدراسة الجامعية في كلية الحقوق قبل عشرين سنة، الشبكي صادق حامد، واحد من بين الذين فضلوا حياة الريف في سهل نينوى، “من أجل سلامة عائلتي”، قال هذا بنبرة حازمة عبر اتصال هاتفي، وذكر بأنه فقد شقيقين قتلا بأيدي عناصر داعش فقط لأنهم من الشيعة، وأنه غير مستعد للتضحية بالمزيد.
لكن وبخلاف باقي الأقليات، أصبح للشبك ميليشيا مسلحة قوية تفرض سلطتها على سهل نينوى بالكامل تدعى اللواء 30 التابع للحشد الشعبي الشيعي، وصار لهم ممثلون في مجلس المحافظة وحكومة نينوى المحلية، ومناصب إدارية في عدد من الدوائر والمؤسسات الحكومية.
بدا صادق منفعلاً وهو يسرد لي كل تلك التفاصيل وبين وجهة نظره: “استفدنا من درس التاريخ. الأقوياء هم الذين يحصلون على المكاسب. لطالما كنا مهمشين في هذا المجتمع، وقتلت الجماعات المسلحة كالقاعدة وأنصار الإسلام وداعش المئات منا لأننا كنا مسالمين بلا ظهر نستند إليه، لكن هذا انتهى الآن وإلى الأبد”.
كان صادق طوال الحديث ينوّه إلى أن الشبك لديهم لغتهم وثقافتهم الخاصة، “ما الضير إن كان لنا كياننا الخاص مثل بقية القوميات؟ هذه هي فرصتنا التاريخية ولاسيما أن أعدادنا تقترب من 300 ألف نسمة، ولدينا نحو 75 قرية موزعة في سهل نينوى”، قال هذا بكثير من الحماس، ثم أخبرني مازحاً أنني ممنوع من دخول سهل نينوى بسبب خلفيتي الكردية.
القوات الكردية المعروفة بالبيشمركة، كانت تسيطر على سهل نينوى منذ 2003، ولغاية 2016 وفقاً لما يعرف بالمناطق المتنازع عليها بين إقليم كردستان وبغداد وفقاً للمادة 140 من الدستور العراقي لسنة 2005. غير أن إنقلاباً حدث في موازين القوى مع صعود الحشد الشعبي الذي تم تأسيسه بفتوى من المرجع الشيعي الأكبر علي السيستاني في 13 حزيران/يونيو 2014 لمواجهة تمدد داعش، فحلت فصائله محل البيشمركة بعد إكمال تحرير سهل نينوى من سيطرة التنظيم في 2016، وهي تمنع الآن أي شخص من خارج المنطقة بتملك أو استغلال أو التصرف بعقار فيها بذريعة منع التغيير الديموغرافي.
أما فيما يخص الكرد، الذين كانوا يشكلون الأقلية الأكبر في مدينة الموصل، ولديهم ما يقترب من نصف مقاعد مجلس المحافظة قبل 2014 من أصل 27 مقعداً، فهم الآن ممثلون فقط بسبعة مقاعد، والفائزون بها في انتخابات محلية جرت في أواخر 2023، يمثلون جميعهم مناطق خارج مدينة الموصل.
تغيير ديموغرافي مسكوت عنه
شهدت محافظة نينوى مع مركزها مدينة الموصل، التي يقطنها ما يزيد عن أربعة ملايين نسمة، أكبر نزوح عرفه تاريخهما عند سيطرة داعش عليها في 2014، إذ اضطر نحو مليوني شخص للجوء إلى المخيمات التي أنشئت في محافظات إقليم كردستان المجاورة أو إلى المحافظات الأخرى جنوباً أو الذهاب أبعد من ذلك بالهجرة إلى دول الجوار أو أوربا والولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا.
في ذات الوقت، عرفت الموصل، أكبر هجرة من الريف إليها، لدرجة أن العديد من المناطق السكنية العشوائية استحدثت خلال السنوات العشر الأخيرة في جنوبيها وغربيها، وسكانها من أبناء الريف غربي نينوى الذين نزحوا بسبب قلة الأمطار والجفاف والتصحر الذي ضرب مناطقهم، وهرباً من الفقر المدقع.
أخبرني صديقي الناشط المدني خيري الدين أحمد، أن الكثير من سكان المدينة من العرب السنة، من الذين نزحوا إلى كردستان أو هاجروا إلى الخارج، لم يعودوا، بسبب اندماجهم في تلك المناطق التي نزحوا أو هاجروا اليها، وحل محلهم سكان الريف. يقول: “في المقابل، فإن أهالي الريف لم يندمجوا مع حياة المدينة، بل نقلوا المظاهر القبلية والعشائرية إليها”، يصمت لحظات ثم يواصل بحدة: “سيطرة الحشد الشعبي الشيعي بعد التحرير من داعش، أفرزت الكثير من المظاهر على الموصل المدينة التي عرفت بأنها سنيّة بالكامل”.
