تتّسع «الزورخانة» أو بيت القوة إلى أكثر من حركات جسدية. رياضة كمال أجسام القديمة هذه تعود إلى البابليين والسومريين، ولا تزال منتشرة في إيران والعراق إلى اليوم، وتجمع فعاليّات رياضية جماعية تختتم بالمصارعة. تؤدّي الزورخانة في مبنى مخصص لها وتتبع مجموعة تقاليد ثقافية وطقوس دينية وموسيقية ورياضية. لا تشكّل صالات الزورخانة مساحة اجتماعية ورياضية فحسب، إنّما دينية، حين يتلاحم الجسد مع الروح على وقع الأناشيد التي تستمرّ لساعات.
الصالات الرياضيّة لا تخلو أيضًا من السلع المادية والثقافيّة، التي يروّج لها قبل الرياضة أحيانًا. ففي لبنان، مثل دول كثيرة أخرى، تتحوّل الرياضة إلى سلعة أخرى قابلة للاستهلاك في الصالات الرياضيّة التي تسوّق أيضًا لثقافات اللباس والطعام والسلوكيات اليوميّة. الإنضمام إلى صالة رياضية يكبّد مبلغًا للاشتراك الشهري لا يقل عادةً عن 60 دولارًا أميركيًا، وقد يتعدّاها إلى الـ 90 دولار في معظم نوادي العاصمة بيروت. هذا الاشتراك الشهري سيبدو باهظًا، مقارنةً مثلًا بالدول الأوروبية التي يمكن الحصول على اشتراك سنويّ فيها يتراوح بين الـ 25 والـ 50 دولارًا شهريًا لصالات كبيرة ذات أفرع متعدّدة.
مع أن النوادي الشعبية في لبنان (قد يصل الإشتراك فيها إلى 90 دولار شهريًّا) هي التي تستقطب العدد الأكبر من الرياضيّين من كافّة الطبقات والخلفيات الاجتماعيّة، إلا أنّ النوادي متعدّدة الأفرع تنتشر أيضًا في السوق باشتراكات شهرية خيالية تقارب الـ 200 دولار، والتي قد لا تشمل كلّ الخدمات. ارتاد هادي (36 عامًا) هذه النوادي الباهظة في السابق، ولم يكن الجسد فيها هو المستهدف، بقدر ما كان وسيلةً لتسويق سلعة اللياقة المعلّبة بعناية، ولبناء صورةً اجتماعية عن الذات.
«لا تقدّم هذه النوادي أي أمر إضافي للمتمرنين سوى الصورة» كما يرى هادي، مفترضًا أنّ الصورة هي السبب الرئيسي لارتيادها من قبل عدد كبير من المشتركين. فتصبح تلك الأماكن مقصدًا لخروج الأصدقاء ولقائهم في مقهى الجيم الذي يقدّم مشروبات صحية بأسعار غير منطقيّة. إضافةً إلى ذلك، لاحظ الشاب أنّ الرياضة في تلك الصالات، تعدّ بالنسبة للكثيرين هناك مجرّد عرض ينتهي فور التقاط الصورة.
مهرب من الرأسمالية..؟
في النادي الرياضي الشعبي (قد يتراوح فيها الاشتراك بين 40 و50 دولار شهريًّا في بعض الأحياء) الذي يرتاده حاليًا، كوّن هادي صداقات عضوية عديدة، ضمن مناخ من الحماسة والتحفيز للتقدّم. وبالعودة إلى الوراء لبضع سنوات، حين كان يرتاد الصالات الرياضية الفاخرة، نادرًا ما استطاع أن يكوّن فيها صداقة واحدة مع روادها، ولم يشعر حتى إنّه وسط مناخ يحفّز على التمرين.
