fbpx

لعنة أن تُولد مهزومًا.. عن الذين لم يحدث في حياتهم شيء

يتجسد هذا التناقض بين البشر الذين لديهم إمكانيات، و"مضمار ممهد للسباق"، والآخرين، المولودين مهزومين، وليس لهم سوى مضمار وحيد وضيق؛ أن يعيشوا كما حُكم عليهم، بناء على أصولهم عند لحظة الميلاد، سواء الاجتماعية أو القومية/الأثنية
ــــــــ المـكـانــــــــ حدود
30 مارس 2024

انتشرت قبل شهور ضمن التريندات الفيسبوكية المعتادة، صورة حديثة من كورنيش الإسكندرية. هذا الكورنيش الممكن اعتباره من أكثر الأماكن المهزومة عسكريًا في مصر خلال السنوات العشر الأخيرة، بعد أن استولت مؤسسات تابعة للقوات المسلحة على مناطق واسعة منه، لتقيم مشاريع وكباري، مغيرة ليس فقط ملامح الكورنيش التاريخي للمدينة، بل أيضًا ملامح من بحرها، بالتهام مساحات واسعة من البحر، ليبتعد أكثر فأكثر عن سكان المدينة.

لنترك الحديث عما يتم اعتباره في الوقت الراهن “كلام في السياسة”، ولنبتعد عن تعبيرات مثل “عسكرية” و”مهزومة”، لنعود لتلك الصورة.

في هذه المنطقة تحديدًا، الملتقطة فيها الصورة المعنية، البحر واضح وقريب، ويستطيع المارة الاستمتاع بحضوره. في الصورة رجلان متقدمان في العمر، أحدهما جالس على سور الكورنيش، ونستطيع أن نخمن من طريقة جلوسه أنه متعب أو مرهق. أما الآخر، المرتدي زيًا رياضيًا فيمارس رياضة المشي، وفي خلفية الصورة بحر الإسكندرية.

لعنة أن تكون مرهقًا

وصف رجل أوروبي، لا أعرف من هو، رياضتي المشي والجري قبل سنوات، بعد أن انتشرتا بين أعمار مختلفة، وباتتا من الممارسات المنتظمة، وبصرامة بالغة، لفئات اجتماعية واسعة تبدأ من الطبقة الوسطى صعودًا إلى أعلى، بأنهما أصبحتا “جين تونيك” الانسان العصري. وكأنهما معادلان للمشروب الإنجليزي الكحولي المنعش، الذي يشربه القادرون، كشرط من شروط الأناقة، عند بداية المساء.

باستخدام هذا التشبيه، سيكون أحد الرجلين يحتسي الجين تونيك العصري، والآخر لا. لكن الأهم من مفارقة الصورة والتباين بين حالتي بطليها الجسدية، هي التعليقات المنتشرة معها، وبصيغ مختلفة، لكن بجوهر واحد؛ أن أحد الرجلين استسلم، والآخر يرفض الاستسلام.

لفظ الاستسلام المستخدم يتضمن بالضرورة الإدانة الضمنية لطرف، وتمجيد للطرف الآخر. ويتضمن كذلك الإحالة لتعبيرات لها علاقة بالحرب والصراع. دون أن نعرف ضد ماذا يتصارع الرجلان.. ضد الزمن والتقدم في العمر؟ أم ضد ظروف ما نجهلها؟ أو أن الحياة بطبيعتها حلبة للصراع أو للمنافسة؟

بتأملنا للصورة جيدًا سنجد طبقتين اجتماعيتين داخل نفس الإطار، تجمعهما نفس المساحة من الكورنيش، ويوحدهما البحر الواسع في الخلفية. لكنها مجرد وحدة شكلية ومكانية، فسنعرف من هيئة الممارس لرياضة المشي، الذي لم يستسلم، انتماءه، على الأقل، للطبقة الوسطى. بينما الآخر، المستسلم، فهو يرتدي ملابس بسيطة، ويبدو أن الحذاء الذي كان يرتديه يؤلمه، فخلعه، وتركه بجواره على سور الكورنيش، ليحرر قدميه منه لبعض الوقت.

