fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

الساخر الكبير والمجاهد الأكبر

موقف السعدني الحاد والسَاخر من بورقيبة وزعامته النرجسية، كان في العمق يخفي مزيدًا من الإعجاب والتقدير، والذي كان يصفه أحياناً بــ «الزعيم الخارج من صفوف الشعب. والذي كافح وناضل طويلًا، وتشرد في داخل تونس، ثم نُفي في الأرض»
ــــــــ حدودــــــــ ماضي مستمر
8 أبريل 2025

كالمنتظر  غودو، الذين قد يأتي وقد لا يأتي، كانت حياتي – قبل أكثر من ثلاثة عقودٍ – في بلدة تحاصرها الوديان والكثبان. لا يحدث شيء. لا أحد يأتي، لا أحد يذهب. كان المللّ فظيعًا. رتابة المكان تضغط على المرء مثل ثقل الرمال التي لا نهاية لها. أما العالم وراء الأفق فيبدو بعيدًا بشكل لا يصدق، قوسًا من الغموض والعجب لا وجود له إلا في القصص التي يرويها كبار السن حول نار الليل. كانت القراءة في تلك الشروط وعي الضرورة بالنسبة لي. بوابةً للخروج من عالم يتكرر بلا هوادةٍ إلى عوالمٍ كل يوم هي في شأنّ. كنت أقرأ كوحش لا يهدأ. وزادي الوحيد، المكتبة العامة في وسط البلدة أو صناديق قديمة تركها خالي، بعد أن أغوته مشاغل الحياة اليومية عن القراءة. وفي قاع أحدها تعرفت على الكاتب المصري محمود السعدني لأول مرةٍ. فيما كانت الحرارة تشارف على كسر عتبة الأربعين، كان المراهق الذي كنته، يجاهد لاستخراج كتابٍ صغيرٍ ظنه قصةً للأطفال. مجلد رقيق بغلاف مهترئ لدرجة أن عنوانه كان بالكاد مقروءًا. طُبع عليه اسم السعدني تحت العنوان المقوس: «رحلات ابن عطوطة».

رُحت أقلب الصفحات، مفتونًا بالفكاهة الغريبة. كانت كل رحلة من رحلات الكتابة المتصلة تبدو وكأنها نافذة على عالم آخر، عالم يمكن للضحك أن يخترق فيه حتى أضخم حُجب الجدية. ولم تغادرني تلك القيلولة اللاهبة وإلا وقد أتيت على فصول الكتاب. ثم أدمنتُ السعدني – الساخر الكبير – وقصصه، التي يختلط فيها الكذب بالصدق، والحقيقة بالخيال والتاريخ بالانطباعات الشخصية. وبعد سنوات، عندما غادرت الصحراء لكي ألاحق أحلامي في المدينة، حملت معي مواقف سياسية كان للسعدني فيها تأثير كبير، كان أبرزها الموقف النقدي من الحبيب بورقيبة والميل العاطفي لجمال عبد الناصر، وهوسًا بالثقافة المصرية. ورغم أن العالم وراء الأفق أثبت أنه أوسع وأكثر تعقيدًا مما كنت أتصور، فإني لم ينس أبدًا ذلك الصبي الذي وجد الفرح والفكاك من المللّ في الكتب، التي تملك من القدرة على جمع أشتات البشر خارج الزمان والمكان.

شكلت العلاقة المعقدة بين بورقيبة والسعدني شغف بالنسبة لي. تتبعتها كالمقتفي أثرًا في البيداء. في كتب السعدني ومقالاته. وعلى حواشيه صراع عبد الناصر وبورقيبة وبينهما صالح بن يوسف خصيم بورقيبة وصديق عبد الناصر. وربما بسبب ظرافة السعدني ولذة لغته وبراعته في الحكيّ، نجح في أن يصوغ موقفي الذي ربما أخذته وأنا أستعد لقيلولة طويلة تحت ظل نخلة ورافةٍ هناك في أقاصي البلاد. كان بسيطًا وساذجًا وخاليًا من تعقيد العالم والسياسة: السعدني على حق دائمًا. عبد الناصر ملاكًا وبورقيبة شيطان.

