fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

سلطان المحو.. القاهرة ولوثة العمران الطائش

المحو الجاري منذ سنوات في مصر، يبدو أنّه غير مسبوق تاريخيًّا؛ ليس لأنّه مُنفلت العقال، بل لأنّه تدميريّ بلا معنى، ويُلقي بالجميع في خانة «التهمة» والجريمة، فيما لا أحدٌ مذنبٌ على الإطلاق. القاهرة وناسها، يُعاقبون على ما لم يفعلوا
ــــــــ الحركة في المدينةــــــــ المـكـان
10 يناير 2025

«وكان صراخٌ عظيمٌ في مصر». سفر الخروج، 12:30

يبدو أنّ قدرنا كعربٍ منذ بدء الألفيّة هو الفقد؛ فقد المدن، وفقد الذاكرة. افتُتِحت الألفيّة باحتلال العراق الذي سُرِق إلى الأبد، حتى ليبدو أنّ تاريخًا حافلًا قد جرى تدميره، بأثرٍ رجعيّ. ثمّ لا تَلبث المدنُ الفلسطينيّة إلّا أن يستشري فيها السّرطان الاستعماريّ الإسرائيليّ؛ سرطان المستوطنات. تسقطُ طرابلس. تسقطُ حلب. وتسقط تَعز، والخرطوم. غزّة تُباد كما لم تُبَد مدينة. وبين عشيّةٍ وضحاها، استشرى القصف الإسرائيلي في بيروت وضاحيتها الجنوبية. القاهرة تُمحَى بالهدم، وتُنتزَع من كلّ «ثقلها» التاريخيّ والمعماريّ، من أجل اللحاق بعولمةٍ تجعل العالم كلّه شبيهًا بعضه بعضًا إلى حدّ السأم.

لعلّ الجغرافيا العربيّة اليوم لا تُنتج سوى لاجئين. وهم لاجئون غير مقبولين في البلدان العربيّة المُضيفة، ولا للغرب. يدفع الغرب ملايين الدولارات للأنظمة القمعيّة كي تحتوي عنه اللاجئين، ولئلّا تصدّرهم إليه. يغدو موت العربيّ اليوم موتًا مضاعفًا. النظام الاستبداديّ طرده بلا رجعة، وإن عاد فسيدخل الزنزانة (حالة سوريا نموذجًا)، أو هو «عالق» في أحسن أحواله، يعيشُ دون حسّ أو خبر حتى لا يقع تحت طائلة القانون في البلدان الغربيّة. إنّه عُرضة دائمة للترحيل. وبالاستعانة بأعمال جورجيو أغامبن، يمكننا أن نقرأ الترحيل باعتباره صورة أخرى من سَلْب الحياة، والإبعاد، والنبذ، وبالتالي صورة من صور «اللاقانون» الذي يجعل هذا المرحَّل قابلًا للقتل أو السجن للأبد دون أيّ مبرّر قانونيّ.

إلّا أنّ المحو الجاري منذ سنوات في مصر حاليًا يبدو أنّه غير مسبوق تاريخيًّا؛ ليس لأنّه مُنفلت العقال، بل لأنّه تدميريّ بلا معنى، يقتل الأخضرَ واليابس فعليًّا، الشجر والمدر، البشر والحجر، ويلقي بالجميع في خانة «التهمة» والجريمة، فيما لا أحدٌ مذنبٌ على الإطلاق.

مع كلّ هذا الدمار العربيّ، هل يمكننا أن نكتبَ مرثيّة للمدينة العربيّة؟ إنّ «قاهرة» نجيب محفوظ لم تعد موجودة ببساطة. «الحارة» التي شكّلت أعماله العالميّة انمحت. لا لأنّ الزمان أكل عليها وشرب، بل لأنّ سلطة الهدم في مصر لم تعد تريد «زقاق المدقّ»، ولا «السيّدة زينب»، أو الساحة المكشوفة لمسجد «الحسين»، بل حتّى لم تعد تريدُ ماضيًا ميّتًا، وها هي تقود إبادة شَرِسة بهدم مقابر الموتى في «القرافة» التاريخيّة.

