اختلفت حياة الفتى السوداني أوّاب* ذي الخمسة عشر عاماً منذ اندلاع الحرب في بلده العام الماضي ولجوئه مع عائلته إلى مصر. فقد انقطع عن مدرسته والتحق لأوّل مرة بالعمل. في مطعم سوداني صغير بمنطقة تتسم بوجود كثيف للسودانيين، التقيتُه وخالته وفاء التي تعمل في مطبخ المطعم، بينما يتولّى أوّاب قلي الطعميّة السودانية المصنوعة من الحمّص، وإعداد الساندويتشات، وغير ذلك من مهام مساعدة. تمتد ساعات عمله لاثنتي عشرة ساعة: من الثانية عشرة ظهراً حتى منتصف الليل، دون أيّام إجازات. كانت الدراسة محور حياة أوّاب في السودان، وفي أوقات الفراغ قد يلعب الكرة في الشارع مع بعض الرفاق، الآن لا يترك له العمل متسعاً لأيّ نشاط، «باروّح أنام طوّالي».
مِثلُ أوّاب، أطفال سودانيون آخرون، وغيرهم من الأطفال اللاجئين والمهاجرين عموماً في مصر، بدّلت الحرب واللجوء والهجرة حياتَهم بتبدّل الأوضاع الاقتصادية لأسرهم، ووجدوا أنفسهم مضطرين للعمل: في مطعم، محلّ جزارة، مقهى، محلّ منظّفات، كعمّال توصيل أو خادمات منزليات.. لدى مصريين أو أشخاص من الجنسية نفسها. قد تتفاوت خطورة الأعمال التي ينخرطون فيها، لكنّها في النهاية تتعارض مع الكثير من حقوقهم، ولذلك يحظرها القانون المحلي والاتفاقيات الدولية.
جاء أوّاب إلى مصر قبل أشهر، مع والدته وجدّته، وشقيقاته، بالإضافة إلى خالته وطفليها الصغيرين أحدهما رضيع. أمّا والدُه فمنفصل عن والدته منذ سنوات ولديه أسرة أخرى في السودان. والد طفلي الخالة وفاء في السودان أيضاً ولا يتواصل معهم إلا قليلاً. يُقيم الجميع معا في شقة من ثلاث غرف يستأجرونها بأربعة آلاف جنيه شهرياً (الدولار يساوي أكثر من 48 جنيها وقت كتابة التقرير).
فور وصولهم سجّلوا في مفوضية اللاجئين كطالبي لجوء، إلا أن المفوضية لم تقدّم لهم أيّ دعم: «سلّمونا الكارت بس» تقول وفاء عن بطاقة طالبي اللجوء الصفراء التي تمنحهم صفة قانونية للإقامة في مصر، ويكون عليهم بعد فترة محددة استخراج تصريح إقامة من الإدارة العامة للجوازات والهجرة والجنسية بالقاهرة، وتجديده عند انتهاء صلاحيته. لذلك كان عليهم أن يدبّروا أمرهم لتوفير الاحتياجات الأساسية من مأكل وإيجار سكن، وكان على أوّاب أن يبحث سريعاً عن عمل، كما عملت شقيقة كبرى له بائعة في أحد المِحال.
يتقاضى أوّاب شهريّاً «تلاتة ألف و600» جنيه (أقل من 74 دولار) تمثّل جزءاً أساسياً من ميزانية الأسرة. تقول وفاء إن الأجور في مصر منخفضة للغاية، ففي أيّ عمل يدور أجر اليوم حول 100 جنيه (نحو دولارين)، ومع غلاء الأسعار والإيجارات يكون هناك ضغوط كبيرة على الأسر. وتضيف أنه في أوقات قد يكون المرء في احتياج شديد إلى أساسيات كالمأكل لكنه يتعفّف أن يطلب المساعدة، وأنهم أحياناً يضطرون للاستدانة ولكن من مواطنيهم السودانيين.. «إن شاء الله تكون مستورة لحد ما نرجع بلدنا»..
