fbpx

فلسطينيو الأغوار.. رحيل من كل الأماكن

وضعت السلطات الإسرائيلية عائلات المجتمع الرعوي الفلسطيني في الأغوار الشمالية، أمام خيارات مستحيلة. فمن جهة، يُحظر الانتقال إلى أية تجمعات رعوية أخرى، وفي نفس الوقت تهددهم تحت قوة السلاح بغرض التهجير
ــــــــ المـكـان
6 ديسمبر 2023

مع استمرار شراسة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وانتشار الهجمات الاستيطانية على سكان الضفة الغربية، لم تتوقف الشائعات عن مخطط يجري العمل عليه بهدف تقليص العدد، أعدادنا نحن  الفلسطينيون، من الضفة، كما تم الإعلان بأكثر من طريقة عن رغبة الاحتلال في تهجير أهل غزة إلى الأراضي المصرية. 

في ظل هذه الأوضاع يصبح من المنطقي أن يتم مهاجمة فئات أكثر تهميشًا وربما أقل حضورًا في المشهد العام، لذا بحثتُ عن فلسطينيين يعيشون في الخواصر الهشّة مثل التجمعات الرعوية في الأغوار، باعتبارهم هدفاً عادة ما يُنسى في خضم شلالات الدماء الجارية الآن.

خلال البحث وجدت قصة من الأغوار البعيدة لعائلة فلسطينية طُردت في عزّ النهار من مكان سكنها، نتيجة هجمات المستوطنين وممارسات سلطات الاحتلال، فقابلت عائلة كعابنة، التي قلب قرار لضابط إسرائيلي حياتها رأساً على عقب.

يعيش طارق كعابنة وأخوه علي وزوجاتهم وأطفالهم في تجمع فلسطيني رعوي صغير يُدعى “واد الفاو” شرق محافظة طوباس، في الأغوار الشمالية الفلسطينية. ومنذ 13 عاماً، نصبت عائلة كعابنة خيمها في هذه البقعة التي استأجرتها من مواطن فلسطيني آخر، وتقع بمحاذاة شارع “ألون” الاستيطاني.

تضم منطقة الأغوار الفلسطينية حوالي 30٪ من أراضي الضفة الغربية، وتنقسم إلى أغوار شمالية وأخرى جنوبية، فتمتد على طول الضفة الغربية لتشكل منطقة حدودية مع الأردن تضم نهر الأردن وبحيرة طبريا وسهل بحيرة الحولة والبحر الميت. وبحسب آخر تقدير للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني بلغ عدد سكان الأغوار الشمالية وطوباس من الفلسطينيين في منتصف هذا العام أكثر من 68 ألف نسمة، في مقابل 11 ألف مستوطن إسرائيلي غير قانوني.

وفي الوقت الذي شكّلت فيه منطقة الأغوار مصدر ثروات هام لأراضي فلسطين التاريخية، فقد عمد الاحتلال على تهجير أكثر من 50 ألف من سكانها منذ العام 1967، إلا أن المنطقة حتى اليوم تشكل 50٪ من الرقعة الزراعية الفلسطينية، وتزود السوق المحلي بحوالي 60٪ من الخضر والفاكهة، وفيها 45٪ من المساحات الرعوية التي تنتج أكثر من 40٪ من الثروة الحيوانية الفلسطينية، بالإضافة لكونها تضم ما يفوق 50٪ من مصادر المياه الجوفية في الأراضي الفلسطينية طبقاً لحدود العام 1967. 

وعلى الرغم من وقوع أراضي الأغوار ضمن حدود الضفة الغربية، إلا أن الاحتلال الإسرائيلي يسيطر على حوالي 90٪ منها، وأنشأ فيها 35 مستوطنة كبيرة غير عشرات البؤر الاستيطانية الصغيرة والثكنات العسكرية، على أنقاض 700 وحدة سكنية و800 منشأة زراعية فلسطينية، هدمها في أعوام قليلة. وطالما اعتبر الاحتلال منطقة الأغوار منطقة استراتيجية إذ تضم الحدود الشرقية مع الأردن، غير أن جغرافيتها النادرة، وكثرة المياه فيها، يجعلها منطقة زراعية هامة. على سبيل المثال بلغت أرباح المستوطنات غير القانونية من الصادرات الزراعية من الأغوار نحو 650 مليون دولار سنوياً، في مقابل خسارة فلسطينية قدرها 800 مليون دولار سنوياً جرّاء السيطرة الإسرائيلية، وفق تقديرات عام 2012.

