fbpx

ⵣ هنا يرقد ⵣ

السعي وراء أثر ميتٍ واحد يفتح الباب لموتى كثيرين.. الكلمات والأداء يعطيك انطباعًا أن لا موتى عاديين هنا
ــــــــ ماضي مستمر
18 مايو 2022

لم أعمل على مشروع صور منذ أزيد من خمس سنوات، لم أتوقّف عن التصوير طبعًا ولكني لم أنشغل بموضوع مُعين وانطلقت في تنفيذه طيلة هذه المدة. لذلك لم تكن الرحلة نحو جبال تيزي وزو (128 كلم شرق العاصمة الجزائر) مجرّد زيارة استطلاع وفقط.

كانت قد حلّت ذكرى “الربيع الأسود” الذي شهدته المنطقة في ربيع سنة 2001، والذي أحيا فيه مواطنو المنطقة وقتها ذكرى ربيعٍ آخر.. “الربيع الأمازيغي” لسنة 1980.. ولكن الإحياء تحوّل لأحداثٍ دامية.. لذلك كان بديهيًا بالنسبة لي أن أفكر في الأشخاص القليلين الذي يمشون على حواف الطريق السريع الداخل إلى العاصمة، صباح السبت الذي قصدت فيه منطقة القبائل، كأشباح لأولئك الذين زحفوا ذات 14 يونيو على ذات المدينة وقوبلوا بالرصاص والنار.

كان ذلك قبل 21 عامًا، كانوا قادمين من الجبال والبلدات التي كُنّا نتجّه نحوها، قطعنا رحلتهم بالعكس.

ⵣ هنا يرقد ⵣ
ⵣ هنا يرقد ⵣ

السعي وراء أثر ميتٍ واحد يفتح الباب لموتى كثيرين. في كل مكانٍ تقريبًا، على مفترق الطرق أو فوق محطة حافلة وعلى جدران البيوت، هنالك دائمًا صورة مرفوعة أو مرسومة لميت.. بعضهم مشهور والبعض الآخر لا، بعضهم يرتبط موته بأحداث تاريخية وبعضهم ماتوا “موت ربي” كما يُقال، بعضهم قُتِلوا أو استشهدوا في حروبٍ بعيدة وآخرون قتلهم المرض والزمن.

التجول في قرى المنطقة يترك شعورًا بأن منطقة القبائل عبارة عن جزائر مُصغّرة، وكلما صغُر الحجم بانَ تناقض التفاصيل وكم هو مُبالغٌ فيها. على أحد أبواب المقابر، كُتب بالفرنسية “المجد لشهدائنا”، لم تكن مقبرة شهداء –كما هو الحال في بعض الأماكن- بل كانت مقبرة عادية ولكن الكلمات والأداء يعطيك انطباعًا أن لا موتى عاديين هنا.. وعلى شواهد القبور تعدّدت اللغات والرموز، هناك العربية والفرنسية والأمازيغية، بعضهم وضع صورًا للميت في صورٍ داخل إطار رخامي وآخرون رسموا رموزًا أمازيغية.. لكن العبارة التي تفتتحُ أغلب الشواهد، وهي بالفرنسية  ICI REPOSE.. أي “هنا يرقد..”

ⵣ هنا يرقد ⵣ
ⵣ هنا يرقد ⵣ

كل رحلة تفرض إيقاعها وجدولها الذي يتغيّر بمفاجآت الطريق. وإذا كان الشاب ماسينيسا قرماح الذي تلقى في 18 أبريل 2001 طلقات رشاش في مقر الدرك، ليموت بعدها بيومين، هو نقطة انطلاق الأحداث فالموتى الذين صادفونا في الدروب الوعِرة للجبال والقرى، سواء كانوا مجسّدين في تماثيل أو مرسومين على جدران البيوت، كلّهم استوقفوني بنفس القدر.

مثلاً، وبعد رؤية عددٍ من التماثيل والصور المُخلِّدة لذكرى معطوب لوناس، المغني والمناضل المتمرّد الشهير في المنطقة والذي قُتِل سنة 1998، صادفتُ –في الطريق من بلدة بني دوالة، التي شهِدت مقتل ماسينيسا، إلى قرية بني محمود- إطارًا معدنيًا كان به صورةٌ محفوظةٌ في الزجاج ولكن هذا الأخير كان مكسورًا.. لم أتبيّن صورة من هي، فسألتُ شابًا كان ينتظر حافلة فقال أنها صورة لشاب من القرية اسمه وليد، مات صغيرًا، وكان أهل القرية يحبّونه، سألته عن ملابسات موته، فقال: “سكتة قلبية.. فجأة، ولأننا نحبه قررنا رفع صورته..” ثم أضاف: “والصورة مكسورة لأن عندنا رجل يعاني من أمراض عقلية ضربها بحجر.. فبقيت على حالها كما ترى.. الله يرحمه.”