داخل النوادي الشعبية التي لا تتطلّب الكثير من المال، والتي يمكن العثور فيها على ماكينات رياضية ومساحة للتمرين ضمن فضاء متواضع، يتشكّل شعور قوي بالانتماء، وفق هادي، ليس إلى طبقة أو صورة اجتماعية، إنما إلى جماعة يتشارك المتدرّب معها حب الرياضة، فتتحول هذه الجماعة إلى محفز ودافع للتقدم من خلال المنافسة والدعم في آن واحد. إذ يشكّل النادي للكثير من رواده مهربًا من دورة الحياة السريعة، كمكان يستطيعون فيه أن يتغلّبوا جسديًا على ضغوطات الحياة من خلال تمارين الكارديو أو الملاكمة أو تمارين المقاومة مثل رفع الأثقال، التي يتمكّن الرياضي من خلالها من السيطرة الكاملة على جسده بخلاف العالم الخارجي.
يسرق المتدرّبون ساعة أو اثنتين من نهاراتهم الطويلة التي تصادرها الوظائف، و«يتمكّنون من إيقاف وعيهم عبر الانغماس في التمارين» وفق تعبير الباحث السوسيولوجي نيك كروسلي، في بحثه حول دوافع المتدربين في نادي رياضي في مدينة مانشستر الكبرى في المملكة المتحدة. في لحظات ممارسة الرياضة، ينظفئ العالم الخارجي، ويخفت حضور سلطته أمام حصّة التمرين التي يكون الرياضي منغمسًا فيها.
تتطلّب بعض أنواع التمرين، خصوصًا تلك المركّبة، انغماسًا في اللحظة الحالية، وتركيزًا على التقنية والتنفس. تشتت التفكير خلال القيام بتمارين رفع الأثقال، قد يؤدّي إلى خطأ في التقنية وبالتالي إلى ازدياد خطر الإصابة. الأمر نفسه ينطبق على تمارين الملاكمة التي تحتاج تركيزًا على التقنية والتنفس وردات الفعل السريعة لصدّ اللكمات وتوجيهها بفعالية.
لا يقتصر الجيم على إتاحته مجالًا للهروب أو للاستراحة من العالم الخارجي، إنّما هو أيضًا مساحة يصبح فيها الإنسان سيدًا على جسده، لا بل على عالمه كلّه كما يرى كروسلي. فروّاد النادي ممن قابلهم حدّثوه عن أثر التمرين الرياضي الإيجابي على ثقتهم بنفسهم، وكيف غيّر بشكل جذري من طريقة وجودهم في العالم.
هناك، يتساوى الجميع ولا يميّز بينهم إلا مقدار جهدهم وانضباطهم. صحيح أنّ عوامل طبقية أو صحيّة كثيرة قد تؤثّر على لياقة الأشخاص مثل نوعية الغذاء والنوم لوقت كافٍ، ووجود متسع من الوقت للتمرن، أو الإصابة بمرض أو بعوامل جينية تؤثر على اللياقة البدنية، إلا أنّ الكلمة الفصل فيه تبقى للمجهود الذي يبذله المتدربون. المعادلة واضحة وبسيطة؛ المزيد من الجهد يعني المزيد من النتائج.
قد يشكّل النادي للبعض فرصة يتحدّى فيها المتدربون الظلم الرأسمالي الخارجي والامتيازات الطبقية، ولو لفترة مؤقّتة. وهذا ما رآه الباحث أميت سينغ في بحثه مع رواد فنون القتال المختلطة، تحديدًا لاعبي الملاكمة التايلاندية «مواي تاي» وملاكمة الركل أو الأرجل «كيك بوكسينغ» في أحد نوادي لندن.
يدرس سينغ كيف أضحى النادي ملاذًا للملاكمين من الظلم الطبقي والعنصرية والهوموفوبيا والذكورية في العالم الخارجي وحتى من البطالة. وعلى عكس تقلّب الحياة وعدم القدرة على توقّعها، فإن التدريب يسوده انتظام وانضباط كبيرين. كلّ الملاكمين سواسية بغض النظر عن أي خلفيات أخرى، ولا تتميز إحداهن عن الأخرى إلا بمقدار جهدها وسعيها الذاتي. الجسد وحده هو وسيلة إنتاج الملاكمين في الحلبة، يُطوَّع وفق مجهودهم وسعيهم.
