fbpx

عمان.. كم مدينة يحمل الجبل؟

جغرافيا عمان، على ثباتها، تتباعد وتتقارب وفقاً للوضع الاقتصادي للأشخاص. وتالياً يؤثر الوضع الاقتصادي على الوضع الاجتماعي وقدرة التفاعل مع الفضاء الثقافي والسياسي. ويصبح غياب القدرة على التنقل ترسيخاً لدوّامة الفقر والتفرقة الحضرية وعزلاً عن فرص جديدة ..
20 أغسطس 2024

“مدينة الجبال السبعة”.. قد يكون هذا أحد أكثر ألقاب عمان شهرة وأكثر قصصها “رومانسية”، وذلك في إشارة لسردية قيام عمان على جبال سبعة. ومن الطريف أنه لا اتفاق تام على هذه الجبال في المصادر المختلفة إذ يضيف بعضها جبالاً وينقص أخرى كون المدينة تقوم على حوالي 20 جبلاً. أنظر لهذا اللقب بجانب “عمان الشرقية” و”عمان الغربية” أكثر توصيفات عمان اليوم حضوراً في الإشارة لأي نشاط أو مكان أو نمط حياة حتى، ويحضرني أن الجبال السبعة التي تقوم عليها “الأسطورة”، تقع معظمها في الجزء الشرقي من العاصمة عمان، هذا الجزء الذي يحوي الطبقات الاجتماعية ذات الدخل المتوسط والمنخفض، في حين تتوزع الطبقات ذات الدخل الأعلى في مناطق عمان الغربية ويرتبط بها نمط كامل من التمثّلات حول طبيعة الحياة. بين هذين التمثّلين أفكّر: أين تقع عمّان حقاً اليوم؟ 

من بين الجبال “السبعة” لطالما أحببت جبل عمان؛ فالمدينة فيه تتكثّف بشكل غريب، ساحر، كأنني أرى عمّان “الحقيقيّة” وأعيشها. يراودني هذا الإحساس ضمن أفكار أخرى عديدة تتبادر في ذهني أثناء تنقلي بين المناطق المختلفة ومقارنتي بين ما أراه وأسمعه وأشعر به. هذه الكثافة تدفعني للتساؤل هل يمكنني أن أفهم عمّان المتناقضة وأراها ماثلة في مكان واحد فحسب؟ ربما من خلال جبل عمان؟ 

قد يكون ذلك لما يمتاز به  جبل عمّان من تناقضات حضرية بضمّه لأحياء متجاورة جغرافياً متفاوتة طبقياً، وبهذا، يشكّل مشهد جبل عمّان موضوعاً غنياً للتأمل بوصفه محلّا لالتقاء امتدادات تاريخ المدينة وتناقضاتها الطبقية والجغرافية في مكان واحد.

من مدينة واسعة إلى خط سير وحيد

في محاولتي لذلك، أفتح حوارًا مع صالح الذي يعمل  على بسطة كعك قرب الدوار الثاني في منطقة جبل عمّان منذ 20 عاماً بالإضافة لأعمال صغيرة أخرى، والذي يؤكد أنّ “عمّانه” تغيرت ولم تكن هكذا دائماً، ففضاء المدينة الممتد تقلّص لديه من جغرافيا واسعة لخط يتحرك ضمنه.. “قلتلك أنا راسم خط إلي، معرّف حالي حدودها… ما بتخالط مع النّاس كتير، لإنه كتر الخلطة مع العالم والنّاس بسبب وجع راس، وأنا مش ناقصني وجع راس، إنه ليش أجيب المشاكل لحالي؟ زمان كنت أزور خواني، هلّا لا، كلّه صار بعيد كلّه صار مدينة تانية، حتى لو جنبي بطلت أقدر أزورهم… خواتي بالعيد بروح بقعد عندها 5 دقايق وبهرب، عشان ما اعيّدهاش واعيّد بناتها، من وين أعيّد؟! (بصوت عالي)… ما بروحش على مناطق.. الشهر اللي ما إلك فيه لا تعدّ أيامه… إشي ما الي فيه ما بتدخل فيه”.

