خطــ٣٠ // باستخدام Ai // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

هيئة المفقودين.. المفقودة

بعد أسابيع من إعلان تأسيسها، لا وجود فعلي لهيئة المفقودين في سوريا على أرض الواقع. لا مبنى، لا كوادر، لا إعلان عن أعضائها، ولا أي تحرّك يوحي بأنها بدأت مهامها.. حتى مدّة الشهر التي مُنحت لتشكيل كادرها الإداري مرّت بصمت
20 يونيو 2025

 

تجلس امرأة خمسينية على كرسي بلاستيكي، ترتدي عباءة داكنة وتمسك بصورة باهتة لوجه شاب في العشرينات. إلى جانبها، شاب من ريف إدلب يتحدث عن شقيقه الذي فُقد أثناء عودته من الجامعة. في الزاوية، طفل يعبث بزجاجة ماء فارغة، يضربها على الأرض بينما يتحدث الكبار عن سنوات لم تصلهم خلالها أي إجابة.

هذا ليس مشهدًا عاديًا في سوريا. لسنوات طويلة، كان مجرد اللقاء بين اثنين من ذوي المعتقلين أمرًا محفوفًا بالخطر: مراقبة، تهديد، وربما اعتقال. كان الحديث عن الغائبين يُدار همسًا، ويُخبأ داخل البيوت، بين الجدران المغلقة والأبواب الموصدة.

اليوم، ولأول مرة منذ عقود، بات لهؤلاء مكان يجمعهم في العلن. لا يخافون من الكاميرات، وصار لذوي المعتقلين حضور في المجال العام، لا بوصفهم ضحايا فقط، بل كأصوات تحمل مطالب.

تتعدد لهجاتهم وتفاصيل الفقدان، لكنهم يتحدثون جميعًا عن غياب يشبه بعضه بعضًا: عن زنازين متشابهة، عن اتصالات قُطعت، عن أبواب أُغلقت ولم تُفتح بعد. وكأن الغياب نسج بينهم شكلاً جديدًا من القرب، جعل من الفقد رابطة.

الحضور الجديد لا يخلو من الخيبة أيضًا، فبينما خرجت أصواتهم إلى الضوء، بقي ملف المعتقلين غارقًا في العتمة. السلطات التي أطاحت بالنظام السابق لم تضع هذا الملف على رأس أولوياتها بعد. وعلى الرغم من أن الأمهات والآباء والإخوة باتوا يجتمعون علنًا، فإنهم ما زالوا يواجهون صمتًا من نوع آخر: صمتًا رسميًا يطيل انتظارهم ويعمّق جرحهم.

أين هم؟

في الساعات التي تلت الإعلان عن سقوط النظام، بدت دمشق كمن استيقظت من كابوس ثقيل، بعد إعلان السقوط بشكل رسمي – “سوريا من دون بشار الأسد” – أخذت القلوب تنبض في اتجاه آخر، مشدودة إلى أماكن لم تُعلن يومًا على الخرائط، لكنها محفورة عميقًا في ذاكرة السوريين: معتقلات نظام الأسد. أصبحت صور المعتقلين تُحمل لا كذكرى، بل كإثبات على أن أصحابها لم يُمحَوا، على أنهم ما زالوا هنا، أو هناك، لكنهم لم يغيبوا تمامًا.

بدأت المقاطع تظهر تباعًا، محمّلة على عجل في كل منطقة تطرد فيها فصائل المعارضة قوات النظام، مأخوذة بهواتف مرتجفة، بأيدٍ لا تصدّق أنها تفتح أبوابًا ظنّت أنها ستبقى مغلقة إلى الأبد.

شباب، ناشطون، صحافيون، وأناس عاديون دخلوا إلى مراكز الأمن. للمرة الأولى، يرى السوريون بأعينهم تلك الأماكن التي سمعوا عنها طيلة أربعة عشر عامًا، تلك التي لم يُسمح للكاميرات بالاقتراب منها، والتي بقيت حكاياتها محصورة في شهادات مقموعة. الآن، تفتح الأبواب أمام العدسة، وكان ما وراء الأبواب صدأ، وعفن، وجدران تأكل نفسها. وكان هناك أجساد أو ما تبقّى منها. وجوه بلا ملامح وعيون متسعة.

راح السوريون يحدّقون في تلك المقاطع كما لو أنهم يبحثون عن دليل على أن أحبّاءهم ما زالوا بين الأحياء. وتحوّل السؤال بسرعة: من “كيف سقط النظام؟” إلى “أين هم أين المعتقلون؟”.

