fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

عن سؤال طه وتروتسكي والحكايات التي تبحث عن مكان

تبدو هذه الصعوبة وكأنها سدٌّ عندما يتساءل الواحد عن تاريخ النضال اليساري في سنوات التسعينيات وعقد الألفية الأول وما بعده، هل يمكن كتابة مثل التاريخ الآن؟
ــــــــ ماضي مستمر
21 أغسطس 2023

في لقاء عائلي حدثنا طه زوج ابنة خالتي عن يومه الطويل لتجديد رخصة قيادته ورخصة السيارة في إحدى إدارات المرور، حكى طه عن الرسوم المتضاعفة التي يجب عليه دفعها رسميًا، وعن الرسوم التي لم يكن عليه دفعها ولكن تم إجباره على دفعها لشراء أدوات لم يستعملها أصلًا ولكن يجب أن تتوافر بالسيارة حتى لا تتعطل الإجراءات، وأيضًا عن الرشى التي أنفقها كي لا يضطر إلى العودة مرة أخرى وإعادة الإجراءات من البداية. كان فخورًا أنه استطاع بذكائه الهرب من دفع رشى أخرى دفعها آخرون لأنهم لم يكونوا بنفس مستوى ذكائه.

حكى طه أيضًا عن هؤلاء حسني المظهر رجالًا ونساء الذين توجهوا مباشرة لمكتب “الباشا” وخرجوا بعد وقت قصير بوجوه مرتاحة تفيد بأنهم استطاعوا إنجاز المهمة في وقت مثالي تتيحه علاقات قوة ما، حفظتهم من البقاء طويلًا في الطوابير والجري بين المكاتب المختلفة في إرادة المرور.

طه شاب مصري يتجه نحو منتصف ثلاثيناته، كنت استغرب اندماجه السريع في عائلة خالتي، تعارف هو وابنة خالتي على أحد مواقع الإنترنت، كان ساعتها يعمل كعامل في الكويت منذ سنوات، بعد التعارف بقليل وفي أول إجازة له تمت الخطبة، بعدها بدأ يرسل من مدخراته لخطيبته، اشتريا شقة، وفي إجازة تالية تم الزواج، كان يبدو أن طه سيكمل حياته شأن ملايين من المصريين المغتربين، يعمل في بلد ما بعيدة ويرسل لأسرته أموالًا، ويعود في إجازته السنوية، ليحدث اللقاء الذي سيُسفر بعد تسعة شهور عن مولود سيشاهده في الإجازة التالية.

بالفعل أنجبا ثلاثة أطفال، لكن قررا أن يوقفا سيناريو الزوج المسافر، والزوجة التي تضع كل عام طفلًا، كي يستقر بمصر، وفي خطوة شجاعة أنهى طه عمله هناك، واشترى بما تبقى من مدخراته سيارة مستعملة بحالة معقولة -لم تكفه الأموال لشراء سيارة جديدة بسبب ارتفاع الأسعار المستمر منذ أن قرر العودة قبل ثلاث سنوات- وامتلأ هاتفه بتطبيقات النقل التشاركية وأصبح طه مقيمًا مع أسرته، عاملًا على سيارته التي كان يجدد لها التراخيص اللازمة.

حديث طه عن وحدة المرور ليس حديثًا غريبًا بأي حال، يعرفه كل سائقي السيارات والمترددين على تلك الإدارات، ما كان غريبًا بالنسبة لي أن طه بعد أنهى كلامه، مال عليّ وقال بصوت خفيض: “هو مش إحنا عملنا ثورة عشان كل ده يخلص.. ليه بقى رجع تاني ولا كأن حاجة حصلت؟”.

للوهلة الأولى اندهشت من سؤال طه، نظرت له ولم أعرف بماذا يمكن أن أرد، طه بالأساس لم يكن في مصر في تلك السنوات ما بين 2011 و 2013 لكن من قال إن التحرك الجماهيري يستلزم أن يوقع فيه كل فرد من أفراد الجماهير صباحًا ومساءً كي يثبتوا حضورهم، أليس العمل العام أيا ما كان حجم المشاركة فيه يستهدف تغيير حياة الجميع؟ وبالتالي يحق لطه ولغيره أن يشمل نفسه مع الذين قاموا بصنع “الثورة” وأن يسأل وأن يحاسب ما يحدث.

لكن ما كان مفاجئًا بالنسبة لي أكثر أن سؤال طه يفترض أن هناك ثورة قامت من أجل القضاء على طريقة ما في إدارة حياة الناس، وأن هذه الثورة انتصرت، وحكمت، لكن ما قامت من أجل القضاء عليه وتغييره ما زال قائمًا كما هو بدون أي تغيير.

هززت رأسي ولم أعرف كيف يمكن أن أرد على سؤال طه؟ هل يجب علي أن أخبره أن التحرك الذي انطلق منذ اثنتي عشر عامًا تم إجهاضه بطرق كثيرة، وأن ما يحكم الآن هو نظام يعمل على إلغاء وتصفية كل ما له علاقة بتلك الأيام؟ هل يجب أن أحكي له حكاية مختلفة تمامًا عما استقر في ذهنه؟ ولكن هل تجد لحكايتي المفترضة مكانًا في ذهن طه الممتلىء شأن الكثيرين بسيل الدعايا المستمر منذ سنوات والتي تؤكد على أن “الثورة الحقيقية” قد انتصرت وحكمت بالفعل وانقذت البلاد والعباد من الفوضى والخراب؟ طه يعرف هذا، لكنه على ما يبدو لم يستطع الربط بين يومه المنقضي في تجديد رخصة القيادة، وخوفه على سيارته من الشوارع المبقورة التي يتم تجديدها بشكل مستمر وارتفاع الأسعار وخوفه من المستقبل مع زوجته وثلاثة أطفال، وبين الثورة التي انتصرت ولكن “ولا كأن حاجة حصلت”؟