لقد كانتِ القاهرة، على مدار تاريخِها العريض، عُرضة لاستعمال السّلطة في الحدّ والنبذ ورسم الخطوط. والتاريخُ المعاصر حافل منذ الاستعمار، ثم مع مجيء «الأنظمة الوطنيّة» بمحاولاتٍ عديدة للحدّ من العامّة والنّاس، لأنّ السلطة تتأسّس على مبدأ الخوف. يبدو أنّ موقف ميكافيللي الذي قال إنّ المُلك يقوم بالحبّ والخوف لا يصدق على القاهرة، لأنّها لم تعرف سوى سياسات الخوف: خوفٌ من المساحات العامّة الهاربة من القبضة الأمنيّة، وخوفٌ التكتّلات، من خرق بروتوكولات السلطة في الأماكن العموميّة. خوف معمّم خيَّم دومًا على ليل القاهرة.

إلّا أنّ المحو الجاري منذ سنوات في مصر حاليًا يبدو أنّه غير مسبوق تاريخيًّا؛ ليس لأنّه مُنفلت العقال، بل لأنّه تدميريّ بلا معنى، يقتل الأخضرَ واليابس فعليًّا، الشجر والمدر، البشر والحجر، ويلقي بالجميع في خانة «التهمة» والجريمة، فيما لا أحدٌ مذنبٌ على الإطلاق. القاهرة، وناسُها، يُعاقبون على ما لم يفعلوا. ويبدو أنّنا نحيا أقسى درس قدّمه لنا كافكا: جميعُنا سنُعاقب، رغم أنّنا لم نرتكب جُرمًا قطّ. واليوم، في القاهرة، يُعاقب الموتى بهدم مقابرهم قبل الأحياء الذي يموتون في العشوائيّات وفي نشرات الأخبار من الجوع، ومن سياسات صندوق النّقد الدوليّ. النّاس في القاهرة يموتون من فارق العملة بين الدولار والجنيه.

ذاكرة مُعبّدة بالإسفلت

لا تَشعر «نرجس علي» (فاتن حمامة) بالارتياح لاتّباع أحلام بَنيها بالهجرة إلى أميركا، تاركةً منزلها في حيّ مصر الجديدة بالقاهرة، لأنّها تجدُ أنّها تشبه الشجرة التي تُطلّ عليها نافذتُها. إنّ «نرجس» من عمر هذه الشجرة التي نبتت معها. تتحوَّل «أرض الأحلام» (وهو عنوان فيلم للمخرج المصري داود عبد السيد 1993) إلى كابوس محقَّق. تُلحّ عليها أسئلة صعبة: كيف يمكن أن تقتلع نفسها، لتنتقل إلى الحُلم الأميركيّ، فيما هي مُثقلة بالذكريات، وبالشجرة، وبحيّها في مصر الجديدة؟ تختلطُ ذكرياتها، يُصيبها الدوار، تبدو فكرة الهجرة التي جذبت جيل الأبناء صاعقة بالنسبة إليها، علاقتها الرومانسيّة بالأشياء من شجرٍ وحجر وبشر تغدو شريطًا لا يفتأ يتردّد صوته أعلى من ضجيج سيارات القاهرة. إنّ الشجرة تمثّل ذاكرةً حيّة للمكان، لرثاء الزمن، لكلّ مَن رحلوا، أو هاجروا تحت وطأة «الحلم الأميركيّ». إنّ الشجرة هي المدينة، إنّها آخر ظلال المدينة قبل أن تتحوّل إلى شبح كموج البحر يُرخي سدوله حتى يبتلع الجميع.

