fbpx

فرسان على دراجات نارية

على هوامش وهران، يعيش هؤلاء الشباب الذين يخاطرون بحياتهم في سباقات غير نظامية وسرية..
ــــــــ الحركة في المدينةــــــــ المـكـان

قبل سنتين، كان رمزي بن سعدي يقود سيارته بالقرب من مدينة وهران، غرب البلاد، في الطريق السريع الذي يُسميه الجزائريون “شرق-غرب” (يمتد من شرق البلاد لغربها)، عندما رأى دراجاتٍ نارية من طراز قديم تتسابق بسرعة عالية وسط السيارات والشاحنات، وعليها يركب شبابٌ صغار في وضعيات غريبة: بعضهم يتمدّد على بطنه والبقية منكمشون في المساحة الصغيرة بين المِقود والمقعد.. كُلهم يُحنون جذعهم حتى يتفادون الريح.

السرعة العالية قدّرها رمزي، وقتها، بأنّها تتجاوز الـ 100 كم/ساعة، لكنّه لم يفهم كيف لدراجات نارية قديمة أن تصل إلى هذه السرعة؟

أعرف رمزي منذ أزيد من سنة، عندما التقيته كان قد بدأ العمل على مشروعه هذا، وكنا ذاهبين مع مصورين آخرين، من “مجموعة 220″، في رحلة حول الجزائر تدوم أسبوعًا. من الوسط إلى الغرب ثم جزء من الجنوب فصعودًا إلى الشرق حتى جبال الأوراس ثم العودة إلى الساحل عبر منطقة القبائل.. فالعاصمة. 

وقتها، ومع تبدّل المناظر والوجوه والجغرافيا، كان رمزي يردّد أنّ الشرق الذي اكتشفه لم يكُن غنيًا بإمكانيات التصوير مثل الغرب.. لم يوافقه الجميع الرأي، ولكنه كان يُصرّ عليه ذاكِرًا سببًا واحدًا وهو أن الغرب “روك أند رول”.. وفعلا، في كل صور رمزي شيء من هذا.

فرسان على دراجات نارية

من أعالي كاتدرائية سانتا كروز يُمكنك أن ترى وهران تنحدر حتى البحر، وتشغل كل الساحل. وعلى اليمين، أي خلف الواجهة البحرية، سترى السانية والسبخة الملحية ثم بدايات الطريق إلى سيق، وكل هذا ممتدّ فوق أرض منبسطة.

لكن لو نظرت تحت الجبل مباشرة، وحوّلت نظرك عن الواجهة البحرية الجميلة قليلًا، أسفل الجرف الذي ينحدر من أمام الكاتدرائية.. سترى حيًا عشوائـيًا يأتي من بعيد ويصعد نحو الجبل. هذا هو حي “بلونتار” قديمًا والمعروف أيضًا بـ “حي الصنوبر”؛ تشكلت نواته في نهاية القرن التاسع عشر، وسكنه العرب والإسبان وكل من لم تسمح له وضعيته بالسكن في.. المدينة. وهذه صورةً لا نراها في “كليشيهات” وهران “الباهية”.

هنا يعيش الكثير ممن يهتمون بالدراجات النارية، أو “الموطويات” كما يقولها الوهارنة، وهي جمع “موطو”. البيوت محفورة في صخر الجبل. البعض استعمل الصخور كدرجٍ للبيت وآخرون يعتبرون الجبل هو الجدار الرابع لبيوتهم.

فرسان على دراجات نارية

كادر غير مُعتاد لوهران من الجبل، منظر لحي “بلونتار” الشعبي وفي الخلفية الواجهة البحرية لوسط المدينة

في هذا الحي، بدأ رمزي بزيارة أصدقائه الجُدد. وهنا، على هامش المدينة وأحياءها، حتى الشعبية منها مثل الحمري وقمبيطا، اكتشف هرميةً داخل الهامش نفسه. 

سباقات الموطويات لا تدور حول الموطو نفسها حصرًا. طبعًا، الموطو أو الدراجة النارية هي حلقة الوصل بين كل المهتمين بهذه “الرياضة السرّية”، ولكنها ليست سوى حلقة وصل.

يقول لي رياض، من سيدي بلعباس: “كاين اللي يريقلي وما يسوقش.. وكاين اللي يسوق وما يريقليش.. وكاين اللي يريقلي ويسوق وهذي هي المتعة الكبيرة”. وطبعًا، هناك الجمهور الذي يقفُ متفرجًا.

