fbpx

عين على القدس

في كل زياراتي لها أجد نفسي أراقب وجوه ناسها وأهلها وهم يراقبون حال مدينتهم، كيف يُنهب ماضيك أمامك، كيف تُشوه ذاكرتك، كيف يُنتهك تاريخك ويحاصَر وجدانك، كيف تَستولي خطوات المحتل على أزقة مدينتك وحاراتها ..
11 نوفمبر 2024

كلما وطأت قدماي باب العامود أسرتني المدينة.

أسرتني منذ البدايات، منذ أن زرتها أول مرة لوحدي بعد أن أنهيت تعليمي المدرسي في حيفا، في تلك الزيارة في أزقتها وبين أسوارها ابتدأ حديثي معها في تكوينه الأول.

رأيت قصتي

كان يحملها طفل في باب العامود

يلجأ المكان إليّ والصور عين مثقوبة

لجأت من ذاتي الى ذاتي والمدينة تسكن في عروقي

دائمًا كنت أشعر أن العبور من  باب العامود، وهو أحد أبواب القدس القديمة، يشبه الخروج من عالم والدخول إلى عالم. حيث أنك تخرج من فلسطين بواقعها المنكوب، من عالم يسود فيه الاحتلال بلغته وثقافته وملامحه.. عالم لا وجه لك فيه،  فالاحتلال لا يراك إلا كما يريد أن يراك وأنت في صراع متواصل على وجهك وهويتك. أما بعبورك أسوار القدس فأنت تدخل الى مكان تلتقي فيه بذاتك المفقودة، بوجهك الغائب محفور على حجارتها العتيقة.

واللقاء بالقدس القديمة هو حدث عاطفي؛ الفلاحات اللواتي يجلسن على درج باب العامود ليبعن الزعتر والنعناع وورق العنب والزيتون، النقوش العربية التي تزخرف بوابات الأقصى والمصلون في ذهابهم وايابهم من الصلاة، درب الآلام وشموع القيامة، ألوان أسواقها وروائحها ومذاقاتها وعطورها، والأطفال العائدين من مدارسهم إلى الأحواش القديمة للعائلات المقدسية، وعيون أهلها التي يسكنها الانتظار.

القدس هي شعلة حنين تضيء مكانًا ما معتمًا في ذاكرتك الموروثة، تعيد لك إحساسك المفقود بالوطن الأم.

لكن بعيدًا عن هذا التدفق من المشاعر الذي ليس بإمكانك صده وأنت تعبر في أزقتها، فأنت لست سوى شاهد على مأساتها.

القدس القديمة هي حالة خاصة في المشهد الفلسطيني فمنذ نكستها  تتعرض المدينة لمجابهات مستمرة مع الاحتلال الذي يحاول الاستيلاء على مبانيها وأماكنها التاريخية وفرض لغته وسرديته  الدينية والاستعمارية في أحيائها.

القدس تواجه بشكل يومي الصيرورة التي مرت بها مدن النكبة، وهي أمام هذه الصيرورة الصعبة في وحدة شديدة, إذ أن الاحتلال ومن خلال الحواجز العسكرية وجدار الفصل العنصري، قد قام بفصلها عن المدن الفلسطينية المحيطة بها مثل بيت لحم ورام الله والخليل، اللواتي يشكلن امتدادًا تاريخيًا واجتماعيًا وعائليًا لها، وقام بتهجير الكثير من القرى المحيطة بها مثل لفتا ودير ياسين وغيرها من قرى جبال القدس التي شهدت مذابحًا واقتلاعًا وطمسًا لمعالمها منذ النكبة الأولى.

وإذ تقف حجارتها العنيدة عائقًا أمام محاولات الاحتلال في تغيير سحنة المدينة لكن الحركات الاستيطانية بمساندة الجيش استطاعت الاستحواذ على العديد من المباني المقدسية وتحويلها إلى مدارس دينية أو معابد أو مساكن ونشر أعلامها من شبابيك بيوتها المستباحة.

وفي الوضع الراهن تزداد الأحوال صعوبة إذ تنعكس أحداث غزة بشكل مباشر على الشارع الفلسطيني مما يزيد من انتشار الجيش وجماعات المستوطنين المسلحين في أحياء المدينة وشوارعها وفوهات بنادقهم مشهرة نحو وجوه أهلها من أطفال وشيوخ ونساء.

فلم يعد مشهدًا عاديًا أن ترى الفلاحات يفترشن درج باب العامود وطريق الواد، إذ مع ازدياد القمع وتقييد حرية الحركة أصبحت القدس شبه معزولة عن القرى الفلسطينية المحيطة بها وبات من الصعب على الفلاحات أن يأتين المدينة بمحاصيلهن الطيبة المحملة على رؤوسهن المتعبة، لكن المشهد الذي دائمًا كان وما زال اعتياديًا هو رؤية أطفالها يركضون في أزقتها على أقدامهم أو دراجاتهم الهوائية، حيث يتشابك لديهم اللعب بالهروب من فوهات البنادق.

أنا ابنة النكبة، ورغم وطأة هذا الواقع فعلاقتي الحسية بالقدس دائما حية، أشعر بها وتشعر بي، لها في روحي قدسية لا يمكن انتزاعها، وتبقى هي ملجأي في نكبتي ومهربي من الاغتراب في وطن هو منفى.

وتبقى لديها القدرة على احتضانك والسفر بك الى مكنوناتها العبقة الكثيفة، إلى جذورك وبداياتك الفلسطينية، لكن في الزمن الموازي أنت تدرك وتشاهد كيف يعمل الاحتلال على السطو عليها واستيطانها، لتصبح رحلة الحنين بين أسوارها مصحوبة بالقهر والخوف على كل حجر فيها، وبالوجع في صميم وجودك.

عين على القدس أضعها خلف عدستي وأنا أتجول في شوارعها وأحاول تجميد لحظاتها،  وكأنني أخبئها من يد المحتل في أرشيف من الصور. وفي كل زياراتي لها أجد نفسي أراقب وجوه  ناسها وأهلها وهم يراقبون حال مدينتهم، كيف يُنهب ماضيك أمامك، كيف تُشوه  ذاكرتك، كيف يُنتهك تاريخك ويحاصَر وجدانك، كيف تَستولي خطوات المحتل على أزقة مدينتك وحاراتها، وعلى شوارع  امتلأت بها روحك وأنفاسك وكبرت فيها خطواتك.  قليلة هي المدن التي بإمكانها أن تحدثك عن نفسها، القدس هي سيرة مكتوبة على وجوه أهلها وعيونهم تنطق بلسان حالها.

وللقدس حالات من العجز والخوف، والمعاناة والتحدي، والأمل والألم واليأس والبأس، والكفاح والإعياء.. والصمود رغم كل ذلك.