.. أو غرق فيها؟
منذ القرن السادس قبل الميلاد، عرف الإغريق النادي الرياضي بشكل الجيمنازيوم (الكلمة مشتقّة من gymnós أو عري). وهو مساحة رياضية واجتماعية وفكرية نخبويّة، يرتادها حصرًا الرجال من المواطنين الأحرار. فيه يتدربون، عراةً، على تمارين رياضية مختلفة وأهمها التمرّس على القتال.
اليوم، لا تزال بعض النوادي الرياضيّة تحافظ على تلك السمة، أي ترسيخ الحدود بين الأفراد، الحدود الطبقيّة غالبًا والتي كانت في السابق حدودًا بين طبقتي الأحرار والعبيد، وبين الرجال والنساء.
تتحوّل الرياضة في نوادٍ كهذه إلى سلعة رأسمالية، عليك شرائها بدولارات كثيرة، ويتجلى فيها المشروع الليبرالي بأبهى حلله. بحسب سينغ، فإنّ مشروع صناعة الجسد بمعادلة «كدّوا، تجدّوا»، وبيع الفكرة القائلة بأننا صناع عالمنا ووحدنا أسياده، بمجهودنا فقط، سيحوّل النادي إلى مؤسسة للمشروع النيوليبرالي المتمثّل بـ «تحقيق الذات» الذي يصبح هدفًا نسعى من خلاله إلى التغلّب على العقبات الخارجية الحائلة دون تحقيقه. كذلك، يصبح فيه أي قصور عن الوصول إلى الهدف، قصورًا عن بذل الجهد الكافي لتحقيق الذات. والنتيجة؟ الغرق في لوم الذات القاصرة عن الإنتاج، هذا الفعل الذي تكرّسه النيوليبرالية متغاضيةً عن أثر العوامل البنيوية، بمقابل تأليه الذات المنتجة والمحقّقة.
«تختلف صفوف رياضة الـ «كروس فيت» في النوادي عن غيرها من الرياضات الجماعية، كونها تسعى إلى تحقيق النتائج والأهداف الفردية الفردية، بعكس الرياضات التي يؤثّر فيها الأداء الفردي على مصلحة الفريق مثل كرة القدم».
هل تفيد الرياضة صاحبها فقط؟ بالطبع سيحسّن التمرين من لياقة المشتركين، لكنّه سيزيد بالتالي من إنتاجيتهم في العمل التي ستعود بالربح على الشركات أو المهن التي يعملون فيها، كما يرى الباحثان بوب ستيوارت وأرون سميث في بحثهما (2012). وبذلك، يتشابه النادي مع وسائل الراحة الأخرى مثل المنتجعات الصحية والمساحات والفعاليات التي يرتادها الأشخاص بعد نهار عمل مضنٍ، ليعيدوا شحن طاقاتهم بغية الانخراط مجددًا في دورة العمل الرأسماليّة. وهنا تبدو النوادي الرياضيّة كمسرح خلفيّ لتصريف الضغوطات اليومية وتسكينها، أو كوسيلة إلهاء ممتعة عن الملل والتعب وغيرها من أمراض الرأسماليّة.
صحيح أنّ التمارين والصالات الرياضية تسهّل بناء جماعة والانتماء إليها، إلا أنها قد تعزّز الوحدة والنزعة الفرديّة. في بحثهما حول النظام الرياضي «كروس فيت» (CrossFit) ومتدربيه في النوادي البريطانية المخصصة له، يدرس الباحثان كريس تيل وجوزف ابراهيم وجود عامل الجماعة في النادي. والـ «كروس فيت» رياضة شاملة تحتوي على تمارين متنوعة منها تمارين المقاومة والكارديو ضمن حصص مكثّفة وصفوف جماعية. عبّر رواد النادي عن شعور قوي بالزمالة والانتماء، وخلص الباحثان إلى أن المتدربين على هذه الرياضة يبنون أواصر اجتماعية ويوطّدون حس الجماعة، ولكن الهدف يكون بناء المتدرب الذاتي. تساعد الجماعة في هذا البناء من خلال دعم الأفراد لبعضهم البعض وتشجيعهم حين لا يشعرون بالرغبة في التمرن، ومن خلال حسّ المنافسة القوي في هذه الرياضة والضغط لتحقيق نتائج تمرين أفضل. أما ما يميزها عن غيرها من الرياضات الجماعية، فهو أن التمرين الجماعي يعزّز من النتائج الفردية، بعكس الرياضات التي يؤثّر فيها الأداء الفردي على المصلحة الجماعية مثل كرة القدم.