بالعودة لعائلة كعابنة، هجم مستوطنان صغيرا السنّ، في الثالث عشر من تشرين أول/ أكتوبر، على خيمة طارق بالعصيّ. تواجه الطرفان حتى جاء مستوطن رعوي أكبر في السن بسيارته يعرفه الجميع باسم “عوري كوهين”، اعتقد طارق في البداية أنه قادم لوقف الاعتداء ليتفاجأ أن كوهين ضربه بكعب بندقية عسكرية عند أذنه حتى نفر دمه وسال. 

ذُعرت طفلته ذات العامين ونصف واختبأت في مكان وجدته صدفة. بدأ الصراخ يعلو والعراك يزداد حدّة بين مستوطنين مسلحين بالرصاص والعصي، وبين عائلة كعابنة عارية اليدين. 

في خضم ذلك، حضرت سيارة شرطة، ثم الثانية فالثالثة، ليعتقلوا طارق وأخيه علي وابنه، وينقلوهم معاً نحو مركز شرطة بنيامين الإسرائيلي شرق رام الله، ليجدوا أن المستوطنين قد قدموا شكوى ضدهم بدعوى الاعتداء عليهم.

وقع كل ذلك في يوم واحد، كأن كل شيء معد سلفاً. تأكد ذلك عندما تجمع أفراد وأقارب عائلة كعابنة إثر اعتقال ربّ الأسرة، وهددتهم الشرطة الإسرائيلية بالسلاح، وطالبتهم بضرورة إخلاء المكان والرحيل.

تصوير وصال الشيخ

75 كيلومتر في 7 ساعات

كان وصولي إلى عائلة كعابنة في مسكنها المؤقت شاقاً. المكان يبعد عن رام الله حوالي 75 كيلومتر، الوقت المفترض استهلاكه حتى الوصول لا يزيد عن 90 دقيقة، لكن بسبب جدار الفصل العنصري، والإجراءات الإسرائيلية الرامية إلى تقطيع أوصال الضفة الفلسطينية، زاد وقت المشوار لأكثر من 7 ساعات، تخللهم المرور بحاجزين عسكريين إسرائيليين يفصلان الأغوار الفلسطينية عن باقي الضفة من الشمال، وهما “تياسير” و”الحمرا”.

رافقتُ الناشط الفلسطيني، أيمن غريب، في مغامرة عبر طريق وعرة وترابية في غاية الصعوبة والخشونة، تبدأ من خربة “ابزيق” وسهلها، ثم واد يدعى بوادي “الخشنة”، تنقطع فيه الطرق والاتصالات، حتى وصلنا بعد ساعة ونصف تقريباً إلى خربة “قاعون” إلى أن دخلنا شوارع قرية “بردلة”، وتابعنا المسار طويلاً حتى وصلنا أخيرًا إلى مسكن كعابنة المؤقت. 

استقبلتنا زوجة طارق “أم محمد” ومعها طفلها ذي العام. أخبرتنا أن زوجها غير موجود. انتظرناه، وخلال هذا الوقت سردت استفزازات المستوطنين التي زادت منذ مطلع الصيف الفائت. 

قالت أم محمد: “في شهر حزيران/ يونيو كنت مع أبنائي (14 عاماً، و4 أعوام، وطفل عمره سنة) وحيدين في الخيمة. كانت سلفتي تتعافى من ولادتها وتسكن في بيت العائلة في بلدة العوجا (قضاء أريحا)، وزوجي يقضي عملاً في طوباس، وعلي (أخ الزوج) يرعى الغنم بعيداً، أما الجيران فهم يسكنون على مقربة ثلاث كيلومترات.. هذه طبيعتنا نحن الرعاة نتجاور لكن على مسافات بعيدة بسبب حاجتنا للأماكن الواسعة والرحبة. سمعت صوتاً في الخارج، شققت الباب قليلاً ورأيت أربعة مستوطنين يقودون سيارة ويفحّطون بها أمام الخيمة بأصوات عالية”.

