fbpx
عائلة يهودية قضت في الهلوكوست 1942، وعائلة أرمنية قضت في المذبحة 1915-1923. خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

أوروبا.. ومحرقتان

"الاستثناء" الذي يحيط بالمحرقة يجعل من المقارنة بينها وبين أية جريمة أخرى، أو أي محاولة لوضعها في سياق، وأي نوع من المساءلة لـ "فهم" المسؤولية، أمراُ مرفوضاً، باعتبار أنه إنكار أو استهانة بالمحرقة نفسها
ــــــــ ماضي مستمر
3 يناير 2024

نعيش هذه الأيام حملة مكارثية أوروبية فيما يتعلق بانتقاد اسرائيل، وهي حملة تنذر بمآلات أسوأ حتى من المكارثية نفسها، وتفصح الكثير عن المستقبل الذي ينتظر المسلمين والعرب في أوروبا، الذين يبدو أنهم باتوا يشغلون موضوعياً ذات الموقع الذي شغله اليهود في القرن العشرين وما قبله.

في هذا السياق نسوق هنا مجموعة من الملاحظات المتعلقة بالموقف الألماني، وإلى حدّ ما الأوروبي، وهي ملاحظات تنقسم إلى مجموعتين أساسيتين، تسعى الأولى للبقاء في إطار المنطق الخاص بـ “الليبرالية وحقوق الإنسان” الذي يؤطر الدولة الأوروبية الحديثة، أقله كما هو معلن.

في حين تهدف المجموعة الثانية من الملاحظات إلى فهم السياق نفسه بشكل واقعي، وبالتالي -وبالضرورة- متحرراً من المقدمات الليبرالية. فالغاية منها ستكون فهم وتفسير مايحدث أمامنا دون الاهتمام بالإدعاءات الأخلاقية المصرح بها، بل وبشكل أكثر تحديداً، عبر تكذيب هذه الادعاءات بوصفها لا تتعدى أيديولوجيا (أو أكاذيب) تخفي وراءها علاقات القوة والهيمنة، وتستخدم بشكل أداتي لفرض وترسيخ سلطة الأقوياء في هذا العالم.

بتعبير آخر، تهتم المجموعة الأولى من الملاحظات بمناقشة مع الفاعلين حول مدى اتساق إدعاءاتهم ومسوغاتها، أما الثانية فتحاول تفسير ما يحصل من موقع المراقب وبغض النظر عن هذه الإدعاءات.

لكن قبل الشروع بتقديم تلك الملاحظات يجب أن نذكر أن هناك ملامح تميز عصرنا عن العصور السابقة، أحدها بالتأكيد هو الاهتمام بحقوق الإنسان وأخلاق الحرب، وهي أمور شهدت تحسناً لا يمكن نكرانه، وإن لم يكن تحسناً يشعر به جميع سكان المعمورة بالطبع.

لم يتوقف البشر الذين يوماً من الأيام عن ذبح بعضهم البعض وصولاً إلى الإبادة التامة في أحيان كثيرة ولأسباب عديدة، لكنهم اليوم في عصرنا هذا، وللمرة الأولى، يرتكبون هذه المذابح تحت اسم “الحضارة” و”التقدم” والمبادئ الأخلاقية العليا.. فلا يكتفون بقتل أعدائهم، إنما يسعون إلى تسويغ  فعل القتل وإعطائه شرعية عمومية عبر تجريم الضحية..

لكن هناك ميزة أخرى شديدة الأهمية لا يجب نسيانها سوف ترافقنا طوال النقاش اللاحق، وهي أن البشر الذين لم يتوقفوا يوماً من الأيام عن ذبح بعضهم البعض وصولاً إلى الإبادة التامة في أحيان كثيرة ولأسباب عديدة، هم اليوم في عصرنا هذا، وللمرة الأولى، يرتكبون هذه المذابح تحت اسم “الحضارة” و”التقدم” والمبادئ الأخلاقية العليا. فالبشر لا يكتفون هنا بقتل أعدائهم، إنما يسعون إلى تسويغ  فعل القتل وإعطائه شرعية عمومية عبر تجريم الضحية.

سابقاً، كانوا يقتلون ويبررون هذا القتل لأنفسهم، على أنها قبيلة أخرى أو دين آخر، وهي تبريرات لم تكن تتجاوز في صلاحيتها حدود الجماعة نفسها، أما الآن فأصبحت ادعاءات الصلاحية التي تبرر القتل ذات طبيعة كونية وبالتالي صارت مسألة ضبطها وتنظيمها والسيطرة عليها مسألة حاسمة.

بهذا المعنى، يمكن النظر لـمقولات “حقوق الإنسان” على أنها أيديولوجيا هيمنة مثلها مثل “المسيحية” في عصور سابقة، لكن الفرق أن المسيحية كأيديولوجيا تبرير لم تكن تتجاوز في حدود صلاحية إدعاءاتها نطاق الجماعة المسيحية نفسها فيما صلاحية “حقوق الإنسان” عامة وليست محصورة في نطاق جماعة محددة.

