في جنوب القاهرة، تحديداً في حلوان وعلى امتداد أكثر من ثلاثة كيلومترات تطل آلاف النوافذ والشرفات علي ذلك المشهد الضبابي لممر إسمنتي ضخم يمتلئ بأطنان من القمامة المتراكمة والمحترقة.
كحبات العقد؛ يربط مخر سيل وادي حوف العديد من التجمعات السكنية المتباينة اجتماعياً وعمرانياً مثل تقسيم النصر، وحدائق حلوان والمعصرة شرقاً، ثم وادي حوف، والمنشية وعزبة كامل صدقي غرباً. ولذلك يبدو من الأعلي كالجُرح الذي يقطع العمران فيحدث إنفصالاً في أنسجته وشبكاته المعقدة. وبسبب خلوّه من الماء بطبيعة الحال في مناخ مصر القاحل، فهو يعتبر أرضاً فارغة في المدينة أو ما يمكن تسميته مجازاً بـ”أرض اللا أحد”. يعني هذا أنها جزءٌ غير مبني في المدينة ، وبذلك يحتمل أن يقوم السكان باستعماله بطرق مختلفة كلٌ بحسب احتياجه.
لكن هذه الأرض وإن كانت خالية من البشر إلا أنها مزدحمة بسكانها من الكائنات الحية الأخرى. هنا يمكنك أن تري قطعانًا من الخراف والماعز ترعى علي القمامة، أو ربما بعضاً من طيور أبو قردان والتي تبدو متسخة قليلاً عن نظيرتها ناصعة البياض التي تعيش على شاطئ النيل،إضافة إلى قطعان الكلاب و القطط. ولا يخلو المكان من بعض الكائنات المزعجة للبشر مثل الفئران وحيوانات ابن عرس، والحشرات، بل و الحيّات أيضاً. يتشارك الجميع في هذه المائدة الممتدة وكذلك في الشعور بأنهم بمأمن عن البشر وشوارعهم الخطرة.
إلى أن تتساقط الأمطار محدثة فيضاناً يمر بين آلاف البيوت والبشر، هنا نعرف أهمية “أرض اللا أحد” هذه.
ما هي المخرات/ الأودية الجافة؟
تعني كلمة مخر السيل الأرض المقطوعة بفعل السيل، وتشير كلمة وادي إلى مجاري الأنهار الجافة أو الجداول الصحراوية المؤقتة. تقع الأودية الجافة في مناطق مناخية قاحلة أو شبه قاحلة مع هطول متقطع منخفض وغير متوقع.
يتكون حوض الوادي الواحد من مجموعة من الفروع التي تلتقي في حوض أكبر يشبه جذع الشجرة ويقع في مكان أكثر انخفاضاً.
في القاهرة وحدها يوجد ستة أودية تقع في المعادي و حلوان؛ منها الكبير جداً مثل وادي دجلة، ووادي حوف، ووادي جراوي، ومنها الأصغر مثل وادي الجبو وكل من وادي أبو سيللي الشمالي والجنوبي.
خلال القرنين الماضيين حفرت الترع لري الأحواض الزراعية واستقبال مياه الأمطار الموسمية. قديماً، سكنت المنطقة مجتمعات بدوية التي تزرع محاصيلها وترعى حيواناتها، قبل أن تدخل الصناعة ويأتي معها سكان جدد
قد تظل هذه الأودية جافة لعقود، ولكن عندما تمطر لعدة ساعات قد يتسبب هذا في فيضان هائل. يتناسب حجم الفيضان مع مدة العاصفة الممطرة، حيث من الممكن أن يتسبب المطر المستمر في تجمع كميات هائلة من المياه تتحرك مع إنحدارات الأودية بسرعة وتصل للمدينة. لحسن الحظ، توجد اليوم تعديلات هندسية وأعمال حماية على هذه المخرات الست في القاهرة. لكن إذا كانت هذه الأودية محمية هندسياً فما هي المشكلة إذن؟
تكمن المشكلة في التفاصيل بالطبع؛ فالطبيعة الجافة للأودية تجعلها حيزاً غير محدد، فلا هي فراغ عمراني يمكن استغلاله، ولا هي مسار مائي تزرع على جانبيه الأشجار وتُري فيه مسحة من الطبيعة داخل المدينة. إنما هي ممرات تخترق العمران وتصل الصحراء بالنيل.