يمكن رؤية هذه النزعة في تمارين رفع الأثقال، وفي استخدام الأوزان الحرة (الدامبلز، أو الباربل أو الكيتلبلز)، ثمّة تحدٍ يدفع بالمتدربين إلى التمرن مع شخص آخر، فيتولى أحدهم وظيفة المساندة للمساعدة في رفع الوزن إن احتاج المتمرن إلى ذلك. وقد يتناوب الاثنان على التمرين والمساندة بنظام يوفّر لهما استراحة بين كل مجموعة (set) وأخرى، إلا أن كل منهما سيحتفظ بهدفه الفردي في تحقيق الكمال للجسد. تبلغ النزعة الفردية أقصاها في التمارين التي يرتكز فيها رفع الأثقال على الماكينات، ما يوفّر قدرًا أكبر من الاستقلالية والنزعة الفردية للشخص. هنا لا حاجة إلى مساعدٍ بشري لأن الآلات بأغلبها مزودة بآليات حماية وأمان، كما لا تحتاج إلى القدر نفسه من التنبه للتقنية مثل تمارين الأوزان الحرة.
ماذا أكلت اليوم؟
منذ لحظة دخولهم، تزوّد الأندية الرياضيّة الباهظة مشتركيها ببرّادات مضاءة للمياه العادية أو المنكّهة، ولمياه الإلكتروليت، وألواح البروتين، ومختلف المتمّمات الغذائية التي تبدو كأنّها تُدخَل إلى أفواه المشتركين بالقوّة. ومعظم هذه النوادي تتعاون مع اختصاصي تغذية، وتقدّم خدمات توصيل للطعام الصحي أو الطعام لمن يتبع حميات غذائية. بكلّ الحالات، ستصل الصحة واللياقة إليك كصفقة كاملة تجمع الرياضة والتجميل والطعام بوصفه سلعة أخرى تباع مع الرياضة.
What do I eat in a day؟ أو «ماذا أتناول يوميًا؟»، يحاول المؤثّرون الإجابة عن هذا السؤال في فيديوهات قصيرة و«ريلز» تغزو مواقع التواصل الاجتماعي مثل انستغرام وتيكتوك وفايسبوك. يبدأ الفيديو عادةً بصورة أمام المرآة، يستعرض فيها صاحبه أو صاحبته الجسد الأمثل للصورة الأنثوية أو الرجولية. أنثويًّا، سيبدو القوام مشدودًا، دهون شبه معدومة، ورشاقة بالغة خاصةً في الأرداف والمؤخرة. ورذكوريًا، تظهر العضلات منتفخة ومستعدّة للنمو إلى ما لا نهاية في الجزء العلوي من الجسد، مع مستوى منخفض جدًا من الدهون وبمعدة مقطّعة.
رسالة هذه الفيديوهات واضحة وإن لم تنطق بصراحة؛ «اتبعوا حميتي الغذائية التي تبدو كعقاب، وستحصلون على جسد يشبه جسدي»، ذلك الجسد المنشود الذي يتربّع على عرشي الأنوثة أو الرجولة. تعتمد الحمية بالطبع على مجموعة من المتممات الغذائية (يروّج لها الإنفلونسر على شكل إعلان مدفوع) التي تقدّم على أنها ضرورة.