استطردت: “تجمدت من الخوف، وزاد توتري لأنني كلما اتصلت بزوجي وجدت الهاتف مغلقاً، هدأت من بكاء أطفالي، اتصلت بسلفي علي، وطلبت منه العودة فوراً”. تكررت تلك الاستعراضات الاستفزازية كثيراً. تبدأ فجأة، وبمجرد تحقق الخوف والذعر، تنتهي فجأة.

جلست مع أم محمد في الخيمة الجديدة في التجمع المؤقت الذي لجؤوا إليه بعد ترحيلهم والتي قسموها بين معيشتهم وبين رؤوس الأغنام التي تملكها العائلة (300 رأس). المكان غير المهيأ لأي ظرف معيشي زاد من معاناة الأسرة واضطرابها النفسي والاجتماعي والاقتصادي. 

تقول: “في الأيام الأخيرة قبل ترحيلنا أصبحت أكثر استعداداً لأي اعتداء. توقفت عن ارتداء ملابس للنوم منذ ذلك الحين، أصبحت أنام مرتدية عباءة الخروج”. 

في الهجمة الأخيرة وضعت السلطات الإسرائيلية عائلة كعابنة، حالها حال عائلات المجتمع الرعوي الفلسطيني في الأغوار الشمالية، أمام خيارات مستحيلة. فمن جهة، تحظر الشرطة الإسرائيلية انتقال العائلات إلى أية تجمعات رعوية أخرى، وفي نفس الوقت تهددهم تحت قوة السلاح بغرض التهجير. رسميًا، لا يحدث ذلك بحسب أية قرارات صادرة عن حكومة الاحتلال، فتكون الرسالة الحقيقية المُراد توصيلها: “ارحلوا نحو عمق الضفة، أو الأردن”.

تصوير وصال الشيخ

العيش جوار المستوطنات

يوم خروج عائلة كعابنة من واد الفاو نحو مهجرهم المجهول، عاد مستوطنين يحتلون بؤراً استيطانية رعوية صغيرة وعشوائية مثل “كوهين” و”إسرائيل” متناثرة حول تلال “واد الفاو” لاستفزاز العائلة مجددًا. جاؤوا بسياراتهم وأغلقوا مدخل خيمة كعابنة وبدأوا بالاعتداء عليهم بالعصيّ.

غيّرت هجمات المستوطنين روتين العائلة التي تتألف غالبيتها من الأطفال، فالزوج لم يعد يترك الخيمة، ويرابط ليلاً وينام نهاراً متأهباً للدفاع عنهم، والأخ علي يسرح مع الغنم بين الفينة والأخرى، والأطفال يلعبون داخل الخيم والنساء يعملن عن قرب.

يعيش الفلسطينيون في الأغوار مع عدة أشكال من الاحتلال، التواجد العسكري في الثكنات والحواجز وعلى الطرق، الاستيطان المعتاد ضمن تجمعات أو بؤر محددة، الاستيطان الرعوي، أي المناطق المفتوحة في الخلاء التي يستطيع المستوطن الوصول لها وهو يرعى ماشيته.

تقول أم محمد إن عائلتها لم تتخلص من استفزازات المستوطنين يوماً :”كانوا يطلقون أبواق السيارات ويوجهون إضاءة الكشافات الكبيرة والمزعجة على خيمتنا لمنعنا من النوم، يهددون طارق بالقتل، ونحن أصبحنا نعيش الخوف بشكل يومي”.

تتذكر أم محمد تفاصيل يوم التهجير من وادي الفاو، داهمتهم شرطة الاحتلال في الواحدة ونصف ظهراً، “مباشرة جمعت المال، وحليب الأطفال، وبعض الملابس. لحقوا ابن سلفي نحو الخيمة، ضربوه أيضاً، ومنعونا من حمل أي متاع، لكنه استطاع حمل حقيبتين ممتلئتين بالملابس. وهرّبنا الغنم نحو الجيران، وإلّا سيسرقه المستوطنون كالعادة”.