المسيحية كانت دعوى عمومية، تبشيرية، لكن قبول صلاحيتها يفترض التحول إليها. اليوم نقف أمام أيديولوجيا لا تطلب منك حتى التحول إليها لكي تقبل صلاحيتها، إنما صلاحيتها تسري مباشرة على الجميع، الذين عليهم أن يقولبوا أنفسهم عنوة داخل نطاق صلاحية هذه الإدعاءات.

هكذا تظهر الميزة شديدة الإمبريالية لمثل هذا الخطاب. لكن هناك أيضاً شق آخر، وهو أن هذه العمومية تسمح للآخرين عموماً، استدخال إدعاءاتهم بوصفها جزءاً من خطاب الحقوق نفسه. وهذا ما يفرض على الأقوياء في أحيان عديدة التدخل بشكل قسري لتنظيم الخطاب نفسه في مواجهة التحديات الناجمة عن مطالبات الآخرين، وتحديد ما هو داخل “الحقوق” وما هو خارجها. بالتأكيد الإمكانية التحررية هي مجرد إمكانية محكومة بعلاقات القوة.

النظر من داخل المنطق الخاص بالليبرالية

يعتمد الانحياز الأوروبي، وخاصة الألماني، على المحاججة التالية، وهي أن الانحياز لإسرائيل هو نتيجة للواجب الأخلاقي للأوربيين تجاه اليهود (باعتبار إسرائيل ممثلة عن الجماعة اليهودية)، الواجب الناجم عما حصل لليهود في أوروبا. وهذا الواجب الأخلاقي، المعرّف عبر الاعتراف والمسؤولية الدائمة تجاه الضحايا اليهود/الإسرائيليين، هو ما يبرر هذا الانحياز. كما أن “استثنائية” أو “فرادة” ما حصل من قبل الدول الأوروبية (مرة أخرى وبشكل خاص ألمانيا) بحق اليهود من إبادة، هي ما يسوغ الانحياز الاستثنائي لإسرائيل ومواجهة دؤوبة وتامة لكل أشكال العداء للسامية. 

تبدو هنا مجموعة من الأمور المترابطة والتي يقود بعضها إلى بعض. فالاعتراف بالإبادة تعني المسؤولية تجاه الضحايا اليهود والسعي إلى منع تكرار ما حصل لهم مرة أخرى، وهي مسؤولية دائمة، ومدى هذه المسؤولية يتسع بشدة من خلال الإحالة إلى الاستثناء الذي مثلته المحرقة، فهي أمر (ولنقل خطيئة) استثنائيّ، يتطلب ندماً ومغفرة استثنائية بدورها.

غير أن الملاحظات التالية هي محاولة، من داخل نظام المعايير نفسها لليبرالية وحقوق الإنسان، للمحاججة بأن هذه الأشياء التي تبدو مرتبطة ببعضها البعض ليست في الواقع كذلك.

وما هو أسوأ أنها لا تواجه تحديداً ما تعلن عن مواجهته وما تشرعن نفسها بناءً عليه، وهو عدم تكرار ما حصل بحق اليهود، كما أنها لا تواجه المنطق الذي أدى إلى حصول ما حصل.

“الاعتراف” في مواجهة “الاستثناء”

لم يكن العداء للسامية وما ترتب عنه أمراً عادياً، فالمحرقة التي حصلت لليهود في أوروبا وراح ضحيتها 6 ملايين يهودي أمر مهول لا يمكن التعامل معه باعتباره مجرد مجزرة من المجازر العديدة التي عرفها التاريخ. فما حصل كان مسعى منظماً لإبادة جماعة بشرية كاملة (اليهود) بشكل نهائي داخل أوروبا وذلك عبر استخدام عنف الدولة بشكل مطلق لتحقيق هذا الهدف. 

يُضاف إلى هذا حقيقة أن المحرقة كانت نتيجة لتاريخ مديد من العداء للسامية عرفها التاريخ الأوروبي، وأخذت بعداً ضخماً لدى التيارات القومية الأوروبية عبر تقديم اليهود بوصفهم “المغاير”، فالعداء لليهودية من منطلق مسيحي -وهو ما سمح ببروغومات عديدة ضد اليهود خلال التاريخ الأوروبي- لم يكن له أن يتحول إلى المحرقة خارج الدولة القومية الحديثة، والمسألة القومية الأوربية. 

الاعتراف بالمحرقة وما يترتب عنها من مسؤولية أخلاقية ومستمرة أمر ضروري. واستمرارية هذه المسؤولية الأخلاقية مرتبطة بحقيقة أن العداء للسامية أمر متجذر، بطرق و صيغ مختلفة، في الثقافة الأوروبية، سواء المسيحية منها أو القومية، حيث لعب اليهود دور “الضد” في سياق تعريف القوميات الأوروبية لنفسها.

غير أن الاعتراف وما يرافقه من مسؤولية مستمرة لا يعني الاستثناء، بل على العكس يعارض فكرة الاستثناء نفسها، على الأقل كما تمارس حالياً في السياق الألماني.

لكن ما الذي يعنيه الاستثناء أو الفرادة؟

في الفيزياء عندما نتحدث عن لحظة فريدة، لحظة ما قبل الانفجار الأعظم، فإننا نتحدث عن شيء لا يمكن فهمه، شيء لا يخضع للقانون، لا شيء يمكن أن يحيط به. 