ويعددها: “بعض الوجوه العشائرية السنية أعلنت تشيعها، وانعكس ذلك على الشارع، إذ تجد في بعض المناطق بمدينة الموصل، جداريات كبيرة لشخصيات شيعية مثل زعيم ميليشيا عصائب أهل الحق قيس الخزعلي، والمرجع الشيعي السيستاني، وصور لقائد فيلق القدس قاسم سليماني وقائد الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس (اللذين قتلتهما غارة جوية أمريكية في الثالث من كانون الثاني/يناير 2020 في بغداد)، مكتوب عليها هدية من سكان الحي الفلاني”.
كنت قبل وصولي إلى المدينة قد اطلعت على تحقيقات نشرتها وسائل إعلام عراقية مستقلة، وثقت استحواذ الوقف الشيعي على جوامع ومزارات دينية قديمة في مدينة الموصل كان قد أوقفها بانوها من العائلات السنية منذ عقود طويلة لصالح الوقف السني. قضية الوقف هذه والنزاع على ملكيته لم تكن مطروحة بين أهالي الموصل قبل سنوات بهذه الحدّة، إذ لم تكن الحساسيات الشيعية والسنية قد وصلت في الموصل إلى هذا الحد، ولم تكن الميليشيات الشيعية منتشرة في أحياء المدينة.
أما اليوم فيخشى خيري الدين أحمد ومعه كثر، من مشروعٍ يعرف بـ”طريق السبايا”، وهو طريقٍ بحسب بعض الروايات يبدأ من كربلاء حيث وقعت معركة في سنة 680 ميلادية قُتل فيها الحسين بن علي حفيد النبي محمد، وسيقت عبره نساء قريبات له كسبايا إلى دمشق عن طريق الموصل.
الناشط خيري يصرّ على أن استعادة هذه الرواية التاريخية وتركيبها على خرائط الموصل المعقدة، “هو ذريعة للميليشيات الشيعية لتشييع الموصل والمناطق السنية الأخرى”، خصوصاً أن تلك الميليشيات، وأبرزها عصائب أهل الحق بزعامة قيس الخزعلي، المدعومة من إيران، “افتتحت مكاتب اقتصادية في كل شبر من المدينة”، وباتت تسيطر من خلالها على الشأن الاقتصادي في الموصل.
وبالفعل، كشفت تحقيقات صحافية نشرت مؤخراً وشهادات لسكان المدينة، إلى أن تلك الميليشيات “استحوذت على مئات الدونمات من الأراضي المملوكة للدولة، فغيرت جنسها ونقلت ملكيتها وباعتها بملايين الدولارات، كما أنها تتقاضى نسباً من المبالغ المخصصة للمشاريع الحكومية تبلغ بين 10 إلى 20%، فضلاً عن مسك الأرض والسيطرة على القرار الأمني، ومنحت أحزاب الإطار التنسيقي الشيعي الفرصة للسيطرة على الحكومة المحلية”.
كان خيري يسرد لي التفاصيل مثل معلقي مباريات كرة القدم، وكنت في تلك الأثناء أتامل الوجوه المارة بنا ونحن على مقربة من زحمة الرصيف الموازي لجامعة الموصل. كانت غريبة عني تماماً، فلم أستطع العثور على أي من الملامح التي عرفتها في المدينة طوال واحد وأربعين سنة عشتها فيها.
“أين ذهب الجميع؟” قلت هذا متأثراً كمن استيقظ لتوه من حلم، فردّ علي خيري، وهو يشدني من ذراعي: “كلما تعمقت في المدينة، يزداد شعورك بالغربة، ولاسيما أنك لن تستمع للهجة أهل الموصل القديمة.. لقد اختفت وأصبحت لهجة العشائر هي السائدة.. صار الموصليون أقلية في مدينتهم”.
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
آثار الحرب
سألني صاحب مطعم شعبي في منطقة الدواسة بقلب المدينة: “هل تعرف ماذا تفعله الشعوب التي تخرج لتوها من الحروب؟” هززت رأسي مؤكداً له جهلي، فقال على الفور وهو يمد لي طبقاً مليئاً بأقراص الفلافل الساخنة “يأكلون بشراهة!”.
ابتسمت لما قاله الرجل وكان في عقده الخامس، تبدو الحيوية على ملامح وجهه، لكن ما قاله لم يكن مزحة، إذ واصل حديثه بجدية تامة: “افتُتحت بعد مرحلة داعش العشرات من المطاعم، أصبحت منتشرة في كل مكان، وبعضها تظل مفتوحة الأبواب حتى الصباح، وهي جميعها بلا إستثناء مليئة بالزبائن الجائعين”.