تستطرد: “اعتقلوا زوجي وسلفي علي، حضّرنا لهم ملابس، تأهبنا أنهم لن يعودوا في القريب، ثم بعد ساعات أطلقوا سراحهم لنكتشف أن المستوطنين قدموا شكوى ضدنا بأننا اعتدينا عليهم.. عندما اجتمع أقارب العائلة بعد حبس الرجال، علمت الشرطة الإسرائيلية بتواجدهم فحضرت للمكان، كسّروا الكراسي وبدأوا بتفريق الجمع ثم طلبوا منهم أخذنا نحن النساء فقط والرحيل فوراً من التجمع”.

وادِ الفاو تجمع مؤلف من عدة عائلات فلسطينية، وهو منطقة شبه جرداء صالحة للرعي. ويعيش أهاليه مع اعتداءات مستوطنين قديمة ومتواصلة، إذ يقع التجمع بين مستوطنتي “حميدات” (مقامة عام 1980) و”مسكيوت أو معسكر الأفعى” (مقامة عام 1983)، وهما ذات طبيعة عسكرية وأقيمتا على أراضي منطقة المالح التابعة لأراضي تياسير وطوباس الفلسطينيتين.

بعد عملية “طوفان الأقصى”، صعّدت إسرائيل من مساعي تهجير تجمّعات فلسطينيّة وعائلات معزولة عن منازلها وأراضيها، فارتفعت حدة وتيرة وشدة عنف المستوطنين في المناطق الهشة بدعم من شرطة وجنود الاحتلال وحتى بمشاركتهم، تحت غطاء الحرب بدون أي رادع أو رقيب حكومي أو حقوقي.

الحكومة الإسرائيلية عززت وضع مستوطني الضفة بمنحهم تسهيلات بالتسلح تحت ذرائع واهية، وذلك جزء من سياسة تطبقها إسرائيل في الأغوار منذ سنوات طويلة حيث تنغصّ على السكان عيشهم وتطاردهم في مسكنهم ومراعيهم. فهذه التجمعات عرضة للتفتيش المفاجئ من عناصر الإدارة المدنية والشرطة الإسرائيلية، واللتان بإمكانهما منع قاطني التجمعات من البناء والتوسع، ومراقبتهم عبر الطائرات من دون طيّار (الدرون) على مدار الساعة، وحصارهم في المراعي ومصادر المياه، والتضييق عليهم من طرف المستوطنين حتى يضطر هؤلاء للرحيل عن أراضيهم وكأنمّا بمحض إرادتهم.

على الجهة الأخرى، يتمتع الاستيطان الرعوي بمرونة كبيرة تعطيه مساحة أكبر في الاعتداء المفتوح على الأراضي والمواطنين الفلسطينيين، فأولئك ليسوا موجودين بحسب قرار حكومي يحدد حدود المستوطنة، بل إنهم طليقي الحركة في الأراضي الفلسطينية، الواقعة داخل حدود الضفة، يستهدفون التجمعات السكانية البعيدة عن الرصد والإدانة الإعلامية أو الرسمية، بحجة الرعي.

وبحسب اتفاقية أوسلو الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي عام 1993، فإن الضفة الغربية تنقسم لثلاثة مناطق هم: (أ) حوالي 3٪ من الضفة الغربية وتخضع لسيطرة السلطة الفلسطينية، و(ب) وتشكل حوالي 25٪ من أراضي الضفة، وتخضع لسيطرة مدنية فلسطينية، وأمنية وعسكرية مشتركة بين إسرائيل والسلطة، وأخيراً المنطقة (ج) والتي تشكل حوالي 72٪ من أراضي الضفة، وتخضع لسيطرة مدنية وأمنية إسرائيلية كاملة، وتلك الأخيرة تضم معظم أراضي الأغوار.

تصوير وصال الشيخ

“ثلاثة أيام لنزيل زبل الغنم” 

فجأة وجدت عائلة كعابنة نفسها في اللاشيء. عليها أن تخلي خيمتها في واد الفاو، ويحظر عليها الانتقال لأي تجمع آخر في الأغوار. بالطبع ليس واردًا خرق الحدود نحو الأراضي الأردنية، وكذلك العودة مع الأغنام نحو عمق الضفة يعني ضياع مصدر رزقهم الوحيد وفقدان ماشيتهم. انتقلوا سراً لتجمع رعوي آخر، مُنح المكان لعائلة كعابنة على عجل وكان أساساً مشتى وزريبة غنم  تعود لأحد الأقارب. وعندما وصلت كعابنة من “واد الفاو”، كان عليهم تنظيف المكان وإعادة تأهيله بما يناسب عيشهم.