الأوحد في تونس!

بين بورقيبة ومصر سيرة طويلة. قادته الأقدار إليها لاجئًا ورئيسًا. وعاد منها خائب المسعى في المرتين. لكنه كان مفتونًا بها. ربما لم يوجد رئيس عربي أكثر من بورقيبة فتنةً بالفكر المصري الحديث. كان يحب طه حسين، صديق السنوات الصعبة في قاهرة الأربعينيات، وتوفيق الحكيم صديق باريس رغم بخله الشديد، وقد فرضهما بقوة في مناهج التعليم. ويتأمل بإعجابٍ مصطفى النحاس، لكنه كان دائمًا يريد أن يكون سعد زغلول. وربما نحج في ذلك متجاوزًا ما عجز عنه زغلول. وفي القاهرة اكتشف الشرق. مخالطًا من كل الملل والفئات، مثقفين ولاجئين وهاربين ورقاصات وشيوخ وشيوعيين وفاشيين وعربًا وكردًا وفرسًا. كما شكلت القاهرة منصةً لمعارضيه، ومنطلقًا لمحاولات اغتيالٍ تعرض لها (1958) ومحاولات انقلابية ضد نظامه (1962). وفي القاهرة سقطت خطته للاعتراف بإسرائيل (1965). ورغم نزعته الانعزالية وأفكاره عن «الأمة التونسية، اللاشرقية واللاغربية» إلا أنه كان مهتمًا بما يجري في الشرق أكثر من الشرقيين أنفسهم. وقد ربطته بالصحفيين المصريين علاقات قديمة منذ كان لاجئًا، ثم تحولت مع الزمن إلى خصوماتٍ لم يوفر المصريون جهدًا ولا مجالًا لتحويلها إلى مادةٍ للهجوم عليه، في سياقٍ كانت أغلب أجهزة النظام الناصري الدعائية موجهةً ضده. فظهر في كتابات جميل عارف رجلًا ماجنًا يبدد أموال الحركة الوطنية في ملاهي القاهرة والإسكندرية ويعيش قصص الحب على ضفاف النيل. وفي كتابات محمد حسنين هيكل فقد ظهر رجلًا عميلًا خائنًا يحترف العمالة لدى السفارة الأمريكية. فيما ظهر في تعليقات أحمد سعيد الصاخبة في راديو صوت العرب رجعيًا عميلًا للاستعمار. أما السعدني – ولأنه نسيجٍ لوحده في الكتابة والحياة – فقد اختار هدم أسطورة بورقيبة، لا بالطعن في صاحبها، ولكن بالسخرية منه، لأن درهم سخريةٍ أشد مضاضةً على أصحاب السلطة من قنطار نقدٍ جادٍ.

وصل محمود السعدني تونس لأول مرة في خريف 1955. بالكاد كانت البلاد حصلت على استقلالها الداخلي، ومازال جزء من سيادتها في يد الاحتلال الفرنسي. كانت المناسبة المؤتمر الخامس للحزب الحر الدستوري، طليعة الحركة الوطنية. أما السبب فكان حضور المؤتمر التاريخي الذي أًنيط به حلّ الخلاف بين جناح الأمانة العامة، الذي يقوده صالح بن يوسف، وجناح الديوان السياسي، الذي يقوده بورقيبة. كان بن يوسف مقيمًا في القاهرة، ويحظى بدعم عبد الناصر ورفاقه، في معارضة اتفاقية الاستقلال الداخلي، التي توصل إليها بورقيبة مع الفرنسيين، بزعم أنها منقوصة، وأن الطريق الوحيد هو مواصلة الكفاح المسلحّ. ورغم الدعم الناصري المعلن لبن يوسف، فإن علاقات بورقيبة بالنظام المصري لم تكن متوترة حتى ذلك الوقت. وقد أوفد عبد الناصر، وزير الأوقاف أحمد حسن الباقوري، ممثلًا له في المؤتمر. وهو الذي ربطته ببورقيبة علاقة وطيدة عندما كان قياديًا في جماعة الإخوان المسلمين، وكان بورقيبة حينذاك يتلقى مساعداتٍ من الجماعة. وعلى الرغم من أن بن يوسف لم يحضر المؤتمر الذي عقد في نوفمبر/ تشرين ثاني 1955 احتجاجًا على طريقة عقده، إلا أنه عاد إلى تونس في سبتمبر/ أيلول من العام نفسه، وحظي باستقبال رسمي وشعبي كبير كان بورقيبة في مقدمته. ولم ينس أن يحمل معه في طائرته من القاهرة إلى تونس محمود السعدني.