“الاستثناء” الذي يحيط بالمحرقة يجعل من أي مقارنة بينها وبين جريمة أخرى، وأي محاولة لوضعها في سياق، وأي نوع من المساءلة لـ “فهم” المسؤولية، ولاحقاً مساءلة “أحفاد الضحايا” على ما يقترفونه هم، مرفوضة باعتبار أنها إنكار أو استهانة بالمحرقة نفسها.

تكمن المشكلة الحقيقة في أن هذا الاستثناء لا يتسق مع الاعتراف الذي يسعى لفهم ما حصل واعطائه سياقاً تاريخياً لمنع حصوله مجدداً، بل وحتى يتعارض معه. لكنه يتسق أكثر مع المنطق الذي أفضى إلى المحرقة نفسها. لحظة السحر التي تحيط بالمحرقة وتجعلها أمراً لا يمكن اكتهان معناه إلا بالإحالة إلى شر مطلق غير مفهوم، تشابه تماماً الخبرة التي انطلق منها صانعو المحرقة، حينما نظروا إلى اليهود باعتبارهم نفياً وشراً مطلقاً لا يمكن فهمه أو أنسنته.

الاستثناء واحد في منطقه ولكن يختلف في موضعة الاستثناء، في الأعلى أو في الأسفل، لكن هذه المسألة عادة غير أساسية لأنه من الأسهل تغيير المواقع، أو حتى شغلها بآخرين ما دام المنطق نفسه شغال وهو ما نراه حالياً مع المسلمين والعرب.

ما هو المنطق المفضي إلى المحرقة؟

هناك قدر كبير من نظريات المؤامرة التي شغل فيها اليهود الدور المركزي، اليهود بوصفهم آخر مطلق، أي بوصفهم أشراراً، لا يرتبطون بوطن أو أرض، عالميون، احتكاريون، إلخ.. “هؤلاء الذين لا يمكن لهم أن يشاركونا نمط حياتنا كأوروبيين، بل ويشكلون تهديداً مباشراً لنا، ولهذا لأسباب تتعلق بطبيعتهم هم، وبناء عليه يجب التخلص منهم بشكل نهائي”.

بشكل بسيط يمكن القول إن هذا المنطق يقوم على تحديد جماعة بأنها الضد المطلق لـ”نحن”، وهذه الجماعة لا يمكن لها أن تكون جزءاً من هذه الـ “نحن” المفترضة لاعتبارات تعود إلى طبيعتها الجوهرية الخاصة العصية على الاندماج وأيضاً إلى طبيعتنا الجوهرية الخاصة التي لا تتقبلها الجماعة الأخرى، مما يجعل وجود هذه الجماعة بيننا مثار تهديد دائم، تهديد لثقافتنا، لقوميتنا، لحضارتنا وهلم جرّا.

“الاستثناء” الذي يجعل الأمور غير قابلة للفهم، ولا للترخنة، لا يتعارض موضوعياً مع هذه النسخة من التصورات المطلقة لثقافات أو جماعات متعارضة، الحدود بينها (مثلها مثل الاستثناء) لا يمكن عبورها أو التعامل معها. تاريخياً، كان اليهود هم من يلعب دور “الضد” لتصورات الأوروبيين عن أنفسهم، وخاصة مع مطلع عصر القوميات وبناء الدولة القومية.

كيف يعمل “الاستثناء” اليوم؟

ما يزال المنطق المتسق مع فكرة الاستثناء  شغالاً اليوم على مستويين، يختص الأول بالمسلمين والعرب فيما يختص الثاني باليهود. 

يشغل المسلمون والعرب اليوم وبشكل متزايد ذات الموقع الذي شغله اليهود خلال القرن العشرين وما قبله. هم الآخر الذي يهدد أوروبا وقيمها وثقافتها، هم آخر بطبيعتهم الخاصة التي لا يمكن لها أن تنسجم وتتسق مع القيم الأوروبية. تظهر هذه المعارضة بين الثقافتين بوصفها شيئاً متعالياً عن التاريخ أو الشروط الاجتماعية والاقتصادية للبشر الذين يحملون هذه الثقافات، التي تبدو بدورها وكأنها شيئاً موحداً لا يوجد داخلها تعارضات أو تصورات متباينة ومتعارضة حول “القيم الخاصة بكل ثقافة”.

بالتأكيد، تتعارض العديد من القيم الثقافة العربية- الإسلامية في متنها العام الذي يصدر عن الكثير من المسلمين اليوم مع قيم ومعايير الثقافة الأوروبية المعاصرة في متنها العام. غير أن الثقافات ظواهر تاريخية، قابلة للتعديل وإعادة التفسير كما أنها محط نزاع داخلي بين أصحابها أنفسهم حول تحديد معناها، وهي بدورها متعالقة سببياً بالسياق الاقتصادي والاجتماعي لحامليها الذين يتولون تفسيرها. لكن كل هذا لا يشغل البال في مواجهة “ثقافة إسلامية” غير متسامحة ومعادية للسامية والمرأة وتهددنا بخطر الاستبدال العظيم.

