fbpx

في انتظار غلاء جديد.. مرت الانتخابات

قد يعود ذلك للانشغال بأخبار العدوان على جارتنا غزة، أو بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة المنتظر زيادة حدتها خلال الأسابيع القادمة، أو بسبب قتل الدولة للسياسة بشكل عام، لكن في المحصلة، الضجة الانتخابية هذه المرة كانت حصرياً على الشاشات
ــــــــ المـكـانــــــــ ماضي مستمر
13 ديسمبر 2023

جاءت الانتخابات الرئاسية المصرية دون ضجة كبيرة. في شوارع العاصمة الداخلية، بعيداً عن الميادين الأساسية والطرق الرئيسية، يمكن نسيان أن ثمّة رئيس سيأتي بعد أيام، أو بالأحرى أن الرئيس الحالي سيجدد لنفسه 6 سنوات إضافية.

قد يعود ذلك للانشغال بأخبار العدوان على جارتنا غزة، أو بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة المنتظر زيادة حدتها خلال الأسابيع القادمة، أو بسبب قتل الدولة للسياسة بشكل عام، لكن في المحصلة، الضجة الانتخابية هذه المرة كانت حصرياً على الشاشات.

نقلت الشاشات مشاهد زحام عند بعض اللجان، والمشاهد المعتادة المرافقة لكل الاستحقاقات الانتخابية للنظام الحاكم، ناخب أتى بملابس الإحرام، ومسن آخر يعيش في الخارج منذ 25 سنة جاء مصر خصيصاً لانتخاب الرئيس، رغم وجود لجان انتخابية في الخارج، أو سيدات يحتفلن بطريقتهن الخاصة بفرحة «العرس الديمقراطي».. وكل تلك المشاهد حقيقية، لكنها لا تعبر عن التجاهل الواضح لعموم المصريين لهذا الموقف الانتخابي برمته.

لاختبر هذا الانطباع سافرت إلى مدينتي الأصلية، المحلة الكبرى التي تبعد عن العاصمة حوالي ساعتين.

اللافتات المؤيدة للرئيس عبد الفتاح السيسي غطت كافة الشوارع والميادين في الطريق، ولم تنقطع طوال الطريق الزراعي حتى في مناطقه المقطوعة من السكان، اللافتات تقول أن الجميع يؤيد، أصحاب المصانع والشركات، وأصحاب المقاهي الصغيرة وبسطات الشاي، الفلاحين والعمال والرجال والأطفال والجميع، وعلى مداخل القرى المنتشرة على الطريق تنتشر شعارات «كلنا واحد من أجل مصر» و«نعم للاستقرار» و«بدأنا المشوار وهنكمل».

حرصت على ألا يغلبني النوم كعادتي في المواصلات للبحث عن لافتات تؤيد المرشحين الآخرين. على طول الطريق لم أر سوى لافتة واحدة قبل مدخل مدينة شبين القناطر تؤيد المرشح حازم عمر، وقبل مدخل مدينة المحلة ملصقات متناثرة لا تُرى تفاصيلها بوضوح للمرشح فريد زهران.

في كل مرة أعود فيها إلى المحلة تنتابني غصة كلما وصلت “ميدان الشون”، أكبر ميادين المدينة وأقربها لشركة الغزل والنسيج. وفي سياق خطط التطوير التي نفذتها الدولة، تم قطع الأشجار القليلة التي كانت في الميدان، وبناء كوبري علوي شقه من المنتصف، وتحولت الساحة إلى موقف خاص بالميكروباص والتوكتوك. طُمس أشهر ميدان في المدينة، وأحد أهم الميادين الشاهدة على التاريخ السياسي المصري كرمز من الرموز الجغرافية للحركة الاحتجاجية المصرية.

