fbpx
خطــ٣٠ // باستخدام Ai // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

قصة “القاورية” التي لم تنته

تعودت على سماع قصة "القاورية" من جدتي، منذ صرتُ قادرة على استيعاب ما أسمعه حتى كَبِرتْ هي وفقدتْ قدرتها على السمع والاستيعاب
ــــــــ ماضي مستمر
1 أغسطس 2023

سمعت قصة “القاورية” طيلة السنوات التي كنت أتسامر فيها مع ماني (جدتي). كانت تلك الفترة ممتدةً من الأيام التي صرت فيها قادرة على استيعاب ما أسمعه حتى كبرت ماني وفقدت قدرتها على السمع والاستيعاب، أشهرًا قبل وفاتها، حين انقطع حبل الكلام بيننا. 

قاورية، مؤنث قاوري -في الدارجة الجزائرية- وأصلها  gavur وهي كلمة تركية تعني الكافر غير المسلم. هذا ما أكده لي أصدقاء أتراك، -على الأقل لغويًا- ولكن أحدهم تدارك الأمر مسرعا ليذكرني أن أمه كانت تلقبه بابن القاوري حين يتسبّب في مشكلةٍ ما. على كلٍ، أظن أن المعنَيَيْن يبرران لم استخدمت جدتي اللفظ لتصف به السيدة الفرنسية التي عملوا عندها سنوات طوال. تصفها بأنها كافرة غير مسلمة وتنتمي إلى صف المستعمر.

قبل وفاتها، ظلت ماني -وخلال كل تلك الفترة التي ذكرت أعلاه- تحكي عن القاورية التي تدخلت لتنقذ جدي بعد أن حكمت عليه السلطات الاستعمارية بالموت، تقول هذا التفصيل بالذات ثم تدعونا لأن نخفض أصواتنا قبل أن  يسمعها، لأن القاورية أنقذته بعد أن ذاق كفايته من التعذيب، والأفظع أنها لم تستطع إنقاذ والده المحكوم عليه بالانتماء رسميًا لجبهة التحرير الوطني. تقول جدتي ذلك كأنما لتذكرنا بفضل القاورية على وجودنا اليوم.

تتمادى ماني -رغم ذلك- في سرد تفاصيل أخرى، لكن هامسةً هذه المرة “عذبوه بالكهرباء، ثم وضعوه في الماء، أما عن جدكم الأكبر أمحمد فقد ربطوه ثم قتلوه، ولكن قبل ذلك نزعوا جلدة رأسه، كاش نهار سآخذكم لتروا السلك الذي ربطوا به يديه في الشجرة، مازال موجودًا إلى الآن”. لم نذهب يوما لنر ذلك السلك في الحقيقة، بالمقابل كنا نتحمس ونطلب منها أن تستمر في الحكي، لا أدري أي متعةٍ وجدناها أمام تفاصيل العنف تلك؟ متعة الافتخار بأننا أحفاد شهيد.. ربما؟

حين صرت قادرة على فهم عجز اللغة أمام المعنى، تعلمت أن أحترم صمت جدي وتفهمت أن تقترن الثورة لديه باليتم والوجع الجسدي والنفسي، وأبشع من ذلك أن ترتبط الثورة لديه بقصة يحكيها الجميع بحماس، إلا هو لم يكن يجد فيها أي حماس يذكر ..

عجزت عن فهم ذلك، تمامًا كما لم أفهم لماذا لم يفتخر جدي بأنه ابن شهيد. ثم لماذا كان يطلب منا بجديةٍ مخيفة أن نصمت؟ غالبًا ما كان ينتج عن طلبه بعض النقاشات الحادة، لنقل الحادة جدًا، شيء يشبه نقاشا بين عجوزين عاشا الاستعمار والفقر وشُحّ الحب ولا يملكان أي شيءٍ آخر لخسارته، خاصةً حين صار أصغر الأبناء العشرة أبًا لأربعة أطفال. 

تستغل ماني الوضع لتذكره بالمرّ الذي جرّعها إياه وبأنها لن تسامحه على كل ما فعله فيها وبأنه لن يجد أين يولي وجهه يوم القيامة، ويكرر هو مرارًا عبارة “اسكتي يا مصيبة”. تسكت مجبرةً ووسط كل هذا يبقى فضولنا نحن الأحفاد  قائمًا لمعرفة لم أنقذت القاورية جدي.