أمضت النساء والأولاد البالغين ثلاثة أيام وهم يتخلصون من زبل ومخلفات الغنم المتراكم في خيمة من الزينكو وهي في الأصل مسكن للغنم، فرشوا الأرضية ووضعوا فراشهم وثلاجة مشتركة بين طارق وعائلة أخيه علي، وألعاب الأطفال، وظلت الخيمة بباب بلاستيكي، وأرضية خارجية مغطاة بشادر أسود فوق زبل الغنم الذي ظل تبقى منتشراً خارج الخيمة.

على عجل، وضعت العائلة خيمتين متجاورتين غير مؤهلتان للشتاء القادم، لا للحماية من الأمطار ولا لصد الرياح. أسقف الخيم التي تسكنها العائلة عبارة عن شوادر أو “زينكو” غير المعزول وتكثر فيه ثقوب كبيرة، والأرضية ترابية مائلة، والجدران قماشية أو زينكو. أسلاك الكهرباء الخارجة من ألواح الطاقة الشمسية التي استطاعت العائلة إزالتها بسرعة يوم الترحيل مكشوفة، وقد يصبح الوضع كارثياً في الشتاء خاصة أن خيمة السكن المشترك جاءت منحدرة في الأسفل من خيمة الأغنام وملاصقة لها. وقد يؤدي الماء المختلط بالتراب وزبل الغنم إلى تعقيد الوضع المعيشي والصحي للأسرة، ناهيك عن ظروف الطقس القاسية في تلك المنطقة النائية.

أما الخيمتان المنصوبتان مؤقتاً فهما من نوع الخيم الصغيرة، كدست فيهما العائلتان لوازمهم من خزائن الملابس، أسرّة النوم، حبال الغسيل فوق أرضية ترابية غير مستوية، بمساحة تنفي الخصوصية بين أفراد العائلة.

تذكر أم محمد مسكنهم في “واد الفاو”، تقول: “لا يمكن المقارنة. كنا نعيش في الخيم صحيح من 13 سنة، لكن كانت الحياة أكثر بساطة هناك ولدينا متسع من كل شيء”.

لم ينتهِ كابوس الترحيل لدى عائلة طارق حتى شهدت فصلاً جديداً من عنف المستوطنين. عندما عاد طارق كعابنة من عمله وجلس معنا، قال إن “في 30 تشرين أول/ أكتوبر هاتفني جار لي في واد الفاو وأخبرني أن المستوطنين جاؤوا وحرقوا بعض أغراضنا.. لا أعرف ما هي”.

رتبنّا زيارة مشتركة لمكان طارق الأصلي في واد الفاو بعد انتهاء المقابلة. طلبنا منه توثيق ما حدث لهم عند الترحيل بالكاميرا. فالشوارع خالية من حركة المستوطنين يوم السبت، وهو يوم آمن نسبياً للتحرك من مكان لآخر.

يروي طارق تاريخاً طويلاً من المضايقات، يقول:”كان الجيش والإدارة المدنية في البداية يقومان بالمضايقات، يرسلون لنا بلاغات الترحيل وحظر البناء وتفتيش دائم للمكان، رغم ذلك صمدت. اليوم اعتداءات المستوطنين تأتي في شكل مختلف كلياً.. كنت متقيناً منذ عام حول مسألة الترحيل، هم يؤذوننا في رزقنا”، مضيفا: “عندما رحلت فكّرت بأمان أطفالي.. لا مستقبل  لهذا المكان”.

يحتل الاستيطان الرعوي الشكل الأبرز في الأغوار الفلسطينية حالياً، وبسببه تتعدد أشكال المضايقات ضد السكان الفلسطينيين هناك، يوضح كعابنة: “المراعي هي حجة المستوطنين، وهو تضييق دون هدم أو أمر من الإدارة المدنية. سياسة المستوطن هي الإيذاء، مستخدماً القانون الإسرائيلي واستغلال حالة الطوارئ، وتصرفات غير أخلاقية، كنّا نتفاجئ بهم وهم مثلاً: يتمرغون بالتراب ثم يسبحون بتنكات الماء الحلوة الخاصة بنا، أو يضعوا حجراً في أي مكان ويقول: (هذا لي) كحجة للعودة”.