وفقاً للمنظمة الدولية للهجرة، يعمل المهاجرون بشكل أساسي في القطاع الخاص غير الرسمي، وغالبيتهم يُوظّفون بدون عقود عمل.
ولا يندرج كلّ عمل يقوم به الطفل ضمن «عمالة الأطفال» التي ينبغي القضاء عليها، فهناك أعمال يمكن أن تُسهم إيجابياً في تنشئة الطفل بتزويده بخبرات ومهارات، دون تعارض مع حقّه في التعليم واللعب. أمّا العمل الذي يُعرّف -وفق معايير دولية- بأنه «عمالة أطفال» فهو الذي يُشكّل خطراً على صحة الطفل ونموّه، أو ضرراً عليه من الناحية البدنية و/أو العقلية و/أو الاجتماعية و/أو الأخلاقية، ويتطلّب ساعات عمل طويلة جداً، و/أو يقوم به الطفل في سن صغيرة جداً، وفقاً لمنظمة العمل الدولية.
ويُجيز قانون الطفل في مصر تشغيل الأطفال الذين يبلغون 15 عاماً فأكثر لكن وفق ضوابط معينة، والتزامات على صاحب العمل، فالمادة 66 منه تنصّ على أنه «لا يجوز تشغيل الطفل أكثر من 6 ساعات في اليوم، ويجب أن تتخلّل ساعات العمل فترة أو أكثر لتناول الطعام والراحة.. ويحظر تشغيل الأطفال ساعات عمل إضافية أو تشغيلهم في أيّام الراحة الأسبوعية أو العطلات الرسمية. وفي جميع الأحوال لا يجوز تشغيل الأطفال فيما بين السابعة مساء والسابعة صباحاً».
تغيير جذري في تركيبة اللاجئين
أدّى الصراع في السودان وما تبعه من عبور مئات الآلاف من السودانيين إلى مصر إلى «تغيير جذري» في التركيبة السكانية للاجئين في مصر، بتعبير مفوضية الأمم المتحدة للاجئين، فقد صار السودانيون -وليس السوريون- يشكّلون النسبة الأكبر (60%) بين اللاجئين وطالبي اللجوء المسجّلين لديها، يليهم السوريون (22%)، ثم الجنوب سودانيون، والإريتريون، والإثيوبيون، والجنسيات الأخرى. ويتجاوز العدد الإجمالي بمختلف الجنسيات 700 ألف شخص.
لكن أعداد المهاجرين السودانيين في مصر بوجه عام، قُدّرت قبل عامين من قِبَل المنظمة الدولية للهجرة (تقرير صادر في تموز/ يوليو 2022) بأربعة ملايين مهاجر، مشكّلين الجنسية الأكبر عدداً ضمن 9 ملايين مهاجر في مصر، 80% منهم ينتمون لأربعة بلدان هي السودان وسوريا واليمن وليبيا، وجاء السوريون في المركز الثاني بمليون ونصف مليون مهاجر. ووفقاً للتقرير، شكّل اللاجئون وطالبو اللجوء المسجّلون في مصر نسبة 3% من المهاجرين فيها، ومثّل العمل والتعليم العالي الغرضين الأول والثاني ضمن أربعة أغراض رئيسية لبقاء المهاجر في مصر، وأتي التقدّم بطلب لجوء ثالثاً، والزواج والحصول على خدمات صحية رابعاً.