هل إذا حكيت حكاية أخرى لطه ستجد لنفسها مكانًا؟ هل ستصمد حكايتي في مواجهة السرديات المضادة التي لا تتوقف منذ انطلق التحرك الجماهيري أصلًا؟ هل سيثق طه في حكاية أخرى؟ هل ستبقى الحكايات الأخرى قادرة على البقاء؟ هل بعد أن يمر الزمن ستتساوى الروايات.. رواية المجهضين وراوية الذين انتصروا؟

واصلت هز رأسي والنطق بهمهمات، وجاء طبق الحلويات لينتقل الحديث لمنطقة أخرى

القاهرة، يناير 2011. المصدر Mahmoud Saber، تنشر وفق رخصة المشاع الإبداعي

رجال كانوا يحبون الكلاب

تحكي رواية “الرجل الذي كان يحب الكلاب” للكاتب الكوبي ليوناردو بادورا -صدرت في 2009 وترجمها بسام البزاز 2018- عن ثلاثة رجال تتقاطع مصائرهم في نقاط بعينها فتغير شكل حيواتهم إلى الأبد، الأول روسي هو ليون تروتسكي أحد أبرز قادة ثورة أكتوبر 1917، مؤسس الجيش الأحمر، المنتصر في الحرب الأهلية التي اندلعت ضد ثورة غيرت شكل عالم القرن العشرين، مرتكب مجزرة كرونشتات وغيرها، والمنظر الماركسي صاحب الأفكار الجذرية التي ستنتهي به مقتولًا بضربة فأس في رأسه، والذي اجتهد كثيرًا في التنظير للثورة، والممارسة السياسية، وأيضًا في الفن.

الرجل الثاني أسباني هو رامون ميركادير نلتقي به عام 1938 مقاتلًا في صفوف الحزب الشيوعي أثناء الحرب الأهلية الاسبانية، حيث سيتم اختياره لتنفيذ مهمة في سبيل انتصار “الثورة العالمية”، مهمة أكثر أهمية بكثير من الانتصار في حرب أسبانيا ضد الفاشيين، مهمة قتل ليون تروتسكي.

“إيبان” الرجل الثالث، كوبي، يعمل في بيطرة الحيوانات، هو بالأساس كان كاتبًا لكن أجواء الخوف التي تخيم على كوبا السبعينيات ومحاولته كتابة عدد من القصص وقت كان شابًا حاول أن يتحرر فيها قليلًا من أشكال الكتابة السائدة وقتها ألقت به بعيدًا عن المسار الذي كان يحلم به وقت كتابة تلك القصص بأن يصبح كاتبًا وصحفيًا كبيرًا تحت راية كوبا الثورية، ليعمل مراجعًا في تحرير مجلة تختص بطب الحيوانات ونظرًا لقلة الموارد يقوم هو شخصيًا بمعالجة الحيوانات.

يلتقي الرجل الثاني “ميركادير” بالأول “تروتسكي” بعد فترة تحضيرات طويلة من أجل زرعه في الأوساط القريبة من الثوري العجوز الذي انتهت به رحلة المنافي في المكسيك، وبالفعل ينفذ مهمته في 21 أغسطس/ آب 1940.

ويلتقي الرجل الثالث “إيبان” بالرجل الثاني “ميركادير” بالصدفة على أحد شواطئ كوبا في 1977، كان مظهر الرجل العجوز بقميصه المزركش وعويناته الغالية وكلبي الصيد الروسيين الذين يلعبان أمام الرجل ومرافقه الصامت، ملفتًا لنظر للشاب الكوبي الماشي على الشاطىء فخمن أنه أحد الدبلوماسيين، إذ لا يوجد في كوبا من هو قادر على اقتناء مثل هذه الكلاب.

تتعدد اللقاءات غير المرتبة بين الرجل العجوز وبين الشاب الكوبي إلى أن يصل بعد سنوات وعبر سلسلة من المرسلين مخطوط كتبه الرجل العجوز يحكي فيه حكاية كيف قتل تروتسكي.

الرواية مكتوبة بإحكام، فصولها مقسمة تقريبًا بالتساوي بين الرجال الثلاثة، تبدأ فصولها 

مع “إيبان” الكوبي في منتصف عقد الألفية الأول بجانب زوجته المحتضرة ينتظران احتمالية هبوب إعصار مدمر على الجزيرة الكوبية المنهارة بالأساس، يتجاوز الإعصار الجزيرة وتموت الزوجة بعد معاناة طويلة مع المرض الذي نشأ بالأساس من ندرة المواد الغذائية والأدوية فتصاب بهشاشة العظام الذي يتطور ليصبح سرطانًا يلتهمها بهدوء في شقتهما الصغيرة المظلمة لانقطاع الكهرباء والتي يسيل الماء من سقفها ولا توجد إمكانية لإصلاحه. 

يتذكر الكاتب السابق حكايته مع الرجل الذي كان يحب الكلاب، والتي منعه الخوف من كتابتها كما أخبر زوجته ذات مرة بعد عشرين عامًا تقريبًا من لقائه الأول مع الرجل صاحب القميص المزركش على أحد الشواطىء.