ومع ازدحام السوق الافتراضي بمختلف المؤثرين الذين يحاولون بيع صورة مزيّفة، علت أصوات آخرين لفضح الثمن وراء الحفاظ على هذه الصورة. بعض الرياضيات المؤثرات مثلًا تحدّثن عن ثمن بروز المعدة المقطعة لدى النساء، والتي تعني جسدًا منخفض الدهون بنسبة كبيرة، مما يؤدي إلى اختلال الهورمونات وانقطاع الدورة الشهرية، وبالتالي التأثير على الخصوبة. مؤثرون آخرون تحدّثوا عن تعاسة العيش بجسد مثالي، يمنع صاحبه من الاستمتاع بأي وجبة خارج الوجبات المسموح بها، في حين أنه يمكن التمرن بشكل منتظم من دون السعي الدائم للتخلص من أيّ كيلوغرامات زائدة. هذا العلاقة العقابية مع الأكل، دفعت بكثيرين إلى تصوير أجسادهم بطرق تبدو فيها رشيقة، وقارنوها بصور لهم بعد الأكل أو في نهار استرخاء حيث بدت فيها أجسادهم بحالاتها الطبيعية، ببطن منتفخ مثلًا وعضلات أقل بروزًا أو حتى غير مرئية.
تتجاهل فيديوهات «ماذا آكل خلال اليوم؟»، الاختلاف بين الحاجات الغذائية لكلّ جسد، وفق معايير كثيرة منها نسبة الحركة والروتين اليومي وحتى الطعام الذي يتوفّر لكل شخص، والقدرة الشرائية. وهنا، يتقاطع مؤثّرو الطعام واللياقة مع مدربي الحياة أو «اللايف كوتشز» كما يحبون أن يطلقوا على أنفسهم، حين تتوجه فيديوهات اللياقة محملة برسائل جندرية واضحة إلى جمهور شاب، دائم القلق حول مظهره. وفي الحالتين، يصطاد هؤلاء متابعيهم عبر ضعفهم، وتحديدًا الخوف من الرفض أو الفشل أو «البشاعة». فتصبح حياتهم مشكلة ولّدتها الرأسمالية التي عادت لتبيعهم الحل السحري لها. وفي عالمٍ يفلت بسرعة من أيدينا من دون قدرة لنا على التحكم فيه، يصبح الفم، ومعه الحمية، فكرتنا الوحيدة عن الحرية لأنها تمكّننا من السيطرة على ما نقدر عليه: أجسادنا.
المجدّرة كوجبة «غورميه»
تشيع المتمّمات الغذائية ومن أشهرها البروتين والكرياتين بوصفها مواد تساعد في بناء الكتلة العضلية وتعافيها بالإضافة إلى تحسين الأداء الرياضي. يروّج لها ولغيرها من الفيتامينات على أنها ضرورة تحول بين المتدرب والجسد المنشود. والحقيقة أنها تكمّل ما ينقص في الغذاء ولا تستبدله. كما أنّ الحاجة إليها تختلف باختلاف نوع التمرين وشدّته والحمية الغذائية المتبعة. دخول الجيم مع مشروب بروتين ليس شرطًا ليأخذنا المتدربون الآخرون على محمل الجد، ولا هو عصا سحرية لبناء كتلة عضلية.
في الطعام، باتت كلمة «صحي» هي العصا السحرية، ليس لناحية جودته، إنما لناحية سعره الذي يقفز فجأةً حين ينتقل المنتج إلى رفوف زاوية «الهيلثي فود» في السوبرماركت. أي حين يصبح منتجًا يهبُ الصحة بشرائه وتناوله. وتعبير” صحي” هو تعبير فضفاض يسهل التلاعب به، ولا يوجد معيار واحد وواضح لما هو صحي أو غير صحي، وما ينطبق على شخص معيّن قد لا يلائم أهداف شخصٍ آخر الغذائية ولا رؤيته حول معنى الصحة.
