fbpx

ألوان زاهية للبؤس

أصوات الناس والألوان الباقية على أطلال ما كان بيوتًا، تطرح أسئلة تبدو منطقية وبسيطة عن التخطيط، عن المشاركة المجتمعية، عن التطوير وانحيازاته. لكن عادة الأسئلة المنطقية البسيطة هي ذات الإجابات الأصعب في بلادنا.
ــــــــ المـكـان
4 مارس 2022

بدون قصدٍ، رسم مشروع تطوير الطريق الدائري في القاهرة الكبرى لوحة فنية مرتبكة، عناصرها ألوان حوائط داخلية لبيوت تهدمت واجهاتها، يمكن للمار على الطريق أن يخمن، هنا كانت غرفة نوم أطفال، أو صالة، حمام، مطبخ، هنا كانت تُعاش حيوات كثيرة.

ألوان زاهية للبؤس

في منتصف ثمانينيات القرن الماضي وتحديدًا عام 1986 ، بدأ العمل على مشروع طريق يحيط بالقاهرة الكبرى (مصطلح إداري يشير لمحافظات القاهرة والجيزة والقليوبية) تخفيفًا لازدحام دواخلها، واكتمل بناؤه بطول حوالي 100 كيلومتر في 2005. شملت المخططات الهندسية للطريق السريع استعدادًا للزيادة السكانية المضطردة فزيادة تكدس السيارات، وذلك بحرم بعرض 50 مترًا. لكن يبدو أن أثر الزيادة السكانية كان أكبر من مدى المخططات بكثير، فطالت الأبنية على جانبي الدائري، ملاصقة له في بعض المناطق ومع ازدياد الكثافة السكانية لجأ بعض المواطنين إلى الأرض الزراعية لبناء البيوت، وبعض هذه البيوت بُني في مساحة حرم الطريق الدائري.

ألوان زاهية للبؤس

لا يُمكن وصف ما حدث بالتعدي على حرم الدائري؛ فقد بيعت الأراضي بعقود لمن بنى عليها، وقامت الدولة بتوصيل الخدمات لها، لكن لم يكن التخطيط واقعيًا، فالطريق الدائري نفسه صار الحلقة الأصغر التي تحيط بالقاهرة، بعده بدأ إنشاء الطريق الدائري الأوسطي كحلقة أوسع، ثم الطريق الدائري الإقليمي، الذي بدأ إنشائه في 2008 وتم الانتهاء منه بعد عشر سنوات.

ألوان زاهية للبؤس

في شهر مايو الماضي، صرّح وزير النقل المصري كامل الوزير بأنه تم رصد أربع مليارات جنيه مصري كتعويضات للمتضررين من أعمال توسعة الطريق الدائري. لكن كالعادة لم يحصل الكثير من أصحاب المنازل المهدمة على تعويض إلى الآن.

ألوان زاهية للبؤس

وقال اللواء حسام الدين مصطفى رئيس هيئة الطرق والكباري في تصريحات له أن أكثر المناطق التي ستشهد مزيدًا من الإزالات ستكون تلك الواقعة على الطريق الدائري من منطقة الخصوص إلى المرج. وأوضح رئيس الهيئة أن المنطقة الأخرى التي ستشهد مزيدًا من الإزالات ستكون منطقة المنيب في الطريق من محور المريوطية حتي نزلة البحر الأعظم على الدائري.وأضاف رئيس الهيئة أن الإزالات الجديدة ستكون لخلق طريق خدمة بطول الدائري وبعرض 10 أمتار ونصف المتر، على جانبي الطريق الدائري، لخدمة المناطق المطلة على الدائري وإنشاء مواقف ميكروباصات أسفل الطريق.

ألوان زاهية للبؤس

40 ألف جنيه (تقريبًا 2500 دولار) هي قيمة التعويض عن الغرفة الواحدة؛ الحمام غُرفة والمطبخ غُرفة والصالة غرفة، بالإضافة إلى بقية الغرف، بمتوسط غرفتين في الشقة. إذًا، متوسط التعويض عن الشقة الواحدة هو 200 ألف جنيه، لا تُدفع لكل الشقق، فقط المأهولة بالسكان.

ألوان زاهية للبؤس

كنت في زيارة لقرية “ميت نما”، قرية قديمة ورد ذكرها في كتب الجغرافيين منذ العصر المملوكي، وتتبع الآن محافظة القليوبية، عندما عرف الأهالي أني أعمل بالصحافة بدأت أصواتهم ترتفع.. أحدهم قال: “أنا غلطت لما اشتريت في حرم الدائري”، لكنه يستدرك: “بس أنا وغيري شارين بعقود. بتحاسبوني ليه؟ حاسبوا الوحدة المحلية”. عجوز أدخلني بيته المفرغ من الواجهات بعد هدمها: “200 ألف جنيه هتعمل إيه إذا كانت الشقة في إسكان الحكومة بنص مليون جنيه؟”. سيدة تعرض بيتها لشروخ جراء هدم بيوت ملاصقة: “الهوا بيدخل عليا جوا البيت من الشروخ”. وقالت إنها وغيرها وُعدت بتعويض لم تتلق منه شيئًا إلى الآن. “عملت شكاوى، فقالوا بنمشيلكم في التعويضات”.. استمعت إلى الكثير من التفاصيل الشبيهة والتي تتكرر تقريبًا مع كل “تطوير” جديد. 

ألوان زاهية للبؤس

أصوات الناس والألوان الباقية على أطلال ما كان بيوتًا، تطرح أسئلة تبدو منطقة وبسيطة عن التخطيط ومدى واقعيته، عن المشاركة المجتمعية، وحق الناس في تخطيط حياتهم والمناطق التي يعيشون بها، عن التطوير وانحيازاته، وكيف يمكن قليل الخسائر التي قد تنجم عنه. لكن عادة الأسئلة المنطقية البسيطة هي ذات الإجابات الأصعب في بلادنا.

أفكر وأنا في السيارة على الطريق الدائري أتابع الحوائط الملونة، وأعمال التوسعة، لو اجيب عن تلك الأسئلة.. هل كانت تلك الألوان الزاهية ستثير هذا الإحساس بالبؤس؟

ألوان زاهية للبؤس