تمتلك العائلة اليوم 300 رأس غنم، لكنّ طارق وزوجته تستحوذ عليهما أفكار متناقضة بعد الترحيل. الزوج طارق يفكر بالرحيل إلى تجمع آخر مع غنمه ويعود لروتينه القديم في رعي الأغنام وقطع المسافات الطويلة لأجل ذلك، والزوجة تحلم بمكان آخر. يقول: “زوجتي تريد الاستقرار مع أطفالي ببلدة العوجا (قضاء أريحا)، لكن هل أبيع جزءاً من غنمي وأستقرّ وأتحول إلى عامل مياومة؟! نحن تعودنا على الشقاء.. ذهني مشتت ولست حاسماً بأي قرار”.

رغم الطبيعة الجغرافية لمكان الإقامة السابق والإقامة المؤقتة، ينفي طارق بحرقة أنهما متشابهان، فضلاً عن التحديات الجديدة للمكان المؤقت، يقول: “أعرف جيداً المساحات التي كانت طفلتي تلعب بها، لها في واد الفاو مخبأ خصصته لنفسها عند هجوم المستوطنين، وبيتنا ذو المساحة الأوسع.. تربيت بالمكان، واليوم لا أستطيع النظر إلى بقية الأغراض”، مردفاً: “أدرك تماماً أن المناخ تغيّر على نعاجي، نحن نعيش حالياً في منطقة جبلية تلائم الغنم السمراء فقط، وأصلاً لا مرعى لهم هنا، نحن محاصرون بمعسكر جيش إسرائيلي”. وأضاف: “لا يمكنني لفت نظر الإدارة المدينة بالبناء في المكان المؤقت. ولا يمكن التسبب بمشاكل للجيران”.

لا يخفى الخوف الذي عاشته العائلة، ولا تزال، أمام قصور الحماية التي يُفترض أنّ توفرها لهم المنظمات الدولية العاملة بمثل هذه التجمعات، أو حتى الجهات الرسمية الفلسطينية، مثل محافظة طوباس. يقول طارق: “لم تقدّم لنا المحافظة أي وسائل حماية أو دعم، بل إنهم يقترحون علينا الانتقال إلى تجمعات أكثر خطورة. أنا لا أنتقل من نار إلى أخرى”.

كانت زيارتنا لمكان خيمته في واد الفاو مع طارق بعد انتهاء المقابلة هي أول عودة له للمكان. الشوارع خالية وهدوءها يثير الريبة، وبينما نقترب من واد الفاو مررنا بتجمع “عين الحلوة” الرعوي. كان المستوطنون قد تركوا عمداً أعلاماً إسرائيلية على مداخل التجمع كفرض سيطرة وتهديد لهم بالترحيل، في حين استحدث جيش الاحتلال بؤرة عسكرية مطلة على مفرق “عين الحلوة” كجزء مباشر من التهديد.

كان الوقت ملائماً لطارق حتى يتفقد خيمته المدمرة وبالة الغنم المحروقة، والمطبخ المهدم، والأقواس الحديدية المكسّرة. دقائق معدودة من تواجدنا في المكان، لحقت بنا سيارة شرطة إسرائيلية، وقفت في الحوش، وطلبت منّا إبراز هويتنا، أخذوا أسماءنا ثم رحلوا.

بعد أن تفقدنا المكان مع طارق، اكتشفنا أن المستوطنين قد سرقوا مدفأة العائلة، ومعدات زراعية، غير لعب الأطفال. يضحك طارق ويقول: “نعم.. هم لديهم أطفالهم ويسرقون لهم الألعاب”.

أحصى طارق خلال جولتنا بالمكان أن كوبين من الحطب وستة أطنان من القمح وحوالي 150 بالة للغنم تم حرقهنّ، وسرقة خزانات وبراميل ماء وبعض المقتنيات الأخرى.

Previous slide
Next slide
Previous slide
Next slide

تصوير وصال الشيخ

16 تجمعاً رعوياً مهجّراً 

يستغلّ المستوطنون حالة الحرب على قطاع غزة وانقطاع زيارات نشطاء السلام لمثل هذه التجمعات أو وصول المنظمات الدولية أو الرسمية الداعمة لصمودهم في أراضيهم، كغطاء لارتكاب مزيد من الاعتداءات ضد التجمعات الفلسطينية شمالاً وجنوباً، وثقتها عدة جهات حقوقية ورسمية، منها  “مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة” (بتسيلم).