عند وصوله إلى القاعة التي تجمّع فيها نحو ألفي مندوب من كل مناطق البلاد، قوبل بورقيبة – الذي خلع عليه أنصاره لقب المجاهد الأكبر – بالهتافات الطويلة «عاش…عاش»، وعلى يسار المنصة وقف رئيس الحكومة المؤقتة، الطاهر بن عمار والوزراء الدستوريون ومندوبو الدول العربية والآسيوية ومن بينهم وزير العدل الليبي وممثلو سيلان والهند وإندونيسيا والعراق. وعندما وصل الوزير الباقوري، هتف الحضور باسم عبد الناصر. وقف السعدني فجأة بمجرد سماع الهُتاف، يستطلعّ الحضور. ثم غرق يدون ملخص كلمة الباقوري كي يرسلها إلى القاهرة بالهاتف. خيم السكون ولم يقطعه سوى صوت الباقوري قائلًا : «لقد جئت تلبية للدعوة التي وجهها إليّ الرئيس بورقيبة لحضور المؤتمر. ولزيارتي هذه ثلاثة أهداف: أولًا الاتصال بسكان هذا البلد الكريم؛ وثانيًا دراسة مختلف جوانب الوعي التونسي الحالي من أجل تقاسمها مع الرئيس عبد الناصر؛ وأخيرًا تعزيز روابط الصداقة القائمة بين تونس وباقي الدول العربية».

روى السعدني وقائع المؤتمر الذي حضره في كتابيه: «رحلات ابن عطوطة» (1988)، و«على باب الله» (2006)، وهما حصيلة مقالاتٍ نشرها في صحف مصرية وعربية قبل ذلك بسنواتٍ. وشأنه في جميع مروياته، كانت قصص السعدني عن تونس خبط عشواء، جمع كل ما يَسمع من غثٍّ وسمين، بلا تدقيق في التواريخ ولا الوقائع.

روى السعدني وقائع المؤتمر الذي حضره في كتابيه: «رحلات ابن عطوطة» (1988)، و«على باب الله» (2006)، وهما حصيلة مقالاتٍ نشرها في صحف مصرية وعربية قبل ذلك بسنواتٍ. وشأنه في جميع مروياته، كانت قصص السعدني عن تونس خبط عشواء، جمع كل ما يَسمع من غثٍّ وسمين، بلا تدقيق في التواريخ ولا الوقائع. بداية من تاريخ الرحلة المتداخل بين 1955 و 1957. فيقول في فصلٍ من «على باب الله» سماه الأوحد في تونس: «لحسن الحظ أن العبد لله كان الصحفي العربي الوحيد الذي وضع قدميه على أرض تونس بعد جلوس بورقيبة على دِكَّة الحكم، وكان بورقيبة قد مَهَّد لهذا الحدث التاريخي بعزل باي تونس وإعلان الجمهورية. والحق أقول إن بورقيبة كان أحق الناس بمنصب رئيس الجمهورية، فهو الوحيد من بين زعماء تونس الذي بدَّد شَبابه كله في المنفى وفي المراقبة والمطاردة والسجن». رغم أن إعلان الجمهورية وعزل محمد الأمين الباي كان في يوليو 1957، فيما عقد مؤتمر صفاقس في نوفمبر/ تشرين ثاني 1955. وقد حضر السعدني – خلال إقامته الطويلة في تونس – إعلان قرار المؤتمر بفصل صالح بن يوسف من الحزب الدستوري، وبداية الصراع الأهلي بين الطرفين، حيث انزلقت البلاد إلى ما يشبه الحرب الأهلية استمرت أربعة أشهر. نفذت مجموعات موالية للطرفين أعمال عنف واغتيال. وقرر الحبيب بورقيبة في عزّ اندلاعها أن يقود مسيرة حول البلاد ليشرح للناس الموقف، ولم ينس أن يحمل السعدني معه بين المدن والقرى والبوادي القصية. ويظهر من خلال ما كتبه السعدني عن هذه الجولة الطويلة، تأثره  بالسردية التي رسخها باكرًا النظام الناصري تجاه بورقيبة، وعلى وجه أدق رسخها محمد حسنين هيكل في مقالته الصباحية بالأهرام وفي كتبه لاحقًا، حول بورقيبة بوصفه «عميلًا أمريكيًا». ويقول السعدني عن ذلك:

«كان من حُسن حظ العبد لله مرافقة الحبيب بورقيبة في هذه الجولة التي مسح فيها تونس شبرًا شبرًا، وخاطَب فيها كل فرد من أفراد الشعب. كان بورقيبة الذي عاش فترة في مصر أثناء كفاحه ضد الاستعمار الفرنسي قد تأثَّر تأثرًا شديدًا بالزعيم مصطفى النحاس. وقد لاحظتُ هذا التأثر في حركاته، وفي أسلوب خَطابَته، وفي تعامُله مع الجماهير خصوصًا في المؤتمرات الشعبية التي عقدها أثناء الجولة. ولكن بعد استماعي إلى عدد من خطبه التي ألقاها على أسماع الجماهير اكتشفتُ أن تأثره بالنحاس كان من ناحية الشكل وليس من ناحية الموضوع، وأن بورقيبة يُشبه النحاس باشا في الشكل ولكن هناك فرق. لقد كان النحاس فوق كونه زعيمًا جماهيريًّا(…) ولكن الزعيم بورقيبة كان على عكس ذلك تمامًا، كان أمريكيًّا مخلصًا. وكان يهزأ بكل القيم الوطنية من أول الوحدة إلى العروبة إلى الحياد الإيجابي (…) وفي أثناء تلك الجولة التي استغرقَت شهرًا لم يكفَّ في أي مرة اجتمع فيها بالجماهير عن سبِّ جمال عبد الناصر واصفًا إياه بأنه تلميذ صغير في مدرسة الديكتاتورية. وأنه ليس من صنف المناضلين؛ لأن أحدًا لم يسمع به في الشارع قبل وصوله إلى السُّلطة، وقال في أحد الاجتماعات … لقد أردتُ أن أنصحه ولكنه لم ينتصح، ولذلك توقفتُ عن نصحه. إنني لن أخسر شيئًا ولكنه هو الخاسر».

كان أبو الفتح منفيًا في سويسرا بعد خلافٍ مع عبد الناصر انتهى بتأميم أملاكه. وعندما توفى في 15 أغسطس/ آب 1958، رفضت السلطات المصرية أن يعود رفاته ليدفن في القاهرة. فطلب بورقيبة نقل جثمانه ليدفن في تونس وأقام له جنازةً رسميةً، نكاية في عبد الناصر