واصِل الحميدي، صحافي فلسطيني-سوري من مخيم اليرموك في دمشق، قضى السنوات الأخيرة في البحث عن أثر شقيقه المفقود في سجون نظام الأسد. يقول إنّ الأيام التي سبقت سقوط النظام كانت الأصعب. كانت  تحمل الأمل والخوف معًا، الأمل برؤيته حيًا، والخوف من الوصول إلى الحقيقة الصادمة، أن يكون قد مضى في قافلة الذين قضوا تحت أقدام الجلاد.

ساعات من الأمل

في الأيام الأولى لتحرّر حماة، كان واصل متسمّرًا أمام هاتفه، يتابِع المقاطع المصوّرة التي بدأت تنتشر تباعًا: زنازين تُفتح، أجساد نحيلة تتعثر في خطوتها الأولى بعد أعوام من العتمة، وجوه مذهولة، رجال خرجوا بأسمائهم التي ظهرت سابقًا في قوائم المتوفين.

قبيل سقوط النظام بيوم خرج واصل من منزله.  ووصف ذلك اليوم بأن العاصمة كانت تمشي على رؤوس أصابعها، شيئًا في الجو العام كان يوحي بأن النهاية باتت قريبة، لم يكن يبحث عن مشهد سقوط النظام، كما قال، بل عن مشهد آخر: أبواب تُفتح.

توجّه إلى المربّع الأمني قرب ساحة الأمويين، حيث تتمركز كبرى الأفرع الأمنية. أخبرنا أنه لم يخطط لشيء محدد، فقط أراد أن يكون قريبًا من المكان الذي ربما تُفتح فيه السجون. قال: ” تأملت أن الفوضى قد تخلق فجوة، أن شخصًا ما قد يُطلق سراحه فجأة، أو أن أبوابًا قد تُترك مواربة”.

لكن حين وصل، وجد العكس تمامًا: تعزيزات أمنية مشددة، جنود في وضعية التأهّب، وعيون تراقب كل شيء. لم يجرؤ على طرح أي سؤال. في تلك الليلة، لم يستطع  واصِل النوم. كان قلبه يدقّ كما لو أنّ أحدًا يطرقه من الداخل. كتب على فيسبوك: “ناطر رجعتك“.

أنا الرقم 14

في يوم سقوط النظام، بينما كانت الحشود تتجمّع في الطرقات احتفالًا، كان واصل يلاحق أخبار المعتقلين المحرّرين، يتنقّل بين صفحات الإنترنت كما لو أن أخاه يختبئ بينها. قيل إن المعتقلين نقلوا إلى مشافي العاصمة، فحمل قلبه واندفع: مشفى التل، ثم المجتهد، فابن سينا.. في كل مكان، كان يكرّر سؤاله ذاته، يحدّق في وجوه الخارجين، يفتّش في ملامحهم عن أي ظلّ يشبهه. في مشفى “المجتهد”، أخبروه: “الجميع جاء وأخذ أبناءه”. لم تكن العبارة عادية. كانت فاصلة.

قال إنه رأى هناك معتقلَين فاقدي الذاكرة. أصرّ على مقابلتهما. جلس أمام أحدهما، وسأله عن اسمه. رفع الرجل عينيه بصعوبة وقال: “أنا الرقم 14”. لا اسم، لا تاريخ، لا هوية. مجرد رقم. تمامًا كما أرادهم النظام أن يكونوا. لم يكن هو.

وحين لم يجده بين الأحياء، بدأ يبحث بين جثث الموتى. عُلّقت في أروقة المشفى صور لوجوه معتقلين قضوا تحت التعذيب. لم يكن المشهد أهون من الجحيم. وجوه مسحوقة، أجساد نُهشت ببطء. قلب الصور واحدة تلو الأخرى، ولم يعثر على أثر. لم يكن أخوه بينهم.

ثم، ظهر مقطع فيديو على “تيك توك” لوثيقة رسمية، يعرضها ناشط. لمح واصِل الاسم: اسم أخيه، يتبعه اسم الأب، وأحرف من الكنية. الوثيقة تقول إنه كان في سجن صيدنايا.

كمن تعلّق بحبل غير مرئي، مضى نحو المكان الذي يُعرف بثقب الذاكرة الأسود. يصف واصل اللحظة عند أبواب السجن: الذهول مخيّم، نساء يُلصقن آذانهن بالجدران، شبّان يحفرون الأرض بحثًا عن سرداب، أو عن غرفة لم تُفتح بعد. دخل السجن وقلبه يقرع صدره. مشى بين الردهات، طرق الأبواب الصدئة، فتّش الجدران، نظر خلف القضبان.. لا شيء.

رأى أمهات يحفرن بأظافرهن، بحثاً عن سرادب قد يكون فيها المعتقلين . اقترب من نقطة الهلال الأحمر والدفاع المدني. سأل إن كان هناك أحد ما زال على قيد الحياة. هزّوا رؤوسهم بصمت. قالوا إنهم لا يجرؤون على قول الحقيقة للأمهات.. خوفًا من الانهيار.