وتحت عنوان “تهجير قسري لتجمّعات وعائلات معزولة في مناطق (ج) تحت ستار الحرب” أوردت “بتسيلم” في تقريرها (حدثته يوم 30 تشرين الثاني/ نوفمبر) أن 16 تجمعاً فلسطينياً معزولا في مناطق “ج” هُجرت بالكامل، منها خربة “زنوتة”، “عين الرشاش”، “خلّة الحمرا”، “مليحات”، “جنوب الناصرية”، “مجاور لتقوع”، “الرظيم” وغيرها والتي تتوزع جغرافياً بين الخليل وبيت لحم، كان يقطنها حوالي (149 عائلة) بمجموع (847) نفراً، من بينهم (320) قاصراً، إثر اعتداءات بسبب تهديدات المستوطنين ليلاً نهاراً وسرقة الأغنام وتدمير المنشآت الزراعية والحيوانية، وإغلاق بعض الأراضي واعتبارها مناطق عسكرية مغلقة.

بينما بلغ عدد التجمعات التي هُجّر قسم من عائلاتها ستة تجمعات، وهي خربة “سوسيا، جنوبيّ عين شبلي، خربة سمرة، نبع الغزال/ الفارسية، خلة حمد/ خربة تل الحمة، بدو جيبّاس”، وهي مناطق تتوزع بين أريحا ورام الله. إذ رحلت إحدى عشر عائلة (89 نفراً) بينهم 32 قاصراً.

علاوة على ذلك، هناك حوالي 27 تجمعاً فلسطينياً مختلفاً تعرضوا لهجوم المستوطنين منذ أحداث “طوفان الأقصى” حتى اليوم. وقد شكّل تهجير أهالي “واد السيق” فضيحة لجيش الاحتلال ومستوطنيه عندما نشرت صحيفة “هآرتس” تقريراً أثناء الحرب عن فيديو مسرّب يوم يوثق يوماً كاملاً من اعتداء المستوطنين من مجموعات “فتية التلال” بالتعاون مع الجيش على ثلاثة فلسطينيين من تجمع “واد السيق”.

أظهر التقرير آثار حرق سجائر وضرب ومحاولة اعتداء جنسي بعد أن قيد المستوطنون أيدي الفلسطينيين الثلاث وعرضوهم لثلاث ساعات من الضرب المبرح، وجردوهم حتى من ملابسهم الداخلية، وتصويرهم مكبلي الأيدي. وقام خاطفوهم، حسب “هآرتس” بالتبول على اثنين منهم وأطفأوا السجائر المشتعلة بأجسادهم. كما سُجلت محاولة اعتداء جنسي على أحدهم.

دون مساءلة، تكثّفت اعتداءات المستوطنين على هذه التجمعات بشكل يومي تقريباً وفق تقارير حقوقية، ويتم تنفيذ هذه الاعتداءات ليلاً نهاراً دون توقف، وبعض المستوطنين الذين يشاركون في هذه الأحداث تم تجنيدهم في الاحتياط خلال الحرب الحالية وهم ينفذون هذه الأعمال نفسها في إطار خدمتهم العسكرية.

لم تسجلّ حتى اللحظة أي حادثة جمعت فيها الشرطة الإسرائيلية أدلة على الاعتداءات أو تعتقل المسؤولين عنها وفق “بتسيلم”، على العكس يقومون بتهديد مقدمي الشكوى من الفلسطينيين واعتقالهم ثم ترحيلهم.

ينتهي الحال دومًا مثلما حدث مع عائلة كعابنة، “تم اقتيادنا لمركز بنيامين، لم تأخذ الشرطة الإسرائيلية منّا أية إفادات، بل حققوا معنا كمتهمين بالاعتداء على المستوطنين، تم إخلائنا بعدها، وهرولنا نقطع مسافة 10 كيلومترات على الأقدام لنلحق بالعائلة في “واد الفاو”، خوفاً من هجمة استيطانية جديدة”.. وهكذا.

Previous slide
Next slide
Previous slide
Next slide

تصوير وصال الشيخ