بسطة ساندويشات صالح عند الدوار الثاني.  تصوير: رغد حبش

يبدو لي الخط الذي يتحرك فيه صالح على شكلين؛ خط جغرافي يتحرك فيه من المنزل للعمل ذهاباً وإياباً كمسافة بين نقطتين، وخط يحيط نفسه به كحدّ لا يتجاوزه في المجال الاجتماعي، والخروج عن أيّ الخطين قد يجلب مشاكل لم يعد لصالح القدرة على سداد كلفتها الاقتصادية أو الاجتماعية.  

فيما مضى، مَلَك صالح القدرة على التنقّل والعمل في مناطق مختلفة. لكن اليوم، بفعل اختلاف الوضع الاقتصادي والفرص المتوافرة، تقلّصت إلى خطّ لا يحيد صالح عنه ويكرّره يوميّاً، فيما تحوّلت باقي مناطق المدينة لـ”جزر” أخرى أو “مدن ثانية” كما يقول صالح نفسه. فالمدينة التي عرفها صالح في الماضي تفكّكت وتباعدت.

يتقاطع هذا مع ما سمعته من بائعين آخرين في جبل عمّان ، مثلاً أبو سعيد الستيني سوري الأصل، وقد جاء لعمّان مع اندلاع الأزمة السورية، ويبيع على بسطة صغيرة قرب الدوار الثاني جرابات وحاجيات صغيرة أخرى، حيث تتلخص معظم حركته من مكان سكنه في جبل عمّان حتى وسط البلد الذي يتسوق منها حاجياته لأسعارها الأقل من باقي المناطق. كذلك هو حال عادل “الشغّيل” المصري في محل فلافل عريق منذ 12 سنة، والذي يسكن في شارع خرفان القريب من محل الفلافل الذي يبيع فيه. لا يمارس عادل أي نشاط آخر غير العمل إذ أنه يعمل كل يوم 12 ساعة من العاشرة صباحاً حتى العاشرة ليلاً عدا يوم الجمعة الذي يكون نصفه إجازة فحسب. ويؤكد عادل مراراً أثناء حديثي معه أنه “بحاله” ولا يتدخل في أحد وليس له علاقات مع أحد حوله، من سكنه إلى عمله ذهاباً وإياباً في دائرة لا تتجاوز الـ 500 متر .

تفتح هذه الملاحظات تساؤلات عدة حول اختلاف الفضاء في مدينة عمان على الرغم من التضخّم السكّاني والجغرافي الذي تختبره المدينة. فالجغرافيا، على ثباتها، تتباعد وتتقارب وفقاً للوضع الاقتصادي للأشخاص. وتالياً يؤثر الوضع الاقتصادي على الوضع الاجتماعي وقدرة التفاعل مع الفضاء الثقافي والسياسي. ويصبح غياب القدرة على التنقل ترسيخاً لدوّامة الفقر والتفرقة الحضرية وعزلاً عن فرص جديدة، وتعزيزاً لـ”مراكمة عدم الامتلاك”.

لكن هل يقتصر هذا التباعد على القدرة على التنقل؟ وما الذي رسّم حدود هذه “الفرقة الحضرية” في عمّان؟ يأتي هذا ضمن نقاشات موسعة حول العزلة الطبقية التي تزداد ترسخاً في عمان والتي تظهر أوضح صورها بين عمان الشرقية التي تتسم بأوضاع حضرية واقتصادية متراجعة في مقابل عمان الغربية التي تحوي سكان الطبقات الاجتماعية وما يناسب أنماط حياتهم الأعلى دخلاً. وتتركز معظم الدراسات الحضرية حول عمان في هذه الثنائية، في حين أنني أفكر في وسائل لإعادة سرد عمان بشكل مغاير لهذا التقسيم الطبقي- الجغرافي، وهنا كانت محاولتي للمشي والتحدث مع الناس في جبل عمّان أداة لتقصي جينالوجيا هذا التشكّل، كمحاولة لإضفاء طبقات لفهمنا أبعد وأعمق -ربما- من كون عمان مدينة مجزأة لقسمين فحسب.

محطات زمنية

تحضر لدي الرغبة بالفهم خاصة مع تتبعي لعدة محطات زمنية تلعب دوراً في ترسيم المشهد في عمان اليوم. أولها هو تشكّل العاصمة بقدوم الأمير عبدالله بن الحسين عام 1921، ما صاحبه بالتبعية قدوم نخبة سياسية اقتصادية من الدول والمدن المجاورة في الأردن وخارجها، حيث حوت مناطق شرق عمان ،”جبالها السبعة”، الملامح الحضرية الأولى لتشكّل المدينة. 