الريقلاج كلمة فرنسية (Réglage) وتعني “ضبط” شيء ما، وتُطلق في هذه الرياضة على من يسمون أنفسهم بالمهندسين. يقول لي رمزي ضاحكًا أن مُحرك الموطو صغير، في حجم زجاجة مياه 2 لتر، ولكنك تراهم يتناقشون ويتعاركون لساعات طويلة حول كيفية تغييره و”ريقلاجه” حتى يصير قادرًا على تجاوز قُدراته.

نجد في أعلى الهرم المُهندس-السائق، ثم المهندس ليأتي أخيرًا السائق، أكثر واحد يُخاطر بحياته، لكن الحياة في هذا العالم ليست بقيمة السمعة والشرف.

يأتي المهندس، ولنفرض أنّه لا يسوق، ويعمل على المُحرك طيلة الأسبوع، يضيف قطعة ويُغير أخرى، يُصلّح سلكًا ويقصُّ آخر، ثم يخرج لوحده مع الدراجة كي يرى ماذا صنع. يقولون أنّ الشغل الجيّد يظهر من صوت المُحرّك قبل رؤية السرعة التي يصلها. بعد هذا يأتي السباق الأسبوعي، والذي تسمع السائقين يُردّدون قبله جملتهم الأثيرة: “نروحو نسِيّو”.. “نذهب لنُحاوِل”.

فرسان على دراجات نارية

“نسيّو” هذه، أيضا فرنسية، جاءت من فعل Essayer وهو المحاولة، وكانت أكثر كلمة مُعبّرة بالنسبة لي في هذا العالم الذي كُنت أكتشفه. يعمل المُهندس طيلة الأسبوع، يحاول تطوير المحرك وجعله خارقًا للعادة، وهو يُردّد جملة “أنا لو كان يدّوني للطاليان يحيرو فِيّا”. ثم تأتي ساعة الحقيقة، ولكن أصحاب الموطويات يعرفون ألاّ وجود لحقيقةٍ مُطلقة ولا بديهيات، لذلك هم يستعملون فعل “نسيّو” أي هيا “نُحاول” أو هيا “نُجرّب ما صنعه المهندسون”؛ وقد يكون ثمن هذه المحاولة والتجريب حياة واحدٍ منهم.

في صباح الجمعة، وفي السوق الشعبية لحي الحمري، ستجد أصحاب الموطويات على يمينك، خلف من يبيعون الحيوانات.. ومع قليل من الصبر والفهم ستكتشف أن الدراجات النارية من نوع “103” و”بوليني” ليست سوى حيوانات شارَفت على الانقراض.

فرسان على دراجات نارية

“طب أسنان شعبي”، سوق الحمري، وهران

أمشي مع رمزي وسط الناس الذين يُساوِمون الدراجات، ونُلاحظ رجلًا يجلس خلف الجميع إلى كرسي تحت حائط مُتسخ واضِعًا في حجره محفظة وأوراقًا، يُمسك فوقها بختمٍ بلاستيكي. يخبرني رمزي أنه الموثّق الذي يشهد على البيع والشراء.

أول من نلتقي هناك هو (آ)، رجل أربعيني يلبس ثيابًا رياضية رثّة ويُسلم على رمزي بلهجة وهرانية ثقيلة، أتبيّن بعد خمس ثوانٍ أنها أمازيغية. يسأله رمزي عن السائقين، هل سـ “يُسيَّون” اليوم؟ يقول أنه لا يعرف. يستعمل رمزي أيضًا كلمة الـ “طلقة” (بتعطيش القاف)، وهي تأتي من “الإطلاق” ويستعملها أيضًا فرسان الخيول في سباقات عروض الفانطازيا.

أعرف أن (آ) يملك دراجة ولكنه لا يسوق، ولا يُجرّب شيئًا، ولكنه مجذوب بهذا العالم، ويُسلِّف دراجته لبعض السائقين. جاء من بلاد القبائل، شرق الجزائر، ليعمل في كباريه بمنطقة عين الترك، قبل أن يرسله صاحب الكباريه لمزرعة يملكها في ضواحي وهران ويُعيّنه حارسًا هناك. ومع الوقت صار الرجل القبائلي وهرانيًا على هامش المدينة.