“اسكتي يا مصيبة”. حسبت لمدةٍ طويلة أن هذه الجملة هي مأساتنا الأكبر.. مأساة أن يرفض جدي الاستماع لما يؤلمه وأن يحملنا تبعات هذا الخيار. ثم حين صرت قادرة على فهم عجز اللغة أمام المعنى، تعلمت أن أحترم صمته وتفهمت أن تقترن الثورة لديه باليتم والوجع الجسدي والنفسي، وأبشع من ذلك أن ترتبط الثورة لديه بقصة يحكيها الجميع بحماس، إلا هو لم يكن يجد فيها أي حماس يذكر.. بقي جدي حيًا بفضل من كانت في صف من قتلوا والده.

صرت أرفض قطعًا المشي بفخرٍ فوق آلامه، وأكتب هذا الكلام لدواعي أخرى، منها التصالح مع الألم الذي أورثنا إياه وليس بدافع الافتخار. 

في سياقٍ متناقضٍ جدًا، أظن أن جدي اليوم، يحنّ أكثر من أي وقت مضى ليطلب من ماني أن تصمت ، لم يعد هناك أحدٌ ليستفزه أو يغضبه أو يذكره بألمه ليتطهر منه. أتفهم ذلك أيضًا، أذهب نحوه أحيانا فقط من أجل هذا، من أجل أن يتكلم.

كان يجب أن نتكلم

“ما رأيك أن تحكي لي عن بكري؟” هذا هو السؤال النمطي الذي أفتح به دائمًا الحديث معه، يتجاهلني في البداية، ثم يرد بسؤالٍ آخر “لقيتي خدمة ولا مازالك غير تجري؟”، أظن أنه يعرف جيدا أن سؤاله يزعجني بقدر ما يزعجه سؤالي. عكسه أرد بانفعال كأنما لأدافع عن نفسي “ايه راك تعرف البلاد، البطالة، لست الوحيدة العاجزة عن إيجاد عمل…”

ثم لأنه يحبني -وأعرف ذلك- يجنح إلى السلم ويحكي تفصيلًا أو اثنين عن حياته في الماضي، نادرًا ما يذكر الثورة، غالبًا ما يتحدث عن ظروف العمل، كأنما ليعيد تذكيري أنه لم يكن يملك خيارات كالتي أملكها اليوم. 

“بدأ جدي العمل في الفلاحة صغيرًا” حين أقول الجملة هكذا يبدو الأمر جميلًا، “بدأ” وكأنه أخذ بزمام الأمور وقرر أن يبدأ ولكن “بدأ جدي العمل في الفلاحة وهو في سن السابعة” تحيلُ إلى قراءةٍ أخرى تمامًا، تستدعي أن نغير الفعل ربما، أو نخترع فعلًا جديدًا مثل “أبدؤوه”. 

آخر مرة تحدثنا فيها، كانت مسبوقةً بأيام صمتٍ طويلة وتلتها أيام صمتٍ أطول، ذلك المساء قال الكثير من الأمور.. منها قصة القاورية، ولكن كيف وصل إليها؟

تحدث جدي ذلك المساء كالعادة عن ظروف العمل، عن الزايلة التي تستخدم للحرث والتي كانت أكبر منه وكان يعجز عن التحكم فيها لإتمام مهامه، عن طبعه الانطوائي وعدم قدرته على التأقلم مع بقية العمال، ثم فجأةٍ ولأول مرة قال كلامًا عن القاورية التي كانوا يعملون عندها، والتي تفهمت وضعه وقامت بتحويله إلى الحديقة ليعتني بأشجارها الخاصة. 

أسأله “هي كانت المسؤولة؟ يعني هي المستوطنة التي أخذت أراضيكم ثم قامت بتوظيفكم؟”

يجيب أن نعم، ثم يواصل “كانت تحب حديقتها جدًا، تخرج أحيانًا لتساعدني، علمتني الكثير من الأمور عن الاعتناء بالورد، طُرقٌ حديثة في التقليم والتطعيم، لم تكن تعرف أن الجبل علمنا أكثر”. 

أعيد طرح سؤال آخر “كانت طيبة؟” يجيبني: “تقريبًا.. نعم، عندما تزوجت وولِد أعمر.. لاحقًا، صار يذهب للمدرسة مع أولادها”، عرفت بعدها لماذا كانت تقول ماني أن القاورية كادت تأخذ منها أعمر لتتبناه.

“من سرقوا رغيفنا وأعطونا منه خبزة” تلاحقني هذه الجملة التي كتبها غسان كنفاني، تحتل فكرة “نحن والآخرون” حيزًا كبيرًا في ذهني. أظن أنني لست الوحيدة، تلك هي الصورة التي تشكلت في مخيالنا الجمعي ..