في قرارة نفسه، كان يعرف أن الجولة انتهت. عاد من صيدنايا دون أي  وثيقة تؤكد الموت، ولا جسد ليدفنه، فقط بحثٌ لم ينتهِ، وجدران لا تُجيب.

لا أثر لهم

في العاشر من كانون الأول/ ديسمبر، أعلن الدفاع المدني السوري، المعروف بـ”الخوذ البيضاء”، رسميًا انتهاء عمليات البحث عن زنازين وسراديب سرية داخل سجن صيدنايا. خمس فرق مختصة، كلاب بوليسية، فرق دعم وإسعاف، كلها لم تقُد إلى شيء. جاء في البيان أن السجن فُتّش بكامله: غرفه، أقبيته، فتحات التهوية، أنابيب الصرف، كابلات الكهرباء، وخلفيات الجدران. لا أثر. لا باب مخفي. لا غرفة تُفضي إلى حياة.

كان ذلك الإعلان أشبه بإغلاق الباب الأخير، كأن كل شيء منذ ذلك اليوم بدأ يبرد. توقفت الحناجر عن النداء. الناس الذين عاشوا لسنوات على فرضية وجود أحبتهم خلف هذه الجدران، لم يكن القسم الاكبر هناك، بل كانوا قد قضوا ودفنوا، قبل الوصول إليهم، دون معرفة أماكن دفنهم.

تحوَّل الفراغ الذي خلَّفه غياب الحقيقة إلى عبءٍ عام، المقابر الجماعية، التي كان من المفترض أن تصبح مكاناً لذاكرة وطنية، تحوّلت إلى محطات في جولات سائحين ثوريين: صحفيون، ناشطون، مؤثّرون على مواقع التواصل، يأتون ليأخذوا صورة إلى جانب “حفرة الموت”، ثم يمضون، كأنّ ما طُمر تحت التراب لا يستحق الحفر، أو كأن الحقيقة، بكل قسوتها، أصبحت عبئًا يُفضل نسيانه.

بدأت الاحتجاجات تتسلّل إلى الشوارع، تحمل ملامح من قضوا غيابيًا خلف الجدران. خرج الأهالي بصور أحبّتهم، ملوّحين بها كما لو أنهم يستردّونهم من النسيان. في كل وقفة، يعلو صوت السؤال: أين هم؟ من قتلهم؟ لماذا لا أحد يُجيب؟

انضمّ إليهم حقوقيون وناشطون، والتفت حولهم عدسات الصحفيين، وسرعان ما تحوّلت هذه الوقفات إلى مشهد متكرّر، لا يمكن تجاهله. لم تعد مجرّد تعبير عن الحزن، بل إعلانًا واضحًا بأن العدالة ليست ترفًا مؤجلًا، بل شرطًا لاستمرار الحياة.

خيمة من أجل الحقيقة

في 13 شباط/ فبراير الماضي، نُصبت في مدينة جرمانا أول خيمة لذوي المفقودين في دمشق، محاولة صغيرة لاختراق جدار اهمال السلطة لملف المفقودين. لم تكن الخيمة مزدحمة، لكن من وقفوا فيها حملوا ما يفوق عددهم: صور الأحبة، والوجوه التي لم تُنسَ، والقصص التي لم تجد نهاية.

جاءوا من خلفيات مختلفة، سوريون وفلسطينيون-سوريون، رجال ونساء، من طوائف شتى، يوحّدهم الغياب ذاته. أحبة خُطفوا إلى المجهول خلال سنوات حكم الأسد، ولا يزال مصيرهم طيّ الكتمان.

أعدادهم قليلة، لكنهم يحاولون إيصال الصوت. يرفعون الصور في وجه زمن يحاول القفز إلى الأمام دون أن يلتفت للدم الذي لم يجفّ بعد. ومع أن الخيام بدأت تنتشر خارج دمشق أيضًا، إلا أن ما يحيط بها ليس الحشود، بل الفراغ.. والانتظار.

جاد حمادة، أحد مؤسّسي هذه الخيمة التي حملت اسم “خيمة الحقيقة”، فقد عددًا من أقربائه في سجون النظام. يقول إن الخيمة ليست أكثر من محاولة لقول ما يجب أن يقال: “هذه صرخة من أجل المعرفة. على السلطات أن تفتح تحقيقات جدّية وشفافة في مصير أحبّائنا. ملف المفقودين ليس قضية جانبية، بل من أولويات السلم الأهلي، ولا يمكن بناء أي مستقبل دون مواجهته بصدق”.