لكن، ماذا لو أفاقت «نرجس» من موتها، وفتحت شبّاك شقّتها في حيّ مصر الجديدة الآن؟ لن تُبصر شجرة. ستبصرُ محوًا. لن تجد وسيطًا جماليًّا بينها وبين الإسفلت. سيغدو الإسفلت هو سيّد المشهد ببساطة. فالأشجار التي كانت تميّز حيّ مصر الجديدة أصبحت من الماضي، شيئًا نراه نحن الحاضرين في التلفاز كأنّه من زمنٍ غابر. أمّا الأجيال القادمة، فستُولد بذاكرةٍ أخرى، هي ذاكرة الإسفلت، والكباري، والطرق السريعة المخيفة.

هذه النيوليبراليّة وكما يذهب تيموثي ميتشل في كتابه «حكم الخبراء» لم تعنِ في مصر تراجع دور الدولة، بل أدّت إلى تكريس السّلطة والسوق في يد أوليغارشيّة طبقيّة لا تسمح سوى بمزيد من التدهور الاقتصاديّ والانحدار في جودة الحياة وفرض ضرائب غير عادلة على الفقراء، وبالتالي أنتجت مزيدًا من الفقر والعشوائيات وأنماط العمل غير الرّسميّ

إنّ هذا النّمط العمرانيّ القائم على إفراغ المجال العموميّ من أيّ حركة عبر قوانين الطوارئ، والذي يهدف إلى بناء «مدينة جديدة» إنّما هو نمط حضريّ يسمّيه السوسيولوجيّ الماركسيّ ديفيد هارفي بـ «النمط الحضريّ الطائش» (mindless urbanization). أدّى هذا النمط الحضريّ منفلت العقال إلى تهديم أماكن كثيرة، في محاولته لخلق فضاءات بديلة للسكّان المهدومة بيوتهم أو تعويضهم بمبالغ عينيّة. وهناك طرف من المحلّلين يميل إلى تصوير التخلُّص من العشوائيّات باعتباره فعلًا مدينيًّا مهمًّا، لكنّ هذه النظرة عالقة في الدعاية والترويج وانعدام فهم الواقع المعقّد لعشوائيّات القاهرة وضواحيها.

إنّ العشوائيّات التي ظهرت في مصر منذ ثمانينيّات القرن العشرين، قد تمدّدت بفعل اللاعدالة الاجتماعيّة وعدم تكافؤ الفرص، مما جعل أبناء الأطراف يتوافدون إلى المركز/القاهرة للعمل، ويسكنون أماكن غير آدميّة في سعيهم إلى البقاء. كانت العشوائيّات، ولا تزال، هي معضلة السّلطة التي لا توفّر شرطًا آدميًّا لحياة المصريين، بل تركتهم إلى سوق نيوليبراليّة غير عادلة، دون توفير ضمان اجتماعيّ، وذلك بعدما تبنّت الدولة سياسات نيوليبراليّة بالتحالف مع صندوق النقد منذ «عصر الانفتاح» والتي تضخّمت في العصر الحالي لتصل إلى ذروة التدمير عبر الشراكة مع الصندوق، إذ أصبحت مصر تتبوّأ المراتب الأولى عالميًّا في نسبة الدَّيْن لديها. وعلى الرّغم من إعلان الدولة الدائم لحريّة السوق وترك المجال للقطاع الخاصّ، إلّا أنّ هذه النيوليبراليّة وكما يذهب تيموثي ميتشل في كتابه «حكم الخبراء» لم تعنِ في مصر تراجع دور الدولة، بل أدّت إلى تكريس السّلطة والسوق في يد أوليغارشيّة طبقيّة لا تسمح سوى بمزيد من التدهور الاقتصاديّ والانحدار في جودة الحياة وفرض ضرائب غير عادلة على الفقراء، وبالتالي أنتجت مزيدًا من الفقر والعشوائيات وأنماط العمل غير الرّسميّ.

عقاب بلا جريمة

لا يمكن قراءة هذا النّمط الحضريّ الطائش القائم في مصر حاليًا إلّا في ضوء ثنائيّة «القنبلة» و«المقبرة». يرمي كثير من الباحثين إلى وصف القاهرة باعتبارها «قنبلة» موقوتة، ومركزاً للانفجار والتلوّث، وعشوائيات مفخّخة بالإرهابيين. أمّا الأسطورة الثانية، فهي ترمي إلى توصيف القاهرة باعتبارها «مقبرة»، منسحقة، ومدينة للموتى، تسحق بَنِيها، وبالتالي فهي مدينة مستكينة للسلطويّة، لا تُنتج حراكًا اجتماعيًّا، أو فعلًا نضاليًّا يمكن التعويل عليه.