في الاستطباق أو الإحلال العمراني، يُطرد فقراء الأحياء والمدن الشعبية ويُستبدلون بطبقة اجتماعية أغنى. ويتزامن هذا باستبدال طبقي واضح يتلازم مع تغيير ملامح المدينة وأحيانًا كثيرة رمنسة الفقر وإعادة تقديمه كسلعة جاهزة للاستهلاك.
يسطو الاستطباق أيضًا على الطعام، كما اصطلحت الكاتبة النسوية ميكي كندل عبارة food gentrification سنة 2014 بصفتها التحوّل الذي يطرأ على الطعام العرقي حين يصبح طعامًا محبًبا ومستلبًا من قبل البيض، فيروّج له كطعام صحي ويعاد تقديمه بصيغة تناسب الجمهور الجديد وبسعر أغلى يجعله غير متاح لمن كان غذاءً أساسيًا لهم قبل الاستطباق.
يبرز الاستطباق بشكل كبير في الأطباق والمطاعم الخضرية (فيغن – Vegan) الخالية من اللحوم ومشتقات الحيوانات. فبالرغم من أن المطبخ اللبناني التقليدي مثلًا مليء بالمأكولات والمازات المكوّنة من الخضار والحبوب، مثل المجدرة التي تُعرف كأكلة الفقراء، فإن الاستطباق يحوّل هذه الأطباق والمطاعم الـ «فيغن» إلى امتياز وتجربة حصرية لمن يستطيع إليها سبيلًا، تحت وهم بيع سلعة الصحة.
يتبع التسويق للطعام الصحي دول المركز المهيمنة، فيحوز المحتوى الأميركي والأنغلوفوني على الصدارة في تصدير معنى الصحة ومعاييرها. وكثيرًا ما يحصل هذا بالتوازي مع الاستطباق والاستيلاء الثقافي على الطعام، فتنهال علينا وصفات الحمص بطحينة مثلًا بمكوّنات غريبة، تارةً من دون حمص وطورًا مع شوكولاتة أو أفوكادو. تمامًا مثل الفلافل والتبولة وأكلات أخرى انتزعت من سياقاتها الإجتماعية الثقافية وأعيد تقديمها كوجبة غورميه صحية وباهظة اكتشفها الرجل الأبيض كما اكتشف القارّات واستولى عليها في السابق.
والكثير من الأطعمة التي تُسقَط بفعل وسائل التواصل الإجتماعي وتقدّم كحل صحي سحري، لها بدائل محليّة لا تحظى بالشعبية نفسها لأنه لم يتم التسويق لها كما يجب. فحبوب الترمس مثلًا قد توفّر بديلًا محليًا للبروتين بثمن متدنٍ بالمقارنة مع حبوب الصويا. أما اللبن المحلي، فلا تختلف فوائده وقيمته الغذائية بشكل جذري عن اللبن اليوناني الذي غزا السوق اللبناني بأسعار خيالية، خصوصًا لدى مرتادي النوادي الرياضيّة.
رجال بعضلات لا تكفّ عن النمو
ليس صدفةً أن يكون المؤثّرين الذكوريين في «المانوسفير» (الفضاء الذكوري المعادي للنسوية)، مثل الرياضي والمؤثّر البريطاني الأميركي أندرو تايت بأجساد ضخمة. يحاول هؤلاء أن يبلغوا صورة «الرجل الألفا» المتربّع في أعلى هرم الرجولة، على أن يقاس نجاحه في اختبار الرجولة بمدى سيطرته وقوّته ونجاحه الليبرالي مثل الثروة التي يملكها. وهنا تصبح الكتل العضلية الضخمة التي تلفّ الأذرع، معادلًا جسديًّا ورياضيًّا لهذا النجاح المهني، أو النجاح في تحقيق الشهرة وحصد ملايين المتابعين مثل أندرو تايت الذي تجاوز عدد متابعيه على منصة إكس الـ 10 ملايين متابع منتصف هذه السنة.