ووفقاً للتقرير الدوري للمفوضية حول «تحديات الاستجابة في مصر لحالات الطواريء في السودان» (الصادر في 24 يوليو 2024)، فإن عدد من «أجبروا على الفرار من السودان إلى مصر وتواصلوا مع المفوضية من أجل التسجيل بين 15 نيسان/ إبريل 2023 و22 تموز/ يوليو 2024» بلغ 675 ألف شخص، نسبة من اكتمل تسجيلهم منهم 53% (أقل من 356 ألف شخص). وكان معظم هؤلاء المسجّلين الجُدد مواطنين سودانيين (بنسبة 95%)، إلى جانب جنوب سودانيين وإريتريين. وأكثر من نصفهم (54%) من الإناث، وتنحدر الأغلبية العظمى من الخرطوم (86%). كما يشير تقرير المفوضية إلى أن خُمس الأشخاص الذين منحتهم مواعيد للتسجيل «لديهم واحد أو أكثر من الاحتياجات المحددة، بما في ذلك عدم وجود وثائق قانونية، أو الأطفال المعرّضين للخطر، أو الأشخاص ذوي الإعاقة، أو الحالات الطبية الخطيرة».
وبإضافة المسجّلين من قبل الحرب، يبلغ إجمالي عدد السودانيين المسجلين لدى المفوضية في مصر حتى 22 يوليو الماضي أكثر من 430 ألف شخص: 47% منهم رجال و53% نساء. وجاء توزيعهم العمري كالتالي: أكثر من نصفهم (53%) في الفئة العمرية من 18 لـ 59 عاما، و42% في الفئة العمرية من 0 لـ 17 عاما.
على الرغم من زيادة معاناة اللاجئين بوجه عام في مصر، وكما تؤكد المفوضية، لتلبية احتياجاتهم الأساسية، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الخانقة، وافتقار العديد منهم لمصدر دخل ثابت، فإن قدرتها على مساعدتهم لتوفير تلك الاحتياجات تبدو محدودة للغاية، وهي تُرجع ذلك لنقص تمويلها، ففيما يتعلق بالدعم النقدي الذي تقدمه المفوضية للوافدين حديثا من السودان، وفقاً للتقرير نفسه، بلغ العدد الإجمالي للمُدرَجين منهم في برنامج المساعدة النقدية متعددة الأغراض التابع للمفوضية أكثر من 30 ألف فرد (أي بنسبة 8% تقريبا فقط من عدد المسجلين لديها منذ بدء الحرب).
وحتى تاريخ التقرير، تلقّت المفوضية 49% ممّا تحتاجه من تمويل للاستجابة في مصر لحالة الطواريء في السودان في عام 2024، أي تقريبا 28 مليون دولار من أصل 57.7 مليون دولار.
ما فعلته الحرب بأطفال السودان
وَضْع أسرة أوّاب قبل الحرب كان جيّداً، فوالدتُه مدرّسة، وكانت الخالة وفاء قد استقرّت للتوّ في عمل هي الأخرى، وكان هو متفوقاً في دراسته ومتفرّغاً لها. لكن بعد الحرب بأشهر انقطع راتب والدته، وقد اضطُّروا للنزوح -بعيداً عن الاشتباكات- من إحدى مناطق الخرطوم حيث كانوا يقيمون، إلى شَنْدِي في ولاية نهر النيل، ومن وقتها لا يعلمون ما حدث لمنطقتهم ولبيتهم وما تركوه فيه من مدخرات، قبل أن يقرّروا المغادرة إلى مصر، تخوّفا من اقتحام قوات الدعم السريع وما يرتكبونه من اعتداءات جنسية، «وإحنا عندنا بنات»، إلى جانب الأسباب الاقتصادية حيث الأسعار والإيجارات هناك مرتفعة للغاية، مع شعورهم بالحرج من العائلة التي كانت تستضيفهم، كما تحكي وفاء. ويعيش السودانيون في ظل الحرب تدهورا كبيرا في الخدمات الأساسية حتى في الولايات الآمنة، ويُعدّ هذا من أهم دوافع هجرتهم، إلى جانب الوضع الأمني.
وفقاً لآخر تحديثات منظمة الهجرة، فإن عدد النازحين داخليّا في السودان منذ اندلاع الحرب قد اقترب من 8 ملايين، ثلثهم تقريبا من الخرطوم، وقد شمل النزوح معظم الولايات، ليقدّر إجمالي عدد النازحين داخلياً -بما في ذلك النازحون من قبل الحرب بسبب الصراع في دارفور الذي اندلع قبل نحو عِقدين- بأكثر من 10 ملايين و700 ألف نازح بحلول نهاية تموز/ يوليو 2024.