ⵣ هنا يرقد ⵣ
ⵣ هنا يرقد ⵣ

هناك تشخيصٌ بصري قوي في المنطقة، تماثيل وصور وجداريات وسط الميادين وعلى الجدران العالية، للشخصيات التاريخية والناس العاديين، بعضها تحمل شعاراتٍ ثقافية وأخرى تخص نادي شبيبة القبائل، نجم المنطقة في الدوري الوطني.

شعارات مكتوبة بالأمازيغية سواء بحرف التفينياغ وعلامته المميزة حرف ياز المميّز الذي يرمز للثقافة الأمازيغية أو بحروفٍ لاتينية.. الوجه الذي حضر بقوة في بني دوالة كان للمغني والمناضل معطوب لوناس، أصيل المنطقة والشهير في كل البلاد. معطوب أيضًا، بعد سنواتٍ من الغناء والتأليف والنضال لأجل الثقافة الأمازيغية اغتيل سنة 1998 وهو عائدٌ في سيارته، على مشارف قريته. كان عمره 42 سنة وعشرات الأغاني وملايين المحبّين.

في مدخل البلدة نجد تمثاله، بجانب تمثال أحد أبناء المنطقة وهو عمار إيماش أحد مؤسسي الحركة الوطنية في أوساط العمال الجزائريين بباريس العشرينات، ومع التقدم في البلدة ثم في قراها العديدة، قابلنا صورة معطوب مرسومةً أو مطبوعةً، يظهر فيها ببدلةٍ وربطة عنق، بعضها تحمل كلماته عن الديمقراطية واضطهاد نظام الحزب الواحد وعن العلمانية، وبعضها تكتفي به ينظر نحو المناظر الطبيعية والبشر بهدوءٍ وعزيمة..

ⵣ هنا يرقد ⵣ
ⵣ هنا يرقد ⵣ

حتى قبل أن أبدا بممارسة التصوير الوثائقي، كنت قد زرتُ منطقة القبائل، جبالها وبحرها، سواء للسياحة أو لقضاء شغلٌ ما. لكني لم أدخلها منذ الصيف الماضي، صيف حرائق الغابات التي مسّت عشرات المناطق في شمال البلاد ومنها هذه المنطقة. آثار حرائق أغسطس 2021 لازالت ظاهرةً للعيان رغم نمو العشب على كل الأراضي تقريبا، لكن الأشجار المتفحّمة لازالت واقفةً.. وكذلك نبات الصبار الذي تشوّهت أضلعه وأوراقه.

خلال الحرائق كان الكل يتكلّم عن صمود هذا النبات في وجه النيران بسبب المياه التي يخزنها وطبيعة تركيبته.. لكن توسّع المساحات العمرانية على حساب النبات جعل السكان، مع مرور السنين، يقتلعونه للبناء مكانه أو لأنه ليس بأهمية شجرة الزيتون والأشجار المُثمرة في المنطقة.. الاقتراب من كل هذه الجغرافيا والسِيَر الحميمة والجماعية، في نفس الوقت، يجعلني أقرّر مواصلة العمل على هذا مشروع الصور هذا.. يفتح احتمالات واسعة.

ⵣ هنا يرقد ⵣ
ⵣ هنا يرقد ⵣ

حركةُ الطبيعة لا تتوقف، رغم الحرائق، وأيضًا حركة العمران.. هناك حركة هجرة تاريخية نحو الخارج، منذ بدايات القرن العشرين هاجر الجزائريون –من سكان المناطق الفقيرة وصعبة التضاريس إلى الخارج- في الأول كان الاتجاه نحو فرنسا البلد المُستَعمِر، ثم تنوّعت الوجهات بعد الاستقلال بين فرنسا وكندا وبلدان أخرى. لذلك يلاحظ العابر في هذه القرى شبه انعدام تواجد الشباب. هناك الشيوخ والعجائز والنساء.. والأعداد ليست كبيرةً فعلا.

اليوم، وكما هو الحال في بقية البلد، يهاجر الطلبة –لمن استطاع- بتأشيرة دراسة، ويلحق من أرادوا الهجرة في قوارب “الحرقة” أو بالسفر إلى تركيا ثم محاولة قطع نصف قارة أوروبا برًا.