نتجوّل قليلًا، نرى الدراجات. لا وجود للنساء في ذلك السوق، ولكن كل الدراجات تحمل أسماء تقترب من أسماء النساء، ليست أسماءً ناعمة مثل التي نقرأها على قوارب الصيادين كي تحميهم من البحر والغرق، لا، بل أسماءً غريبة –صفات أكثر منها أسماء- تُنذِر بمصير مشؤوم، أقرأ على إحداها: “مادامتي” وعلى الثانية: “كاسندرا”. وفي المساحة الصغيرة لغطاء المُحرّك تُكتب وبجنبها مُلصقات عِدّة، صور لاعبي كرة قدم، لهب مُتقّد، رسومات.. لا تبدو أنها حروٌز تحمي من الموت.

فرسان على دراجات نارية

يسأل دليلي في هذا العالم بعض من يعرفهم عن السباق؟ الكل ليس متأكدًا، أولًا لأن وباء الكورونا عطّل الكثير من الأشياء ولكن خاصةً لأن شهر رمضان يجعل السائقين يختفون طيلة اليوم.

من الصعب العثور على هؤلاء الأولاد، فهم لا يدخلون المدينة. يرفضون أن ينظر النّاس نحوهم بدونية، وفي الصيف لن تجدهم في الشواطئ القريبة، بل يجب أن تذهب نحو بوسفر، غربًا خلف عين الترك، وعلى مرمى حجر من شاطئ خاص ستجد شبه شاطئٍ صخري مختفٍ تحت طريق عال.. هناك يسبحون لوحدهم. أما سباقاتهم، فتلك قصة أخرى، يعرف مكانها بالتقريب المهتمون بهذا العالم فقط، أما الزمان فغير مُحدّد.

وكان هذا أيضًا، من أكثر الأمور المُحيّرة.

ذهبتُ مع رمزي إلى مدخل/مخرج وهران في الطريق السيّار شرق-غرب، قال لي بأن هناك قطعة من الطريق وبالتحديد بين “تليلات” و”الكرمة”، تعوّدوا أن يتسابقوا فيها. لم يكن هنالك وقت محدّد، وحتى المكان لم يكُن مؤكدًا.

فعكس كل الأحداث التي تجري في عصرنا هذا، حيث يُحاول المنظمون الترويج لتاريخ ومكان الأحداث، عبر شبكات التواصل الاجتماعي وفي كل وسائل الإعلام، لا يقول هؤلاء القوم شيئًا. كنت سأسأل رمزي ربما توجد مجموعات سرية على الفيسبوك وواتساب؟ لكني تراجعت عندما رأيت حال هواتف بعض المتسابقين، هواتف “حطبة” كما يقول الجزائريون، هواتف غير ذكية في جيوب عباقرة صغار. لاحقًا عرفت أن هنالك بعض الصفحات التي تحصل فيها عمليات البيع والشراء ونشر فيديوهات وصور السباقات.

فرسان على دراجات نارية

بقينا في السيارة نغدو ونعود في الطريق السريع، ونمرّ أكثر من مرة على حاجزٍ أمني للدرك. نحاول أن نلمح أي أثرٍ للدراجات النارية. عمومًا هم يبدؤون من محطة بنزين صغيرة وتكون نقطة الوصول جسر ٌيعبرون من تحته، وبين النقطتين حوالي 11 كيلومترا.

أخيرًا.. وبعد انتظار، وجدنا جماعةً صغيرة عند محطة البنزين تتأهّب. وهناك التقيتُ رياض، الذي جاء من بلعباس ليشاهد السباق. كان العدد قليلًا، قال لي رمزي أن عدد المتسابقين قد يصل إلى أكثر من 20 شخصًا. لكن من وجدناهم كانوا ستة. رياض عمره 33 سنة، “اعتزل” قيادة الدراجات ويتذكّر هذه “الرياضة” منذ سنوات 2003-2004.

يقول أنّه مارسها لمدة خمس سنوات. “لازم لها الوقت.. تديلك بزاف وقت، واحنا كبرنا ضركا ما بقاش الوقت”. يقول له رمزي هل صحيح أن العبابسة (من سيدي بلعباس، جنوب غرب وهران) يضربون خلال السباق إذا ما أزعجهم منافس. يقول رياض أنهم لا يضربون الجميع، فقط من يحاول أن يقطع عليهم الطريق، “إذا بلّعت عليا نشفى عليك، السيمانة الجاية تجي قدامي نضربك”. تخيّل أن تضرب شخصًا فوق دراجة نارية بلا حماية وبسرعة 130 كم/ساعة؟

يموت مرّتين، كما قال أحد الكوميديانات.