وعلى مستوى الأطفال، يشهد السودان أكبر أزمة نزوح للأطفال في العالم حيث «أُجبر خمسة ملايين طفل على الفرار من منازلهم، وهو معدّل مذهل يبلغ 10 آلاف فتاة وفتى ينزحون كل يوم، اضطُر العديد منهم إلى القيام بذلك عدة مرات»، حسب ما قال مؤخراً جيمس إيدلر المتحدث باسم اليونيسيف. من ضمن هؤلاء، وحتى العام الأول من الحرب، مليون طفل عبروا إلى البلدان المجاورة، وخاصة تشاد ومصر وجنوب السودان، حيث يصلون إلى «المناطق التي كانت بالفعل موطناً لمجتمعات أكثر هشاشة ومحرومة، وتعاني من حالات طوارئ وأزمات متعددة»، وفقا لليونيسيف.
النزوح واللجوء ليسا وحدهما ما يعانيه الأطفال داخل السودان بسبب الحرب، بل أيضا تفشّي الأمراض كالكوليرا والحصبة والملاريا وحُمّى الضنك، مع انخفاض كبير في تغطية اللقاحات، وتفشّي الجوع وسوء التغذية، وصعوبة الوصول لمياه آمنة وصرف صحي ورعاية صحية، وتزايد العنف الجنسي والتجنيد.
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
بداية الرحلة
تكلّفت رحلة عائلة أوّاب إلى مصر 850 ألف جنيه سوداني، بما يعادل وقتها 50 ألف جنيه مصري (1000 دولار أمريكي تقريباً)، استطاعوا تدبيرها من بعض المدخرات من راتب والدته قبل انقطاعه، ومن عمل وفاء في فترة نزوحهم، وبمساعدة قريب لهم يقيم في مصر من قبل الحرب.
تحرّكوا في حافلات كبيرة -كما تصف وفاء- من شَنْدي لعَطْبَرَة ومنها لأبو أحمد حيث قضوا ليلتهم في استراحة، وفي اليوم التالي رَكِبوا عربة مكشوفة، وقد استغرقت رحلتهم من أبو أحمد لأسوان ثلاثة أيام عانوا خلالها كثيراً: «كانت رحلة رهيبة.. كنت تعبانة وأبكي.. وأولادي يبكوا.. من الضيق والبرد والتراب»، حيث كانوا 15 فرداً قطعوا الصحراء في سيارة «بوكس مفتوح» على حد تعبيرها، وكانت في أيّام دورتها الشهرية مما جعل الرحلة بالنسبة لها أكثر صعوبة.
المهرّب السوداني الذي كان «معرفة ومضمون» تسلّم أكثر من نصف المبلغ هناك، والجزء المتبقي بعد الوصول. وقالت وفاء إنهم اختاروا الخروج عن طريق التهريب بدلاً من الدخول الرسمي لأن الأخير سوف يستغرق وقتاً طويلاً يصل لأشهر حتى تصدر التأشيرات، كما سيكلّفهم مبلغا أكبر بكثير «2 مليار جنيه سوداني»، أي بما يعادل حالياً أكثر من 160 ألف جنيه مصري.
منذ ذاك الوقت، تقضي وفاء يومها في العمل بعيداً عن طفلها الرضيع، وتنصرف قبل أوّاب بساعة، وتتذكر عندما تلقاها طفلُها الأكبر حين عودتها وهو جاهز ومرتدي ثياب الخروج، لكي تذهب به للتنزّه، لكنّها كانت في غاية الإجهاد غير راغبة إلا في النوم. لاحقا أخبرتني أنها تركت العمل لعدم قدرتها على الاستمرار في هذا الوضع مع احتياج أولادها إليها.