يسعى الكثير من الليبراليين لأن يكونوا متسامحين مع المسلمين، يرغبون في أن يعيدوا تفسير الإسلام كما يريدونه هم، وليس عبر الاستماع والحوار مع المسلمين أنفسهم والاستماع لهم. هناك فيلم ألماني “كيتش” يدور حول إمام منفتح تولى حديثاً إمامة جامع ورئيسة البلدية الألمانية التي تحاول تنظيم ومساعدة المسلمين في الاندماج. في المقابل هناك مسلم متعصب (مساعد الإمام) وألماني متطرف يحاولان سوية عرقلة المهمة. في النهاية ينتصر بالطبع الإمام ورئيسة البلدية وخلال هذه القصة اللطيفة نكتشف أن ابنة الإمام المحجبة تعيش علاقة حب مع ابن رئيسة البلدية الألماني المسيحي، حيث ينتهي الفيلم بمباركة الأب-الإمام لعلاقة الحب هذه. القصة لطيفة ولكنها ساذجة تماماً. هذا الإمام لا وجود له، ولا وجود لمثل هذه الإمكانية نظرياً من داخل التقليد الإسلامي المعاصر.

إن هذه الصورة عن إسلام مرغوب لدى الليبرالية الأوروبية ليست سوى إعادة إنتاج لـ “ثقافتهم” بثياب إسلامية، فلا تشبه الإسلام الممارس والفعلي بشيء. وعليه يصبح أمامنا حلان: إما أن يتحول المسلمون إلى إسلام يقدمه الأوروبيون غير المسلمين (وعملياً كما يصرحون هم عن هذا الإسلام الليبرالي بوصفه إسلام غربي لا علاقة له بالإسلام كما يمارسه المسلمون اليوم) أو أن الأمر يتعلق بالثقافة الإسلامية نفسها كتهديد، مثلما سبق وأن وصف الوزير السابق “يانس شبان” العداء للسامية بأنه “خصلة ثقافية إسلامية”.

هناك استثناء، يشغله اليوم المسلمون. إنهم الضد- الذي نعرّف أنفسنا بمواجهته. ما يُقال اليوم عن المسلمين يشبه كثيراً ما سبق وقيل يوماً عن اليهود. لك أن تقول “عربي” أو “مسلم” وأن تتخيل من بعدها الصورة المعطاة للعربي أو المسلم. هذا “المسلم” لا يمكن أن يكون منا إلا إذا تخلى عن كونه مسلماً، ولهذا يجب القيام بامتحانات ثقافية للتأكد منه ..

 

تنحصر الخيارات الأوروبية إذن في موقفين. يميني يرى في الإسلام شيئاً خطيراً في طبيعته نفسها، وبالتالي كل المسلمين هم خطيرون (وهو الموقف الذي يأخذ حيزاً متزايداً)، والثاني الليبرالي الذي يقرر أن الإسلام شيء شديد الخفة يمكن قولبته، وبالتالي يقدم نسخته الخاصة من الإسلام بوصفها الإسلام المقبول، وهي بالعادة نسخة ينتجها أوروبيون غير مسلمين للمسلمين، ولا يعدو الإسلام فيها -كما هو ممارس اليوم- عن أن يكون فلكلوراً.

وبهذا فإن إنكار المسلمين أنفسهم وانكار تجربتهم وعدم الاستماع إليهم هو المحصلة المشتركة للموقفين.

لن يكلف أحدهم نفسه في أن يطرح الأسئلة الحقيقية والمفيدة، هل هناك إمكانية للحوار والاستماع إلى خبرة المسلمين أنفسهم وما يخشونه أو يرغبون به، أن يستمع إلى خبرتهم والحكاية التي يروونها هم عوضاً عن إن يتولى الأوروبي مهمة أن يشرح لهم ما يجب عليهم أن يكونوه حتى يصبحوا “مقبولين”. الاستماع لهم لا يعني التسليم أو الموافقة على ما يقولونه، إنما إدخال ما يقولونه إلى المجال العام للنقاش والنظر إلى الأمور بطرق أخرى ومختلفة انطلاقاً من خبرات مختلفة للوصول إلى اتفاقات ما.

المحصلة التي أمامنا هنا هي أن هناك استثناء، ضد، يشغله اليوم المسلمون (وهو نفس الموقع الذي شغله اليهود سابقاً). إنهم الضد- الذي نعرّف أنفسنا بمواجهته. ما يُقال اليوم عن المسلمين يشبه كثيراً ما سبق وقيل يوماً عن اليهود. لك أن تقول “عربي” أو “مسلم” وأن تتخيل من بعدها الصورة المعطاة للعربي أو المسلم. هذا “المسلم” لا يمكن أن يكون منا إلا إذا تخلى عن كونه مسلماً، ولهذا يجب القيام بامتحانات ثقافية للتأكد منه.

منطق المحرقة، منطق الاستثناء، يظهر مرة أخرى في هذه الحالة مع المسلم الذي يأخذ مكان اليهودي سابقاً في بنية المنطق هذه. إنه يشغل مكانه، هو الاستثناء، الضد الذي يجب مكافحته. سواء بتعديله بما يجعل منه مثلنا، أو -وبشكل أكثر اتساقاً- مكافحته تماماً لأن طبيعته نفسها خطيرة وغير قابلة للإصلاح وغير متوافقة مع طبيعتنا.