ثم قال: “هي التي تدخلت لانقاذي، قالت بأنها تحتاجني في العمل وأنني لم أتدخل أبدًا فيم لا يعنيني، ثم اعتذرت لأنها لم تفعل شيئًا من أجل والدي”. تذكر مأساة فقدان والده: “عانيت كثيرًا بعد موت والدي، ظلمني هؤلاء الجيران -مشيرًا نحو منزلهم بيده- أرادوا أن يأخذوا جزءًا من أرضي لأنهم كانوا يعرفون أنني وحيد وليس لدي إخوة، حاولوا تشويه سمعتي لأن القاورية وقفت إلى جانبي، أرادوا أن يقولوا أنني خنت بابا والوطن ولكن المجاهدين أصدقاء المرحوم تدخلوا ودافعوا عني”.  

كان جدي يعيش شيئًا يشبه جملة “سرقوا رغيفنا وأعطونا منه خبزة”، ولذلك ظل يرفض قطعًا أن يشكر من أعطاه خبزة.

“من سرقوا رغيفنا وأعطونا منه خبزة” تلاحقني هذه الجملة التي كتبها غسان كنفاني، تحتل فكرة “نحن والآخرون” حيزًا كبيرًا في ذهني. أظن أنني لست الوحيدة، تلك هي الصورة التي تشكلت في مخيالنا الجمعي. وإذا اعتبرنا أن الفن هو نتاج ذلك المخيال فلن يدهشنا مثلا أن نسمع نورا حين تغني فتقول “يا ربي سيدي وش عملت أنا ووليدي، ربيتو بيدي وداتو بنت الرومية”. 

جل الأفلام التاريخية لدينا أكدت على هذه الفكرة أيضا، فكرة أن الحرب تلد الأعداء، وأن الحرب البشعة أكثر خصوبةً منها، تلد أجيالًا من الأعداء. ولهذا السبب بالذات رفض صوت الجماعة -في الجزائر- فيما بعد الأفلام التي لم تختر موقفًا واضحًا بين الأبيض والأسود، واختارت الظلال بينهما. مثل فيلم “فضل الليل على النهار”، المقتبس عن رواية لياسمينة خضرا تحمل ذات العنوان والذي جاء ليحكي عن طفلٍ تشرد بسبب الاستعمار ولكنه صاحب أبناء المستعمرين ولكنه عانى ولكنه ثار ولكنه جاهد.. ولكن البعض يرفض القصة لأنها لم تتخذ موقفًا من الأعداء.. ربما يمكننا مساءلة الفيلم ومخرجه الفرنسي المولود بالجزائر والذي يحنُّ إلى تلك الفترة، لكن ماذا عن الرواية وكاتبها الجزائري؟ هل تزعجنا سرديتها إلى هذه الدرجة؟

خلف الكاميرا 

اتصلت بي صديقةٌ قبل أشهر لتدعوني للمشاركة في إحدى ورشات البرمجة السينمائية. “من تنظيم من؟” سألتها، “هي شركة إنتاج فرنسية تحصلت على تمويل من طرف منظمة و…” لم أسمع بقية الإجابة.

حين أسمع كلمة التمويل، أبدأ في تذكر التحليلات السياسية، على القنوات وصفحات الجرائد، عن المنظمات غير الحكومية التي تهدف لنشر ثقافة الأقوى والتعايش معه وكسر سيادات الدول، ثم أبدا في التوجس ومنه التقوقع حول نفسي. 

فوتُّ الكثير من الفرص لنفس السبب المذكور أعلاه ولكن قبل أشهر لم أكن أملك خياراتٍ كثيرة ثم إنني أثق جدًا في الصديقة المتصلة. وضعتني ذات الصديقة في اتصالٍ مع إليزابيث، وبعد مراسلاتٍ الكترونية نمطية انطلقت الورشة الأولى، بعدها ولأن الأمور مرت على ما يرام -من ناحية التوجس- حالفني الحظ لأكون جزءًا من ورشةٍ ثانية، حيث كان عدد المشاركين أقل.

كنا ثلاث جزائريات، كل واحدة منا تحمل فكرةً عن فيلم، ساعدتنا إليزابيث وصديقيها -مخرجين آخرين- في الانتقال من الفكرة إلى الملف. في هذه المرحلة صرت أكثر حذرًا، خائفةً من أن يتم تحويل فكرتي إلى شيء لا أريده، خائفةً من الاستعمار الجديد، بتعبير أبسط أو أعقد لا أعرف، كنت أرفض قطعًا أن ألبس القناع الأبيض الذي حدّثنا عنه الدكتور فانون.