يبدأ ظهور تروتسكي في الرواية مع خروجه منفيًا من روسيا مطلع عام 1930، بعد سنوات من الإقامة الجبرية، وتتبع رحلته في السنوات العشر الأخيرة من حياته متنقلًا بين المنافي من تركيا إلى الدنمارك لفرنسا حتى يجد ملجأ في المكسيك، بين رفض الدول لاستقباله والتضييق عليه ومطاردته في الدول التي قبلت استضافته، وتصل إليه أخبار حملة التشويه والحذف التي تلاحق تاريخه ليصبح عدو الثورة العمالية الأول وعميل الإمبريالية، وأيضًا أخبار أبنائه الذين يُقتلون أو ينتحرون واحدًا تلو الآخر، بالإضافة لحملات اعتقال وإعدامات تطول الملايين -ملايين بالفعل- ولا تترك رفاق لينين أنفسهم الذين خاضوا رحلة النضال الطويل وصولًا لأكتوبر 1917 -تقريبًا تمت تصفية معظمهم بين 1933 و1939- بمن فيهم الذين مجدوا ستالين وأعلنوا توبتهم في المحاكم على ما رآه ستالين انحرافًا عن أفكاره تم إعدامهم أيضًا.

 ثم نرى رامون ميركادير في مشهده الأول في الرواية هابطًا من أحد الجبال الأسبانية حيث معسكره مع مقاتلي الحزب الشيوعي في الثلاثينيات، لملاقاة أمه كاريداد ميركادير التي تحتل مكانًا قياديًا في الحزب لتسأله سؤالًا وتطلب منه إجابة فورية: هل إن كان يقبل القيام بمهمة أكبر من إطلاق الرصاص على الفاشيين، مهمة أكبر من أسبانيا نفسها، مهمة ستساهم في انتصار الثورة العالمية وتخبره أنه في حالة القبول ستتغير حياته تمامًا.

رامون سيقبل المهمة دون أن يعرف ما هي، هو نذر حياته للثورة، المقاتل الشاب ابن العائلة البرجوازية الذي تتمرد أمه على حياتها الناعمة ولكن لا تعرف أين توجه هذا التمرد في البداية، فتدمن المخدرات وتصادق الشيوعيين والفوضويين وتغادر منزل زوجها مع أربعة أطفال وتخوض معهم حياة شديدة الاختلاف عن حياتهم السابقة إلى أن تجد لنفسها مكانًا في الحزب الشيوعي، وتربطها بابنها رامون علاقة بالغة التعقيد.

هكذا تمضي فصول الرواية؛ فصل لإيبان الذي يستدعي أحداث حياته منذ كان طالبًا ذا موهبة أدبية واعدة، ولكن لأنه تجاوز الخطوط المسموحة يتم نفيه بعد تخرجه إلى أحد الأماكن النائية في الجزيرة الكوبية مسئولًا عن إحدى الإذاعات المحلية، ليجد نفسه يفعل مثل الجميع يردد البيانات الرسمية ويصادق المسئولين الحكوميين في الجزيرة ويتحول لمدمن كحول، ثم يدفع نفسه في محاولة للتشبث بالحياة خارج هذه الدائرة تمامًا ويقبل بالعمل في المجلة البيطرية ويودع أحلامه في الكتابة.

ثم فصل لتروتسكي المشرد بين المنافي، وفصل لرامون وتجنيده للمهمة التي ستنقذ الثورة العالمية.

لست بصدد إعادة سرد وقائع الرواية، لكن العمل فرصة مثيرة لتأملات عديدة حول الأدب والتاريخ، إذ تظل في الكتابة فرصة لاستعادة الماضي وبث الروح فيه واستدعاء شخصياته وأبطاله وضحاياه ومحاكمتها مرة أخرى -أو ربما مرة أولى- وتأمل مصائر المنسيين من المعتقلين في سيبيريا، إلى العمال والفلاحين الأسبان الذين انتزعوا المصانع والأراضي في أسبانيا الثلاثينيات وقاموا بتوزيعها وإداراتها مشاعيًا وحلموا بعالم بلا طبقات، إلى ملايين العائشين تحت أنظمة تحكم بالخوف، وتترك تلك الملايين تذبل وتموت في عالم لا يتوقف فيه الرعب.

ربما ستدفع الرواية قارئها للانحياز لتروتسكي خاصة وأنها تتناول فترة النبذ في حياته ونهايته الدرامية، وربما تخلق تعاطفًا مع قاتله رامون الذي سيعيش تحت المراقبة في الاتحاد السوفيتي بعد قضائه عشرين عامًا في سجون المكسيك، والامتياز الذي حصل عليه واكتشفته زوجته بالصدفة، أنه يستطيع أن يتجاوز الطوابير الطويلة المنتظرة أمام محال المواد الغذائية لأنه يعلق على صدره الأوسمة التي منحت له عند وصوله لروسيا، ببساطة يعيش كمتسول، ويسائل نفسه إن كانت جريمته قد ساهمت في انتصار “الثورة العالمية” أم أنه فقط ساهم في تثبيت كذبة ضخمة رسخ ستالين وجودها.

غالبًا سيكره القارىء ذلك العالم الذي عاش فيه الراوي الكوبي، عالم مليء بالأكاذيب وبالفقر وندرة كل شيء من الغذاء للدواء للكهرباء، عالم يعيش تحت الحصار الدائم، 

في واحد من أقسى مشاهد الرواية نرى آلاف الكوبيين يهربون من أحد الموانيء، يلقون بأنفسهم في مياه المحيط بأي شيء يمكن أن يصير قاربًا، فيما عُرف فيما بعد بنزوح ماريل الجماعي في مطلع الثمانينيات، في مشهد بدا وكأنه إعلان انهيار جديد لمجتمع بني على الكذب، ولكنه لم يسقط بعد.

لكن، مرة أخرى الرواية ليست مكانًا للمعرفة التاريخية، لكنها مكان لاستعادة الأرواح، وخلق حكايات تهز ما استقرت عليه الأمور، حكايات من تم نسيانهم، أو ادراجهم في رقم واحد يعجز المرء في تخيل كم المعاناة والألم الذي يحمله، لكن ربما تفلح الكتابة في ذلك.