منذ أن انتقلت إلى القاهرة عام 2008، لم أحتج إلى شرح خصوصية المكان الذي أتيت منه مثلما يضطر أبناء باقي الأقاليم. فالمحلة تضم شركة مصر للغزل والنسيج، التي صبغت الطابع العام للمدينة المحاطة بمناطق زراعية. من لا يعمل في الشركة إما لديه ورشة صغيرة للنسيج أو يعمل في واحدة. وعند الحديث عن الشركة فلا نقصد مجرد المصانع، بل مجمع ضخم بُني عام 1927 يضم عدة مصانع ومساكن للعمال (تُسمى المستعمرة) ونادي رياضي كبير، ومرافق صحية وخدمية كبيرة.

في سياقها الصناعي كانت المحلة دائمة الذكر عندما يتعلق الأمر بالاحتجاج منذ أربعينات القرن الماضي، مروراً بانتفاضة الخبز سنة 1977، ومظاهرات التضامن مع الانتفاضة الفلسطينية. وفي سنة 2006 عاد عمالها للإضرابات، حتى تحركت المدينة كلها يومي 6 و7 أبريل/ نيسان 2008 ضد حكم حسني مبارك، وهي المناسبة التي يضعها البعض كمقدمة فعلية لثورة المصريين في 2011.

تعاسة الميدان الجديد عادةً تتكفل بالقضاء عليها بعض القريبات وصديقات أمي اللواتي يجتمعن يومياً لاحتساء الشاي سوياً في بيت أمي، جلسات النساء والنميمة التي أحبها، إلا أن هذه المرة كان الحزن يخيم عليهن بسبب وفاة صديقتهن القديمة بسبب السرطان.

كان الحديث هذه المرة عن المرض والموت وارتفاع أسعار السلع الأساسية، والتخطيط من أجل تقشف تدريجي، وأخيراً على هامش حديثهن حلت الانتخابات الرئاسية التي لا تعرف أي منهن عنها أي شيء سوا أن فيها المرشح الرئيس الحالي، وأنه سيعاود الحكم حتى 2030، إن لم يعيد الكرة ويعدل الدستور ليسمح لنفسه للبقاء مجدداً.

صديقات أمي تنحدر أسرهن من مدينة المحلة الكبرى، بينما أمي جاءت مع والدها في سن السابعة من القاهرة، وجميعهن عملن في وظائف حكومية منذ تخرجهن الجامعي، ويقتصر نشاطهن على رعاية الأسر والأحفاد وزيارة الكنيسة لحضور القداسات والاجتماعات الأسبوعية.

بينهن كانت طنط أيفا وقريبة شابة سيشاركن في الانتخابات، لكن دون التصويت لأي مرشح. قالت طنط أيفا: «كيلو البصل بـ 35 جنيه.. هنزل أبطل صوتي”. سألتها ولماذا ترهق نفسها بالانتخاب إن كان قرارها إبطال الصوت، قالت لي أنها سمعت عن غرامة مالية ستطبقها الدولة على من يمتنع عن الانتخاب، جادلتها وقلت أن هذا مستحيل عملياً، سخرت مني وقالت إن الحكومة عندما يتعلق الأمر بالفلوس، ستجد حل للمستحيل.

منذ خلع المصريون الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك عقب 30 سنة من الحكم الشمولي، خاضت مصر 3 انتخابات رئاسية. واحدة فقط أسفرت عن انتخاب الرئيس المدني الوحيد في حياة مصر السياسية محمد مرسي، وهو كان قيادياً في الإخوان المسلمين. وفي كل حال لم يستمر حكمه إلا عام واحد، ليبدأ فصل سياسي جديد عنوانه عبد الفتاح السيسي أتى في انتخابات 2014، ثم جدد فترته في انتخابات 2018.