ربما يكون الرجل صاحب الملابس المتواضعة قد سار كثيرًا بحذائه القديم، أكثر بكثير من الرجل المستهلك/الممارس للجين تونيك العصري/رياضة المشي، قبل التقاط الصورة. لكننا لن نعرف ما يسبق أو ما يلي تلك اللحظة المجمدة في صورة فوتوغرافية. فيما تتكشف حقيقة إضافية من التناقض بين هيئة الاثنين، (بما أنه تم استخدام تعبير الاستسلام الذي يحيل للصراع أو المنافسة)، أن مضمار السباق من المؤكد مختلف عند كليهما. أستطيع أن أفترض أن مضمار سباق أحدهما، أو صراعه ضد تقدم الزمن، أو الظروف التي نجهلها، ممهد نسبيًا ومستقيم بحكم الانتماء لطبقة اجتماعية محددة. لكن هيئة الآخر، وتعبه الواضح، يخبراننا أن مضمار سباقه متعرج، وربما كان وما زال مليئًا بالحواجز والمطبات المطلوب القفز من فوقها أو تفاديها. والوقوع في أحدها من الممكن أن يلوي القدم أو يكسرها.

بالرغم من النفور المبرر، من تعبيرات تحيل للصراع والمنافسة والعراك، إلا أن الصورة تحيلنا للهزيمة. أحدهما مهزوم، منذ ميلاده، أو منذ صدفة الميلاد داخل طبقة اجتماعية محددة، أو مناخ قيمي وثقافي وجغرافي محدد. أنه هذا الجالس متعبًا والمفتقد للطاقة. وإن كان مهزومًا إلا أنه ليس بالضرورة فاشلًا. فالحكم بالفشل يعتمد على افتراض لا يتحقق في الحياة إلا مرات نادرة، وفي طبقات اجتماعية محددة؛ أن يُتاح للإنسان كل الظروف المواتية لتحقيق هدف محدد، وهو يعرف الهدف جيدًا، وبالرغم من ذلك يخفق في تحقيقه.

لعنة أن تكون خجولًا

كانت صورة الرجلين على كورنيش الإسكندرية أحد منطلقات هذا النص لربط بعض المشاهد حدثت في شارع مدريدي عريض ومهم، عشتُ به لمدة أحد عشر عامًا. حيث يتجسد هذا التناقض بين البشر الذين لديهم إمكانيات، و”مضمار ممهد للسباق”، والآخرين، المولودين مهزومين، وليس لهم سوى مضمار وحيد وضيق؛ أن يعيشوا كما حُكم عليهم، بناء على أصولهم عند لحظة الميلاد، سواء الاجتماعية أو القومية/الأثنية.

لكن إحدى المُحفزات الأخرى للنص هي عملية الإبادة الجماعية الحاصلة في غزة منذ السابع من أكتوبر الماضي، والتي دفعتني لكتابة جملة في نص منشور بموقع آخر، تراجعت عنها وحذفتها قبل ثوانٍ من إرساله للنشر، لتخوفي من قسوتها. وهي جملة: “أن يكون حظك الرديء أن تولد فلسطينيًا”. وأعترف بأنني هذبتها، فقد كانت في الأصل “لعنة أن تولد فلسطينيًا”.

قبل بداية المذبحة في غزة، عاد صحفي إسباني شهير لمدرسته الابتدائية في شمال إسبانيا لعمل تحقيق صحفي تلفزيوني. هذه المدرسة الابتدائية دينية، تُدار من قبل الكنيسة الكاثوليكية، وكان موضوع التحقيق هو تراكم فضائح التحرش بالأطفال، والاعتداءات الجنسية عليهم، في الكنيسة، والمؤسسات التابعة إليها، وتحولها لموضوع أساسي يشغل الرأي العام الأوروبي، واضطرار الفاتيكان لفتح هذا الملف الذي ظل مغلقًا لعقود طويلة.

عاد الصحفي لمدرسته، ليبحث عن بعض زملاءه السابقين، المنشورة أسماءهم مؤخرًا من ضمن قوائم الضحايا، وليبحث عن آخرين كان يشك أنهم من ضمن الضحايا، وإن لم يعترفوا بذلك أبدًا. بتأمل البرنامج اكتشفت الحجم الحقيقي للعنة أخرى. هذه المرة ليست لعنة أن تكون فقيرًا، أو فلسطينيًا، بل لعنة أن يكون الطفل أو الطفلة خجولين، وقليلي الكلام والمناكفة. أو أن أهلهم كثيري الانشغال عنهم. فيتحول الخجل أو قلة الكلام، لقدر.. أو بالأحرى للعنة، تجعل القسيس، أو المدرس المتحرش أو المغتصب يختارونه/يختارونها كضحية مناسبة، فتقع الهزيمة منذ البداية، وتحدد مسار الحياة بأكمله.