ففي جبل عمان الذي يقع في منتصف المدينة بين شقّيها الشرقي والغربي، ويحدّه شمالاً جبل اللويبدة والعبدلي، في الشّرق وسط البلد، ومن الجنوب جبلي النظيف والأخضر وحي المهاجرين،  سنجد محل إقامة النخب الحاكمة والتجار في مراحل تأسيس المملكة، وأيضًا مبنى البرلمان القديم وبيت الملك طلال ومستشفى ملحس وغيره من المؤسسات الرسمية والفلل التي حوت الطبقات المتوسطة وفوق المتوسطة في عمان سابقاً. 

تلا تشكّل العاصمة قدوم موجات كبيرة من اللاجئين والمهاجرين الفلسطينيين تحديدًا بين عامي 1948- 1967 وحصولهم على الجنسية الأردنية، ويشكل هؤلاء اللاجئون وفق بعض التقديرات جلّ سكان عمان. 

اليوم تسجل الأونروا (وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين) حوالي 2.5 مليون لاجئ في الأردن ممن قد يحملون الجنسية الأردنية لكن يحتفظون ببطاقات اللجوء أو النزوح، وذلك من أصل العدد الكلي لسكان الأردن البالغ 11 مليون نسمة. فيما تتباين تقديرات العدد الحقيقي للأردنيين من أصول فلسطينية وتغيب عن الأرقام الرسمية بوصفها  مسألة أمن قومي مرتبطة بمشروع الوطن البديل، فزيادة أعداد الأردنيين من أصول فلسطينية تثير مخاوف بعض التيارات الشرق أردنية التي تتمسك بتعريف الأردني وفقاُ لانتمائه العشائري، وأسبقية وجوده، وتبقى على تأكيدها أن “المواطنة” ليست معياراً كافياً للمساواة، يترافق ذلك مع تخوفها من وجود الأردن كمشروع للوطن البديل للفلسطينيين.

قدوم اللاجئين الفلسطينيين أدى لتغيير المشهد الحضري إذ أقيمت مخيمات في مناطق شرق عمان، ما دفع البرجوازية المتشكلة للانتقال نحو غرب عمان هرباً من الازدحام السكاني ومخيمات اللاجئين، فيما بعد تحولت هذه المخيمات والمناطق المجاورة لنواة وقاعدة للأحياء التي تزدحم بها جبال عمان في الشرق. 

 عن ذلك يقول براء، الباحث في العلوم الإنسانية وأحد سكان مخيم الوحدات أحد أكبر مخيمات اللاجئين في الأردن:  “عملياً يعني عمان الشرقية مخيم كبير، أو بتعبير أحدهم يعني مخيم من غير قضية”. 

تلا موجات الهجرة الكبيرة تبدل من النموذج الاقتصادي الريعي نحو سياسات اقتصادية نيوليبرالية بدأت بوضوح في التسعينات وتركزت في بداية الألفية، رافقها تحول كبير من الاهتمام بالتنمية الأفقية للانتقال لمشاريع استثمارية ضيقة النطاق كمشروع العبدلي والأبراج التي بدأت تتصاعد. كما ترافق ذلك مع تزايد الاهتمام بمناطق عمان الغربية في حين طغت السياسات الأمنية، التي تهتم بالسيطرة والتحكم ومنع انتشار الفوضى والجريمة بالحد الأدنى، على مناطق شرق عمان مع تراجع جل جهود التطوير الحضري ما أدى لتدهور أوضاعها. 

حاولت أمانة عمان في بداية الألفية إقامة بعض مشاريع التجديد الحضري في مناطق محدودة من شرق عمان، منها ما آل لمشكلة حضرية متفاقمة بسبب سوء التخطيط والتنفيذ والاستخدام كساحة أبو درويش في الأشرفية، التي تحولت لبؤرة حضرية إشكالية بعد تجديدها ويشتكي منها السكان لكثرة انتشار جماعات من المتحرشين ومسببي المشاكل فيها وأصبحت تهديداً دائماً لأمن المقيمين في المنطقة، بالإضافة لفشل خطط التنشيط الاقتصادي فيها وبقاء المحال الجديدة التي تم تصميمها مغلقة. في حين أن مشاريع أخرى نجحت جزئياً في تنشيط المنطقة كشارع الرينبو في جبل عمان الذي يعتبر محطة سياحية اليوم.