لكن، كانت الانتفاضة الجماعيّة في الخامس والعشرين من يناير عام 2011 بمثابة خرق لهذه الثنائيّة ببساطة، حيث أثبتت الانتفاضة أنّ الإشكالات الحقيقيّة «عابرة» طبقيًّا، وأنّ التجريف المباركيّ للطبقات الدُّنيا والوسطى جعل الفعل الثوريّ يخترق «المساحات الآمنة» المسوَّرة التي كان النظام المباركيّ يظنّ أنّها لا يمكن أن تلتحم، وأنّ الفواصل والحواجز الأمنيّة ستمنع من التوافد الشعبيّ نحو «التحرير» للمطالبة الجماعيّة بمطالب الثورة الثلاثة: عيش، حريّة، عدالة اجتماعيّة.

إنّ الشعور الذي اجتاح الملايين في «يناير» هو أنّهم استعادوا حقًّا أساسيًّا لهم، ألا وهو «حقّهم في المدينة» وامتلاكهم لحيّزٍ عامّ حرًّا من الضغوطات الأمنيّة أو التكتّلات الداخليّة التي كانت تبني أسوارًا على ليل القاهرة. هذا الحقّ المُستعاد للمدينة هو بالضبط الحقّ الذي يمكّن من إعادة اختراع الحريّة في شكلها البكر؛ أي حريّة أن تكون المدينة متشكّلة بالتشكّلات الاجتماعيّة والفرديّة نفسها التي تتنازع بحريّة على الحيّز العام. إنّ امتلاك الجماهير للحيّز العام يعني إمكانيّة «الثورة» الدائمة، وإمكانيّة المطالبة دومًا بالحقوق والعدالة الاجتماعيّة.

أضحى القاهريّون يشعرون بأنّهم لا يعرفون أمكنتهم، وكأنّهم ليسوا هم الذين كانوا هنا، يتنقّلون سيرًا بين المدن والأحياء القاهريّة بسلاسة، حيث يُسلِم طريقٌ إلى طريق، وزقاق إلى زقاق. فجأة، وجد النّاس أنفسهم في مدينة ممزّقة إربًا، محاطين بمجموعةٍ كبيرة من الكباري التي تُشعرهم بالفزع

وبالتالي، علينا أن نفهم زوال القاهرة الذي نحياه الآن من منظور «المعاقبة والمراقبة». إنّ السلطة تسعى إلى إفراغ الحيّز العامّ بكلّ ما تعنيه الكلمة، حتى ولو كان العائق قبر طه حسين، أو أشجار حيّ المعادي، أو مباني منطقة ماسبيرو. فهذا الإفراغ المُمنهج هو وسيلة السّلطة دومًا للمراقبة. وحين نتحدّث عن المراقبة، فنحن نتكلّم اليوم عن آليات أكثر دقّة وموثوقيّة في مراقبة الأفراد عن أيّ وقت مضى، من خلال الكاميرات الموجودة في الشوارع، والتي تتزايد كميّتها بصورة هائلة.