تاريخ 20 أفريل هو عيد ميلادي أيضًا.. مرة كل سنة، ومنذ حصل “الربيع الأسود” في 2001، وسواء احتفلت بعيد ميلادي أم لا، أتذكر ماسينيسا قرماح.. الذي فارق الحياة في نفس اليوم. ذكرى ميلادي هي ذكرى وفاة شابٍ آخر، الموت يلاعب الحياة أم الحياة هي من تلاعب الموت.. لا أدري.

ⵣ هنا يرقد ⵣ
ⵣ هنا يرقد ⵣ

في بني دوالة لازال مقر الدرك حيث أصِيب ماسينيسا شبه مهجور. تقشّر طلاء جدرانه ونبتت طحالبٌ في كل مكان، قيل لنا أن الشرطة تستغله اليوم، ولكن شكله يوحي بالإهمال وعلى السياج الخارجي عُلِّقت صورة ماسينيسا مع كلمة تذكارية بالفرنسية.

العبارة الضخمة “الدرك الوطني” بالفرنسية، سقطت منها –أو مُحِيت- كلمة “الدرك”. يلتصق بالمبنى، الواقع في قلب البلدة، رُكن مصنوع من الأحجار والنباتات يُخلِّد ذكرى حرب التحرير.. تشعرُ أن الفضاء يتقاسمه الأحياء والموتى بالتساوي.. أو ربما تتساءل “من يستضيف من؟”

ⵣ هنا يرقد ⵣ
ⵣ هنا يرقد ⵣ

بعد عشرين عامًا من حُكم بوتفليقة وبعد حراك شعبي وسنتين من الوباء ونيران الغابات، من المستحيل حصر كل التغيّرات التي طرأت بعين الكاميرا.. لكن يمكننا ملاحظة بعض الأمور، مثل العمارات والمُدن الجديدة –هذه الظاهرة الوطنية- التي نمت حول قلب مدينة تيزي وزو وفي سفوح الجبال ودفعت بالعائلات نحو نموذج نووي مصغّر أكثر فأكثر. هناك أيضًا البيوت العالية التي تُبنى غالبًا بأموال الأولاد الذين هاجروا، والمُغلقة كليًا أو جزئيًا أغلب أوقات السنة، ثم هناك مسألة اللغة الأمازيغية التي دخلت دستور 2002 كلغة وطنية ثم دستور 2016 كلغة وطنية ورسمية إلى جانب العربية.

لكن منذ ذلك الحين لم يُفصل بعد بأي حرفٍ ستُكتَب ولا إذا ما كانت ستُدرّس في المناهج بكافة المناطق.. في انتظار الحلول، مازالت أسماء الأماكن المكتوبة بالحروف العربية أو الفرنسية تُمحى ويُترك الاسم المكتوب بالحرف الأمازيغي.

ⵣ هنا يرقد ⵣ
ⵣ هنا يرقد ⵣ

التعامل مع فكرة الغياب في المنطقة ليس متعلّقًا بالهجرة فقط. هنالك طقوسٌ خاصة يستشعرها الغريب العابر في القرى. في دروب بني محمود استوقفتني جداريةٌ جميلة، لرجلٍ بعيونٍ ملوّنة وتصفيفة شعرٍ تُذكِّر بالسبعينات، وعلى جانبي الوجه المرسوم بحجمٍ كبير هناك إصّيصي ورودٍ بلاستيكية.

شعرتُ أن هذه الوجوه المرسومة ببساطةٍ شعبية والناتجة عن شعورٍ قوي بالفقَد والرغبة في التذكر، هي أصدق تكريمٍ للراحلين.. سواء كانوا مرتبطين بالذاكرة الجماعية أم بالفردية.. ثم كانت تلك الجملة البسيطة والمكتوبة فوق الرسم بالفرنسية، سأحاول ترجمتها كما هي بالارتباك الذي ورد في التعامل مع الضمائر: “إلى أخي لحسن من طرف أخيه الذي يحبّه كثيرًا.. رابح، أو ربما هو ليس ارتباكًا أو خطأ في الكتابة، فالغائب (لحسن) والحاضر (رابح) كلاهما يخاطَبان بضمير الغائب.. تساءلتُ أمام صورة الجدارية إذا ما كان واحدٌ من أهلي سيفتقدني بهذه الطريقة، ويرسم لي جدارية.

ⵣ هنا يرقد ⵣ
ⵣ هنا يرقد ⵣ