تعد أرض المخرات ملكية لوزارة الري، والتي هي نفسها المسؤولة عن إنشاء وصيانة أعمال الحماية. لكن تبقى أعمال أخري مثل منع البناء داخل المخر أو رفع القمامة من مسؤوليات وزارة التنمية المحلية (البلدية/ الحي). الأودية أيضاً، وبخاصة الجزء الصحراوي منها تحوي الكثير من أشكال التنوع البيولوجي من النباتات والزواحف والطيور، كما تحتوي الطبقات الحجرية على رواسب بحرية تكونت خلال عصر الأيوسين، مما يجعلها في نطاق اهتمام وزارة البيئة كما الحال في محمية وادي دجلة. هذا التداخل في الإدارة والمسؤوليات يجعل من الصعب تنمية منطقة المخرات وحل مشكلاتها العمرانية والبيئية بطريقة تتناسب مع تعقيدات الوضع القائم.
مصدر الصور: أسماء المكاوي
ولادة نمو عمراني
على الأطراف الجنوبية لمنطقة المنشية جنوب شرق القاهرة، يمكننا مشاهدة تبة حجرية مرتفعة قليلاً تشكل عائقاً للعمران عن التمدد. هذه التبه جزء من تاريخ جيولوجي يعود للعصر المطير (البلاستوسين)،حيث تراكمت الرواسب القادمة من صحراء وادي حوف لتشكل دلتا (مصب) ملاصقة للسهل الفيضي لنهر النيل. مع مرور الوقت وارتفاع الدلتا القديمة، انجرفت مياه الأمطار إلى الشمال قليلاً منها، مما أدى تشكل المسار المعروف اليوم، لتظهر “أرض اللا أحد” إلى الوجود.
خلال القرنين الماضيين حفرت الترع لري الأحواض الزراعية واستقبال مياه الأمطار الموسمية. قديماً، سكنت المنطقة مجتمعات بدوية التي تزرع محاصيلها وترعى حيواناتها، قبل أن تدخل الصناعة ويأتي معها سكان جدد.
أنشئ مصنعي طرة وسيجوارت للأسمنت في عام 1927، فظهرت مجتمعات عمرانية جديدة لعمال المصانع في حي المعصرة و حدائق حلوان، بالتوازي استمر نشاط الزراعة في ملكيات صغيرة، بجانب هيمنة الإقطاعيين الزراعيين، فظهر ما يشبه القرى الصغيرة أو “العزبة”، كان أشهرها يعود لـكامل صدقي باشا وزير التجارة ثم المالية (1942) الذي امتلك عزبتين؛ “البحرية” حيث السهل الفيضي للإقامة الصيفية، و”الشتوية” في التل الصحراوي حيث يقيم في الشتاء.
شكلت بيوت الفلاحين العاملين في “العزب” تجمعات عمرانية جديدة توسعت بمرور الوقت لتشكل مناطق حضرية كثيفة مثل المنشية وعزبة كامل صدقي. اليوم تحولت المنطقة بأكملها إلى العمران واختفت الزراعة والترع بالكامل.
حلول قلة الحيلة
دائمًا ما يلوم سكان المناطق المجاورة علي أهالي منطقة المنشية بأنهم وحدهم من يلقي القمامة في مخرّ السيل. هذا وإن كان حقيقياً بعض الشيء إلا أنه يعود الي سبب منطقي. فشوارع المنطقة ضيقة للغاية لأنها مبنية بالأساس على أحواض زراعية ما خلق شبكة شوارع متعرجة وضيقة لدرجة لا تسمح بمرور عربات جمع القمامة. لذا يتخلص الناس من قمامتهم خارج المنطقة في “أرض اللا أحد” بالطبع.
لكن رحلة القمامة من الصندوق إلى شاحنات البلدية ثم إلى مكب النفايات الذي يقع على أطراف المدينة في الصحراء هي رحلة مكلفة وطويلة؛ وتزداد صعوبتها بتواجد القمامة في قناة منخفضة عن الشارع ولها مداخل محددة ما يتطلب تدخل بعض رافعات المناولة مع شاحنات القمامة. ولذلك تُرفع القمامة مرة أو مرتين خلال العام قبل موسم الأمطار في نوفمبر ويناير إن تطلب الأمر.
