fbpx

يكبرون في العمر.. بلا تاريخ ميلاد

يوماً بعد يوم صارت رحلتي الخاصة مع هؤلاء الأطفال هي جلّ اهتمامي.. رحلة مع أبطال من الحياة الواقعية، أو مع ظلال نحيلة منغمسة بأسلوب معيشةٍ قائم على التحرك طوال النهار في الشارع
ــــــــ العملــــــــ المـكـان
2 أبريل 2024

بدأت الحكاية في عام 2017 وبمحض الصدفة في وقت شارفت فيه حياتي على التغير، حين كنت أعمل في مجال المحاسبة ضمن شركة تأمين للحياة والصحة والعربات. رغبة طفولية نابعة من حبي للسينما كانت لا تزال عالقة في ذهني، اشتريت كاميرتي الأولى، وبدأت ألتقط ما يمكن التقاطه من مشاهد للحياة في سوريا بعد الحرب. مكنّتني الكاميرا من فهم تموضعي ضمن المحيط وسمحت لي ببناء جسور غير ملموسة مع آخرين. أصبحت حريصاً على نقل ما أعيشه، بدأت باستكشاف هوية مكاني ومدينتي، وتوثيق جوانب مختلفة من حياة عادية، مملّة أو استثنائية، حياةٌ مثقلة بهموم الحرب.

في خريف ذلك العام، رأيت طفلين -شقيقين كما افترضت- رثّي الملابس، يلعبان الغمّيضة (الاستغماية) بالقرب من المقهى الذي أرتاده عادة بعد انتهاء دوام العمل. راقبتهما عن كثب، يتحركّان بخفّة ورشاقة بين السيارات، يصيحان ببعضهما بأعلى صوت دون أن يعيرهما أحد اهتماماً أكثر من نظرة عابرة، ضحكاتهما الهيستيرية تنبع من جوف متعطش للتسلية. شعرت حينها أنهما حرّان من سياق الحرب الذي يخنقني على كرسيّي في المقهى. لم أتبين ما الذي كانا يفعلانه بالضبط كي يجمعا المال، فجسماهما الضئيلان كانا يختفيان كلّما ابتعدا خلف هياكل السيارات.

لم أكن مدركاً تماماً عندها أنني شخص فضولي، بدأت أتجوّل أكثر في الشوارع والأسواق والحدائق منتبهاً لتواجدهما وتواجد العديد مثلهما من الأطفال. ازداد انتباهي أكثر، وأخذت اكتشف شيئاً فشيئاً أن شعوري الأولي كان خاطئاً تماماً. سياق الحرب والعنف والظلم والموت والنزاعات الطائفية الإقليمية والقمع الممنهج ليس مسلوخاً عنهم، بل يتجسّد  في وجودهم، وفي حقيقة أن 90٪ من الأطفال السوريين يحتاجون للدعم والرعاية، وأكثرهم لا يذهبون للمدارس.

بعد ذلك بوقت قصير تركت عملي تماماً وتفرغّت للتصوير. أردت إنشاء خط مباشر بيني وبين هؤلاء، تردّدت في البداية لأنني توقعت رفضهم لي باعتباري مجرد عابر سبيل يرون مثله الكثير. أخذت أراقب وأصوّر أكثر، بدأت اعتاد نفسي وأنا أخصّص بضع ساعات من نشاطي اليومي كي ألتقط أنشطة حياتهم اليومية في جزء المدينة الذي اعتدت استعماله بكثرة، الشعلان.

الشعلان منطقة متناقضة طبقياً بشكل فج، محالّ تجارية بالجملة لثياب الماركات الغالية، مطاعم استهلاكية لكافة أنواع وأشكال وألوان الأكل، سوق سلع ومستلزمات غذائية وخضروات مقطّعة تعرف باسم سوق “التنابل” أو الكسالى؛ سوق مجهّزة لطبقة من المجتمع السوري لا تفرم البقدونس ولا تقشر الثوم ولا تحفر حبّات الكوسا بأيديها بل تشتريها مفرومة ومقطّعة ومحفورة.