لعنة أن تكون في الظل

الشارع الذي سكنت به لمدة أحد عشر عامًا، منحني صدفة جديدة مست هذا الوتر لفكرة الهزيمة منذ الميلاد. فاسمه “مينيندز بلايو”. ويوصف رسميًا بـ”الطريق” بسبب اتساعه وطوله، ولتوازيه مع حديقة “الريتيرو”، الحديقة المركزية لمدينة مدريد، وأكبر حدائقها، حيث نستطيع أن نطالع فيها في كل الأوقات تنويعات مختلفة من البشر، الممارسين لأنشطة مختلفة في مساحتها الواسعة، ومن بينها، مرة أخرى، رياضة المشي، والجري.

طيلة سنوات لم أكن أعرف من هو مينيندز بلايو، الذي أطلق اسمه على شارعنا، حتى بحثت عنه على شبكة الإنترنت، دون أن أدرك لماذا استيقظ فضولي في هذه اللحظة تحديدًا.

“مارسلينو مينيندز بلايو”، (1856-1912)، مولود ومتوفي في المدينة الشمالية البرجوازية “سانتاندير”، أحد أكثر المدن الإسبانية أناقة. شغل أبيه منصب عمدتها لفترة قصيرة من الزمن. وكان مارسلينو كاتبًا، وشاعرًا، وناقدًا أدبيًا، وفيلسوفًا. رُشح مرة واحدة لجائزة نوبل للآداب، دون أن تتوافر معلومات واضحة عن الجهة التي رشحته هذه المرة الوحيدة.

بالإضافة إلى أن مارسلينو كان عضوًا بأكاديمية اللغة الإسبانية، كان أيضًا سياسيًا كاثوليكيًا محافظًا، وعضوًا بمجلس النواب. أي أنه كان ينتمي للفئة الاجتماعية الغالبة في شارعنا، والمالكة لبيوت به، أو محلات عمل وبيزنس؛ فئة اليمين من الطبقات الاجتماعية ما فوق المتوسطة.

المفارقة/الصدفة كانت اكتشافي أن لمارسلينو أخ أصغر هوإنريكي مينيندز بلايو” (1861-1921)، كان طبيبًا، وكاتبًا مثل أخيه. لكنه لم يحظ بالشهرة والأهمية التي حظي بها أخوه الأكبر، الذي سُمي شارعنا باسمه، بل وشوارع أخرى أيضًا. للدرجة التي دفعت إنريكي، الأخ الأصغر المجهول، لنشر كتابًا عن سيرته الذاتية، نُشر بعد وفاته، يلمّح فيه لحياته في الظل، ظل شهرة أخيه، بعنوانمذكرات شخص لم يحدث في حياته شيء“.

 

تصوير: باسل رمسيس

لعنة أن تكون فقيرًا

ككل الأحياء والشوارع الراقية داخل المدينة وليس بضواحيها، يختلف شكل الحياة، ونوعية مرتاديها وعابريها خلال النهار عن المساء والليل. فإن كان سكان الحي المستقرين، وزوارهم، ورواد المطاعم والبارات الغالية بطبيعتها، هم أبطال مشهدي المساء والليل، إلا أن النهار مختلف، حين يكون هؤلاء في أشغالهم، لتحضر طبقة أخرى، وهي طبقة من يعملون بشكل أو بأخر في خدمة طبقة الملاك. سواء من يعملون مباشرة في خدمة البيوت وإخراج الكلاب للنزهة في الحديقة، أو حراس البنايات، أو العاملين في المحلات التجارية والأسواق، أو عمال الحي المسؤولين عن نظافة الشوارع، أو عمال البناء والصيانة، إلى أخر هذه النوعية من الطبقات الاجتماعية الأدنى.

هناك شارع صغير متفرع من شارعنا، به مبنى من دورين، يشغل فرع السوبر ماركت التابع لسلسلة محلات كبيرة الطابق الأسفل. بينما تحتل محلات سوق المنتجات الطازجة، من لحوم وأسماك وخضروات وغيرها، الطابق الأعلى.