فضلًا عن ذلك، لقد خلق هذا العمران الطائش الذي يقوم على مبدأ هدم المدينة وتمزيقها نوعًا من اغتراب المدينة عن نفسها واغتراب قاطنيها عنها. فعن طريق الكباري المنتشرة بغزارة، أصبح السيرُ في المدينة أمرًا مرهقًا، إن لم يكن مستحيلًا. كانت السّمة الأبرز للقاهرة، والتي احتُفيَ بها من كافّة الذين كتبوا عنها، هي سهولة التنقّل بين أحيائها سيرًا على الأقدام؛ من حيّ الزمالك وصولًا إلى وسط البلد، ومن مدينة نصر إلى مصر الجديدة. إلّا أنّ خلق كلّ هذه الطرق السريعة داخل المدينة مع الأعداد المهولة من الكباري أفقدَ المدينة الصلات الطيّعة بين أحيائها. أنتجت سيرورة التمزيق هذه نوعًا من التغريب عن المكان، وأضحى القاهريّون يشعرون بأنّهم لا يعرفون أمكنتهم، وكأنّهم ليسوا هم الذين كانوا هنا، يتنقّلون سيرًا بين المدن والأحياء القاهريّة بسلاسة، حيث يُسلِم طريقٌ إلى طريق، وزقاق إلى زقاق. فجأة، وجد النّاس أنفسهم في مدينة ممزّقة إربًا، محاطين بمجموعةٍ كبيرة من الكباري التي تُشعرهم بالفزع.

إنّ تمزيق المدينة إلى أحياء منفصلة، ومكشوفة، دون تكتّلات في الشوارع، كلّ ذلك إنّما يخلق ضربًا من «المعاقبة» للجماهير: معاقبة على امتلاكهم حقّهم في المدينة ذات مرّة في «يناير»، ومعاقبة على ما لم يفعلوه، على كونهم هنا، أجسادًا يبدو أنّ السّلطة ترى أنّها باتت عبءًا على المكان. حتّى الموتى في «القرافة» لم يسلموا من عمليّة بناء الكباري التي تبدو أنّها الصيغة السلطويّة لاجتثات الموتى والأحياء.

مدينة عارية الأعصاب والقلب والجسد

كلّما سِرتَ في القاهرة اليوم، لا تبصر إلّا طريقًا جديدًا أو كوبريًّا معلّقًا. في الأسفل، لا تسمع سوى صوت الإسعاف وأجراس السيارات وبعضًا من الأصوات الطائشة، وفي الأعلى لا ترى السّماء. السّماء محجوبة بالكباري، والقاهرة تبدو كأنّها مُعلّقة.

يوحي لك الكوبري دائمًا بأنّ الأزمة انحلّت. وحين تمضي، لا تجد أنّ أيّ شيء قد انحلّ أصلًا، لأنّ الكوبري مجرّد استعارة لحلّ سياسيّ فاشل: فمن أجل ألّا تحلّ الواقع الفوضويّ، والعشوائيّة المروريّة، وإفساح الطريق، تقوم ببساطة بخلق «تجاوز» للمشكلة متمثّلًا في الكوبري، الذي يصعد على أجساد من هم في الأسفل، كي يمرّ عليه الأثرى والمُقيمون في الأعلى.

الكوبري هو اختراق للسحر، إنّه ينتزعه ببساطة، يجعل القاهرة مدينة عارية الأعصاب والقلب والجسد.

إنّ المدينة – أيّ مدينة – تكتسبُ طابعها الفريد من «سحرها» الذي يميّزها عن «سحر» أختها. المسافر إلى القاهرة لا يمكن أن يشعرَ بما يشعره حين يسافر إلى بيروت، أو تونس. هناك «سحرٌ» ما لكلّ مكان. وما تفعله السّلطويّة في مصر منذ سنوات ما هو إلّا محاولة لـ «إزالة السحر عن المدينة» مع الاعتذار لماكس فيبر. إنّها تنزعُ سِحر القاهرة، وسَحرتها، وطالبي سحرها. تلك المدينة التي لطالما كانت مغرية حين تنطفئ الأضواء، ويعلو صوت أمّ كلثوم بـ «أهل الهوى يا ليل» أو كارم محمود بـ «أمانة عليك يا ليل طوِّل». إنّ الكوبري هو اختراق للسحر، إنّه ينتزعه ببساطة، يجعل القاهرة مدينة عارية الأعصاب والقلب والجسد. يُخلِّصها من نفسها، يجعلها «معولَمة» وتشبه أيّ مكان آخر، مُصابةً بـ «لعنة القبيح» التي أصابت مدنًا كثيرة في عصرنا النيوليبراليّ. هذه اللعنة جعلت المدن كلّها مملّة ومكشوفة، كلّها سلطويّة؛ كاميرات، سيّارات إسعاف، تكتّلات شرطة، موتٌ مفاجئ، دهسٌ جماعيّ على الطرق السريعة. لعنة لا بُرء منها.