على الجانب الآخر، اليهودي من منطق الاستثناء، يعود اليهود للظهور مرة أخرى لكن بشكل مغاير لموقعهم السابق الذي يشغله المسلمون اليوم. وإن كان علينا التذكير بشيء آخر من دروس المحرقة، هو أنه عندما تمت إبادة اليهود لم يسألهم أحد فيما إذا كانوا مندمجين أو غير مندمجين، بل قتلوا جميعاً، وعلى الأغلب كان اليهود المندمجين أكثر خطراً لأنهم “متخفّين”.

اليهود اليوم، وهم أحفاد ضحايا المحرقة، يتمتعون بلحظة الاستثناء لأنهم أحفاد ضحايا المحرقة (وهذا مجرد سبب واحد من أسباب أخرى).

على المستوى الثاني للحظة الاستثناء التي يشغلها اليهود اليوم، تتمتع اسرائيل -حيث لا يميز الخطاب الليبرالي الأوروبي بين يهود وصهاينة واسرائيليين وهذا ما سنعود له لاحقاً- بموقع استثنائي يمنع عنها المساءلة أو النقد، الذي يوضع تحت عنوان “العداء للسامية”. الموقع الاستثنائي لإسرائيل لا يعكس أو لا يرتبط بسياسة اعتراف بالمحرقة، إنما استمرار لمنطق المحرقة. هناك استثناء، البشر ليسوا متساوين، حيواتهم ليست متساوية. أسير اسرائيلي مسألة تراجيدية، المذبحة الحاصلة في غزة مسألة أرقام يمكن التشكيك فيها، هذا هو حال الإعلام الألماني. علاقة الاستثناء هذه التي تربط الألماني باليهودي (الإسرائيلي تحديداً في هذا السياق) لا تتوقف عند جعل الاسرائيلي خارج النقد، وبالتالي له أن يفعل ما يشاء، أن يرتكب إبادة بحق الفلسطينيين وتطهير عرقي ومجازر دون أن يسمح لأحد بنقده، إنما أيضاً يسمح للألماني بالتطهر الاستثنائي من ذنب استثنائي، إنها في المحصلة نوع من مركزة مزدوجة على الذات وهو ما تناولته بشكل ممتاز لارا فريكه في ورقتها عن الشعور بالعار ودوره في صياغة صورة الهوية الألمانية الحديثة عن نفسها.

 

هل نحن أيضاً “يهود”؟

منطق المحرقة ما يزال يعمل تحت وهم “عدم التكرار” و”عدم النسيان”. هنا يأخذ المسلم/العربي موقع الضد (الموقع الذي أخذه اليهودي يوماً)، فيما تلعب إسرائيل (حفيدة اللحظة الاستثنائية للمحرقة) دور الغطاء الشرعي لتسويغ ضدّية المسلم وتسويغها أخلاقياً، في نطاق الاستثناء.

في نطاق الاستثناء يصبح المتعين (اليهودي باعتباره يهودياً) هو مركز العتلة وبالتالي كل الشعور بالذنب يتجه إليه. لكن الدور، دور الضد الذي يقوم المنطق الذي أفضى للمحرقة عليه، يبقى موجوداً. وهذا الدور يشغله المسلمون اليوم(لم يعد هناك يهوداً بما يكفي في أوروبا ليكونوا مسألة مهمة للتيارات القومية وإعادة تعريف الهوية لاستخدامهم كضد، في هذا المقام نجحت المحرقة في تأدية دورها)، بل ويتم إسباغ شرعية أخلاقية لقهر وقمع هذا الضد-المسلم انطلاقاً من شعور بذنب استثنائي تجاه المتعين-اليهودي الذي لم يعد موجوداً أساساً في مقام دور الضد. 

إننا أمام منطق مماثل للمحرقة لكن بممثلين مختلفين، رغم أن الأدوار تبقي نفسها. الذنب تجاه اليهودي يعمي عن واقع أن اليهودي الفعلي لم يعد “اليهودي”. “إننا يهود” شعار يستطيع المسلمون في أوروبا رفعه. وباسم إننا لن نسمح لها بأن تتكرر، فمن المرجح لها أن تتكرر لكن دون يهود هذه المرة. حيث تقوم فكرة “الاستثناء” بتأمين التسويغ الأخلاقي للمنطق المفضي إلى المحرقة.

يهودي.. اسرائيلي.. صهيوني

تزول التمييزات المفترضة في هذا السياق بين اليهودية والصهيونية وإسرائيل تماماً. تصبح هذه الاصطلاحات مترادفات يمكن التبديل بينها، ومنطق الاستثناء الخاص بعقدة الذنب تجاه المحرقة يكرس هذه التبادلية بين هذه الأشياء.