بدأت هذه الوقفات الصغيرة تنتشر في عدد من المناطق، تتسلل إلى المشهد العام، في مخيم اليرموك، حيث نشأ واصِل، نُصبت خيمة جديدة، كانت خيمته امتدادًا لهذا الاحتجاج الصامت، للمطالبة بالكشف عن مصير المفقودين من السوريين والفلسطينيين الذين ابتلعتهم سجون الأسد، دون أثر يُعيدهم أو قبرٍ يضمهم.

يقول واصِل: “يظنّ البعض أن هذه الخيم لتكريم الشهداء، لكنها ليست طقوس تأبين، هذه خيم احتجاج. نحن لا نملك شهداء، نملك مغيبين قسريًا. من واجب السلطة أن تبذل جهدًا حقيقيًا لمعرفة مصيرهم، أن تكشف أين دُفنوا، أن تعوّض عائلاتهم، وأن تبدأ بتسجيلهم رسميًا كمفقودين، لا كأرقام على وثائق غامضة“.

هيئة مفقودة أيضاً

في 17 أيار/ مايو الماضي، أعلنت السلطات السورية تشكيل “الهيئة الوطنية للمفقودين”، في بيان بدا أقرب إلى واجب بروتوكولي منه إلى خطوة فعلية نحو العدالة. قيل إن الهيئة ستتولى الكشف عن مصير الآلاف من المفقودين والمخفيين قسراً، وتوثيق حالاتهم، وإنشاء قاعدة بيانات وطنية، وتقديم الدعم لعائلاتهم. وقع المرسوم الرئيس أحمد الشرع، وأسند رئاستها لمحمد رضى جلخي، عميد كلية العلوم السياسية.

لكن ما أُعلن على الورق بقي حبراً على ورق. بعد أسابيع من التأسيس، لا وجود فعلي للهيئة على أرض الواقع. لا مبنى، لا كوادر، لا إعلان عن أعضائها، ولا أي تحرّك يوحي بأنها بدأت مهامها. حتى الشهر الذي مُنح لها لتشكيل كادرها الإداري مرّ بصمت، دون أي إشعار أو تبرير.

الهيئة التي يفترض أن تعيد الأمل لعائلات المفقودين، تبدو مفقودة بدورها. والوعود التي صدرت باسم العدالة والمساءلة، تُركت معلّقة في الهواء، كما لو أن الإعلان عنها كان كافيًا لتسكين غضب الشارع وتخفيف الضغط الدولي، دون الحاجة لفعل أي شيء فعلي.

الغياب في سوريا لم يكن حكرًا على جهة واحدة. السجون التي ابتلعت السوريين لم تكن جميعها تحت سلطة الأسد. في مناطق كانت تُوصَف يوماً بـ”المحررة”، أُغلقت أبوابٌ أخرى على ناسٍ لم يُسمع بهم مجددًا. هناك، حيث كان يُفترض أن تتنفس الحرية، اعتُقل البعض بسبب رأي، أو نشاط، أو حتى مجرد صمت غير مريح.

اليوم، لا تعود وقفات ذوي المعتقلين إلى جهة واحدة فقط. الصور التي تُرفع، والقصص التي تُروى، تنتمي لمجموعة من الغائبين: من خُطفوا على يد النظام، ومن غُيّبوا على يد فصائل حملت راية الثورة، ثم تحوّلت إلى سلطات أمر واقع. سنوات مرت وكان كل طرف يقف وحده، كأن الفقد مقسم حسب خطوط السيطرة. أما الآن، فالوقفة واحدة، والحزن موحّد.

شيءً ما تغيّر

في دوما، بداية هذا العام، اجتمع العشرات أمام مبنى خالٍ يحمل آثار الزمن. كان في السابق مركزًا لتوثيق الانتهاكات. لم يأتِ الناس لأجله، بل من أجل الذين فُقدوا فيه. رُفعت صور رزان زيتونة وزملائها، الوجوه ذاتها التي اختفت في ليلة باردة من أواخر 2013. لم تكن الوقفة مجرد تذكير. الاتهام هذه المرة كان واضحًا، وموجّهًا نحو جيش الإسلام، الفصيل الذي سيطر على المدينة آنذاك، ولا يزال حضوره مستمرًا اليوم بصيغة مختلفة.

في النهاية، لا تبدو هذه الوقفات وكأنها تنهي شيئًا. لا أحد يعود، ولا أبواب تفتح. لكن شيئًا ما تغيّر. لم يعد ذوو المعتقلين يتحدثون همسًا، ولم تعد صور الغائبين طيّ الأدراج. صار للذاكرة مكان في العلن.

ومع ذلك، تبدو السلطة الجديدة وكأنها تتجنب الاقتراب من هذا الملف. هيئة المفقودين التي وُلدت بمرسوم، لم تولد في الواقع بعد. لا مقر، لا فريق، لا أثر. وكأن الاعتراف بالغياب مسموح، لكن السعي لكشفه مؤجل إلى أجلٍ غير مسمّى.