«شهد العقد الأخير، يقظة حمية الباليو (Paleo) التي تعدّت الجانب الغذائي لتتحوّل إلى حركة اجتماعية وحياتية تهدف للعودة إلى حياة ما قبل الحضارة، وإلى نموذج الإنسان المتفوّق، الذكوري تحديدًا الذي يعتمد على أكل اللحم بسبة كبيرة»
بدأ تطبيق مصطلح «رجل الألفا» على الذكور من البشر منذ أن نشر العالم الهولندي فرانس دي فال كتابه «سياسات الشمبانزي» (1982) الذي قارن فيه بين سلوك الإنسان والشمبانزي، بما في ذلك السلوك المهيمن للذكور. يطمح مؤثّرو «المانوسفير» بالعودة إلى النموذج الذكوري الموجود لدى ذكور الشامبانزي، على غرار ما تدعو إليه بعض الحميات الغذائية. هكذا وجدت حمية الباليو (Paleo) سرّ الرشاقة في العودة إلى البدائية. إنها نظام غذائي يمجّد يوتوبيا رجل الكهف، ويعتمد على استهلاك الأطعمة التي كان يأكلها أسلافنا في العصر الحجري القديم، والتي تقتصر على الأطعمة التي يمكن جمعها أو صيدها فقط وليست تلك الناتجة عن الزراعة مثل الحبوب ومشتقّات الألبان والبقوليات والأطعمة المصنّعة.
شهد العقد الأخير، يقظة حمية الباليو (Paleo) بفضل الكتب والمواقع الإلكترونية، إلّا أنّها تعدّت الجانب الغذائي فحسب، لتتحوّل إلى حركة اجتماعية وحياتية تهدف للعودة إلى حياة ما قبل الحضارة. تتقاطع فلسفة الباليو حول التفوق الغذائي لإنسان الكهف مع أفكار تحسين النسل والداروينية الإجتماعية. ترسم صورة الرجل المثالي وفقًا لملامح رجل الكهف البدائي بذكوريته الفائضة التي لم تنل منها الحضارة. وتحتفظ هذه الحمية بصورة عن الذكورة تكاد تتطابق مع الصورة التي تقدّمها حمية آكلي اللحوم أو «الكارنيفور»، والتي تنتشر رواجًا بين مؤثري «المانوسفير» مثل أندرو تايت، باعتبارها الحمية الوحيدة لـ نموذج «رجل الألفا» الذي يأكل اللحوم حصرًا دون النباتات.
أما النوادي الرياضية فتعدّ متمّمات إضافية لبلوغ جسد الرجل المتفوّق، فقد وجدت مجموعة من الباحثين البريطانيين في بحثهم حول العلاقة بين تشكّل الذكوريات وثقافة الجيم، أنّ النوادي الرياضيّة تتحوّل إلى مساحة إنتاج لذكوريات قابلة للاستهلاك. النادي وسيلة لتحقيق العمل الرجولي، يصبح فيها الكدّ والجهد سبيلًا لبناء وإثبات الذكورة، حيث العمل المضني والتحمل هما سمات الذكورة التقليدية التي يوقظها النادي. وبذلك، يعوّض الجيم عن العمل الجسدي المضني (يتوافق والذكورة البدائية) الذي تحوّل في المجتعات ما بعد الصناعية إلى عمل مكتبي لا جهد فيه.
«سيبونا نموت في اللحمة»
«اقتل كل ثور. كل ثور مقتول، هو هندي ميت». بهذه العبارة الشهيرة، عبّر القائد العسكري الأميركي فيليب شيريدان عام 1869، عن سياسات الولايات المتحدة الأميركية في إبادة السكان الأصليين من خلال القضاء على ثور البيسون الذي يعتبر مصدر غذائهم. لم يكن الطعام يومًا معزولًا عن السياقات السياسية والدينية والاجتماعية. استخدم على مر العصور كسلاح ووسيلة تحكّم بالشعوب. للمستعمر خصوصًا تاريخ طويل من استخدام الطعام كسياسات وأسلحة لإخضاع المستعمَرين، وإرساء الاحتلال. فمنذ أن شدّد الاحتلال الإسرائيلي الحصار على غزة عام 2007، وإسرائيل تمنع سنويًا دخول عددًا من الأطعمة إلى القطاع منها مثلًا الكزبرة، وهي نبتة أساسية في المطبخ الفلسطيني. يمتدّ الحصار الاقتصادي والعسكري إلى السيطرة على الطعام لمنع الفلسطينيين من ممارسة ثقافتهم وتقاليدهم في الطهي.