وفي هذه الجولة الجديدة، شارك 3 مرشحين الرئيس الحالي في الترشح للانتخابات. الأول هو عبد السند يمامة رئيس حزب الوفد، الذي صرح سابقاً بأن «الشعب يقف وراء السيسي». والثاني هو حازم عمر رئيس حزب الشعب الجمهورى، سبق وعينه السيسي نفسه عضواً في مجلس الشيوخ. والأخير هو رئيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي فريد زهران، الوحيد المحسوب على المعارضة المصرية، لكنه أخفق في أن يكون مرشحاً باسم المعارضة أو ينال تأييد أطياف واسعة منها.

تحول الحديث بين الصديقات عن الانتخابات والسياسة وحدها. قالت واحدة منهن إن كل انتخابات سابقة، كانت معروفة النتيجة، أصلاً باستثناء انتخابات 2012 تلك، كان الفائز في كل انتخابات رئاسية عقدت منذ خلع مبارك هو عبد الفتاح السيسي. لكنها عادت وقالت إن في الانتخابات السابقة كنّ يشاركن مع معرفتهم هوية الفائز لكنهن وقتها كنّ يشعرن بالسعادة والارتياح: «الرئيس سيعيد الأمن والأمان للمسيحيين، كما كانت تقول الكنيسة».

الكنيسة هي الأخرى نالت نصيبها من غضب الجالسات، فكانت ضريبة الأمن والأمان هي المعاناة الاقتصادية التي تنال من الجميع مسيحيين ومسلمين. ولم يتردد البابا تواضروس بطريرك الكرازة المرقسية عن ترديد دعمه وتأييده لرئيس الجمهورية، وعن مشاركة المسيحيين في الانتخابات الرئاسية. وقال إن «الاستحقاق الرئاسي عمل وطني.. الكتاب المقدس يعلمنا أن إله السماء يعطينا النجاح ونحن عبيده نقوم ونبني»، دون توضيح الغرض المقصود بهذه الآية في سياق الانتخابات.

أبدت الصديقات غضبهن من موقف القادة في الكنيسة «الذين يتحدثون عن النتيجة المحسومة لصالح الرئيس، ولكن يحثون المسيحيين على النزول لأن المظهر العام في الداخل والخارج مهم عندما تكتظ الصفوف أمام اللجان بالمسيحيين وتصل تلك الصور إلى مكتب الرئيس فيعلم أن المسيحيين ممتنين لـ «عصره الذهبي»، سألتها ماذا يقصد بالعصر الذهبي، فقالت عصر لا يُستهدف فيه المسيحيين بالقنابل والأسلحة النارية بل وصار ترميم الكنائس أسهل على حد زعم القادة الكنسيين، ثم علقت «ألم يكن عصر مبارك بدون قنابل كذلك، ولكن الحياة أكثر يسراً وفي متناول اليد؟».

صديقات وقريبات أمي كنّ مؤيّدات للرئيس في جولاته السابقة، جميعهن يعشقن أغاني مصر للمغني الإماراتي حسين الجسمي، الآن تبدل الموقف تماماً، وأكثرهن غضباً هي أصغرهن سناً. تحسرت قريبتي المتزوجة حديثاً على ما يفترض أن تعيشه في مرحلة الشباب، لكنها لا تشعر إلا بالقلق تجاه المستقبل وما ينتطر ابنها. قالت إنها كانت تشعر بالخوف وقت حكم جماعة الإخوان المسلمين، ونزلت مع أسرتها كلها لانتخاب السيسي في 2014، وعلى الرغم من عدم رضاهم عن الحال، عادوا وصوتوا له في 2018، لكن الوضع يسير إلى الأسوأ فقط.

استفاضت إحدى القريبات، وكانت قد عايشت حروب مصر في 1956 و1967 و1973، وقالت إن السلع لم تكن متوفرة في هذه الأوقات، ولكنها كانت حالة عامة لدى غالبية الشعب، فيما عدا بالطبع الأغنياء، ومع أن غياب السلع وغلائها كان مبرراً وقتها، إلا أن الآن الوضع الحالي أصعب ودون مبررات مفهومة.