شوارع ثلاث.. عوالم ثلاث

المشي في جبل عمان بالنسبة لي أقرب للتجوال في متحف مديني، يتعزّز هذا الشعور بتصنيف المنطقة كتراثيّة من قبل أمانة عمّان عام 2005 والمرافِق لسياسات وقيود على أيّ أعمال بناء أو صيانة تتم على مباني المنطقة. وبسبب هذا التنوّع العمراني الذي يحيل لحقب تاريخية مختلفة ويظهر في اختلاف طرز تصميم المنازل، يتجسّد خط زمني لعمّان عمرانياً في واجهات المباني المختلفة والمتجاورة مع التعبيرات الرمزية المنتشرة من كتابات ورسومات جدارية تعود لأزمان متفاوتة، ينشئ هذا لحظة التقاء بين الفضاء العام ومؤسساته وبنيانه والهموم الخاصة بتعبيراتها ولغتها، وهذا مما يكثّف الشعور “العمّاني” بالمنطقة.

وهنا كانت رؤية الجدارية الموجودة في شارع عمر بن الخطاب أثناء تجوالي لحظة اكتشاف  لاتصال وافتراق عوالم الشوارع الثلاث جنوب الجبل: شارع خرفان، شارع عمر بن الخطاب وشارع الرينبو، حيث تتكثف قصص كثيرة حول مسارات التحوّل الحضري في عمان.

تصوّر الجدارية، التي تغطي واجهة مبنى من ستة طوابق، امرأة شابة حنطية لون البشرة ترتدي ثوباً يغطي معظم جسدها وغطاء رأس حاسر عن شعرها. وتدور اللوحة حول محور قطري من أسفل اليسار حتى أعلى يمينها مع محور جسد المرأة، وتستخدم ألوان طبيعية واضحة بين الأزرق والأخضر والأصفر: السماء والشّجر والشّمس. تحمل المرأة في يدها ثمرة ليمون مشعّة يقترب منها طائر يبدو من نوع “الطنّان” المنتشر في الأردن، في حين تستند هي في حالة بين التأرجح والجلوس على غصن شجرة عملاق لشجرة ليمون. تتحرك عناصر الجداريّة حتى أعلى يمينها لوجه المرأة الذي ينظر لشيء ما أبعد من حدّ الجدارية، لإطلالة شارع عمر بن الخطاب على منطقة رأس العين والجبل الأخضر وشارع خرفان.

جداريةمستقبل مثمرمن شارع عمر بن الخطاب.  تصوير: رغد حبش

تقف الجدارية كوسيط ثقافي للتعريف بالآفاق الممكنة للتعاون بين هولندا والأردن كما تصفها صفحة Open Street Art  أحد الجهات المساهمة في إنجازها، ويدور موضوعها حول الأمن الغذائي والمائي. يفسّر هذا وجود ألوان الطبيعة بشكل طاغي في اللوحة، كما تمثيل “المستقبل المشرق” بثمرة ليمون. فالمرأة المرتبطة عضوياً بغصن شجرة الليمون تحمل بيدها ثمرة كدلالة على النماء والحياة، وتعطي انطباعاً بحملها هذه البشرى للمستقبل وهي تنظر لعمّان وجبالها، بالتماشي مع ما يشير إليه عنوان اللوحة “مستقبل مثمر”.

شاهدت هذه الجدارية من موقعين مختلفين، أوّلهما هو شارع خرفان في الأسفل والذي تظهر منه اللوحة على امتداد الشارع، مما أثار فيَّ شعوراً بالدهشة مجدولاً بالتناقض. فالشارع تحوّل مع الوقت من “حيّ جبل عمّان الجديد” حسب ما تروي سلام الساكنة منذ زمن في الحي إلى: “أحد أكثر أحياء عمّان بؤساً” على حد تعبير براء بالإشارة لانتشار مظاهر الفقر، البنية التحتية السيئة، البنايات المتهالكة، والمحال المغلقة على امتداد الشارع، كل هذا يخلق توتراً مع وجود جدارية تمتلئ بالحيوية والأمل، وإيحاءها بوجود “وعد ما” تستشرفه المرأة الواقفة بهدوء أعلى الجبل.