بلغت ذروة السيطرة خلال الإبادة التي بدأت بعد السابع من أكتوبر 2023، وفيها فرض الاحتلال حصارًا تامًا ومجاعة مفتعلة على الغزيين كأداة للسيطرة على السكان والتطهير العرقي وفقًا لمبدأ «كل ثور مقتول هو هندي ميت». وبموازاة منع الفلسطينيين عن مطبخهم، استلب الاحتلال الطعام الفلسطيني والعربي ليروج له حول العالم كطعام إسرائيلي، مثل الفلافل والـ «خمص».
هذه السلطة التي امتلكها الطعام، استمدتها أيضًا الحميات الغذائية التي لم تقتصر فقط على كونها وسيلة لتحقيق الصحة واللياقة، إنما ارتبطت تاريخيًا بالقومية والعرق والدين.
تشير الكاتبة أدريان روز بيطار، المتخصصة في تاريخ وثقافة الغذاء الأميركي بجامعة «كورنيل» في نيويورك، إلى كون كتب الحميات الغذائية هي الأكثر مبيعًا بين الكتب المنشورة في القرن العشرين، لافتةً إلى أنّ الحميّة الرائجة في عصر ما يمكن أن تدلّنا على سماته التاريخية والمجتمعية.
خلال الحرب العالمية الأولى، سادت لغة الصحة في الخطاب الأميركي لترافق لغة الفضيلة الأخلاقية والوطنية. إبان ذلك، شنّت الولايات المتّحدة الأميركية حربًا على البدانة، أصبحت بموجبها الحمية واجبًا وطنيًا وأخلاقيًا، وتحوّلت البدانة إلى خطيئتين بدلًا من الواحدة، من منطلق أنّ البدينين يحتكرون السعرات الحرارية التي يحتاجها باقي المجتمع، وأنهم لا يستطيعون أن ينخرطوا كجنود فعّالين في الحرب.
في مصر في الـ 1977، وإبان حكم أنور السادات، شنّت الحكومة عبر الإعلام حربًا على اللحمة باعتبارها مضرّة، مقابل الترويج للفول كبديل صحي. طبعًا، لم تكن دوافع هذا الترويج صحية أو مستندة إلى معلومات غذائية، إنما كانت حملة اجتماعية اقتصادية لتقلّل رغبة الناس باللحمة، غير المتوفرة أصلًا، ولكي تمتص غضبهم إزاء غلاء سعرها.
لكن الشاعر أحمد فؤاد نجم كان له ردًّا تاريخيًا في قصيدته «عن موضوع الفول واللحمة»، فأبدى رأيًا على لسان مجنون «واحنا سيبونا نموت في اللحمة وانتو تعيشوا وتاكلوا الفول»، وتسببت تلك القصيدة في الحكم على الفاجومي ورفيق دربه الشيخ إمام بالسجن لمدة سنة.
بالعودة إلى الولايات المتحدة، خضعت الحميات الغذائية إلى الرقابة الدينية، خصوصًا المذهب البروتستاني التطهيري أو البيوريتاني كما تشرح روز بيطار. فالحمية «النظيفة»، التي تعتمد على الأكل «النظيف» تجد جذورها في أفكار هذا المذهب المحافظ. في صلب هذه الحمية، يحقق الطعام الخالي من البهارات، وظيفة أن يكون غذاءً للجسد وليس مصدرًا للذة. تترافق الدعوة إلى نظام غذائي بلا لذّة مع دعوة البيوريتانية إلى حياة متزمتة ومنضبطة، يكون فيها الجنس مثل الطعام، غريزة للبقاء على قيد الحياة، وليس ذريعة لنيل المتعة.