كان السكان ينظرون دائماً إلى مجرى السيل باعتباره تهديدًا لصحتهم وأمنهم، وأيضاً باعتباره عديم الفائدة، إذ تعاقبت أجيال والمجرى فارغ إلا من القمامة، فـ”هيّا بنا نتخلص من مكب القمامة هذا”
تصل تكلفة المرة الواحدة إلى ثلاثة ملايين جنيه، بأسعار ما قبل 2022، حيث يُنقل ما يقارب ألف وثمانمائة طن من القمامة على مدار أسبوعين كاملين. أما باقي أيام العام فيقوم الأهالي بحرق القمامة للتخلص منها بكلفة أقل، ولكنها بالطبع أثقل على صدورهم والبيئة من حولهم.
أدي النشاط الصناعي في المنطقة إلى تلوث الهواء و بخاصة ب”الجسيمات الدقيقة العالقة” وهي غير قابلة للذوبان في الماء لذلك تتراكم في الجهاز التنفسي للإنسان ويمكن أن تتطور إلى أمراض رئوية خطرة مثل السرطان.
تكمن المشكلة في قرب مصنع أسمنت طرة من التجمعات السكنية بالمعصرة حيث يقع على بعد كيلومتر واحد فقط بدلا من 20 (و هو ما ينص عليه قانون شؤون البيئة رقم 4 لسنة 1994 المعدل بالقانون رقم 9 لسنة 2009). إضافة إلى مصادر التلوث الأخرى مثل تخزين مواسير الأسبستوس في الهواء الطلق في مصنع سيجوارت وكذلك الحرق اليومي للقمامة في مخر السيل. مما يهدد الصحة العامة للسكان على نحو خطير؛ حيث يعاني الكثير من الأشخاص في المنطقة من الربو وضعف التنفس والتهاب الجهاز التنفسي والحساسية التنفسية المزمنة خاصة بين الأطفال، هذا إضافة إلى نسبة مرتفعة من الإصابة بسرطان الرئة بالمقارنة مع سكان الأحياء الأخرى من مدينة القاهرة.
نمو عمراني متغول
في عزبة كامل صدقي البحرية، القريبة من النيل، تستمر عمليات البناء على مدار العام للحد الذي أدى إلى اختفاء الزراعة وتحولها إلى منطقة حضرية بالكامل باستثناء بعض الفراغات هنا وهناك. بطبيعة الحال لم يسبق هذا “التحضر السريع” أي تأسيس لبنى تحتية مثل شبكات الطرق والمياه والصرف الصحي وغيرها.
اعتمد أهالي عزبة كامل على نظام الطرنشات الملحقة بكل مبنى إلى جانب حاجة البعض للتخلص من الصرف في “أرض اللا أحد”، وهو ما أدى إلى رفع منسوب المياه الجوفية وتلوثها، إضافة إلى تكرار حدوث بعض الانهيارات الأرضية بمحاذاة المخر. ومع كل هبوط أرضي يغلق الطريق لفترة طويلة استغرقت إحداها أربع أعوام ليتم إحلال مواسير الصرف القديمة عام 2021.
ربما يساهم هذا الإحلال في تقليل نسبة المياه الجوفية، لكن مع حركة البناء السريع وزيادة عدد السكان في العزبة وعدم وجود شبكة صرف صحي، من المتوقع أن ترتفع مجدداً. وهو وضع معقد حيث يستغرق بناء شبكات الصرف المركزية وقتاً طويلاً وميزانية ضخمة، يقول المسؤولون إنها لا تتوفر الآن.
المصدر: أسماء المكاوي
عندما يتكلم الصمت
كان السكان ينظرون دائماً إلى مجرى السيل باعتباره تهديدًا لصحتهم وأمنهم، وأيضاً باعتباره عديم الفائدة، إذ تعاقبت أجيال والمجرى فارغ إلا من القمامة، فـ”هيّا بنا نتخلص من مكب القمامة هذا”. ظهرت اقتراحات جماعية للسكان تراوحت بين ضرورة ردمه وتحويله إلى صرف مغطى ثم تقسيمه لأكشاك تقام عليها مشروعات صغيرة للشباب، أو زراعته بالخضروات، أو تحوليه لملاعب رياضية تُستأجر، لكن الطبيعة كان لها رأي آخر.