أغلب العاملات والبائعات في السوبر ماركت من المهاجرات اللاتينيات. أستطيع أن أتوقع أن الأيام القليلة التي شعرن فيها بالانتماء للحي، الذي لا يسكن به، والامتنان لسكانه، كانت الأيام الأكثر سوادًا في التاريخ الحديث لإسبانيا ومدينة مدريد؛ بداية الوباء وإعلان حالة الطوارئ وحظر التجول. فخلال الأيام الأولى، التزم سكان الحي بطقس التصفيق للعاملات والبائعات من النوافذ والشرفات عند الساعة التاسعة مساء، وقت انتهاء عملهن وخروجهن من السوبر ماركت، ليعدن إلى بيوتهن في الأحياء البعيدة. وهو الطقس الذي امتنع عن ممارسته بعد أيام الكثيرون من جيراننا، بعد أن أشاع اليمين المتطرف أن التصفيق من النوافذ والشرفات معناه دعم الحكومة اليسارية.

يتردد ثلاثة عمال على السوبر ماركت سويًا، وبوتيرة شبه يومية، كي يشتروا ما سيأكلونه ويشربونه في دقائق الراحة منتصف النهار. نستطيع أن نخمن من ارتدائهم لأفرولات زرقاء أنهم يعملون في نظافة مكان ما في هذا الحي الراقي.

الأكثر شبابًا من بين الثلاثة لا يقل عمره عن الخمسين. والثلاثة صاخبون، يدخلون السوبر ماركت ويتبادلون الحديث بينهم بأصوات عالية، ويتبادلون مع الفتيات العاملات السلام وبعض الدعابات. بينما البائعات تنصحهن ببعض المنتجات، أو تلفتن أنظارهم إلى العروض التخفيضية، لتوفير بعضًا من نقودهم القليلة.

لم يظهر الثلاثة سويًا اليوم. وفي طابور الخزينة كان الوحيد الحاضر منهم أصغرهم سنًا. يقف وراءه منتظرًا دوره فنان تشكيلي لديه ورشة/منزل بشارع مينيندز بلايو. لم أزر الأتيليه أو أتحدث معه قط. لكننا نستطيع أن نرى مساحة منه عبر زجاج مدخله. شهرة الفنان التشكيلي، ولفته لأنظار سكان الحي ومرتاديه المنتظمين لا تعود لفنه، بل لأسلوبه في تنسيق ملابسه المتنافرة الألوان، وشعره الطويل، وارتدائه دائمًا فردتي حذاء مختلفتين.

ينتظر الفنان دوره، وأمامه العامل الذي يحمل حقيبة للظهر قديمة ومهترئة بعض الشيء. يخرج منها ما سيشتريه كي تمرره العاملة فوق السير وصولًا لجهاز تسجيل الكود. تداعبه، لكن صوته أكثر خفوتًا هذا اليوم، ربما لغياب زميليه يشعر باستحقاقية أقل في المكان، واستحقاقية أقل في إحداث الصخب. وبعد أن تمرر البائعة ما سيشتريه، يعيده مرة أخرى إلى الحقيبة؛ رغيف خبز/باغيت، علبتين من البيرة، حبتي طماطم، وبرطمان للزيتون.

وبينما يدفع حسابه ويحفظ مشترياته من جديد في حقيبته، يبدأ الفنان في وضع أشياءه على نفس السير المتحرك المؤدي لعاملة الخزينة. يبدو عليه الارتباك وبعض الخجل، فهي كثيرة، ستستقر في عربة بعجلتين حتى ورشته/منزله القريب؛ بضعة قنان من النبيذ، بعض صناديق البيرة المعبأة في عبوات زجاجية، (مختلفة عن العلب المعدنية الرخيصة التي اشتراها العامل)، نوع مرتفع الثمن من الجامبو، جبن فرنسي وآخر إيطالي، ونوع غال من زيت الزيتون.

يلتقيان، العامل والفنان، في الشارع من جديد. العامل بقدميه المقوستين يسير متمهلًا أمام الفنان التشكيلي، وبينهما عشرة أمتار تقريبًا. يبدو أن الفنان يتأمل ظهر العامل وطريقته في السير. يخرج العامل من حقيبته حبة طماطم، يمررها سريعًا بملابسه لتنظيفها، يبدأ في التهامها مع علبة من علب البيرة التي فتحها توًا.

هما من نفس السن، ومن نفس عمري أيضًا. لا أعرف تفسيرًا لشعوري بأن الفنان يفكر في نفس ما أفكر فيه لحظتها، أن كلانا، الفنان وأنا، لم نعمل في حياتنا بمشقة مثلما عمل هذا العامل طيلة حياته، وكان نصيبنا نحن الثلاثة مختلفًا. وبعد ساعات قليلة، سيعود العامل لبيته، المؤكد أنه في أحد الضواحي البعيدة والشعبية، وسيتحول معنا وبنا، الفنان وأنا، شكل الشارع، وطبيعة رواده.