لم نعد بحاجةٍ إلى «جماليّات» تعتني بما هو جميل، أو جَليل مستر كانط. إنّنا بحاجة ماسّة إلى «جماليّات القبح» وإلى ما هو قبيح. في عالمٍ منزوع السحر، نحن محاطون بالقبيح. ولأنّنا بشرٌ، شئنا أم أبينا، فنحن بحاجة لأن نستحقّ قُبحنا، كما نستحقّ جماليّتنا. لكن، لا جميل هنا. حتى الجليل اختفى. الجليل أصبح مفزعًا ومروّعًا. يُصيب بالدّوار. إنّه في تلك العمارات الشاهقة والمباني الضخمة لأناس يأخذون الحياة بجديّةٍ لا تليق بها. ولأنّ هذا الفزع عموميّ، فنحن منخرطون ولا بدّ في جماليّات القبيح. محاطون بالقبح؛ قبح المدينة الممزّقة، والموتى الذين لم يعودوا يستحقّون حتّى رُقادهم في التراب. إنّ «لعنة القبيح»  أصابت القاهرة، لكنّ السَّحرة اليوم لا يشربون الشاي في المقاهي، لأنّها تغلق في العاشرة، والسّحرة في العادة ينشطون في ليلٍ متأخّر، ولا ليل في القاهرة. إنّه ليلُ الكباري، والحوادث على الطريق الصحراويّ والدائريّ، وليلُ المستشفيات. ليل الحجز الاحتياطيّ. وكمين الشّرطة. وقهوة «Circle K» ويافطات «ماكدونالدز» التي تملأ الأجواء قبحًا وسمًا.

احتجاج الأجساد المطرودة

ذات مرّة، على طريقٍ سريع يُجرَى إصلاحه لكي تسير السيّارات بسرعة تليق بمدينة تحاول أن تسرعَ في نسيانها لماضيها، كان هناك هذا الشخص يبني «عشّةً» له ولأولاده، مُعطيًا ظهرَه هو وأبناؤه للشارع. كانوا جالسين على الرصيف، والسيارات تحاول بكلّ ما أوتيت من عزمٍ تكنولوجيّ أن تسرع. وكان صوت الرياح الناجم عن احتكاك ظهره وظهر أبنائه بسرعة السيارات أشبه بصرير الأسنان في بردٍ قارس، لشخصٍ لم يحصل على طعام يكفي لأن تحمله عظامه.

بدا مشهد إعطاء الظهر للسيارات بمثابة احتجاج على المدينة، والعشّ الذي كان يبنيه على حافّة الطريق هو الاعتراض الوحيد الممكن لرجل في سنّه، يحاول، جاهدًا، على أطراف مدينةٍ ترفضه وأبناءَه، بحالهم، وتلفظهم عن قوسٍ واحدة، أن يؤسّس لأيّ شيءٍ يقيه الشمس ولو في العراء. العراء، نفسه، مكان مسلوب، ومقسَّم سلفًا. عشّ على الرّصيف بالأحرى هو الأنسب، ربّما فكّر الرجل هكذا. فهو لا يعرض حاله على أحد. وإنّما كشهادةٍ على لعنة وقسوة المدينة والطرق السّريعة. أو لعلّه فكّر في احتمالٍ أسرع، يُناسب سرعة حياة المدينة، بأن يدهسه سكّير مخمور يسيرُ منتشيًا بعد قضاء ليلة سعيدة في أحد «الأوتيلات» ويكون هو وأبناؤه قد وهبوا حريّة اللا تفكير في الحياة، واستراحوا من عبئهم على المدينة، الثقيل بحجم «عشّة».