في مارس عام 2020، ضربت مصر عاصفة التنين، حيث استمر المطر لعدة ساعات على مدار ثلاثة أيام ابتداء من 12 إلى 14 مارس، تضررت بعض المساكن، لكن هنا في وادي حوف شاهد السكان ولأول مرة شيئاً غير مسبوق منذ عقود: المياه تجري في الوادي.
كان حدثاً مدهشاً للجميع بعدها ظهر التقدير لوجود مخر السيل في تعليقات السكان، الذي لولاه لتعرضت منطقتهم لكارثة لا تحتمل.
يثير هذا تساؤلاً حول قيمة البنى التحتية الهندسية بالنسبة للناس، هي تنقذهم ومدينتهم من آن لآخر و لكن هل تعود بذات القدر من النفع علي حياتهم اليومية؟ وهل يمكن أن تقدم هذه البنى التحتية ما هو أكثر من التدخل الطارئ؟
أعمال حماية
يبدأ الجزء الصحراوي من وادي حوف في أرض تقع خلف مصنع النصر للسيارات حيث يمر طريق النصر، هناك تلتقي فروع الوادي في نقطة تشبه جذع الشجرة. يمكننا ملاحظة مجموعات متفرقة من نباتات الرجل الملحي (Atriplex halimus)، والتي تنمو طبيعياً وعلي طول خط سير مياه المطر الموسمية وتعرف بقيمتها الرعوية كغذاء للأغنام.
في الأماكن الأكثر انخفاضاً نرى بعض البحيرات الصغيرة والتي تتحول مع الوقت لبقاع خضراء في الصحراء.
بعد تعرض المنطقة لسيل كبير في 1982، قام مركز بحوث التنمية والتخطيط التكنولوجي بجامعة القاهرة بعمل مسح كامل لأودية القاهرة بالتعاون مع جامعة ماساتشوتس الأمريكية وأصدر تقريراً مفصلاً عنها في عام 1983 بهدف تنفيذ أعمال الحماية عليها.
تكونت أعمال الحماية في إنشاء سد أسفل طريق النصر لحجز المياه خلفه، وخزان مفتوح يقع اليوم بجانب محطة مترو وادي حوف، وقناة أسمنتية منحدرة لها مداخل تقوم بتصريف مياه المطر من الشوارع إلى أن تصب في ترعة السيل القديمة، تمت إحاطتها بحوائط من الطوب، ومنها إلى نهر النيل. خفف ذلك من حدة السيول الذي تعرضت لها المنطقة بدءاً من عام 1987 إلى اليوم.
أفكار مختلفة عن “المدينة”
لدينا جميعاً صورة ذهنية عن المدن بحكم ما نراه ونختبره بشكل يومي، غالبًا ما تضم هذه الصورة مباني شاهقة وشوارع رئيسية وميادين كبرى وبعض المعالم الخاصة بكل حي وبعض الحدود أيضاً مثل تبة مرتفعة أو مجرى مائي أو ربما شريط قطار.
هذه الصورة مثلاً تتعلق بالحركة داخل المدينة أو بالمكونات الرئيسية لخارطة المدينة. لكن المدينة أكثر من ذلك بكثير حيث يمكننا فهم المدن بطريقة أكثر شمولًا كما تعرفها جين جاكوبس كما لو كانت “أنظمة بيئية طبيعية”، حيث كل شيء مهم ويساهم في توازنها حتى العناصر الصغيرة جدًا.
ولأن النظام البيئي معقد، فهي تعني أن المدينة مثل شبكة معقدة تصل بين عدد كبير من العناصر الطبيعية والعمرانية، وبالتالي تصبح هذه الشبكة متغيرة دائماً.
طبقا لهذا التعريف، فعربة الفول الصغيرة بأحد نواصي المدينة لا تقل أهمية عن محطة نقل عام بأحد الشوارع الكبيرة أو شجرة على جانب الطريق. لأن إطعام عشرات الأشخاص يومياً عمل مهم لوجود “المدينة”، وكذلك انتقالهم داخلها للعمل والتعلم والاستشفاء والترفيه يعني أن يمارس الإنسان إنسانيته ويزدهر، وكذلك توفير الظل للمارة وتنقية الهواء وتوفير مأوى لطيور المدينة أمراً لا يمكن لأي عنصر آخر القيام به.