وبعد عودته إلى القاهرة نشر محمود السعدني سلسلة مقالاتٍ في جريدة الجمهورية في عام 1956 تحت عنوان كبير «الرجل الأوحد في تونس»، سيعيد نشر بعضها في جريدة البيان الإماراتية يوم وفاة بورقيبة في أبريل 2000،  تحدث فيها بأسلوبٍ ساخرٍ عن بورقيبة وساحرٍ عن تونس. وربما كان قرار بورقيبة باستقبال رفات محمود أبو الفتحّ، صاحب جريدة المصري ومؤسس نقابة الصحفيين، دوراً في إعادة نشر السلسلة مراراً. فقد كان أبو الفتح منفيًا في سويسرا بعد خلافٍ مع عبد الناصر انتهى بتأميم أملاكه. وعندما توفى في 15 أغسطس/ آب 1958، رفضت السلطات المصرية أن يعود رفاته ليدفن في القاهرة. فطلب بورقيبة نقل جثمانه ليدفن في تونس وأقام له جنازةً رسميةً، نكاية في عبد الناصر، وكذلك لأن أبو الفتح كان صديقه في سنوات اللجوء منتصف الأربعينات. ولعل من ألطف القصص التي أوردها السعدني في السلسلة ما جرى له عندما وقع في فخّ أحد الوشاة الذي يحتلون كراسي مقاهي وسط العاصمة. ولأن السعدني طويل اللسان، فلم يكلف الواشي – شديد الوطنية والغيرة على سمعة الزعيم – الكثير من الجهد لكي يكتب في الضيف المصري تقريراً يصل ساخناً إلى بورقيبة في قصره قبل أن يعود السعدني إلى غرفته في الفندق، سيكلفه لاحقاً قراراً بمنع دخوله تونس حتى وفاته في عام 2010. ويروي السعدي تلك الواقعة قائلاً:

«وفي آخر يوم في جولتنا جلسنا بعد انتهاء الجولة في أحد المقاهي الشعبية وكنا مجموعة من الصحفيين كلهم من تونس والعبد لله هو الغريب الوحيد. وكان معنا مسئول صغير في الحزب الحر الدستوري التونسي. وكان مستواه كمستوى أمين مكتب الاتحاد الاشتراكي في مركز العياط ولكنه كان يجلس وسطنا كأنه المارشال مونتجومري بعد حركة العلمين. وراح يشرح لنا الحكمة وراء كلمات بورقيبة. ثم ختم حديثه قائلًا: لو أراد الله خيرًا للأمة العربية فسيتحد العالم العربي كله تحت رئاسة الزعيم بورقيبة؛ لأنه هو وحده الذي سيقود العرب إلى قمة المجد. أذكر أنني علَّقتُ بكلمات ساخرة قبل أن نقوم من مجلسنا ونرجع عائدين إلى العاصمة تونس. وفي الصباح الباكر كان سفيرنا في تونس على الخط الآخر في التليفون يُعاتبني بشدة على الكلام الذي قُلته في القهوة ليلة الأمس. نفيتُ له أن أكون قد قُلتُ ما سمعه وأن ما قُلتُه في القهوة لم يكن أكثر من مداعبة وسخرية في مواجهة سبِّ مباشر لحكومة بلدي ورئيسها ونظامها دون أن يكون هناك داعٍ على الإطلاق. قال لي السفير استعد وسأَمُرُّ عليك بعد دقائق. وارتديتُ ملابسي وانتظرت السفير على باب الفندق وعندما وصل ركبتُ معه في سيارته وبعد دقائق كنا في قصر الرئاسة، وفي حضرة الرئيس بورقيبة وقف السفير يشرح للرئيس أنني ما جئتُ لتونس إلا لكي أنشر قصة كفاحه وجهاده ونضاله على صفحات الصحف المصرية، وأنني من أشد أنصار بورقيبة ومن أشد المُتحمِّسين له. وقال له … سترى سيادتك بعد عودته إلى القاهرة الصفحات الطوال التي سيكتبها عن نضال وكفاح سيادتكم (…) وطَيَّب السفير خاطره بكلمات كثيرة حتى هدأ روعه … فنظر إلى العبد لله ومد يده نحوي وصافحني بشدة وقال … سأضمك للحزب الدستوري لتكون على مَقرُبة مني ولكي تتعلم في مدرستي السياسية … وعندما خرجنا من مكتب بورقيبة قال لي السفير … عاوزك تَبيَّض وِشي بقى. ووعدتُه خيرًا وانطلقتُ عائدًا إلى القاهرة».