غُربيّة وسياح

شارع خرفان هو جزء من حي المصاروة الذي حوى طبقات وسطى قديماً، تبدّلت لطبقات أكثر فقراً بفعل قدم المنازل وانخفاض إيجارها. واليوم يسكنها الكثير من الأجانب أو “الغُربيّة” -كما اسمتهم سيدة ستينية من سكان المنطقة- ممن بدأوا المجيء بعد عام 2010 لتصبح مناطق جنوب الجبل تحوي جنسيات متنوعة، سودانيين، صوماليين، فلبينيين، نيجيريين، مصريين وغيرهم من العمالة الوافدة. بالإضافة لأهالي المنطقة التي غادر الكثير منهم وبقي بعضهم.

شارع خرفانتصوير: رغد حبش

أشار معظم من قابلتهم لهذا التنوّع والتغيّر الذي تشهده المنطقة؛ قالت صديقتنا الستينية التي فضلت عدم ذكر اسمها: “أكثر تغيّر صار في المنطقة رحيل النّاس الأصليين… خلّاكِ لمّا تدخلي على المكان تحسّي حالك داخلة مكان مش مكانك، يعني فيه كتير مغتربين وأجانب… أسعار الإيجارات صارت قليلة فصارت النّاس هاي اللي تقدر (يعني) المغتربين مثل الفلبينيين السودانيين الصوماليين اللي إجوا مع المشاكل اللي في بلادهم. يعني اجو بال 2015 يمكن.”

تختلف رؤية وجود الأجانب بحسب الزاوية التي يقف فيها الرائي، فزيد المالك لمحل بوظة في شارع الرينبو السياحي، يتحدث عن الوضع من زاوية مختلفة: “مميّز هو جبل عمّان، ليش؟ لإنه كل الطبقات موجودة فيه، كل الجنسيات موجودة فيه. تنوع اجتماعي فيه ناس بعيدة عن أهاليها وفيه ناس مع أهاليها. فهيك منطقة غريبة بتلم كل إشي موجود فيها، ولإنه بيجيها ناس من كل الأماكن سواء سياح. سواء عمّان كلياتها بتيجي هونفهي مميزة مش محددة نوعية الزبون اللي بتجيك وغير عن هيك نوعية الصداقات اللي ممكن تكونها هون برضو غريبة نوعا ما.. وهو فيها اشي حلو كثيرفيه عندك الصوماليين في الحارة جوا، السودانيين، الفلبين، الأجانب لقدام: الأمريكان الاسبان وفيها كثير نوعية جنسيات فيه حتى باكستان هون “.

شارع مقسوم

بالعودة للجدارية لكن من موقع نظر آخر، يقع المبنى الذي تغطيه الجدارية على نفس منسوب شارع عمر بن الخطاب، وتشكّل فاصلاً بين قسمي شارع عمر بن الخطاب، قسمه الأول الذي يحوي أسواق للطبقة المتوسطة، والجزء الآخر هو الجزء السياحي الذي يحوي مشاريع جديدة للشرائح المرتفعة من الطبقة الوسطى، والطبقات العليا.

واجهات المحلات في نهاية شارع عمر بن الخطاب.  تصوير: رغد حبش

الجزء الثاني من الشارع يعج بالسياح والسكّان الأجانب، المعارض الفنية ومشاريع محليّة مبتكرة، والتي تروّج لعمّان بطريقة تدمج ما هو حديث بما هو أصيل في المدينة وقديم فيها. ابتداءً من إقامة هذه المحال في بيوت ومباني قديمة يتم إعادة تأهيلها، وليس انتهاءً بمنتجاتها التي تحاول ربط ما هو قديم في عمّان بما هو جديد. كما يشكّل هذا الشارع أحد فروع شارع الرينبو وهو عصب التجديد الحضري في المنطقة، الذي تبعته جهود عدّة لإعادة “تهيئة” المنطقة لتصبح “أكثر جاذبية”.