لعقود، ظل علماء البيئة على قناعة بأن العمران هو اضطراب يضر الطبيعة وبأن المدينة لا تستحق أن تكون مجالاً للدراسات البيئية. مؤخراً وبشكل لافت للنظر بدأ هذا الإعتقاد بالتغير حينما بدأ البيئيون بتقدير الطبيعة داخل المدن وإعادة تعريفها على أنها “نظم بيئية حضرية جديدة”
هذا الاتصال المعقد بين العناصر هو ما يجعل المدينة “الطبيعية” التي تتطور وتنمو مع الزمن تختلف عن المدينة “الاصطناعية” التي يتم إنشاؤها بالكامل من البداية مثل المدن الجديدة. لأنه بحسب المعماري كريستوفر أليكساندر فالمدن الطبيعية لديها نظام اتصال “شبه شبكي” حيث يتم الحفاظ على الاتصالات بين العناصر الفرعية، بينما المدن الإصطناعية تتصل بشكل شجري، يشبه الشجرة من جذع رئيسي وفروع أصغر، الأمر الذي لا يسمح بالاتصال بين الوحدات الفرعية وبالتالي يعوق اكتساب المدينة ل “مظهر الحياة”.
يعطينا هذا التعريف فهماً للمدينة باعتبارها كائنًا حياً له جسد به أعضاء داخلية تتكون من الكثير من الأنسجة والشرايين والخلايا، واتصال هذه العناصر أمراً بالغ الأهمية للحفاظ على حياة هذا الكائن.
وكما يُحدث الجرح بعض الضرر و الإنفصال في الأنسجة و الشرايين؛ ومن ثم يقوم الطبيب ببعض التعقيم والحياكة ليسمح لها بأن تلتئم وتعيد الاتصال مرة أخرى لتشفى. كذلك قد تحدث الأودية بعض الانفصال في نسيج العمران وأنظمته ما يخلق فرصة جيدة للعمرانيين ومخططي المدن لحياكة اتصالات جديدة بين عناصر المدينة كي تزدهر مرة أخرى.
هل يجب أن يكون العمران مضراً للطبيعة؟
لعقود، ظل علماء البيئة على قناعة بأن العمران هو اضطراب يضر الطبيعة وبأن المدينة لا تستحق أن تكون مجالاً للدراسات البيئية. مؤخراً وبشكل لافت للنظر بدأ هذا الإعتقاد بالتغير حينما بدأ البيئيون بتقدير الطبيعة داخل المدن وإعادة تعريفها على أنها “نظم بيئية حضرية جديدة”. سبق هذا التغير في مجال علم البيئة تغيراً في مجال تصميم المدن، ليبدأ كلاهما في دراسة ما يعرف بـ “البيئات المصممة/ المنشأة “.
بدأ هذا حينما أدرك المصممون ضرورة وجود فهم أكثر تعقيداً للطبيعة، ليس فقط من أجل تطوير المهنة ولكن أيضا لقدرة الطبيعة على إثارة خيال المصممين لإنتاج حلول وتصميمات معتمدة على العلم أكثر من كونها ذوق شخصي.
يتساءل بروك مولر، المعماري البيئي، “لماذا نرى الطبيعة كما لو أنها يجب أن تكون دائماً في حالة من الاتزان؟و أنه لابد من اضطراب هذا الاتزان عند إحداث أي تدخلات عليه؟”.
من المفيد أن نفهم هنا أن الطبيعة قد تضطرب بفعل المدينة، ولكنها تعيد ترتيب نفسها وتشفى، بل وقد تزدهر أيضاً. ولنفكر في الإحتمالات اللامحدودة إذا قمنا بتصميم تدخلاتنا على الطبيعة بشكل حذر لنحقق “المنفعة القصوى” بدلاً من مجرد التفكير في إحداث “أقل الضرر” عليها.