أشباح عبد الناصر 

كان موقف السعدني طبيعيًا في ذلك السياق التاريخي. فقد كان صحفيًا في جريدة الجمهورية، التي أسسها مجلس قيادة الثورة، ويرأس تحريرها أنور السادات, فضلًا عن كونه من جيلٍ مصري شديد التأثر بالقومية العربية، وجد في ثورة يوليو 1952 ملاذًا. وهو الموقف المبدئي، الذي حافظ عليه السعدني طيلة حياته، وكلفه سنوات من السجن والمنفى والملاحقة والغربة من بلدٍ إلى آخر. وهو موقف يتجلى نقيًا في مواقف السعدني الصادقة من زعماء حملوا راية القومية بالخطب والشعارات ولم يكونوا في المستوى الذي بلغه عبد الناصر من الصدق والالتزام رغم الخيبات والكبوَات. فقد ظهرت في سلسلة «الولد الشقي في المنفى» مرارات السعدني من معمر القذافي وصدام حسين، حتى وجد ضالته في بريطانيا أين أصدر مجلةً تعبر عن قوميته الخاصة كما حلم بها وأراد أن يعيشها. لذلك حافظ على الموقف النقدي من بورقيبة حتى آخر حياته، وأثبته متطابقًا مع موقفه من الرجل في منتصف الخمسينات، في كتبه التي أصدرها بعد عودته إلى مصر منذ منتصف الثمانينات حتى رحيله.

لكن موقف السعدني الحاد والسَاخر من بورقيبة وزعامته النرجسية، كان في العمق يخفي مزيدًا من الإعجاب والتقدير، والذي كان يصفه أحياناً بــ «الزعيم الخارج من صفوف الشعب. والذي كافح وناضل طويلًا، وتشرد في داخل تونس، ثم نُفي في الأرض. وكان من خلفه حزب شديد التنظيم صارم الانضباط. وكان في استطاعته من خلال الحزب أن يشعل النار في تونس بإشارة، وأن يخمد النار إذا أراد بإشارة!».

كما حافظ على موقف المعجب بصالح بن يوسف خصم بورقيبة، والذي ربما ساهمت نهايته المفجعة في مدينة فرانكفورت  الألمانية في عام 1961 على يدي فرقة اغتيال أرسلها بورقيبة، في ترسيخ أسطورته في عقل وقلب السعدني. وقد طابق في «الولد الشقي في المنفى» بين مأساته الشخصية، كهاربٍ بعيدٍ عن أهله وأطفاله، وبين أحد أنصار صالح بن يوسف الذين طوحت بهم الأقدار بين المنافي بعيدًا عن أهلهم وأطفالهم، وجده هائمًا على وجهه في طرابلس الغرب، أين كان السعدني يحاول لقاء القذافي مع الكاتب المصري أحمد بهاء الدين. وبينما كان يترصد العقدي، الراقد حينذاك في إحدى غرف المستشفى العام بطرابلس، تعثر في شابٍ ليبي كان قد أمسك للتو بمقاليد الإذاعة الليبية يسمى إبراهيم البشاري، وفي مكتب البشاري وجد عبد الله، الذي كان الوجه التونسي لمأساة السعدني المصرية. وعنها يروي:

«هزَّني بعنف. عضوًا في الحزب الحر الدستوري، وكان أحد الكوادر الحزبية التي وضعها بورقيبة على عينه وشمِله باهتمامه على نحو خاص، كان اسمه عبد الله، وكان سمينًا بعض الشيء، ومتكلمًا يجيد صنعة الكلام ويهواها على نحو ما. ولكنه لحظِّه العاثر انضم لصالح بن يوسف وجماعته لحظة الخلاف الذي نشب على الساحة التونسية. ولأن عبد الله انضم إلى الجانب الخاسر فقد خسر كل شيء، حتى تونس نفسها، واضطر إلى الهروب من البلاد تحت جنح الظلام، وتحول الثائر القديم إلى جاسوس وخائن ومطلوب للمقصلة عند حكام اليوم زملاء النضال في الأمس القريب. وساح عبد الله في بلاد الله، ومنذ عام 1957م لا يعرف شيئًا عما أصاب أسرته الصغيرة(…) ولكن شيئًا آخر هزني في مأساة عبد الله؛ فقد كان معه شاب في الخامسة عشرة من عمره وفي سن ابني الوحيد أكرم، وله هيئته وحجمه، وبعد أن قدمه إلينا راح يحكي لنا قصته مع ابنه الوحيد، فقد تركه رضيعًا لحظة خروجه هاربًا من تونس ولم تقع عينه عليه بعد ذلك (…) وفي البداية كانت الأحوال قد استقرت به في مصر في زمن عبد الناصر، ولكن بعد رحيله جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن. فغادر مصر إلى اليمن الجنوبي، ومن اليمن الجنوبي إلى دمشق، ومن دمشق إلى بيروت، ثم شد الرحال أخيرًا إلى طرابلس. ولكنه بعد انقضاء عدة أشهر عليه في طرابلس وبينما كان مستلقيًا على مقعده الذي اعتاد الجلوس عليه كل أمسية في بهو فندق الشاطئ، وكان لحظتها مغمض العينين سارحًا في أحكام الله سابحًا في تصاريف القدر، عندما استيقظ فجأة على صوت يناديه، ونظر إلى صاحب الصوت فإذا به شاب صغير ظنه في البداية أحد عمال الفندق، وكان الغلام الواقف أمامه يسأله هل أنت فلان؟ وبالرغم من أن عبد الله أجاب بالإيجاب، إلا أن الغلام راح يكرر السؤال أكثر من مرة، وعندما تأكد أنه هو الشخص الذي يقصده، أجهش الفتى بالبكاء؛ فقد كان ابنه وكان الجالس أمامه هو أباه.  وسرحت بعيدًا عن الحاضرين، وتصورت أني سألقى مصير عبد الله وأن عيني لن تقع على أكرم ابني مرة أخرى. فعبد الله لحظة افترق عن ولده كان في الخامسة والثلاثين، بينما العبد لله في السابعة والأربعين، وصحيح أن الأعمار بيد الله، ولكن من يدري ماذا يخبئ القدر، وله أحيانًا تصاريف تفوق خيال كل الشعراء والمؤلفين!».

لكن موقف السعدني الحاد والسَاخر من بورقيبة وزعامته النرجسية، كان في العمق يخفي مزيدًا من الإعجاب والتقدير، والذي كان يصفه أحياناً بــ «الزعيم الخارج من صفوف الشعب. والذي كافح وناضل طويلًا، وتشرد في داخل تونس، ثم نُفي في الأرض. وكان من خلفه حزب شديد التنظيم صارم الانضباط. وكان في استطاعته من خلال الحزب أن يشعل النار في تونس بإشارة، وأن يخمد النار إذا أراد بإشارة! ». لكنه لا يسترسل في المدح حتى يعود للسخرية التي جُبل عليها، كما ختم يومًا مقالةً في تأبين بورقيبة قال فيها: «رحم الله الحبيب بورقيبة الرجل الأوحد الذي حكم تونس لمدة 32 عامًا أصاب وأخطأ خلالها كثيرًا، ولكنه وفَّى بوعده فحقق استقلال تونس بأسلوب الخطوة خطوة، وحقَّق مكاسب كثيرة للمرأة في تونس وكان لا يؤمن بالوحدة ولا بالقومية، ويؤمن بأن فرنسا هي الوطن الأم، ولكن تونس كبرتْ وتريد أن تستقل بأمورها مع الطاعة والاستماع إلى النصيحة».

بنتُ على خدها «شامة»