تروتسكي مع زوجته ناتاليا سيدوفا ودييغو ريبيرا وفريدا كالو، 1939. المصدر متحف ليون تروتسكي

يبدو أنها تدور.. يا للرعب 

في 1969 ينشر لويس عوض روايته “العنقاء أو تاريخ حسن مفتاح” بعد حوالي عشرين عامًا من كتابتها، كتبها ما بين أكتوبر 1946 وسبتمبر 1947، تقريبًا هي الرواية الوحيدة للناقد الكبير، نشرت الرواية بمقدمة طويلة كتبها لويس نفسه كتب فيها عن ملابسات الكتابة وأسباب تأخر النشر كل هذه الفترة، وأيضًا تكلم فيها عن أحوال اليسار وفصائله وقت كتابة الرواية.

ما بدا لافتًا لي وقت قراءة المقدمة والرواية في سنين منتصف عقد الألفية الأول درجة التعالي التي بدا لويس يتكلم منها عن اليسار في مقدمته، بدا لي تعاليًا لأن تاريخ النشر (1966) كان بعد خروج الكثير من الشيوعيين من حملة الاعتقال الكبيرة التي شنتها دولة ناصر على الشيوعيين وظلوا على أثرها في المعتقلات تقريبًا أربع سنوات (1959- 1964) والتي كان لويس نفسه معتقلًا فيها -ولكن جرى الإفراج عنه في يوليو 1960-  بالتالي لم يبد لي هذا التعالي إنسانيًا إذا تخيلنا أن لويس يتحدث عن رفاق زنازين.

كتب عوض في مقدمته عن خلافات الشيوعيين في الأربعينيات التي لا تنتهي والتي تتسبب غالبًا في انشقاق يتلوه انشقاق بينما نحن نتحدث عن جماعات قليلة الأفراد بالأساس، وكانت مسألة التحالف مع البرجوازية المصرية من أجل نيل الاستقلال إحدى نقاط الخلاف الرئيسية في ذلك؛ وجهة النظر الغالبة كانت تقضي بأهمية التحالف مع الأعداء الطبقيين من أجل الانتصار في القضية الوطنية وتأجيل النضال من أجل “الثورة” لما بعد نيل الاستقلال، وذلك استنادًا على مبدأ التناقض الرئيسي والتناقض الثانوي، وبالتالي أهمية تحديد أي تناقض هو الرئيسي (نيل الاستقلال في هذه الحالة) والنضال من أجله، وتأجيل “التناقض الثانوي” (الثورة الاشتراكية) لحين نضوج المجتمع طبقيًا وتوفر شروط قيام الثورة.

نظرية المراحل تلك كانت تفترض أهمية التحالف مع أحزاب البرجوازية المصرية من أجل تحقيق الاستقلال، بينما على الجانب الأخر كانت الرؤية الأخرى تؤمن بضرورة النضال من أجل الثورة الطبقية مباشرة وتحقيق الاستقلال خلال ذلك النضال.

ما بدا مرعبًا لي في كلام لويس عوض، أني شعرت لحظة قراءة المقدمة بأن التاريخ يدور في دوائر متكررة، بعيدًا عن الكلام الماركسي عن تقدم التاريخ كان هناك نقاشٌ دائرٌ ساعتها -سنوات منتصف عقد الالفية الأول- في دوائر اليسار، الذي غدا تروتسكيًا- عن أهمية التحالف مع الإسلاميين في خوض المعارك الديموقراطية من ناحية ومن ناحية أخرى ترى وجهة نظر تروتسكية أيضًا أن ذلك يجعل قوة اليسار في ذيل الحركة البرجوازية، ويُكسب الطرف الأخرى صبغة ديموقراطية ليست موجودة لديه بالأساس، بينما من الأولى أن يركز اليسار طاقته على القضايا الاجتماعية حيث هناك من المفترض أرضيته الجماهيرية الحقيقية.

ربما من المفيد أن يتذكر المرء أن مصر في تلك السنوات كانت تمتليء بإرهاصات ما سيأتي فيما بعد، فمع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في العام 2000، بدأت العلاقة مع الشارع كمساحة احتجاج تتشكل من جديد بعد فترة انقطاع طويلة، فالتظاهرات المؤيدة للانتفاضة ملئت شوارع العديد من المناطق، وقوبلت بعنف أحيانًا لكن سمحت الدولة لها في أحيان أخرى كثيرة بالتواجد.

واندفعت الجماهير لميدان التحرير -لأول مرة منذ السبعينيات تقريبًا- احتجاجًا على سقوط بغداد في مارس 2003، وفضت الدولة التظاهرات بعنف.

في 2004 ظهرت الحركة المصرية من أجل التغيير “كفاية” ضد محاولات توريث السلطة لجمال مبارك، وتلتها حركات وتجمعات كثيرة ذات مطالب ديموقراطية؛ “عمال من أجل التغيير”، “طلاب من أجل التغيير، “أدباء وفنانون من أجل التغيير” وغيرها.

النضال لم يكن ساعتها “ديموقراطيًا” فقط، تلك السنوات أيضا كانت مجالًا خصبًا لمئات التحركات العمالية في كل أنحاء البلاد، اعتصامات وإضرابات واحتجاجات عمالية تقريبًا كل يوم، بعضها كان ضخمًا وتعاملت معه الدولة بوحشية مثل احتجاجات المحلة الكبرى في 6 أبريل 2008، وبعضها كان ضخمًا أيضًا واستطاع الانتصار وتحقيق مطالبه مثل تحركات موظفي الضرائب العقارية.

في تلك السنوات كلمات مثل التظاهر والاعتصام والإضراب أصبحت عادية ويومية، حتى لو كانت تلك التحركات صغيرة ومحدودة.

شارك اليسار بمختلف فصائله في ذلك المشهد الذي كان مدنًيا بامتياز، ولكن الفصيل الأكثر حركية واندفاعًا ومشاركةً وتعرضًا للضربات الأمنية بينهم كان الاشتراكيون الثوريون، تروتسكيي التوجه. 