 

تصوير: باسل رمسيس

لعنة أن تكون غريبًا

التغيير في شارعنا لا يرتبط فقط بالليل والنهار، بل يُلاحظ كذلك بتغير أيام الأسبوع، إن كانت أيام عمل أو عطلة، على الطريقة الاسبانية. العطلة عند القادرين لا تبدأ الجمعة مساء في موعدها الرسمي، بل تبدأ طقوسها بداية من يوم الخميس.

قبل بضعة سنوات، تحولت أغلب المحلات القديمة والتقليدية في حينا لمطاعم فاخرة، وبالذات بعد أن اشترى الشيف “خوسيه أندريز”، أحد أكثر الطباخين الإسبان شهرة ونجاحًا وغنى في العالم، والمستقر في الولايات المتحدة، (والمؤسس للعديد من المطابخ المجانية في قطاع غزة بعد السابع من أكتوبر، وكانت المنتجات الغذائية التي تحتاجها هذه المطابخ هي أول ما دخل القطاع عن طريق البحر على قارب “الأذرع المفتوحة”)، بضعة محلات ومطاعم وبارات قديمة، وقام بتحديثها وتحويلها لمطاعم فاخرة تحمل علامته التجارية واسمه، فتحول الشارع والحي لـ”المنطقة الموضة”، وتحديدًا في نهاية الأسبوع.

إن أضفنا لذلك موقع شارعنا أمام أكبر حديقة في مدريد، نستطيع أن نتوقع امتلاءه على آخره بالسياح، والزوار من أحياء أخرى، لقضاء نهارات وليل العطلة الأسبوعية في مطاعمه وباراته، بمقاعدها ومناضدها الموزعة على الرصيف، وخصوصًا إن كان الطقس جيدًا. ليتركوا لنا بين الزحام حيزًا ضيقًا للمرور نحن سكانه، متحولًا لما يشبه الشاطئ المزدحم، بنوع محدد من الزبائن في منتصف العمر، ومن طبقات عالية، يلتقون فيه وكأن الحديقة هي البحر، وهم أمامه، على “البلاج”/الرصيف.

هذه العملية لتحديث الحي وتغييره، من حي سكني عادي لمنطقة سياحية وكأنها من ضمن وسط البلد المدريدي، تحققت خلال السنوات الأخيرة بانسيابية وطبيعية بالغتين، ودون أي مقاومة، تمهيدًا لطردنا من الشارع والحي. فلابد أن قراء هذا النص لاحظوا عبارة “عشت به إحدى عشر عامًا” المكتوبة بصيغة الماضي. انتهت هذه الأعوام بإنذارات بالطرد لي ولجميع سكان عمارتنا، كي يتواكب ملاكها مع الحداثة؛ بيع عمارتهم لتتحول إلى استوديوهات سياحية صغيرة تؤجر بالليلة.

في واحد من أيام الأحد، المشمسة والدافئة برغم فصل الشتاء، وبينما يزدحم الشارع بزواره/سائحيه، يظهر شخص عربي لا أعرف اسمه، ولنسمه “مصطفى” افتراضًا، في البار الواقع أسفل عمارتنا مباشرة، في المنتصف بين نقطتي الوجود العربي في شارعنا.

فعلى بعد مائة متر شمالًا، وأخرى جنوبًا، من النقطة التي ظهر فيها مصطفى بأسفل بيتي، تقع نقطتا التمثيل العربي في “مينيندز بلايو”. هناك جنوبًا محل الحلاق المغربي، الذي يتردد عليه بعض المسنين من سكان الحي، بالرغم من الرفض العنصري للمغاربة، (“المورو” حسب التسمية العنصرية القديمة)، ولأسباب عدة؛ أولها أن “محمود”، الحلاق الحالي، مساعد الحلاق السابق، المغربي بدوره، ورث السمعة المهنية الجيدة لرئيسه السابق، وتزامن هذا الميراث مع انتشار محلات الحلاقة التابعة للمغاربة خلال العقد الأخير، بأسعارها الأكثر انخفاضًا من نظيراتها المملوكة للإسبان، أو التابعة لشبكات واسعة بماركات شهيرة.