هناك أيضاً سوق من المقاهي الفارهة متفاوتة المستوى والذوق، مرتع للتسكع للشباب الميسور، فهي تقع في قلب العاصمة من جهة، وفيها حديقتان عامتان من جهة أخرى، كل ذلك يجعلها مقصداً للعشرات من أطفال الشوارع بمختلف أعمارهم.

أخذ بعض الأولاد المنتشرين في الشعلان مع الوقت يعتادون على تواجدي مع كاميرتي في الجوار، وخاصة في المقهى حيث حدثت أغلبية الحكاية. كان بعض منهم يأتون ويجلسون معي فنتحدّث ونتواصل، وبدأت علاقتنا تتخذ شكلاً من الثقة والصداقة. يحاولون معي إظهار أفضل ماعندهم، يفشلون أغلب الوقت عندما يتصرفون بتلقائيّة وعفويّة. أولاد صغار أعمارهم لا تكسر سقف سنّ المراهقة، أغلبهم لا يعرفون أي حَرف من الأبجدية. أجسادهم السمراء تحكي حكايات كثيرة كلّها وقعت تحت الشمس، بعيون تملؤها نظرات الترقّب والجهوزيّة التامة للدخول في أي عراك أو مشادّة كلاميّة متوقعة ومعتادة.

مع مرور عامين إضافيين تعرّفت على زينب ثم علاء، طفلان مكتوما القيد لا يمتلكان ورقة تعترف بوجودهما في السجلات الرسمية، فتى كردي وبنت تركمانية جاءا من محافظتي القامشلي وحلب إلى دمشق، مدينتي الأم. لا يعرفان أعياد ميلادهما، وُلدا في بداية العقد المنصرم، ولدتهما الحرب تقريباً. عاشا معها انعدام العدالة الاجتماعية، يشتغلان في الشعلان ببيع البسكويت أو العلكة أو الورد للمارّة.

توالت جلساتنا بكثرة وتعرفنا على بعضنا أكثر، أخبراني أن التحدث إلى الناس أمر ممتع ولكن لا يفضله العديد من الآخرين، اتفقت معهما أن يأتيا ليجلسا معي ومع أصدقائي عندما يملّان العمل. لقد حرمتهما سجلات النفوس المدني من دخول المدرسة، من العلاج في المشفى الحكومي أو من الانتفاع بالبطاقة التموينية. أردت من خلال الكاميرا أن أذكّر نفسي على الأقل، أنهما رغم ذلك كله ما زالا موجودين.

مسألة مكتومي القيد في سوريا ليست جديدة تماماً، ففي عام 1962 تجاهل الإحصاء السكاني الاعتراف بآلاف الأشخاص بذريعة أن أصولهم ليست سورية، وكان كتمان القيد يستهدف بعض المكونات العرقية مثل الأكراد والتركمان، تعاملت معهم الدولة باعتبارهم “أجانب المحافظات”، ثم صدر مرسوم العام 2011 اعترف بالجزء الأكبر من “الأجانب”. لكن مع اشتعال الصراع المسلح، اتسعت رقعة الأطفال مكتومي القيد، خصوصاً المولودين في المناطق غير الخاضعة لسيطرة دمشق، ومع الوقت باتت العاصمة مقصداً لهم كنازحين.

يوماً بعد يوم صارت رحلتي الخاصة مع أصدقائي هؤلاء هي جلّ اهتمامي. أبطال من الحياة الواقعية، أو ربما ظلال نحيلة منغمسة بأسلوب معيشتها القائم على التحرك طوال النهار في الشارع، تحرّك يبني كتلة من التناقضات بين العمل القسري المدمر لجميع حقوق الأطفال، وبين تحديّات الحياة وتأمين لقمة العيش والقصة الشخصية لكل واحد منهم.

تم العمل على هذا المشروع ضمن برنامج التصوير الوثائقي العربي