وكان شعار “أحيانًا مع الإسلاميين، دائمًا ضد الدولة” الذي تمسك به ذلك الجزء المهم من اليسار المصري يبدو براقًا، ذلك التكتيك السياسي الذي بدأ مع انبهار اليسار الأوروبي بالثورة الايرانية في 1979، واكتشاف الاسلام السياسي كـ “قوة ثورية”، لكنه أيضًا أوقع اليسار في فخ التعامي عن الطبيعة الطبقية لتلك تنظيمات، الأمر الذي أدى -في ضوء بعض التحليلات الماركسية أيضًا- للبقاء في ذيل التحركات البرجوازية، فاكتسب الإخوان المسلمين ساعتها مسحة التنظيم الذي يناضل من أجل مدنية الدولة، ولم يستطع الاشتراكيون تفجير الجماعة من الداخل كما تصور تكتيكهم.  

لذا بدت حشود الإخوان المسلمين المشاركة في مؤتمر القاهرة لمناهضة الحرب التي تملأ نقابة الصحفيين المصريين في 2007 في انتظار وصول محمد مهدي عاكف مرشد الإخوان السابق لإلقاء كلمته في المؤتمر تبدو وكأنها تجليًا لاستنكار لويس عوض القادم من الأربعينيات.

كنت أتساءل هل هو قدر أن يدور التاريخ هنا في دوائر، هل اليسار محكوم بإعادة إنتاج سياساته كما هي؟ وبالتالي تكرار نفس الأخطاء وجني نفس الثمار المرة؟

تقول الحكاية إن جاليليو عندما أُجبر على التراجع عن اكتشافه بأن الأرض تدور حول الشمس، ردد بصوت خفيض: لكنها تدور. ساعتها تذكرت تلك الجملة ولكن عند رؤيتها مع حركة التاريخ بدا الأمر مخيفًا.

أول مظاهرة لحركة كفاية ضد حسني مبارك، 12 ديسمبر 2004. المصدر: حسام الحملاوي (تنشر وفق رخصة المشاع الإبداعي)

 

لحظة رأيت النظرية 

في كتابه “الثورة الدائمة.. نتائج وتوقعات” طور تروتسكي فكرة أصبحت فيما بعد إحدى ركائز الاختلاف بين تصوراته وتصورات ستالين عن إمكانيات الثورة وحركتها، النظرية تعرف باسم “التطور المركب واللامتكافىء” 

استنادًا على رؤية ماركس بأن الرأسمالية نمط إنتاج عالمي، يخترق العالم كله بحكم طبيعة آلياته وبالتالي نمط الانتاج الرأسمالي لا ينحصر فقط في مراكز الصناعة المتطورة في غرب أوروبا وقتها، ولكنه نمط يسعى للوجود حتى في البلاد التي ما زالت تتحكم بها أنماط إنتاج سابقة على الرأسمالية مثل النمط الإقطاعي، يرى تروتسكي أنه بحكم هذه الطبيعة تنشأ مراكز رأسمالية متقدمة -تضارع تلك الموجودة في البلاد التي ترسخت فيها الصناعة والانتاج ذات الصبغة الرأسمالية المتطورة- في بلاد مازالت بشكل عام تسيطر فيها أشكال انتاجية أكثر تخلفًا، وبالتالي يمكن أن توجد في روسيا الزراعية بالأساس مراكز صناعية متقدمة مثل تلك الموجودة في مانشستر وليون مثلًا، بذات علاقات الإنتاج، وبالتالي يخلق هذا التطور المركب -بحكم كون الرأسمالية نمط اختراقي فالمصانع التي يتم إقامتها في البلد الذي مازال يتحكم فيه الإقطاع لن تبدأ من لحظة صفر الإنتاج في أوروبا الغربية ولكن سيتم إنشاؤها على أحدث الطرز وبالتالي ستنشأ طبقة عمالية يتطور وعيها بالصراع الطبقي، وستكون تلك الطبقة- حتى لو كانت لا متكافئة عدديًا مع الجانب الأكبر من الجماهير قادرة على القيام بالثورة بحكم كونها تعاني من نمط الانتاج الرأسمالي، وستصبح قاطرة الحركة الجماهيرية من أجل التخلص من الرأسمالية ككل، وحرق المراحل، ومواصلة تحديث البلاد ولكن على أساس لا رأسمالي، وبالتالي فالثورة الطبقية ممكنة في أي مكان في العالم طالما غزته الرأسمالية.

نظرية المراحل الستالينية كلفت الشيوعيين عبر القرن العشرين الكثير من القتلى والمسجونين والخسارة السياسية في العديد من البلاد التي كانت الفرصة سانحة أمام قوى اليسار للإمساك بزمام الأمور فيها، لكن التريث وانتظار “المرحلة”، منح الفرصة لأعدائهم كي يفتكوا بهم، مثلما حدث في أسبانيا الثلاثينيات مثلًا.

مرة في شتاء 2011 أحسست أني أعيش تجليات رؤى تروتسكي مناستحالة قيام الاشتراكية في بلد واحدأيضًا الثورة لم تقم في بلد واحد. ها هي الجماهير ساعتها تهز المنطقة من اليمن إلى الأردن لتونس لمصر للبحرينمن يتذكر دوار اللؤلؤة؟– لسوريا ليبيا، كانت النار تنتشر، وبدا ساعتها أن تلك الجماهير المنتفضة قادرة على دفع المنطقة بحكم تطورها حتى وإن كانت لا متكافئة عدديًا مع حجم السكان، لكن ساعتها كانت السماء قريبة، ثم ابتعدت سريعًا.