هنا يمكن تشبيه الحال بحال أنظمة القمع العربية، فالاهتمام بقراءة سيد قطب أو كارل ماركس قد تودي بصاحبها في لحظة معينة إلى المعتقل كما يروي أحد المعتقلين الإسلاميين عن ضابط أمن كان يرى أن قراءة سيد قطب تنتهي إلى تبني “الحاكمية” التي تؤدي حتماً إلى تكفير النظام القائم، وبالتالي إلى وجوب محاربته تطبيقاً للشريعة، ومنها إلى حمل السلاح لمواجهة النظام، وعليه لماذا لا نختصر الطريق من البداية ونقوم باعتقال من يقرأ سيد قطب بجرم الإرهاب؟

المنطق الخاص بضابط الأمن يشبه المنطق الكامن خلف نفي التباينات بين اليهودية والصهيونية وإسرائيل. التمييز بين اليهودية كدين أو جماعة، والصهيونية كأيديولوجيا سياسية-قومية (ﻻ تختلف في شيء عن أسوأ النسخ القومية الأوروبية التي كانت سبباً لما حل باليهود من بلايا، وخاصة أن مشروعها ارتبط باحتلال استيطاني لأرض شعب آخر) وإسرائيل كدولة. بل إن هذا المنطق ينتج ترّهاته الساخرة، كأن تصبح مواقف يهود وأحفاد لناجين من المحرقة ومناهضي إسرائيل عداءً للسامية بحسب التعريف الألماني، (الرسالة المفتوحة التي وجهها أوليفر غينسبيرغ “اليهودي” ستكون نصاً معادياً للسامية إلى أقصى حد انطلاقاً من المعايير الألمانية والأوروبية، كذلك الحال مع إيلان بابيه أو نورمان فنكلشتاين ويهود آخرين من أحفاد ضحايا المحرقة).

بل لم يعد هناك حتى من حاجة إلى الذهاب إلى الطيف اليهودي الجذري والمناهض لإسرائيل لمواجهة ترهات هذا الموقف. أصبح يكفي حضور جلسة لبرنامج تتم فيه استضافة ألمان مع اسرائيلي (صحفي أو مؤرخ أو معلق ولكن ليس ناطق رسمي للحكومة) ليظهر أن الاسرائيلي هو صاحب الصوت الأكثر عقلانية وتوازناً بصدد ما يجرب. لقد أصبح الخط الرسمي للموقف الألماني يقف تماماً في صف اليمين الصهيوني وملكياً أكثر من الملك.

رواية وحيدة ممكنة

هناك رواية وحيدة يجب أن تُروى، وهم من يقرر الرواية التي يجب أن تُروى. هي الرواية المعيارية، وأي شذوذ عن هذه الرواية المعيارية يصبح خللاً أخلاقياً يجب إدانته وملاحقته. إسرائيل والمحرقة هي رواية وحيدة ممكنة، روايتهم هم للمسألة ولا يمكن الاستماع إلى أي رواية أخرى لأنها خلل أخلاقي.

اسرائيل واليهود يحيلون إلى المحرقة، والخبرة الأوروبية معها هي خبرة المحرقة، وبالتالي كل ما يمكن أن يُقال هنا هو السردية الأوروبية حصراً ولا مكان لرواية مختلفة.

المسلمون والعرب لديهم رواية أخرى، دولة احتلال واستيطان وتهجير، لكن لا، كل هذا يُقصى إلى الخارج ويتم تفسير كل مواقف العرب والمسلمين عبر الرواية الأوروبية وما تتيحه من تفسيرات، وهنا ليس أمامنا سوى العداء للسامية. هكذا يختفي الاستعمار والاستيطان والاحتلال (والأخير أمر تعترف الدول الأوروبية قانونياً بوجوده) ووقائع الحصار والقمع والتنكيل اليومي بالفلسطينيين، كل هذا يختفي تماماً لتبدأ الحكاية من السابع من تشرين أول/ أكتوبر، وكأننا أمام شعبين وجدا نفسيهما على أرض واحدة.

الضحية الأبدية

يصدر الأوروبيون هنا عن موقف امبريالي أخلاقي روايتهم باعتبارها الوحيدة المسموح بها، والإطار التفسيري الوحيد المتاح. روايات الآخرين لا مكان لها ولا يتم الاعتراف بها ولا يتم تأطيرها إلا من داخل الرواية الأوروبية، بالرغم من أن هؤلاء الآخرين يدفعون أثمان الخطايا الأوروبية التي لا ناقة لهم فيها أو جمل.

ينتصر الليبراليون المعاصرون للضحية، حتى أنهم يجعلون من إعادة الاعتبار للضحايا مسألة مركزية وذات أولوية أخلاقية (هناك مزاج شديد البيوريتانية في الليبرالية المعاصرة). لكن هذا الانحياز الغريب للضحية مشروط بطريقة إمبريالية، ﻻ تقتصر على أن الضحية عليه أن يندرج في نظام القيم والرواية الخاصة بالليبرالية الأوروبية لكي يحق له أن يتكلم، إنما الضحية المطلوب الانحياز إليها هي أيضاً ضحية أبدية، ويجب أن تبقى كذلك. لكن في اللحظة التي تقرر الضحية ليس وحسب أن تروي روايتها الخاصة، بل أن تحمل السلاح للدفاع عن نفسها وتقاوم، ينتهي هذا التضامن تماماً. في نسخته الأفضل ربما يصبح على مسافة واحدة من الضحية والقاتل بذريعة حملها السلاح، في نسخته الأسوأ تتحول الضحية إلى إرهابي.