يخبرنا رياض كل ما يعرفه عن السباق، يقول أنه كان يأتي لـ “يُجرّب” و”يُحاول” مع أناس من وهران ومن سيق، لأن المكان قريب من هذه المدن الثلاث. يسأله رمزي عن أهل مدينة غليزان، فيجيب رياض أن الغلازِنة عندهم المال والمواشي وهم متفرّغون لممارسة هوايتهم في قيادات الدراجات، ويستوردون دراجات غالية وفوق هذا هم لا يخرجون من ولايتهم ولا ينافسون في “تليلات-الكرمة”.

يبدو أن الجميع مُتفّق على ثراء سائقي غليزان وخطورة العبابسة وأن السيقلية (من سيق) ربحوا سباقات كثيرة وأن الوهارنة ناس ملاح.

فرسان على دراجات نارية

حتى لحظة بداية السباق لم أكن قد فهمت جوهر الأمر مع هذه الدراجات. يعني، لم أكن أتصور كيف تطيرُ دراجة قديمة لتصل إلى سرعة 130 كم/ساعة فما فوق.. كيف لا ينفجر مُحركها؟ هذا كان سؤالي.

عندما بدأ المتسابقون في التحضير، انطلقت مع رمزي في السيارة، نتبع ثلاثة سيارات أخرى وشاحنة رياض الصغيرة، سبقناهم قليلًا حتى نتجاوز حاجز الدرك، الذي يبدأ بعده السباق. 

بعد الحاجز بدأنا في إبطاء سرعتنا، وما أن لمحنا الدراجات في المرآة العاكسة حتى زدنا السرعة. كم دام الأمر؟ غالبًا لم يتجاوز كل السباق الأربع دقائق، ولكنها بركان متفجر من الأدرينالين. الطريق مائل قليلًا، والمنحدر يساعد الدراجات ويضاعف من المُخاطرة. لأن الطريق تكون ممتلئة بالسيارات، والسباق –طبعًا- سرّي وسُفلي بكل ما تحمله الكلمة من مخاطرة ومجازفة.

ينطلق أولاد، بالكاد يتجاوزون العشرين وبعضهم يبدو أن عمره 16 عاما، فوق دراجات قديمة وهم مُنكمشون في المساحة بين المِقود والمقعد، يتحرّكون ورأسهم (من دون خوذة حماية) ملتصق بالمقود، ويلتفتون ليروا من خلفهم أو ليتجاوزوا مركبة ما. تصوّر أنّك منكمش فوق دراجة نارية بسرعة 100 كم/ساعة وتلتفت، قد تقع من الدُوار. أحدهم، وخلال محاولتنا رمزي وأنا اللحاق بهم، كان في نفس مستوى سيارتنا، أدار رأسه –ولد لا يتجاوز 17 عشرة، أمرد من دون لحية وخدوده حمراء- ليرى ما خلفه. لا أنسى نظرته إلى الآن، فارغة.. تركيز تام وصفر خوف، كأنّما ليس تحته الإسفلت الذي سيحطم جسده لعشرات الأجزاء إذا ما سقط.

بعضهم يلتصق بالمركبات حتى تمتصه سرعتها ولا تُعطّله الرياح، كل المسألة في الرياح التي تصطدم بالسائق فتعطله، لذلك ينكمشون قبل أن يتسطحوا فوق الدراجة، مثل قذيفة، رأسهم على المِقود مُقدَّمًا لإعدامٍ مُحتمل وحوضهم على المقعد وسيقانهم مثل ذيل سمكة قرش. من السيارة، جالسًا في سلام، كُنت أحس الأدرينالين في جسمي.. فما بالك بأجسادهم.

لكن ماذا لو ضغط صاحب المركبة على المكابح؟ يقول رياض: “ديما إلصق مع الجنب، مشي مع النص تاع اللوطو، غير تشوفو بدا يفريني.. اجبد عليه واهرب”.

فرسان على دراجات نارية

مع اقترابنا من النهاية، كان قد صار واضحًا أن صاحب السترة الحمراء هو من سيفوز. تقدّم الجميع، لم نستطع اللحاق به رغم أن سيارتنا اقتربت من 140 كم/ساعة. ظلّ المتأخرون يخاطرون مُتجاوزين السيارات بسرعة كبيرة وهم مسطّحون على بطونهم.. كان المنظر غريبًا، أنت خسرت السباق فلماذا تواصل الاستعراض؟

“هي مسألة سُمعة وشرف..” أخبرني رمزي مبتسمًا.