توقعت دراسة أجرتها مستشارة للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن يكون مستوى الفقر في مصر في العام الحالي قد ارتفع ليصل إلى 35.7٪، وذلك مع تدهور قيمة العملة المحلية، وفي الوقت نفسه الذي تشهد فيه أسعار السلع الأساسية ارتفاعات ملحوظة، إذ سجل في أكتوبر/ تشرين أول الماضي مستوى قياسي بمعدل 38.1٪.

في اليوم التالي لوصولي المحلة، كان أول أيام الانتخابات، رافقت طنط إيفا صديقة أمي من أجل التصويت في الانتخابات الرئاسية، لم نكن بحاجة لاستخدام المواصلات أو ركوب توكتوك لأن المكان قريب، غير أنها فرصة نادرة لأحظى بالمشي نهارًا في قلب المدينة التجارية التي تكتظ بالقادمين من كافة القرى المجاورة لشراء البضائع من المنسوجات خاصة جهاز العرائس، وفي الحقيقة لم تتأثر حركة البيع والشراء باليوم الانتخابي. لا شيئ غريب عن اليوميات المعتادة إلا الكثير من اللافتات، وبعضها من الكنيسة التي بايعت السيسي على لسان أسقفها الأنبا أغناطيوس.

مررنا في الطريق على الجزار وعلقت طنط إيفا على سعر اللحمة. قالت ساخرة إن المسيحيين محظوظين لأنهم في حالة مقاطعة لها معظم أيام السنة، سألتني إن كان هناك تعويماً جديداً للجنيه بعد الانتخابات. ضحكت وأخبرتها أن هذه المعلومات لا نعرفها إلا بعد حدوثها.

كانت طنط إيفا تفكر معي بصوت عالي إن كان الأفضل لها شراء لحمة عيد الميلاد باكرًا قبل نهاية العام أم قبل العيد مباشرة في يناير/ كانون الأول 2024… فالأيام القليلة بين ذلك الميعاد وذاك قد تشهد تحريراً جديداً لسعر الصرف وبالتالي زيادة أسعار كل شيء.

كانت الأجواء أمام اللجنة الانتخابية هادئة فيما عدا عدد من الرجال الذين يبدو من هيئتهم أنهم عمال بيومية يقفون ويتلقون بياناتهم الانتخابية حيث يقف رجال الأمن، دخلت طنط إيفا أبطلت صوتها وخرجت في دقائق معدودة، وجففت أصبعها الملون بالحبر بمنديل وألقت به في الشارع.

عدت للمنزل حائرة قليلاً اذا كانت مدينتي الثورية قد غيّرت موقعها وباتت تحتفي بالمرشح الرئيس وتملأ لافتات تأييده في كل فراغ، أم أن هذا مفروض عليهم وأمام الصندوق يتبنون موقف طنط إيفا؟ مع ذلك كنت سعيدة لأن برج الساعة الذي بناه المهندسين الإنجليز داخل شركة الغزل والنسيج لم تطاله يد التطوير والتشويه، كانت ساحة برج الساعة بالنسبة لي ولأبناء المدينة مثل مكافأة استحقها من أبي عندما يرضى عني، فأذهب لهناك حالي حال أبناء المحلة لركوب الدراجات أو اللعب بالكرة.

وصلنا سوياً وكانت الفرصة من أجل حديث مكثف سانحة أكثر، لا يوجد الآن سوى أمي وطنط إيفا. كلتاهما موظفات على المعاش، لديهما أبناء وأحفاد، جددت السنوات الأخيرة قلقهن القديم على أبنائهن، لكنهن الآن يفكرن في الأحفاد. قالت أمي كان يجب أن نخرج للمعاش للراحة، لكننا تقاعدنا لنجد المسؤوليات تتسع لتنال مستقبل الأحفاد، لكن مع موارد مالية أقل، وقدرة على الشراء أقل، ومستوى أسعار يرتفع كل يوم.