الضحية الأبدية، هي ضحية لا تمس الهيمنة وعلاقات القوة، وفي الوقت نفسه تعطينا مزية أخلاقية للاعتراف والتطهير. نعترف ونكفر عن خطايانا بالتضامن معها، لكن السيطرة لا تتغير. هم يريدون فعلياً كل شيء لهم، الاعتراف والغفران، الثروة والسلطة. كيف يمكن للضحية أن تكف عن أن تكون ضحية دون أن تقاوم، فهذا ليس من شأنهم.

عائلة فلسطينية من يافا 1930. خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

النظر من الخارج

تسعى هذه الملاحظات إلى تجاوز المناقشة الداخلية مع المنطق الليبرالي، وما تتطلبه من اتساق داخلي وعدم تناقض، فهي  تهدف إلى التعامل الخارجي مع الخطاب الليبرالي بوصفه شيئاً يحتاج إلى تفسير بالنظر إلى العالم الواقعي نفسه، عالم القوة والسلطة والهيمنة، وطبيعة الدور الذي يقوم به هذا الخطاب في عالمنا الواقعي.

مشكلة الانحياز

الانحياز إلى إسرائيل ليس أمراً مفاجئاً في ذاته. في النهاية إسرائيل تبقى جزءاً من التاريخ الأوروبي، وفيما يخص السياق الأمريكي على سبيل المثال تظهر وكأنها صورة للولايات المتحدة نفسها، التي تشكلت من مهاجرين بروتستانت استندت مخيلتهم بشكل وثيق إلى تراث العهد القديم. الأمر المثير ليس الانحياز، إنما اللامبالاة التامة بأرواح الآخرين وتبرير وتسويغ إبادتهم وكأنهم لا شيء. هنا نحتاج إلى ما يتجاوز المساءلة للوعي إلى النظر إلى واقع القوة.

إسرائيل كيان استيطاني إمبريالي، هذا جزء من الرواية الفلسطينية- العربية لإسرائيل. هذا الجزء يكشف الكثير هنا، إسرائيل هي فعلا جزء من نظام الهيمنة الأمريكية- الغربية، إسرائيل مركز أمني متقدم، وهنا يكون تحدي إسرائيل ليس مجرد تحدي لأسئلة المحرقة ومصارعةً مع الشعور بالذنب، إنما مع الهيمنة والسيطرة الغربية.

هذه المواجهة الآن مهمة لأن هذه الهيمنة نفسها تتعرض وبشكل منتظم للتراجع والتقلص (مجرد نظرة على مكان السبعة الكبار في الاقتصاد تكفي). وهذا بدوره يساعدنا أيضاً على فهم موقف الأنظمة العربية عامة من الحرب الحالية، سواء عبر الأدوار المناطة بها في الحفاظ على هذه السيطرة، أو من خلال التناقض التام بين هذه الأنظمة وشعوبها وهو تناقض أوصلته الانتفاضات العربية نفسها إلى الذروة.

عودة اليمين.. عودة “الهوية” 

إضافة إلى هذه المسألة هناك مسألة أخرى شديدة الأهمية في رسم الصورة العامة، وهي صراع الحضارات، أو الانحياز العام لليمين، لصورة هوياتية عن العالم وما يرافقه من خطر إسلامي، سواء كان حقيقياً أو متخيلاً.

هناك إعادة تموضع تامة للسياسة باتجاه أسئلة الهوية، والهيمنة المتزايدة لليمين مسألة مهمة. ليست الهيمنة في أن يكون لحزب البديل في ألمانيا أو لأحزاب اوروبية شبيهة نسبة كبيرة من الأصوات (وهي نسبة كبيرة بالفعل وتزداد بشكل مستمر) لكن الأهمية تكمن في أن اليمين هو من يحدد المنازعة السياسية، وما هو مهم وما هو غير مهم. 

تحديد الأسئلة الأساسية هو ما يقوم به اليمين، وهنا لا يهم كثيراً أن يقدم الآخرون إجابات مختلفة أو يتفقوا جميعاً على رفض إجابة “البديل”، فالمعركة انتهت بمجرد بدايتها.

لقد حدد “البديل” الأسئلة التي علينا أن نجيب عليها، لقد حدد نظام المنازعة نفسه. لقد أصبح معتاداً أن ترى ممثل من “البديل” يقدم إجابته، ليرد عليه ممثلو الأحزاب جميعها واحداً تلو آخر ليرفضوا ما قاله، لكن المهم أن ممثل البديل هو من حدد “موضوع البحث”.

نحن اليوم نعيش في لحظة هيمنة متزايدة للبديل، لخطاب الهوية. وفي هذا السياق يحضر الإسلام تحديداً بوصفه الضد الذي تتحدد الهوية في مواجهته.

صراع ديني

تحويل الصراع العربي/ الفلسطيني- الإسرائيلي إلى صراع ديني مترافق مع خوف من استبدال كبير داخل أوروبا، أو على الأقل الخوف من خطر إسلامي يهدد الهوية والثقافة والديمقراطية الاوروبية، يجعل المسألة الفلسطينية جزءاً من سياق أوسع هو صراع الحضارات. بهذا يصبح الفلسطينيون إسلاميون متطرفون، مما يجعل المماهاة بين العداء لإسرائيل والعداء للسامية أمرا يسيراً.