في المطعم
على كُرسيّين متقابلين جلستُ وأوّاب على إحدى موائد المطعم، وكان الفتى الهاديء قليل الكلام مستمراً أثناء حديثنا في لفّ خصلة أمامية من شعره حول إصبعه. وأثناء العمل كنتُ أتابعه وهو يحمل وعاء كبيراً به عجينة الطعمية، من المطبخ في الداخل إلى المقلاة الخارجية، ثم يبدأ في إسقاط الأقراص في الزيت من خلال قُمع معدني، أو قد يحاسب الزبائن على الكاشير في حالة غياب المدير، وعندما يخلو المطعم من الزبائن يجلس ليتصفح الإنترنت على هاتف خالته. تقول وفاء إنها لاحظت تغيّر أوّاب نحو تحمّل المسئولية، صار مهتماً بمعرفة احتياجات والدته وأخواته وإعطائها أولوية عن احتياجاته. ويقول أوّاب إن راتبه بالكامل يذهب لتغطية التزامات الأسرة، ولا يتبقّى له ما يمكّنه من شراء بعض الأشياء التي يرغب في اقتنائها كالهاتف «وحاجات كتير».
معظم زبائن المطعم من السودانيين: شاب وفتاة بأزياء حديثة، أو رجل أكبر سنّاً بالزيّ السوداني التقليدي.. الحضور السوداني في الشارع والمنطقة لافت، من خلال الزيّ الرجالي أو النسائي المميّز، ومِحال المنتجات السودانية المنتشرة هنا وهناك. في قائمة المطعم أكلات سودانية: كمونية، تقلية، بامية مفروكة، خدرة، ملاح روب (نعيمية)، أقاشي فراخ أو لحمة، شيّة، كفتة ومحشي سوداني.. وقد ضيّفني وفاء وأوّاب بطبق لذيذ من حلوى معروفة في السودان، كنت أعرفها وأتذوّقها لأوّل مرة، تسمّى «المِخْبازة».
يتناول أوّاب وجبتي الغداء والعشاء في المطعم، ويقول إن صاحب العمل يعامله بشكل جيّد، وقد تعلّم مهامه وأتقنها، لكن لا شيء يروقُه في العمل.
في الشارع أو في المواصلات، تزعجه «نظرات تقليل مِنَّك» يواجهها من المحيطين. تعلّق وفاء «بيقولوا السودانيين ضيّقوا علينا البلد.. لولا الحرب ما نجيش»، وإن كانت تُثني على سلوك جيرانها المصريين معها.
الانقطاع عن التعليم
فَقَد أوّاب، الذي كان يدرس في المرحلة الإعدادية، معظم وثائقه الدراسية بسبب الحرب، وإذا التحق بالمدرسة العام الدراسي القادم كما يريد، ففي الغالب سيضطر لإعادة بعض ما كان اجتازه من مساره الدراسي، ويكون قد انقطع عن التعليم لعام ونصف تقريباً.
مشكلة الانقطاع عن التعليم يواجهها حاليّا جميع أطفال السودان تقريبا في سنّ المدرسة، فوفقا لليونيسيف، يعاني السودان من إحدى أسوأ الأزمات التعليمية في العالم: «حيث لا يتمكن أكثر من 90% من الأطفال في سنّ المدرسة البالغ عددهم 19 مليون طفل في البلاد من الوصول إلى التعليم الرسمي».
عبّاس محمد أحمد حبيب الله، معلّم سوداني ورئيس مركز امتحان الشهادة المتوسطة بالإسكندرية، التقيتُه في دار السودان العام آخر أيام الامتحانات، حيث نظّمت السفارة السودانية بالقاهرة بالتنسيق مع وزارة التربية والتعليم المصرية امتحانات الشهادة المتوسطة (الإعدادية) خلال شهر تموز/ يوليو الماضي، بالقاهرة والإسكندرية وأسوان، بالتزامن مع امتحانات ولاية نهر النيل بالسودان، وكذلك في عدد من الدول الأخرى، وحَضَرها في مصر -حسب أرقام السفارة السودانية- أكثر من 7000 طالب، وسبقتها امتحانات الشهادة الابتدائية في يونيو بحضور عدد مقارب من الطلاب. يقول عبّاس إن انقطاع الطلاب عن الدراسة لفترة طويلة يترك آثارَه على مستواهم التعليمي، ومنهم من يرتدّ للأميّة، مما يتطلب بذل مجهود كبير لاستعادة مستواهم وإعادة دمجهم في الحياة الدراسية.