لكن علاقات محمود السعدني بتونس – وإن بدت مكثفةً في علاقته بالحبيب بورقيبة – إلا أنها شغلت، فيما ما كتب، حيزًا إنسانيًا بعيدًا عن السياسة. وما يرويه في «رحلات ابن عطوطة»، في فصل «أبو زيد قال لدياب»، يجسد حبًا صافيًا واعجابًا بالبيئة التونسية. فرغم نفوره من نخب السلطة، إلا أنه امتزج بالناس العاديين، الذين تعود الكتابة عنه ومن أجلهم في كل مكانٍ. متسكعًا في أسواق المدينة القديمة، ومدخنًا النارجيلة في حواري القصبة، والمشي حافيًا على شواطئ بوسعيد، كما شرب البوخا في المقاهي المنتشرة على طول جادة جول فيري! وبهره الشعب التونسي – كما قال – بحيويته وذكائه واحترامه الشديد للفن وحبه الشديد للحياة! كما تعرف على بنت تونسية تحاول أن تخطو أولى خطواتها في عالم الطرب. فأخبرته عن تفاصيلٍ من حياة أم كلثوم وليلى مراد ومحمد عبد الوهاب كان مشدوهًا أمامها. وعندما جلس في ندوة أدبية، كان الحديث كله يدور حول أحمد أمين وزكي مبارك وطه حسين والعقاد. وحين جاء أحد مشايخ جامع الزيتونة إلى منزله وراح يناديه طوال السهرة ﺑ (الحاج)، قال له لم أتشرف بعد بحمل هذا اللقب، ولم أسعد بعد بزيارة الأرض المقدسة، فأجابه الرجل الطيب: «الأرض المقدسة تبدأ عندنا من حدود مصر».

وعاش في صفاقس أيامًا في ضيافة الشيخ أمين حسنين، وهو مطرب ومقرئ مصري شهير ذاع صيته في عشرينيات هذا القرن، وهاجر إلى تونس قبل الحرب العالمية الأخيرة. وخلال احتلال ألمانيا لتونس، كان ثعلب الصحراء رومل يتردد عليه في منزله ليستمع إلى فنه العظيم، وأهداه علبة ذهبية مرصعة بالأحجار الكريمة ليحتفظ فيها بالنشوق. ويروي السعدني أنه رأى هدية رومل مع الشيخ أمين وكان يعتز بها اعتزازًا خاصًّا، كما كان فخورًا بصداقة صاحبها، وقال له وهو يتنهد أسفًا: كان رومل يحب الإسلام، وكان في سلوكه يتشبَّه بالمسلمين الصالحين! كان الشيخ أمين غارقًا لأذنيه في حب تونس، وما الفرق بين تونس ومصر؟ أو بين تونس والعراق؟ أو بين تونس والحجاز؟ لا شيء في واقع الأمر، يقول السعدني. مشيراً إلى أنه أدرك هناك سر بيرم التونسي الذي اقترن أبوه التونسي بامرأة مصرية إسكندرانية، فأنجب أعظم رجل مصري نطق باللغة العامية المصرية على طول الزمان! وربما كاد السعدني أن يقع في تونس في فخاخ الحبّ، عندما أسرته فتاة تونسية على خدها شامة وهو في شرخّ الشباب. ولم يغادر موضوع النساء موضعًا كتب فيه السعدني عن تونس، منها قوله:

«والبنت التونسية عينها جامدة وشخصيتها أجمد، وهي عنيفة كالصخرة ورقيقة كغصن البان، ولكن الرجل التونسي (مزاجاتلي) وكل ساعة بحال. هو في الكرم كحاتم، وفي السهر كنديم في بلاط هارون الرشيد، وفي الخصومة أشرس من نمر الغاب! وهو الوحيد ربما في المغرب العربي الذي يحب النكتة المصرية ويفهمها ويضحك على أي نكتة عمال على بطال. وهم في المغرب العربي كلبنان في المشرق العربي، ولكن هناك فرقًا، فالتونسي فيه كل مزايا اللبناني وليس فيه أي شيء من سلبياته (…) وتركت تونس ذات صباح خريفي جميل، وتركت قلبي هناك مع بنت من بنزرت على خدها شامة وعلى «خشمها» وشم. البنت التونسية كانت تقرض الشعر أحيانًا، وتضرب على العود أحيانًا، وتغني دائمًا حتى وهي تصرخ، وهي تبكي، حتى وهي صامتة وصائمة عن الكلام! وكان العبد لله شابًّا في شرخ الشباب، وللشباب فنون وجنون أيضًاما أحلى أيام الشباب! وودعت تونس إلى لقاء، ولكننا لم نلتقِ قط، قاتل الله السياسة، فرقت بيني وبين تونس، وفرقت بين تونس وجيرانها، ولم يبقَ من وحدة الكسكسي والجلاب، إلا أطباق الكسكسي، وقماش الجلباب! ».