وشمالًا، هناك محل “شام”، الذي أسسه مهاجر سوري لبيع الحلويات، وبعض المنتجات السورية واللبنانية. محل أنيق، يقدم شاي عربي مع الإفطار، تعمل به عادةً شابات إسبانيات، مبتسمات دائمًا. فأصبح بالتالي مكانًا مقبولًا في حينا، باعتباره “إيكزوتيك”. وربما لا يعلم سكان الحي الثابتين، والمصوتين في أغلبهم لتيارات يمينية وعنصرية في الانتخابات، ترفض المهاجرين واللاجئين العرب، أنه ملك رجل سوري.

تصوير: باسل رمسيس

بين النقطتين بالضبط، بين الحلاق المغربي ومطعم شام، وبأسفل منزلي، ظهر مصطفى في يوم 21 يناير الماضي، بينما كنا عائدين من مظاهرة للتضامن مع شعب غزة. لفت نظري للمشهد من بعيد، وقبل الوصول للمنزل، الصيدلانيات العاملات في الصيدلية التي أتردد عليها، واللاتي لا يترددن في بيع أي دواء أحتاجه دون روشتة الطبيب. كن واقفات خارج الصيدلية، ينظرن إلى نقطة بعيدة أسفل منزلي، حيث يوجد تجمع كبير للعابرين ومرتادي البارات والمطاعم من الرجال والنساء الأنيقات.

كان مصطفى مطروحًا على الأرض، بوضعية تجعل صدره بأسفل، ومثبتًا رغم تملصه بقوة وبإلحاح، وبرغم صراخه وإطلاقه للشتائم، ومحاولته لعض أي جزء من أجساد من يثبتونه يستطيع الاقتراب منه بفمه.

نجح في تثبيت مصطفى على هذا الوضع لأكثر من نصف ساعة رجلان من أصحاب العضلات الضخمة، يعملان في هذا البار الصغير بأسفل البيت، بمعاونة رجل وامرأة بالغي الوسامة مرتديين للملابس الرياضية، واكتشفنا لاحقًا أنهما ضباطي شرطة في يوم عطلتيهما، كانا يمارسا رياضة “الجين تونيك” بالحديقة، وشاهدا المشهد بالصدفة، فقررا المشاركة في تثبيت هذا العربي الهائج.

كانت ضابطة الشرطة الأكثر حماسًا لرفع صوتها، ولإبراز تفوقها العضلي على مصطفى الراقد بفضل أربعة أشخاص، هي واحدة منهم، يثبتونه بركبهم وأيديهم وبثقل أجسادهم. وكان حماس الأربعة يزداد مع ازدياد أعداد المشاهدين والمحرضين ضد هذا الغريب حولهم؛ عشرات من مرتادي هذا البار والبارات المجاورة، بانتظار حضور الشرطة التي استدعوها تليفونيًا.

ظننا في البداية أن مصطفى، الذي لم يتوقف عن المعافرة، ومحاولة الهرب قبل وصول الشرطة، لص، حاول السرقة داخل البار، أو اختطاف حقيبة إحداهن والهروب جريًا. لنكتشف بعد دقائق من تدخلنا في المشهد، ومحاولة التهدئة، ونهرهم عن أن يضربه أحد، أن أصل المشكلة، حسب ما يدعونه، هي دخوله للبار، بهيئته التي لا تعجبهم ولا تناسب الحي، كي يأكل.

كان مصطفى جائعًا، وكان يملك ما سيدفعه مقابل طعامه، لكنهم أجابوه بأن لا مكان له هنا، بينما يرى هو أن هناك مكان مناسب لتناول طعامه وقوفًا. ربما كان سكرانًا أو متعاطيًا لمخدر ما، فثار وطاح بهم. تجمعوا عليه، أخرجوه من البار، واتهموه بالتعدي عليهم وتحطيم بعض محتوياته.

في نصف هذا المشهد الملتبس هاج أفريقي الشارع، الأشهر من بين الجميع، من كان سابقًا مسؤولًا عن مجموعة أفريقية لبيع قطع الحشيش الصغيرة للعابرين في الحديقة، والوحيد الباقي منهم في شارعنا. فبعد مطاردات بوليسية متكررة، وبالأحصنة أحيانًا، اختفى زملاؤه، ويبدو أنه توقف عن بيع الحشيش. لكنه لم يتوقف عن التواجد بالحي طيلة النهار، يساعد النادلات اللاتينيات في مطعم مجاور في رص مناضدهم بالشارع، وجمعها في نهاية اليوم، وبين بداية اليوم ونهايته يشاهد أحيانًا مباريات كرة القدم في شاشتهم، بينما يشرب البيرة.