تُحاك المسافة، المتقاربة جغرافياً والمتفاوتة اجتماعياً، بين شارعي خرفان وعمر بن الخطاب بأدراج واصلة، تجسّد امتداداً لحيويّة “سكنى الأدراج” العمّانية وحياتها المستقّلة المتجاوزة لوظيفتها، كجسر للحياة “الجوّانية” للأحياء. ففيها تقترب من بيوتها وتسمع ما بداخلها، تلتقي سكّانها وتفهم عمق امتداد الفضاء الاجتماعي الذي تتخلّله.

ففي مرة كنت أصعد الدرج المؤدي لشارع عمر بن الخطاب حين صادفت شاباً وسألته عن وجود منفذ في نهاية الدرج، أكد لي ذلك، فهو من سكان شارع خرفان، واستطرد في الحديث عن كونه شارع  “الفدائيةفي إشارة للجماعات الفدائية العسكرية التي عملت تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية. حيث كانوا يختبئون هناك قبل تفكيك خلاياهم في السبعينات. كما حدّثني عن حبه للمنطقة. وتبادلنا بعض الحديث حتى وصولنا لمحل توزيع المياه الذي يعمل به.

خريطة الشوارع الثلاث في جبل عمان. إعداد: رغد حبش

حي بين قصص وأساطير

في معظم المحادثات التي خضتها حول المنطقة كان شارع خرفان يتم ذكره من مداخل مختلفة: قدمه كنواة حي المصاروة الأول في جبل عمّان وما يستحضره من ذكريات، كأكثر أحياء عمّان بؤساً، كمنطقة خطر يفضّل الابتعاد عنها بما تحويه من “غربيّة”، وأعمال تخريبية. بينما يتحدّث عنه سكّانه بودّ ويشكّل امتداداً لوجودهم في عمّان وتاريخهم العائلي فيها. 

يمثّل حي المصاروة كثافة التشكيلات الاجتماعية المرافقة للأحياء الشعبية في عمّان، بما تحمله من تاريخ اجتماعي مرافق للانتقال الأول للمدينة وتشكيل الروابط التي صنعت محليّات عمّانية، ثمّ استمرت بالتحوّر وفق عوامل اقتصادية-اجتماعية متناوبة لتظهر اليوم فيها اتجاهات الانتماء، النوستالجيا، والشعور بالتهديد من اضمحلالها ومن أوجهها “ضد المدينية” التي تلقى إنكار الكثير من سكان المدينة بوصفها تشكل زوايا مظلمة وغير مرحب بها ضمن الروايات الشفوية عن المدينة، كما يقول الباحث الفنلندي صامويلي شيلكه. 

تتمحوّر هذه التمثّلات حول قصص تُروى، لتشكّل سرديّات وبنى دراميّة أشبه بأساطير حضريةحول المنطقة، تظهر وتختفي بشكل يصعب التقاطه و/أو إنكاره في آن. يصعب الكشف عن هذه السرديّات دون التنقيب والمعايشة الشخصية لتمثّلات النّاس. ففي كل مدينة، هناك محاولة لإبراز أحياء وإخفاء أخرى، وفي حالة جبل عمّان يتحجّم هذا النزاع المديني على مستوى المنطقة بالتفاوتات القائمة بين أجزائها. فعلى جانب آخر، تظهر وجوه أخرى للمنطقة يمكن بسهولة رصدها والتقاطها، وتعدّ الأكثر وصوليّة لأي ناظر للمنطقة.

بلا حكايات

يظهر هذا الوجه في شارع الريبنو، والذي كان شارعاً هادئاً قبل أن يتم تجديده عام 2008 ليصبح محطة سياحية وشارع تجاري، وتظهر فيه ذات الأشكال “ما بعد الحداثية” للمحالّ والمقاهي والمطاعم، إضافة لما ترافق معه من انتشار للغرافيتي كتعبير رمزي عن ثقافة عالميّة يتم استحضارها لعمّان .

على الأرجح بالنسبة لزائر جديد للمدينة سيكونالرينبوأول ما يسمع عنه في جبل عمّان دون معرفة سابقة من المواقع أو الصحف وغير ذلك. وعلى الرغم من الترويج لهذا الوجه من الجبل، إلّا أنّه يبدو فارغاً خلف طلاء قناعه. فلا قصّص تروى عن شارع الرينبو، وفي حال السؤال عنه فموضوعان يبرزان في الحديث: تسببه بازدحام المنطقة وخلخلة الحي السكنيّ، وتجربة المقاهي والمطاعم فيه بين أشخاص لا يفضّلونه وآخرون يجدون فيه مكاناً للتردد والتجوال.