وأضاف المُعلّم الذي جاء إلى مصر في تشرين أول/ أكتوبر الماضي بالطرق الرسمية، والتحق بالعمل بإحدى المدارس السودانية هنا، أن الحرب في السودان كان لها تأثير كارثي على قطاع التعليم، حيث دُمّرت مدارس ونُهب أثاثها وأجهزتها، أو تحوّلت في الولايات الآمنة لأماكن لإيواء نازحين، وتوقّفت الحياة الدراسية في معظم أنحاء البلاد، كما انقطعت رواتب المعلمين –لا سيّما بولاية الخرطوم– حيث الأولوية في وقت الحرب تكون للقوات العسكرية والأمنية، على حد قوله. وبوجه عام يعاني كثير من الموظفين الحكوميين في السودان في ظل الحرب من عدم استقرار في صرف رواتبهم، بتوقفها، أو تأخّر صرفها، وصرف الراتب الأساسي فقط أو حتى نسبة منه، ومع الانخفاض الشديد في قيمة الجنيه السوداني والتضخم «المريع» كما يصفه سودانيون، لا يفي الراتب بالمتطلبات الأساسية.
في مصر: أكثر من النصف خارج المدرسة
يشير تقرير للمفوضية، صادر في نيسان/ إبريل 2024، إلى أنه «لا يزال الأطفال السودانيون في سنّ المدرسة يواجهون تحديات خطيرة في الوصول إلى فرص التعليم المناسبة في مصر بسبب نقص الوثائق. واستناداً إلى تقييم حديث أجرته اليونيسيف والبنك الدولي، فإن 54% من الأطفال الوافدين حديثا هم خارج المدرسة. علاوة على ذلك، لا تزال الأسر السودانية تواجه ظروفاً اجتماعية واقتصادية صعبة للغاية تؤثر على قدرتها على الإنفاق على إلحاق أطفالها بالمدارس أو إبقائهم فيها، سواء في نُظُم التعليم الرسمية أو غير الرسمية».
يقول المعلم السوداني إن الأوضاع الاقتصادية شديدة الصعوبة التي تعيشها الأسر السودانية في مصر من إيجارات مرتفعة ومأكل وعلاج لأصحاب الأمراض المزمنة، ومع عدم تأدية المنظمات الدولية دورها المطلوب في دعم هذه الأسر، جعلتها لا تستطيع إلحاق كلّ أطفالها بالمدراس، فهناك من يُلحق طفلاً أو اثنين دون بقية أبنائه، وهناك من يُبقي أبناءه جميعاً في البيت لعدم قدرته على تحمّل المصروفات. ويضيف أنه بينما كان هؤلاء الطلاب يدرسون في بلادهم في مدارس حكومية مجانية، تبلغ مصروفات المدارس السودانية في مصر بضعة آلاف: من 3 لـ 5 آلاف عادةً، وقد تصل لـ 8 أو 10 آلاف جنيه، كما بلغت رسوم التسجيل للامتحان 2000 جنيه.
وهناك مِنَح تعليمية يمكن أن توفّرها المفوضية لهؤلاء الطلاب من خلال هيئة الإغاثة الكاثوليكية، ولكنها منح جزئيّة، قد لا تغطي رُبع التكلفة -في أقل مستوياتها- التي يكون على الطالب أن يدفعها في تلك المدارس.
وللطلاب السودانيين الالتحاق بالمدارس الحكومية المصرية، لكنّ الأسر عادة تفضل إلحاق أبنائها بالمنهج السوداني، كما يوضّح عباس، فالانتقال إلى منهج مختلف كالمصري قد يُمثّل صعوبة على الطلاب، إلى جانب أملهم في العودة القريبة إلى بلادهم حال توقّف الحرب.