هاج الأفريقي محاولًا أن يصور مشهد مصطفى بهاتفه، صارخًا ضد العنصرية حين حضرت الشرطة. نعم، ها هي قد وصلت بسياراتها، وجاء الآن دور الدولة، التي هدد أحد أفرادها الأفريقي باعتقاله إن استمر في التصوير، فاضطر للانسحاب من المنطقة.

لم أكتشف أبدًا سر توسل مصطفى السابق لمن كانوا يثبتونه بألا يتصلوا بالشرطة، محاولًا الهرب والوصول لحذائه وحقيبته الملقيان بعيدًا عن موضع جسده المثبت إلى الأرض. فحين وصلت الشرطة أقاموه، انفض جزء كبير من حشد المتفرجين، فتشوه، فحصوا أوراقه وحقيبته، طرحوا بعض الأسئلة على أصحاب البار وبعض الشهود من رواده، طلبوا سيارة الإسعاف لمعاينة بعض جروح مصطفى، وحين حضرت رحلوا وتركوه.

ضمد المسعفون بعض جروح مصطفى السطحية، تركوه بدورهم، وذهبوا.

لكن مصطفى لم يذهب. بل جلس على مقعد خشبي مثبت في الشارع مقابل البار مباشرة، على بعد متران من مدخله، مرتديًا حذاءه، وطاقية صوف على رأسه لتحميه من البرد، وحقيبته بجواره. بقي هكذا، جالسًا يحتسي علب البيرة التي اشتراها من محل الصيني القريب، مدخنًا، وناظرًا لأصحاب البار بتحد. لم يرحل إلا بعد ساعات حين حل الظلام، بعد أن أربك أعصابهم بما يمكن أن يفعله بهم، بعد ما مر به في هذا الحي الذي عبر فيه بالصدفة. ثم اختفى.

تصوير: باسل رمسيس

لعنة أن تكون وحيدًا

دخل مصطفى بالصدفة، وغالبًا في نصف وعيه، لحي يرفض المهاجرين من نوعيته، ومن طبقته الاجتماعية البادية في كل تفاصيل ملابسه وطريقته في الحركة والكلام. دون أن يدرك قواعد المكان الداخل إليه، ودون أن يدرك أن أغلب سكان الحي يعرفون جيدًا الفرق بين مهاجر وآخر، وبين لاجئ وآخر. يعرفون من يقبلونهم، ومن يتوجب طردهم فورًا، كمهزومين.

لكن حينا لا يرفض فقط المهاجرين والغرباء من نوعية مصطفى، بل ينظر سكانه المستقرون بريبة لكل من يخرج عن دائرة التنميط التقليدي والمحافظ، مع بعض الاستثناءات.

أشرت قبل سطور إلى أن الطابق الأعلى من بناية السوبر ماركت مخصص لمحلات المواد الطازجة، فلنتوقف سريعًا عند بائع الدجاج، أو للدقة عند ابنه المتحول جنسيًا.

قبل بداية عملية التحول الجنسي من امرأة لرجل، ربما شك بعض سكان الحي، من رؤيتهم ابنة بائع الدجاج كثيرًا في الشارع، وبسبب طريقتها في السير والحديث مع العاملين في المطاعم، التي تحمل لهم المواد اللازمة لمطابخهم، أنها مثلية. ومع بداية عملية التحول وتعاطي الهرمونات، وتحولها فعلًا لرجل، بعضلات بارزة، اتجهت إليه الأنظار أكثر.

لكن الحي الذي تصوت أغلبيته لليمين، ومن ضمنه اليمين المتطرف الرافض للمثليين، ولعمليات التحول الجنسي إن كانت من رجل لامرأة، يقبله نسبيًا، وليس تمامًا، لمجرد أنها كانت امرأة وأصبحت رجلًا بعضلات، وليس العكس. رجل يسير في شوارع الحي دون أن يخشى أي اعتداء أو كلمات مهينة، ويتعامل بندية مع الجميع، بما فيهم بواب عمارتنا اليميني المتطرف الذي يتبادل معه الدعابات حين يمر أمامه.