كم هي قصة حزينة

في أواخر عام 1936 يذهب الصحفي والكاتب الشاب جورج أورويل إلى أسبانيا لكتابة تقرير صحفي عن مجريات الحرب في أسبانيا، الحرب الدائرة بين الجمهوريين على تعدد فصائلهم من جانب وبين الفاشيين والراغبين في عودة الملكية من جانب آخر، ويقرر أورويل فور وصوله التطوع للقتال.

اليسار الأكثر راديكالية من الأناركيين والتروتسكيين لعبوا دورا ضخمًا في بداية ذلك الصراع، كان إقليم كاتالونيا تقريبًا تحت سيطرة الأناركيين الذين قاموا بتوزيع المصانع والأراضي الزراعية وإدارتها ذاتيًا. أسبانيا ساعتها كانت بؤرة جذب لقوى اليسار في كل أوروبا، والكثير من الشباب سافر للتطوع للقتال في صفوف الجمهوريين.

تقرير أورويل أصبح كتابًا شهيرًا -ترجمه عبد الحميد الحسن إلى العربية مرة بعنوان “الحنين إلى كاتالونيا” ومرة بعنوان “تحية إلى كاتالونيا”- يقدم فيه أوريل شهادة بالغة الحيوية عن الأوضاع خلال الفترة التي قضاها هناك، وبالغة البراءة أيضًا، فأورويل لا يهتم على مدار الكتاب بتبرير أيديولوجي للفريق الذي يحارب تحت رايته بقدر ما يتكفل وصفه للأحداث بخلق هذا الانحياز لدى القارىء وبيان مقدار المأساة التي وقعت على أرض أسبانيا قبل ما يقرب من مائة عام.

يجد المتطوع الإنجليزي نفسه بالصدفة في صفوف مليشيات “حزب وحدة العمال الماركسي” القريب من أفكار تروتسكي الثورية، ومنذ بداية التحاقه بصفوف المقاتلين يصف أورويل الروح المعنوية التي سادت بين صفوف المقاتلين الذين هم ليسوا بمقاتلين محترفين بالمرة، عمال وفلاحين ومليشيات قوامها الأساسي مراهقين وأشباه أطفال، بتسليح بدائي؛ بنادق خربة يعود تاريخ تصنيع معظمها إلى الحرب العالمية الأولى والكثير منها لا يعمل، الذخيرة قليلة بشكل لا يناسب صراعًا كالدائر ساعتها، خنادق محفورة كيفما اتفق ولا تحمي المقاتلين بالشكل المفترض منها أن تفعله، في البداية جرى إلغاء الرتب العسكرية القديمة وتوزيع المهام والأدوار بشكل لا تراتبي.

ينتقل أورويل مع كتيبته إلى إحدى الجبهات حيث يواصل سرد ظروف القتال من انعدام الخبرة لدى المقاتلين المراهقين، وشح الطعام، لكن كان هناك إيمان بأن هناك عالم جديد يتم بناؤه يبدأ من تلك الخنادق البدائية.

الجانب البارز في شهادة أورويل في سياقنا هو وصفه لكيف حول اليسار الستاليني الحرب من صراع من أجل الثورة، إلى صراع ضد الأناركيين والتروتسكيين بهدف إضعافهم، وجعل الكلمة الوحيدة على الأرض مجرد صدى للأوامر التي تصدر من موسكو.

الصراع ضد حزب وحدة العمال الماركسي والنقابات الأناركية لم يكن صراعا شريفًا بالمرة، صراع بدأ من البروباجندا المليئة بالأكاذيب والافتراءات، مرورًا بالحصار والتضييق على المقاتلين على الجبهات المختلفة وقطع الإمدادات، ثم صراعات مسلحة اتخذ فيها الستالينيون أعداء الأمس كحلفاء جدد، حيث تقاتل الشرطة إلى جانب الستالينيين وعندها يطرح أورويل فرضيته الشهيرة أنه في حالة الاختيار بين جانبين يتصارعان فبالتأكيد لن يختار الجانب الذي تحارب فيه الشرطة. 

وليس انتهاءً بعمليات الخطف والاغتيال المباشر، حتى اليوم ما زال مصير أندريه نين زعيم حزب العمال مجهولًا بعد اختفاءه في 1937 والكثير من الشواهد تؤكد أنه تم اغتياله على يد الستالينيين ومن ورائهم السوفييت.

الغطاء النظري لسياسة موسكو ساعتها كان يقوم على “نظرية المراحل” مرة أخرى، وبالتالي كانت محاولة إقامة الجمهورية والثورة في آن واحد مثلما كان ينادي الأناركيين والتروتسكيين في نظر موسكو تخريب للثورة، بل وعمالة للإمبريالية العالمية.

يصاب أورويل برصاصة في حنجرته -ستترك أثرًا في صوته حتى نهاية حياته- الأمر الذي يخضعه لفترة علاج في مستشفيات الجبهة الأسبانية بعد يقرر الخروج من أسبانيا، ويسرد الكثير من التفاصيل الخاصة بجو الإرهاب والاعتقال الذي شنه الستالينيون على باقي فصائل اليسار، يتخلص أورويل وآخرون من بطاقة العضوية، يقضي ليال لا يستطيع العودة لمحل إقامته، الذي تم تفتيشه من قبل الشرطة أكثر من مرة، أخبار اعتقال الرفاق لا تتوقف -سيعرف أورويل فيما بعد أن عددًا منهم قضى نحبه داخل سجون “الجمهورية”.

في مقدمة الكتاب يكتب أورويل عن وصوله لثكنة لينين ولقاءه بعامل مقاتل، يصف أورويل وجه الشاب بأنه “كان وجه رجل يمكنه القتل أو التضحية بالنفس في سبيل صديق” لا يتبادل الرجلان أكثر من سؤالين بخصوص بلد كلا منهما بأسبانية أورويل الضعيفة وإيطالية الآخر، لكن يقول أورويل “كأن روحينا نجحتا فورًا في تجاوز حاجز اللغة والتقاليد وتلاقتا في صداقة حميمة”، لم يلتق أورويل بالرجل مرة أخرى ولكن تلك البساطة وهذا التصميم وهذا الشعور بالألفة يبقى في ذهنه طوال الوقت.