في هذه اللحظة يظهر أن “البديل” ليس بديلاً، إنما هو التعبير الأكثر صدقاً عن الواقع الذي نواجهه، فيما يكون “الخضر” (والليبراليون عامة) فريسيين.

الليبرالية والسياسة والأخلاق

تتجه الليبرالية (وبشكل أكثر، اليسار الليبرالي) في عقودها الأخيرة للتمحور حول الأخلاق، بمعنى إضفاء نزعة أخلاقية على المنازعات السياسية، مما يحرمها بعدها السياسي وإمكانية تنوع واختلاف الآراء هنا (أي أساساً الحرية).

لم يعد الليبرالي يكتفي بالدفاع عن المثلية الجنسية لجهة أن لا يعاني المثليون من أي تمييز أو اضطهاد بسبب هويتهم أو انحيازاتهم الجندرية. لقد أصبح عليك أن تقبل المثلية بوصفها شيئاً طبيعياً وأن تصرح بهذا علناً، وفيما عدا هذا فأنت ساقط أخلاقياً. ليس مسموحاً لليبرالي اليوم الاعتراف بحقوق المثلي وفي الوقت نفسه اعتبار المثلية من الناحية الاخلاقية مثلاً خطيئة (وهو موقف جميع الأديان الإبراهيمية دون استثناء).

هذا الموقف الليبرالي الصرف لم يعد مسموحاً. نحن أمام ليبرالية تنحو بشكل مستمر باتجاه شمولية أخلاقية تنتهك الليبرالية (فكرة الحرية) نفسها عبر موضعة المواقف في نسق أخلاقي، بما يجعل من الرأي الآخر سقوطاً أخلاقياً. كيف لنا أن نناقش ساقطين أخلاقياً؟ عليك أن ترشدهم وليس أن تناقشهم.

 شمولية “الايستبلشمنيت”

من كورونا إلى الحرب الروسية- الأوكرانية وصولاً إلى غزة، هناك شمولية عامة نشهدها أمامنا، شمولية “الايستبلشمنيت”. اليوم الحرب الإسرائيلية في جزء منها هي صراع ضد الهيمنة، هي صراع يمكن أن يكون مرة أخرى باسم “التنوير” و”حقوق الانسان” و”الاعتراف” بوصفها مساع للفهم والتواصل في مواجهة استراتيجية يجري استخدامها بشكل أداتي، كأسلحة للهيمنة والسيادة، كايديولوجيا مخصصة للأقوياء.

خلاصة

إن المنطق الذي أفضى للمحرقة ما يزال شغالاً، ولكن الأدوار اختلفت فيه. المسلم يشغل مكان اليهودي، و”الاستثناء” الذي يطغى على الصورة العامة لتناول المحرقة يسهم في إسباغ شرعية أخلاقية على هذا المنطق نفسه. فيما الاعتراف بالمحرقة وتحمل المسؤولية تجاهها والسعي لمنع ما حصل يعني تحديداً مكافحة هذا المنطق (سواء كان موجهاً ضد اليهود أو المسلمين، سواء كان مستخدماً من الأوروبيين أو غيرهم أيضاً) الذي أدى إلى تلك المحرقة يوما وهو ما يتعارض مع “الاستثناء” نفسه. 

أيضاً، تظهر عمليات التطهر من المحرقة وسياسات الاعتراف بالضحايا والذنوب وغيرها بوصفها سياسات متمحورة حول الذات الأوروبية، حول احتياجاتها الذاتية لرسم صورتها الأخلاقية، أكثر من كونها سياسات تسعى حقيقة لإزالة الظلم وآثاره، إنها سياسات تطهّر متسقة مع الحفاظ على علاقات القوة والسلطة السائدة، بل أنها تسمح بإسباغ شرعية على قمع أي محاولة للتحرر الفعلي دون الشعور بالذنب.

ملاحظة أخيرة

بالطبع هذا النقاش لا يعني أننا – عرباً أو مسلمين أو مشرقيين- لسنا مذنبين لحد كبير، نحن لدينا قدر هائل من العداء لليهود لا يمكن إنكاره. نحن بدرونا نرى الصراع بوصفه صراعاً دينياً (بنسخ مختلفة في اعتدالها أو تطرفها)، فيكفي أن ترى شعارات مثل “خيبر، خيبر يا يهود، جيش محمد سوف يعود”..

نحن أيضاً لدينا ازدواجية أخلاقية، بقدر لا يقل بالمرة عما نعيبه -وهو أمر محق- على الغرب. وإدانة الازدواجية الأخلاقية الأوروبية لا تتم  عبر تجاهل ازدواجنا الأخلاقي نفسه وحتى مراءاتنا. نحن نرفض فكرة “حقوق الإنسان” لكن لا نمانع في استخدامها أداتياً ضد الآخرين.

العديد من الملاحظات هنا تصدق علينا، وبالتالي لا يمكن التعاطي معها وكأنها شيء مقتصر على “الغرب” وإن كان سياق المقال يقتصر عليه.

لكن كل هذا لا يبرر للنظام الليبرالي موقفه، وإلّا، في لحظة أخيرة، سيكون علينا أن نترك عالمنا هذا لحزب البديل والإسلاميين كي يحددوا مساره، باعتبارهم التعبير الأكثر صدقاً عن هذا العالم.