أربع دقائق انتهت بوصول المتسابق الأول إلى الجسر الذي يقف فوقه عددٌ من قدامى سائقي الدراجات (في العادة يكون هنالك جمهور صغير، غاب يومها بسبب الحر والصيام)، لكن فعليًا ليس هنالك خط وصول. يخبرني رمزي ألّا أحد ينتظرهم تحت الجسر، وليس هنالك طقس لتهنئة الفائز وطبعًا لا وجود لميداليات. 

إذا، ما الهدف من سباق لا أحد يعرف متى يحدث بالضبط، ولا أحد يُسجّل من فاز؟ ما الهدف من سباقٍ لا حكمَ فيه ليعطي إشارة الإنطلاق ويحرص على عدم اختراق القواعد، ما الهدف من سباق لا قواعد فيه سوى أنّ السائقين يذهبون لتجريب ما صنعته يدُ المهندسين وهم يُخاطرون بحياتهم ويستعرضون مهاراتهم في طريق عادي وجمهور لم يكن يتوقع مرور هؤلاء الأشباح من حولهم؟ 

الهدفُ، ربما، هو “المحاولة”.

يشرح لي رمزي أن بعض الفائزين لا يتوقّفون بعد خط النهاية لانتظار زملاءهم، بل يُكملون طريقهم ويكفيهم أن من خرجوا معهم يعرفون أنهم فائزون، لا يأخذون صورًا ولا يُوثّقون اللحظة.. هي سباقات تحدث في غفلة من الجميع ولا تحتاج إلى شهود كي يُدوّنوا ماذا حدث؛ وهذا، مقارنة بكل المخاطر والتحضيرات، يُعتبر شيئًا ضدّ اللحظة التي تعيشها البشرية وهي محاطة بالكاميرات ومنصات التواصل في كل مكان، وتُوثّق كل ما تفعله 24/24 سا.

فرسان على دراجات نارية

تذكرت قصة قصيدةٍ ملحمية إنجليزية قديمة، من القرن 14، عنوانها “الفارس الأخضر والسير غواين”، تحكي كيف دخل فارس أخضر –مثل جذع شجرة متعفّنة- على مجلس الملك آرثر، وتحدى أي واحد من الحاضرين أن يهاجمه بسيف وسيضع هو سيفه على الأرض، بشرط أن يلتقيه بعد عام ليتحداه مرة ثانية. وهنا تقدم السير غواين، من فرسان الملك، وضرب الفارس الأخضر بسيفه فسقط رأسه على الأرض.. عندها حمل جسد الفارس الأخضر رأسه، فقال الرأس وهو يضحك: “أراك بعد عام” ثم انصرف. ووسط صدمة الحاضرين، وهلع السير غواين، قال الملك لفارسه: “كل ما يستطيعه الرجل يا غواين هو المحاولة.. وأنت حاولت”.

هؤلاء الأولاد، الراقدون فوق الدراجات النارية، والمخاطرون بحياتهم من أجل أربع دقائق من الأدرينالين، هم أيضا عندهم شيء من ملحمة هذه الأساطير القديمة. شيء من أخلاق الفرسان، يلعبون على خيطي “الشرف” و “العار”، يمارسون لعبة خطيرة ولكنهم يلعبون. ولا يتوقّف الشبه بين فُرسان عروض الفانطازيا وفرسان الـ “103” عند استعمال نفس الكلمة لتسمية السباق: “الطلقة”، بل يمتد للحالة كلها.

يوجد شيء، ورثوه عن أسلافهم الفرسان، يقع بين الشجاعة والملحمة. نقطةٌ عمياء. لا يراها الإنسان المعاصر ولكنّه يسمّيها “جنونًا” وفي أفضل الأحوال “محاولة انتحار”. وحتى اليوم، لازالت نفس المخاطرة واستعراض الفروسية والشجاعة، نفس الممارسات والمهارات تتواصل في الغرب الجزائري، وغير بعيدٍ عن الأراضي التي تشهد الفانطازيا وسباقات الخيل يوجد هؤلاء الأولاد؛ فقط استبدلوا الخيول بدراجات نارية قديمة، مُدركين أن السقوط على الإسفلت ليس كالسقوط على التراب.

فرسان على دراجات نارية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