يقول مولر “هناك الكثير من الفرص الواعدة في تلك الظروف العمرانية الصعبة التي تواجه فيها شبكة العمران تغيراً طبوغرافيا ملحوظاً أو تعقيدات مثل وجود مجرى مائي، أو طبيعة برية أو أراض رطبة”. يتيح لنا ذلك التفكير بشكل مختلف في المناطق الحضرية ذات الظروف الطبيعية الخاصة، مثل تلك المجاورة للقنوات والوديان و الواجهات المائية، وكذلك المناطق المحرومة من الاتصال بأنظمة المدينة المركزية مثل أنظمة الصرف الصحي أو جمع القمامة.
كيف تلهمنا الطبيعة؟
لنعد الي “البيئات المصمَّمَة” تلك، ما هي وما قصتها؟
ترى مارجريت جروس، المصممة العمرانية وعالمة الأحياء الرياضية، أن “البيئات المصممة” هي مثال عن كيف نصنع طبيعتنا الخاصة لتحقيق أغراض بعينها. وهي ترتكز على مبدأين: الأول فعل التصميم أو الإنشاء والذي يقوم به الإنسان، والآخر هو صيغة الجمع، فهي ليست نظاماً بيئياً واحداً بل عدة نظم. وتشير صيغة الجمع إلى مدى تعقيد النظم البيئية للقدر الذي لا ندرك معه عدد العوالم والكائنات التي تحويها.
نقصد هنا بها أنها تدخلات محددة على الطبيعة داخل المدينة ينفذها المهندسون والمصممون تكون بمثابة حلول مفصلة خصيصاً لمشكلة عمرانية لها علاقة بموقع بعينه. وهي تعني ببساطة أن نشرك الطبيعة في حل مشكلات المدينة بدلاً من الاعتماد الكامل على الحلول الهندسية المكلفة جداً والتي تحتاج الصيانة والإدارة الكثيفتين.
من الملاحظ في العقد الأخير اتجاه الكثير من البلدان إلى هذا التوجه المعتمد على الطبيعة كحلول متعددة المنافع للعمران. ولأن هذا النوع من الإنشاءات المنسجمة مع الطبيعة يتطلب الكثير من المعرفة بأنواع مختلفة من العلوم، فإنه يتطلب تعاون فريق بحثي متعدد التخصصات لتصميمه.
وبسبب ما يتعرض اليه العالم من تبعات التغير المناخي، و الذي قد يعني وجود سيناريوهات غير متوقعة فيما يخص سقوط الأمطار وارتفاع درجات الحرارة؛ فقد تبنت الكثير من الدول تصميم وتنفيذ إيكولوجياتها الخاصة والمصنوعة خصيصاً لملائمة وضع محدد خاص بجزء صغير أو كبير داخل عمران المدينة.
يمكننا ملاحظة تعدد المسميات لهذه الإيكولوجيات فهي تسمي “الماكينات البيئية الحية“، والبنى التحتية الزرق-خضراء باعتبار اختلافها عن البنى التحتية الهندسية التي تعد “رمادية” ، والحلول المعتمدة علي الطبيعة وكذلك “البيئات المصممة“.
تستخدم هذه الإيكولوجيات بعض التقنيات مثل الأسطح المزروعة للمباني، أو الأراضي الرطبة لتنقية مياه الصرف، و كذلك حدائق الأمطار لتقليل الجريان السطحي لمياه السيول.
تعد حديقة هوتان في شنغهاي بالصين أحد الأمثلة ذات الصيت الواسع للبيئات المصممة، حيث صممت في موقع صناعي قديم علي نهر هوانجبو الذي تلوث بشدة بفعل الصناعة. صممت الحديقة خصيصاً لتعمل كفلتر لتنقية مياه النهر، وهي تتكون من مجموعة كبيرة من الأحواض المزروعة بنباتات مائية بطول الحديقة، يعتمد فيها على جذور النباتات والكائنات الدقيقة الموجودة عليها في تكسير الملوثات الموجودة في الماء وهو ما يعرف بتقنية الأراضي الرطبة.