نشر أورويل كتابه في 1938، وعاد ليكتب مرة أخرى عن الحرب الأسبانية في 1943 وتذكر ذلك العامل الإيطالي الذي كان بالنسبة له رمز للكثير من العمال والعاملات البسطاء الذين كانوا يرغبون في بناء عالم جديد لا طبقي، عالم يمكن أن تتفتح فيه قدرات الإنسان الحقيقية، لكن يتأسف على تلك الطبقة فمن استطاع منهم النفاد من تلك الحرب غالبًا ما ستكون قد اعتقلته قوات الجستابو.

ما زال ذلك العامل الإيطالي يتناسخ في صور كثيرة في مناطق كثيرة في العالم، ما زال حالمًا بعالم أفضل، وما زال مقتولًا ومعتقلًا ومشردًا، ولكن ما يبقى الأخطر عليه هو أن يُنسى.

عمال برشلونة يحتفلون بهزيمة قوات التمرد العسكري الذي قاده فرانكو ضد المدينة في 1936. المصدر: شبكة الأناركيين في إسبانيا ( تحت رخصة المشاع الإبداعي)

من يكتب تاريخ الشيوعيين؟

اختار الباحث الإيطالي جينارو جيرفازيو نشاط الماركسيين المصريين في سنوات ما بعد الهزيمة حتى اغتيال السادات محورًا لأطروحته لنيل درجة الدكتوراه، صدرت الترجمة العربية لكتابه في 2010 تحت عنوان “الحركة الماركسية في مصر 1967- 1981” ترجمة: بسمة عبد الرحمن وكارميني كارتولانو.

من أسباب اختيار جيرفازيو لدراسة تلك الفترة، هو تركيز الدراسات التاريخية المعاصرة للبلاد “النامية” على “الدولة” وسياساتها كموضوع وحيد للتحليل، بينما تم تجاهل الحركات المعارضة إلا في حال تشكلت تهديدا للدولة، لذا أخذت الدولة الناصرية النصيب الأكبر من الدراسات ثم الحركات الإسلامية فيما بعد.

بينما يرى جينارو أن دراسة تاريخ المنظمات الماركسية تعطي فرصة رؤية تاريخ مغاير للمشهد السياسي المعاصر خاصة وأن تلك الحركات كانت تمتلك “رؤى بديلة للسلطة، معدة جيدًا وعلى درجة عالية من التحليل في حالة اليسار الماركسي”.

لم يحظى تاريخ الشيوعيين المصريين حتى اللحظة الحالية بفرصة التدوين الكافي ومن ثم الدراسة، حدثت أكثر من محاولة ولكن قيدها المجهود الفردي إذ أن معظم تلك المحاولات قام بها أفراد، والأخطر هو الانحياز الأيديولوجي لصالح فريق ضد آخر -أو آخرين- عند أصحاب تلك المحاولات وضع مصداقيتها موضع الكثير من الشكوك.

عادة ما يقسم تاريخ الحركة الشيوعية في مصر إلى موجات، الموجة الأولى تبدأ منذ نهاية القرن التاسع عشر مع بداية ظهور أشكال وليدة للنقابات الحديثة مع تمدد الصناعة في مصر وصولًا إلى نشأة “الحزب الاشتراكي المصري” في 1921 قبل سنة من حصول مصر على أول استقلال الشكلي مع تصريح 1922.

الحزب الاشتراكي الذي تحول في 1922 إلى “الحزب الشيوعي المصري” انهار في 1924 تحت وطأة الضربات الأمنية العنيفة من حكومة سعد زغلول وفي ظل دستور 1923 -الدستور الأكثر ليبرالية كما يتم وصفه طوال الوقت، والذي استن سنّة عدم إقامة الأحزاب على أساس طبقي التي تم نسخها في كل دساتير مصر ومنعت إقامة أحزاب شيوعية بشكل دستوري.

في الأربعينيات تنشط مرة أخرى الفصائل الماركسية في موجة ثانية تشكل أحد ألوان الطيف السياسي المصري وتعصف بها تغيرات تلك الفترة وصولًا إلى النقطة الحاسمة في يوليو 1952 التي يبدأ من عندها بداية تشكيل مختلف للمشهد السياسي، وصولًا للذروة العنيفة مع اعتقالات 1959- 1964، التي انتهت بما عده البعض انتحارًا سياسيًا عندما أعلن الحزب الشيوعي المصري -بما ضمه من منظمات وحدت نفسها في هذا الكيان- في مارس 1965 عن حل نفسه والذوبان في الاتحاد الاشتراكي، التنظيم الواحد ساعتها، لوحدة الأهداف.

بعد هزيمة 1967 تنشط مرة أخرى فصائل جديدة للشيوعيين، ليبدأ الفصل الثالث في الحركة الشيوعية، الانتفاضات الطلابية المستمرة، سياسات الانفتاح، وبالتالي تحركات عمالية في أكثر من مكان في مصر، ثم لحظة الانتفاضة الشعبية العفوية في 18 و19 يناير 1977، التي تقابلها الدولة بقمع شديد من ناحية وتراجع لحظيّ عن قرارات رفع الدعم التي أدت إلى انفجار التظاهرات. بعدها تحدث فترة اختفاء وتحلل لمنظمات اليسار، حتى منتصف التسعينيات تقريبًا ثم تبدأ مرحلة جديدة تروتسكية التوجه بشكل عام.