وزاد على ذلك، أن الموصل التي حافظت على أطباقها جيلاً بعد جيل، فتحت مطابخها لمختلف الأكلات غير المعروفة فيها في السابق، كالمندي والسمبوسك والتاكو والبراوستر وغيرها، وصار يعدد المزيد من الأطباق ساخراً مستخدما أصابع يديه الاثنتين، وفجأة توقف كأنه تذكر شيئاً مهماً:”لكن أكبر تغيير شهدته الموصل بعد كثرة المطاعم، هو بناء المجسّرات الصغيرة في الطرق” مشيراً بذلك إلى أن التركيز تم على ما هو هامشيٌ في المدينة وبقيت الأساسية التي دمرتها الحرب بعيدة عن خطط الإعمار.
وكان معه حق، إذ توزعت المطاعم بنحو لافت في جميع مناطق المدينة، وكانت هنالك مجسرات جديدة قد نمت تقريباً في معظم الشوارع الرئيسة، في حين أن حركة إعمار البنية التحتية الصحية والخدمية ومطار المدينة الوحيد فضلاً عن المصانع والمعامل الحكومية تجري بنحو سلحفاتي حسبما أخبرني من قابلتهم.
مزيد من الحرائق
البطء في عملية إعادة الإعمار رغم مرور سنوات عدة على انتهاء الحرب يقابله تقييد بات يستشعره الصحافيون العاملون في المدينة، كلما وجهوا انتقاداتهم للقوى الممسكة بالأرض أو تذمروا من تردي الواقع الخدمي، علماً أن معظمهم يعمل في وسائل إعلام تتبع أصلاً أحزاب سياسية أو شخصيات نافذة في السلطة.
ووفقاً لمقابلات اجريتها مع زملاء صحفيين، هناك سلاح جديد ليس مصمماً فقط لاسكاتهم بل أيضاً لإسكات الأصوات المنتقدة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إذ جرى تقييدها بما يعرف بـ”مكافحة المحتوى الهابط” وهي حملة أطلقتها وزارة الداخلية مطلع 2023 لملاحقة المدونين وصانعي المحتوى المرئي الذين قالت بأنهم يسيئون إلى المجتمع العراقي.
صحافي في عقده الرابع، وهو زميل عمل سابق يعمل اليوم محرّراً في إذاعة محلية، رد على سؤالي حول مناخ العمل الصحافي قائلاً إن الحملة المذكورة “وسيلة لجأت إليها الحكومة بمساعدة السلطة القضائية لإسكات أصحاب الرأي ووقف الإنتقادات الموجهة إلى أداء المؤسسات الحكومية”، وبدأ يعدد أسماء صحافيين ومدوّنين تم إلقاء القبض عليهم في الأشهر الماضية في عموم العراق وكذلك في الموصل وصدرت أحكام ضدهم بالسجن.
آخر هؤلاء كان زياد السنجري، صحافي اعتقلته قوات أمنية في الموصل يوم 11 حزيران/ يونيو 2024 “بتهمة انتحال شخصية أمنية وابتزاز شركات محلية وسياسيين” وفقاً لتصريحات نسبت إلى ريان الكلداني، قائد ميليشيا بابليون المسيحية في سهل نينوى. والسنجري، كان مقيماً في النمسا، واشتهر بنشره وثائق مسربة تدين مؤسسات حكومية وشخصيات سياسية بالفساد، عاد إلى الموصل في زيارة لأقربائه ليعتقل بعد أيام، ويُعتقد أن التهمة الموجهة إليه قد تفضي به إلى السجن لعشر سنوات في الأقل.
سبقه إلى المعتقل العديد من الناشطين الآخرين خلال السنة الأخيرة، ذكر البعض منهم بعد إطلاق سراحه، أنهم وقعوا على تعهدات بعدم انتقاد الحكومتين المحلية والمركزية أو أي من الشخصيات السياسية، وبعضهم أضطر إلى مغادرة الموصل والتزام الصمت التام خوفاً على سلامة أقربائهم الباقين في المدينة.
سائق سيارة الأجرة الشاب، أيّد ونحن في طريقنا للخروج من المدينة ما قاله لي صاحب المطعم:”الأكل هو الشيء الوحيد غير الممنوع في الموصل بعد داعش، لهذا تجد بأن المطاعم تتكاثر مثل الوباء”. قال هذا ثم سلّم نفسه لنوبة ضحك.
كنا نجتاز في تلك الأثناء الشارع الموازي لمنطقة الغابات في الضفة اليمنى لنهر دجلة الذي يقسم الموصل إلى نصفين، حيث كان دخان حريق مندلع في الأشجار منذ الصباح الباكر ما زال متصاعداً.
لحظتها، تذكرت ما أخبرني به صديقي الناشط خيري. فلا مصلحة لغير عصابات الفساد المسيطرة على الموصل في إبقاء النار مشتعلة بالأشجار طمعاً بالأرض المملوكة للدولة، فهي في منطقة مميزة بالمدينة، ويمكنها أن تضيف بضعة ملايين دولارات أخرى إلى الأرصدة المنتفخة بالمال العام أمام مرأى ومسمع أجهزة الدولة.