قِسمة النيل الجائرة

يقف المكان ضدّنا وضدّ فقرنا. لا نملكُ براحنا، مغمًى علينا بالضّيق، بالنافذة الضيّقة التي لا تكفي لالتقاط نفسٍ، أو تدخين سيجارة. قِسمةُ النيل ضيزى.

أدخلُ الزمالك. أمشي بين أحيائها المتربّعة على كفّتيْ نيل صغير. مكان مدجّج بالعمارات البرجوازيّة القديمة. تلك المباني التي تمتزجُ فيها الرغبة بحلمٍ مسكونٍ وضائع، الشرفات الواسعة كمساحةٍ استثنائيّة بين الشارع والبيت. الشرفات مكان لا منتمٍ، يتأرجح بين أن يكون بيتًا أو أن يكون شارعًا، إنّها التقاء البيت بالشارع. أغرقُ في هذا التناقض المرّ بين نيل يقسم، بلا عدل، بين مكانين، بين حي «إمبابة» والزمالك.

من شرفة صديق في الزمالك مطلّة على النيل، رأيت حي إمبابة، و«الكيت كات»، وشبح إبراهيم أصلان يجوبُ، وعوالم أخرى حتمًا لم يسمع بها الكائن على الطرف الآخر. عن النيل الذي يقسمُ بين «Costa Cafe» وقهوة شعبيّة، بين أغنية فرنسيّة «Non, je ne regrette rien» ومحمد عبد المطلب «في قلبي غرام».

ربّما نمتلك كمصريين رصيدًا كافيًا من اللاعدالة، لكن النّصيب الأكبر منها يذهب، بجدارة، إلى لا عدالة المكان. فالمكان إمّا مفرّغ، واتساعه بغيض، أو هو كما العادة مكان إجباريّ

المكان ليس مدانًا بطبيعة الحال. إنّه الملح الذي تتجرّعه الأغلبيّة، والبراح الذي تسكنه قلةٌ ما. فكرة الوسع والبراح ليست بحوزة أحد سوى قلّة، أن تشعر ببيت واسع، بمساحة بصريّة، بمساحة للضوء يمكن لعينيك أن تستريحا فيها. الغالبيّة اليوم تعاني من الضّيق، اللارحابة ليست اقتصاديّة فحسب، بل إنّ الرحابة هي في المكان، في أن يشعر الفرد بأن لديه مكانًا، وأنّه يحوزه بالمعنى النفسيّ. فما بالك وهذا «الضِّيق» يملكه من يُطالب السكّان بالخروج منه سريعًا لبناء برجٍ مكانه، أو لهدمه لبناء كوبري؟

في «خرج ولم يعد» لمحمد خان، كانت فكرة البراح هاجسًا في الفيلم. تُجسّد كاميرا خان التي لا تخون، هذا التناقض: هو يعيش في قعر المدينة، حيث مياه المجاري تسدّ الشارع، وتصوّر لك الكاميرا الكباري الشاهقة التي تلمح من فوقها «براحاً» غير متوفر. البيت في الأخير ينهدّ، لأنه تهالك ولا مساحة له، بينما يخرج البطل بمهمّة بيع أرض والده في الريف ولا يعد. رمزيّة الريف تمثلت في البراح، والأكل (الالتذاذ بالأكل بالأحرى). فمع المدينة المبنيّة بعشوائية وسرعتها كحياة لموظف، لا شيء لتلتذّ به، أكان أكلاً أو براحًا للبال.

ربّما نمتلك كمصريين رصيدًا كافيًا من اللاعدالة، لكن النّصيب الأكبر منها يذهب، بجدارة، إلى لا عدالة المكان. فالمكان إمّا مفرّغ، واتساعه بغيض، أو هو كما العادة مكان إجباريّ، لا يمنحك أفقًا لشيء، بينما من شرفته الضيّقة يجعلك فقط تنظر إلى قسمة أخرى، عالم آخر على ضفة النيلغير العادلالأخرى لترى أقوامًا يملكون براحهم بحريّة، بل أنت لست سوى ترسانة في آلة تعمل من أجل توسيع وحفظ هذا البراح لهم.