أعرف أن جدي لا يحب المستوطنة القاورية، يكره المستعمر الذي تسبب في يتمه، معاناته، فقره وتعبه. لكن وسط كل ذلك العنف، كانت المستوطنة القاورية، التي تحمل كل عار التاريخ، هي وحدها من مدّت يدها لتساعده في غرس شجرة، لتقول له أن يجيد عمله، لتتدخل بمحض صدفةٍ وتنقذه ولكن يستحيل عليه أن يقول ذلك بشكلٍ واضح ..

بدأت في البحث عمن تكون إليزابيث لوفري، فرنسية مولودة في الجزائر العاصمة، أنجزت فيلما أو اثنين أو ثلاثة، كلها وثائقيات عن الجزائر، وثائقيات تحمل حساسيةً بالغة، كفيلمٍ يحكي مثلا عن رحلة بحرية بين مرسيليا والجزائر ويجمع كل القصص التي قد يرويها المهاجرون وغربتهم. 

تركت اليزابيث وعائلتها الجزائر سنواتٍ بعد الاستقلال، بالمقابل كان أول أفلامها عن الجزائر، أخبرتني مرةً -بعد أن فهمت وساوسي حولها بأن ابنها يحمل جواز سفرٍ جزائري. أظن أنها قالتها لتطمئنني مرة أخرى. تمامًا كما كانت تقول وسط أي اقتراح من أجل كتابة الفيلم “في النهاية أنت التي تعرفين، ربما أقول هذا كمشاهدة فرنسية”. 

أجيبها “من الجيد أنك تعرفين ذلك”، دون أن تسمعني طبعًا.

استقبلتني إليزابيث في بيتها وتقاسمت معي بسخاء الكثير من خبرتها في السينما والإخراج، خبرةٌ لا أشك مطلقًا بأنها جمعتها دون تعب وسنواتِ بحث طويلة. إليزابيث هي الأولى والوحيدة التي لم تكتف بالقول “أوه رائع، سيكون لديك مستقبل جميل” عوض ذلك، أخذت وقتها في فهم فكرة أحملها، في مساعدتي على كتابتها.. نعم هي تفعل ذلك لأنها تلقّت تمويلًا وهذا هو عملها ولكني أراهن أنه لا يوجد أي ثمن لنقل ما نعرفه ولتقاسم حساسيتنا الفنية، كل هذا إلى جانب تفهمها لعدم ثقتي بها.

“لا أدري”

ترددت قبل أن أطرح على جدي هذا السؤال ولكن للضرورة الشعرية حكمت: “ماذا لو طلبت منك الجبهة أن تقتل القاورية، هل كنت لتقتلها؟” تردد هو أكثر في الإجابة، ثم لضرورة شعرية أقسى قال “لا أدري”. 

بنيت على “لا أدريته” هذا النص، كل محاولات الهروب من القصص السابقة، كل التناقضات الداخلية التي يحملها وأحملها منه وعنه. كل المواقف التي يصعب فيها أن نعبر عن خياراتنا، وربما يكون ذلك من أبشع حالات الضعف. بدا لي بشكلٍ أوضح لماذا اختار الصمت، أو على الأقل بررت الأمر بطريقتي الخاصة.

أعرف أن جدي لا يحب المستوطنة القاورية، يكره المستعمر الذي تسبب في يتمه، معاناته، فقره وتعبه. لكن وسط كل ذلك العنف، كانت المستوطنة القاورية، التي تحمل كل عار التاريخ، هي وحدها من مدّت يدها لتساعده في غرس شجرة، لتقول له أن يجيد عمله، لتتدخل بمحض صدفةٍ وتنقذه ولكن يستحيل عليه أن يقول ذلك بشكلٍ واضح.

مازلت إلى حد هذه الساعة، أحمل منه وعنه تناقضاته، أكتب وأنا مترددةٌ أيضا. قلقةٌ من أن أخون مبادئنا الثورية وأن أقول في مكانه ما يرفض قطعًا أن يقوله هو، أنه حقًا وجد شيئًا من العطف في حديقة القاورية.

مرةً أخرى شعرت بالتردد أيضًا، ولكن هل نعبر فقط حين نحدد موقفًا؟ لا، يمكننا أن نعبر عن التردد أيضا، أن نقول ببساطة “لا ندري”.