أصبح مخر السيل ممراً أخضر للمشاة وراكبي الدراجات، أما الجزء الملاصق لمصنع النصر فقد تمت زراعة المساحة الصحراوية الملاصقة له بأكملها بنبات الرجل الملحي والشيح ونباتات أخرى محلية ترعى عليها الأغنام. الآن تعد هذه المنطقة بمثابة حديقة صحراوية ومكاناً مفضلاً للعائلات لقضاء العطلات في الهواء الطلق
تنقي هذه الحديقة يومياً نحو 2500 متر مكعب من المياه العكرة إلى جانب كونها نظام حي يقدم خدمات بيئية شاملة تشمل: إنتاج الغذاء، والحماية من الفيضانات وإنشاء موائل لأنواع متنوعة من الكائنات الحية، تتجمع كلها في شكل تعليمي وجمالي.
وفي منطقتنا العربية، نشاهد حديقة الأراضي الرطبة بوادي حنيفة الحاصلة على جائزة الآغا خان في العمارة، والتي تعتبر نموذجاً خاصاً بالبيئات المصممة في المناخات القاحلة كالسعودية. تم انشاؤها لتعمل كمحطة تنقية مياه لمدينة الرياض، حيث ارتفع منسوب المياه الجوفية وكذلك مياه الصرف في الماضي، و كانت المياه الملوثة تُضخ في وادي حنيفة ويعاد استخدامها في ري الأراضي الزراعية.
في محاولة لإصلاح التوازن البيئي في المنطقة؛ نفذّت هيئة تطوير مدينة الرياض استراتيجية تنموية شاملة تهدف إلى ترميم وتطوير منطقة وادي حنيفة كمنطقة بيئية وترفيهية وسياحية.
أنشئت مناطق طبيعية مفتوحة مع الحفاظ على البيئة، كما عملت على تطوير مناطق ترفيهية للأهالي، وتحسين الأراضي الزراعية في الوادي، وإنشاء مرفق بيئي لمعالجة مياه الصرف الصحي يوفر مورداً مائياً إضافياً للسكان. واليوم تعد حديقة وادي حنيفة من أهم المنتزهات في مدينة الرياض حيث يبلغ طولها 80 كيلومتراً ، وتحتوي على البحيرات، والمناطق الخضراء، وممرات للمشاة، والملاعب والمرافق الخدمية.
ومع تعدد التجارب في هذا المجال في أماكن ونطاقات مناخية متنوعة، أثبت هذا النوع من الحلول أنه أكثر كفاءة في حل المشكلات المعقدة في مختلف السياقات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والبيئية. ويقدم الكثير من خدمات النظام البيئي المختلفة مثل امتصاص الكربون والضوضاء وتقليل تأثير الجزر الحرارية داخل المدن وتخفيف الفيضانات ومعالجة مياه الصرف إلى جانب تقديم فوائد نفسية وروحانية وصحية أخرى. كما يعمل هذا النوع من البيئات المصممة على تخفيف العواقب البيئية والاجتماعية للفقر الحضري في المجتمعات المهمشة.
وماذا عن مصر؟
توجد الكثير من التجارب السابقة في مصر لاستخدام تقنية “الأراضي الرطبة” في تنقية مياه الصرف مثل محطتي تنقية الصرف الصناعي في مدينة العاشر من رمضان وابو رواش، ومحطة تنقية مياه الصرف لقرية سماحة بالدقهلية، وكذا محطة بحيرة المنزلة لتنقيه مياه الصرف القادمة من بحر البقر.
وعلى الرغم من إثبات فعاليتها وكفاءتها مقارنة بالمحطات المركزية، إلا أنها تبقى معزولة عن الناس، ولا يتم الاهتمام بالوظائف الأخرى التي يمكن أن تقدمها مثل الترفيه ومراقبة الحياة البرية وما إلى ذلك، كما أنها ليست مفتوحة ولا يتم إدماجها مع العمران أو تقديمها للمجتمع بشكل توعوي وتعليمي. مما يحد من دورها المحتمل على أنها مناطق طبيعة قائمة داخل عمران المدينة الكثيف الذي تندر فيه الطبيعة.
كما يؤدي الافتقار إلى البرامج/ الكيانات التعليمية المحلية متعددة التخصصات التي تتعامل مع مجالات مختلفة مثل الدراسات الحضرية والهندسة البيئية والبيئة وعلم المياه وعلم النبات إلى القضاء على فرص تطوير هذه البيئات المصممة. بمساعدة مثل هذه البرامج؛ يمكن تنفيذ مشاريع تجريبية صغيرة الحجم للمناطق الحضرية في مناطق محددة في مصر مثل قطع الأراضي الملاصقة للنيل وقنوات الري أو القرى والمناطق العشوائية غير المتصلة بشبكة الصرف الصحي المركزية أو الأودية الجافة.