وكانت السلطات المصرية قد أغلقت مدارس سودانية مؤخرا مطالبة إياها بتقنين أوضاعها، مما سبّب حالة من عدم الاستقرار والقلق بين أولياء الأمور والطلاب والمعلّمين، كما يقول عبّاس. وعلى الرغم من اقتراب العام الدراسي الجديد لا تزال الأمور في هذا الشأن غير واضحة. ويُضيف عبّاس أن هذه المدارس إلى جانب دورها التعليمي، توفّر فرص توظيف -حتى إن كانت برواتب متواضعة- وبالتالي استقراراً اقتصادياً ونفسياً لمعلّمين وموظّفين وعمّال سودانيين هنا.
وتتفاوت التقديرات المنشورة حول عدد المؤسسات التعليمية السودانية في مصر، خاصة بعد زيادتها الملموسة منذ الحرب، ولكنّها تتجاوز -في أقل التقديرات- المئة، وتصل في بعضها إلى ثلاثمئة أو أكثر، ما بين مدارس خاصة أسّسها سودانيون، ومراكز تعليمية تدعمها منظمات دولية، وهي تدرّس المناهج السودانية للطلاب المهاجرين واللاجئين من الجنسية السودانية وغيرها. ولعدم حصولها على التراخيص اللازمة، أغلقت السلطات المصرية عددا منها قبل أشهر، وحقّقت مع مديريها باتهامات تحويل وحدات سكنية لأنشطة تعليمية، وعدم مراعاة شروط السلامة العامة، وإزعاج المواطنين. لكنّ قرار الإغلاق شمل حتى تلك الحاصلة على الترخيص. وتوجد في مصر مدارس لجاليات أخرى كالليبية واليمنية.
ووفقاً لبيان للسفارة السودانية بالقاهرة في حزيران/ يونيو الماضي، حدّدت السلطات المصرية ثمانية شروط لحصول المدرسة على التصديق، منها: موافقة وزارة التربية والتعليم السودانية، ووزارتي الخارجية السودانية والمصرية، توفير ملف كامل للمدرسة يشمل المراحل التعليمية وعدد الطلاب المنتظر تسجيلهم والمراحل التعليمية بها، مع رسم تخطيطي لهيكل المدرسة..
بين المدرسة والعمل
حسب التقديرات العالمية (منظمة العمل الدولية 2020) فإن 35% من الأطفال العاملين على مستوى العالم هم خارج المدرسة، وترتفع النسبة لـ 53% في الفئة العمرية من 15 لـ 17 عاما، وهذا يحدّ بشدة من فرص حصولهم على عمل لائق فيما بعد، ومن إمكانات حياتهم بشكل عام. وأن العديد من الأطفال المنخرطين في عمالة الأطفال يكافحون لتحقيق التوازن بين متطلبات المدرسة وعمالة الأطفال في الوقت نفسه، مما يعرّض حقهم في التعليم، وفي الراحة والترفيه للخطر.
يقول أوّاب إنه عندما يعود للانتظام في مدرسة سيترك العمل، لكن خالته تقول إنه من الصعب على الأسرة الاستغناء عن دخله، وإنهم غالباً سيحاولون التوفيق بين الأمرين بأن تكون مواعيد عمله مسائية مثلاً.
خارج الرصد؟
تتوفّر إذن تقديرات عالمية عن عدد الأطفال العاملين على مستوى العالم، وتوزيعهم على القطاعات حيث يستحوذ القطاع الزراعي على الحصة الأكبر من عمالة الأطفال، وحسب المناطق حيث يوجد أكبر عدد وأعلى معدّل انتشار في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وأقلّه في منطقة أوروبا وأمريكا الشمالية. كما تتوفر على المستوى المحلي/المصري، فوفقاً للتقديرات الرسمية في مصر التي تعود لعام 2021 فإن «5% من الأطفال شاركوا في عمالة الأطفال»، أي 1.3 مليون طفل في الفئة العمرية من 5 لـ 17 عاما منخرط في عمالة الأطفال، أكثر من 900 ألف منهم في بيئات عمل خطرة. وأكثر من ثلثهم في الفئة العمرية الأصغر (من 5 لـ 11 عاما).