شارع الرينبو. تصوير: رغد حبش

كيف أصبحت الجبال جُزراً؟

في مخيالي، يظهر جبل عمّان كفسيفساء كبيرة لا متجانسة، تعكس صورة لعمّان العامرة بالتناقضات والمتشكّلة من تدّفقات عنيفة كثيفة ترسّمها وتنتجها في وقت اختباري لها. تشكّل فيها المعالم الأولى للعاصمة لبّ هذه الفسيفساء وأنويتها المتعدّدة بما بدأت تنسجه حولها تدريجياً من حيوات حضريّة لطبقات وسطى/عليا، تبعتها تدفقات بشرية ضخمة – موجات اللجوء الفلسطينية بشكل أساسي- التي أعادت خلق أنوية وأعصاب جديدة شكّلت الأحياء الشعبية الأولى في المنطقة وهويات قاطنيها، والتي حوت طبقات وسطى متقاربة في ظل سياسات ريعيّة شكّلت المشهد الاقتصادي-الاجتماعي حينئذ، ويشكّل هذا قاعدة تشترك فيها الكثير من الأحياء العمّانية. فيما بعد، يتبع مسار تشكيل جبل عمّان خط إنتاج آخر، بتدفقات اقتصادية في ظل سياسات نيوليبرالية أعادت نحت وجه جديد للمنطقة، فيه إعادة ترتيب المشهد الحضري “بتلوين” أجزاء وترك أخرى. مما بدأ بتقطيع النسيج المتشكّل وفق تدرّجات التدفقات، ل”شرائط” حضرية، يصبح فيها كل شارع فضاءً اجتماعياً مختلفاً، وتتكثّف بينها التفاوتات الاقتصادية-الاجتماعية-الثقافية وتتحوّر فيها التدرّجات العضوية لحدود طبقيّة أرسخ.

انعكست هذه الخطوط بشكل أوسع على خريطة عمّان إنمّا بشكل أكثر حدة، بالشكل المتعارف عليه لشرقية وغربية، بينما لدى صالح تنقسم لأماكن تخصه وأماكن لا تخصه، وهي ملاحظة تدعو للتأمل. فالنظر المباشر للجغرافيا يستحضر عاملي الهجرة والسياسات الاقتصادية في تشكيلها، التي أدت لتغيرات متسارعة في النسيج الحضري وأنماط الحياة. في حين لا يتوقف تحوّل المدينة على تشظيها  لقسمين فحسب، بل يتعمق بتكريس العزلة الجغرافية بين الجبال القديمة ذاتها التي أنشأت فيما مضى نسيجاً حضرياً متوائماً. فما حملته هذه الجبال من هويات وتضامنات محلية كان من الممكن تنميتها لتصبح غطاءً يغلف المدينة ويضمها، بينما تفككت المدينة وتباعدت بفعل سياسات التمييز والتهميش  وغياب المشترك والمخيلة.

تنمو القدرة على رأب الهويات الفرعية وتطوير أشكال التضامنات المحلية  بتفعيل سياسات تعزز العدالة الاقتصادية والحضرية، وبوجود مساحات للفعل الثقافي والسياسي وأجندات تجمع الناس وفق أسس المواطنة والهوية المشتركة والهم العام لتتجاوز حدود القرب الجغرافي وأنماط الحياة الاستهلاكية لأشكال أعمق من القدرة على تخيل وممارسة المشترك وتنميته من خلال أفراد متساويين وواعيين وقادرين. 

في الماضي اضطلعت الدولة بنخبها المؤسسة بهذا الدور، كما أصحاب رؤوس الأموال “والقطاع الخاص” في فترة من الفترات، قبل أن ينسحب القطاع الخاص بشكل شبه تام من تشكيل الفضاء الثقافي/ السياسي ويزداد الخناق على هذه الفضاءات من الجهات الرسمية. هذا التضييق المستمر على المساحات العامة ومساحات الفعل الثقافي والسياسي والاجتماعي ربما هو ما جعل عمان تتحول من “مدينة الجبال السبعة”، لتصبح اليوم ، كما يصفها رامي الضاهر، “جزراً من عدم المساواة”.

نهاية شارع خرفان. تصوير: رغد حبش