من المحتمل أن يوفر هذا كميات إضافية من المياه ذات النوعية الجيدة، والتي يمكن استخدامها لري المساحات الخضراء وتوليد اقتصاد صغير الحجم مع تعزيز صحة الناس ورفاهيتهم.
الصورة: أسماء المكاوي
ماذا لو؟
لقد ازدادت كثافة البناء في عزبة كامل، على الرغم من ذلك لم تعد رائحة تسرب الصرف الصحي حاضرة في الشوارع خاصة خلال العقد الماضي؛ وكذلك توقف الأهالي عن الصرف علي مخر السيل. بدأ هذا منذ عشر سنوات، حينما جاءت مجموعة من باحثي المركز القومي للبحوث لدراسة إنشاء وحدة تنقية مياه الصرف في الموقع بتقنية الأراضي الرطبة. يقول الباحثون إنها أقل تكلفة من نظام محطات تنقية الصرف المركزي وكذلك ستحقق منافع أكثر للسكان و للبيئة على حد سواء.
اليوم تقوم الوحدة بتنقية المياه عبر أحواض كثيرة لتصل إلى مراحل ثانوية تكون فيها جودة المياه أعلى لتكون صالحة للاستخدام في زراعة الكثير من الأشجار في المنطقة.
أصبحت منطقة الأراضي الرطبة موطنًا للطيور مثل أبو قردان، ويتم استخدام المياه المعالجة لزراعة وري المزيد من الأشجار على طول مجرى النهر لتحسين جودة الهواء وخلق مساحات مظللة للناس للمشي والحركة أو على الأقل ليطلوا من نوافذهم على مناظر أكثر خضرة.
يقول السكان إنها تذكرهم بالماضي، حيث كانت أرض عزبة كامل مقسمة لأحواض زراعية.
تعد المحطة الجديدة البقعة الخضراء الوحيدة المتبقية في العزبة، ومع ذلك فهي تنتج الحمأة والمياه المعالجة يومياً والتي تستخدم في ري وتسميد مئات من أشجار الجميز والنبق والتوت التي تمت زراعتها على جانبي مخر السيل وحتى محطة مترو وادي حوف.
أصبح مخر السيل ممراً أخضر للمشاة وراكبي الدراجات، أما الجزء الملاصق لمصنع النصر فقد تمت زراعة المساحة الصحراوية الملاصقة له بأكملها بنبات الرجل الملحي والشيح ونباتات أخرى محلية ترعى عليها الأغنام. الآن تعد هذه المنطقة بمثابة حديقة صحراوية ومكاناً مفضلاً للعائلات لقضاء العطلات في الهواء الطلق.
ساهم هذا التوسع في التشجير في تحسين جودة الهواء في منطقة المعصرة وتقليل الحمل البيئي لتواجد مصانع الأسمنت على رئات السكان. وبخاصة بعدما توقفت أنشطة حرق القمامة في مخر السيل مع تنفيذ مشروع خاص قام به بعض شباب منطقة المنشية لتجميع وفصل القمامة من المنبع بالتعاون مع ادارة وادي حوف الجديدة والتي بدورها تعاونت مع الزبالين ووزارة البيئة وكذلك هيئة الكهرباء.
الآن يعمل قرابة المائة شاب في هذا المشروع، حيث ينتج الغاز الحيوي من هضم النفايات العضوية من الموقع مضافاً اليها الحمأة المستخرجة من محطة معالجة المياه. يتم ضخ هذا الخليط في تانكات تحت الأرض لها قباب مرتفعة قليلاً، يسميها الأهالي “قبب الغاز” وهي مزار للكثير من طلاب المدراس لتعليمهم عن البيئة. يستخدم هذا الغاز من قبل الأهالي بسعر مخفض، و هم يحصلون عليه في بالونات بلاستيكية خفيفة الوزن يمكن حملها على الظهر كالحقائب المدرسية.و ها قد أصبحت “أرض اللا أحد” أرضاً نافعة تتسع للجميع.