الفرضية التي يطرحها جينارو خلال دراسته لتفسير هذا الاختفاء -غير الأسباب المشهورة المتعلقة بثقل الضربات القمعية التي تعرض لها اليسار في تلك الفترة وانحياز السلطة للجماعات الاسلامية بهدف السيطرة على مزاج الشارع- هو إصرار المنظمات الماركسية في تلك الفترة على القضية الوطنية -تحرير الأرض ثم مبادرة السادات للسلام مع إسرائيل- شكلًا وحيدًا للتعبئة الجماهيرية، مع إهمال القضايا الاجتماعية التي اهتمت بها الجماعات الإسلامية “التي أثبتت أنها الأسرع في إدراك تطلعات المجتمع للتحول واستطاعت استنتاج احتياجاته… وبالتالي فتحت لنفسها ثغرة بين الجماهير التي كانت تئن بالفعل تحت ضغط الأزمة الاقتصادية التي أدت إليها خسائر الانفتاح.”

لم يدّعِ جينارو في بحثه أنه يقدم الكلمة الأخيرة في تاريخ اليسار في تلك الفترة، رغم أن محاولته هي المحاولة الأولى والوحيدة حتى الآن – بالعربية في حدود ما أعلم- في الاقتراب من تاريخ الماركسيين في تلك الفترة، بل كان يرجو أن يساهم بحثه وفرضياته في فتح نقاش وإخراج أفكار وشهادات حول تلك الفترة وسياساتها، لكن لم يحدث أو على الأقل حتى الآن، مؤخرًا تم نشر مجموعة وثائق لحزب العمال الشيوعي المصري أحد أكثر التنظيمات نشاطًا في تلك الفترة، لكن مازال الكثير مختفيًا.

أحد دوافع محاولة جيرفازيو كتابة تاريخ تلك الفترة هو الخروج من استحواذ كتابة رفعت السعيد (1932- 2017) لتاريخ اليسار المصري، السعيد الذي كتب عدة مجلدات تحت عنوان “تاريخ الحركة الشيوعية المصرية” انحاز فيها لفصيله السياسي وهمش أو حذف جهود وتحركات العديد من التنظيمات الماركسية الأخرى لاختلافها مع تنظيمه السياسي، إضافة إلى توقفها بالعربية مع حل التنظيمات الشيوعية في منتصف الستينيات، وما كتبه لاحقًا بالإنجليزية عن فترة السبعينيات أهمل فيه تمامًا عدة منظمات شيوعية مهمة.

إحدى أكبر الصعوبات التي تواجه مثل هذا البحث والكتابة هي الرقابة الذاتية للمناضلين والمناضلات أنفسهم الذين شاركوا في صناعة هذا التاريخ، الخطورة الأمنية تشكل جزءًا من هذه الرقابة، وأيضًا التحيزات والاختلافات والانشقاقات وقرب فترة الأحداث يمنع صناعيها والمشاركين فيها عن الكلام.

من مظاهرات يناير 1977. مجلة المصور، نقلاً عن مدى مصر

ورثة الجروح

تبدو هذه الصعوبة وكأنها سدٌ عندما يتسائل الواحد عن تاريخ النضال اليساري في سنوات التسعينيات وعقد الألفية الأول وما بعده، هل يمكن كتابة مثل التاريخ الآن؟ هل يمكن الإفصاح عن سياساته واختياراته ومتى نجح -إن كان شعر في لحظة بالنجاح- وكيف أخفق.

تاريخ الشيوعيين كدعاة تغيير هو تاريخ منظمات وأحزاب وبرامج سياسية مرتبطة بلحظات بعينها، وأيضًا تاريخ مناضلين ومناضلات دفعوا أثمانًا من أعمارهم وصحتهم الجسدية والنفسية كي يخلقوا عالم آخر يعرفون أنه لن يأتي -على الأقل حالًا- سجنوا وقتلوا أحيانًا واضطربت أو تدمرت حيواتهم الخاصة وسقطوا أو انحرفوا أو كفوا ولكنهم دفعوا أثمانًا باهظة.

وهو أيضا تاريخ انشقاقات وتحزبات وسوء استعمال للسلطة -حتى إن كنا نتكلم عن منظمات تضم أفرادا قلائل- تاريخ شاركت في صنعه مناضلات تعرضن أحيانًا للتهميش أو للاستغلال -بما فيه الجنسي- أو للاستعمال أو للإسكات، وسماع أصواتهن وشهادتهن مهم أيضًا.

ربما لتجنب إعادة التكرار؟ ربما للتعلم؟ ربما لبناء مستقبل مغاير؟ ربما لإعادة بناء التاريخ بناء على روايات جرى استبعادها من رواية تواريخ رسمية وحتى من رواية تواريخ بديلة؟ ربما الأهم أن صوت المستعبدين والضحايا يجب أن يسمع.

تخبرنا الكاتبة الألمانية يوديت شالانسكي في كتابها “فهرس بعض الخسارات” -قام سمير جريس بترجمته لكن للأسف عبث مقص رقابة الناشر بالكتاب مما حال دون توزيعه- “الماضي، وليس المستقبل، هو الذي يمثل فضاء الإمكانات الحقيقي. لهذا تحديدًا فإن إعادة تأويل الماضي هي من الأفعال الأولى التي يقوم نظام الحكم بعد توليه السلطة”.

ربما لهذا من المهم أن يخرج الماضي، أن تخرج حكاياته، أن تجد لها مكانًا بيننا نحن ورثة الجرح المفتوح على حد تعبير الكاتب المصري هيثم الورداني الذي يرى أنأي محاولة حقيقية لوراثة جرح الماضي لا يجدر بها أن تغلق ما هو مفتوح، وإنما عليها ترك هذا الجرح يعمل على الواقعما تريده حقًا هذه الجراح هو هزّنا، وإفساد حاضرنا القائم على نسيانها.”