مع بداية الغزو الروسي والحرب الأوكرانية تدفق على البلدان الأوروبية المختلفة، ومن ضمنها إسبانيا، مئات الآلاف من اللاجئات واللاجئين الأوكرانيين. كانوا في أغلبهم نساء بسبب قرارات الحرب التي أصدرتها الحكومة الأوكرانية بمنع خروج الذكور القادرين على حمل السلاح.

كان لشارعنا وحينا قدرًا وفيرًا منهن. لكن، من طبقة محددة؛ الأعلى، نساء شابات أو في منتصف العمر، بعضهن بصحبة أطفالهن، قادرات على دفع إيجارات المساكن المرتفعة في حينا، ولديهن مؤهلات مهنية واجتماعية تجعلهن قادرات على العيش الكريم نسبيًا في الحي، برواتبهن الجديدة المضافة للمساعدات كلاجئات.

لم تشهد أوروبا منذ عقود حالة مماثلة من التضامن مع نوعية محددة من اللاجئين، والحفاوة بهم، وإعطائهم مميزات لم ينالها اللاجئون الآتون في موجات أخرى سابقة، سواء أفغانية أو سورية أو غيرها. وكان المشهد الإعلامي مثيرًا للانتباه في تركيزه على نوعية محددة من النساء الأوكرانيات اللاجئات؛ شابات، يتحدثن الإسبانية ولو قليلًا، جميلات وأشبه بعارضات الأزياء، كأنه الكود الخاص جدًا الذي اختاره الإعلام كي يخاطب نفسية مجتمع إسباني محافظ وذكوري في أغلبه، مفرقًا بين هذا النوع من اللاجئات التي يستضيفهن في برامجه، ويحفز المواطنين على مساعدتهن، وبين نوعيات أخرى، من جنسيات أخرى، أفريقيات وعربيات محجبات، يأتين في مراكب الموت عبر المتوسط.

بعيدًا عن التنميط الإعلامي، المتحقق فعلًا في قدر لا بأس به من الأوكرانيات اللواتي سكنّ حينا، إلا أن الصورة الأوسع منه، تمثلت لدي في سيدة لا أعرف اسمها، ولا أجرؤ أن أعطيها اسمًا متخيلًا مثلما فعلت مع المغربي مصطفى.

تقترب السيدة الأوكرانية من إنهاء عقدها السادس من العمر، ترتدي ملابس أقل ما يقال عنها أنها غير مرتبة، أو ليست في أفضل حالاتها. كان الوقت ليلاً، واقتربت من مقعد خشبي آخر، مماثل لما جلس عليه سابقًا مصطفى ليكيد خصومه من أصحاب ومريدي البار. بدت وكأنها فقدت الاتزان، لكنها لم تسقط، وربما لذلك لم أجرؤ على الاقتراب منها إلا بعد أن اقتربت منها جارتي التي كانت تتنزه بكلبها، لتسألها عن حالتها وإن كانت تحتاج مساعدة، بعد أن استندت للمقعد.

كانت السيدة “…” تبكي. أخبرت السيدة الإسبانية بجمل قليلة، لم أستطع فهمها كلها بسبب صوتها الخفيض ولغتها الإسبانية المرتبكة، أنها بخير، لا تحتاج مساعدة أو عون طبي، هي فقط وحيدة. تعيش بمسكن بمفردها، تعمل، لكنها لا تتحدث مع أحد. وحيدة وفقط.

داعبت الكلب، وأخبرت صاحبته بأنها تركت كلبها في أوكرانيا عندما خرجوا، وأن نصيب ابنها في رحلة اللجوء العشوائي والفوضى والدمار أول أيام الحرب، كان تركيا. أما ابنتها فلم أعرف أين هي، إن كانت بقيت في أوكرانيا، أم لجئت إلى بلد آخر.

شكرت السيدة الأوكرانية نظيرتها الإسبانية. شكرتها على مجرد الحديث معها وسؤالها ولو قليلًا، فهزيمتها، غير الحربية، بسيطة، مجرد أنها وحيدة ولا تتحدث مع أحد.

رحلت المرأة الإسبانية بينما تحاول إخفاء دموعها. ربما تكون قد رأت بداخلها، في مرآة المرأة الأوكرانية، هذا الجانب الموجود فينا جميعًا، وتختلف ملامحه من شخص لآخر، جانب الهشاشة واحتمالية أن تُهزم بالصدفة، وفي مجرد لحظة واحدة. وكأنه لم يحدث في حياتنا بأكملها شيئًا قبل هذه اللحظة، مثل الأخ الأصغر لمارسلينو مينيندز بلايو الشهير.