في المقابل، لا يبدو أن هناك بيانات متوفرة عن عمالة الأطفال على مستوى الأطفال المهاجرين في مصر: نسبة انتشارها بين صفوفهم، خصوصية أوضاعهم مقارنة بنظرائهم المصريين، التحديات والمخاطر الإضافية التي يمكن أن يواجهوها بحكم هشاشة وضعهم، أو قدومهم من مناطق حروب، أبرز المهن التي ينخرطون فيها، أكثر الجنسيات التي يعمل أطفالها، هل هناك مشاريع تستهدفهم من جانب المنظمات الدولية المعنيّة بالتعاون مع الحكومة مثلا..؟ ** ولا تشير الخطة الوطنية لمكافحة أسوء أشكال عمل الأطفال في مصر ودعم الأسرة (2018 – 2025)، التي أطلقتها الحكومة المصرية بالتعاون مع منظمة العمل الدولية، بشكل محدد للأطفال المهاجرين.
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
عمالة الأطفال المهاجرين في الخدمة المنزلية
في أحد مساءات شهر تموز/ يوليو، دلفتُ إلى مقهى صغير يرتاده ويديره سودانيون، أسأل للوصول إلى فتيات سودانيات صغيرات يعملن. بادر “جون”، شاب عشريني بين الحاضرين، بالردّ، وبعد حديث قصير، أجرى مكالمة هاتفية لتصل “ناني” بعد فترة وجيزة. وهي -كما روى- شقيقة زوجته، جاءوا إلى مصر في آذار/ مارس الماضي، ويقيمون في شقة بحيّ قريب بإيجار شهري 3500 جنيه، هو وزوجته وطفلهما وناني وشقيقتها الصغرى التي تبلغ 12 عاماً.
يقول جون إن الحرب شتّتتهم عن والديْ الطفلتين، ونزحوا هم من أم دُرمان بالخرطوم إلى بورتسودان حيث عمل لفترة في «شغل بُنْيان» لتدبير مصاريف عبورهم لمصر عن طريق التهريب التي بلغت 360 ألف جنيه سوداني (حالياً 600 دولار تقريبا)، وقد حُسبت “ناني” وشقيقتها الصغرى فرداً واحداً، بينما بقى والدا ناني في السودان، وهم يتواصلون على فترات متباعدة. وقد فهمتُ منهما أن والدة ناني كانت «ست شاي» ووالدُها كان مزارعاً.
عائلة “ناني” ذات الـ 15 عاماً من السودانيين النوبيين. وعلى عكس حديثي السلس مع أوّاب، سار حديثي مع ناني وجون ببعض الصعوبة. ليس فقط بسبب ضجيج المقهى، فالعربيّة ليست لغتهما الأصليّة، وقد كانا يتفاهمان أمامي بلغتهما المحليّة، وكان عليّ أن أبذل مزيداً من الجهد كي يفهما أسئلتي وأفهمهما، خاصة ناني، وكان جون يتدخل أحياناً للترجمة، وهو الذي اقترح -عندما سألتُ- اسمَها المستعار، في حديث تال معه عرفتُ أنه يجيد التحدث بالإنجليزية وأنه درس سابقاً في كينيا.
في مصر «الظروف كان كعب (سيئة).. جينا من السودان والظروف كعبة شديد»، ولذلك عملت ناني كعاملة منزلية لدى إحدى السيدات من خلال سمسار «زول ودّاني سوداني»، وكانت السيدة سودانية «عرباوية» أي من السودانيين العرب، تُقيم مع طفليها بينما يعمل «أبو العيال» في السعودية، كما تحكي ناني. وتصف عملَها لديها على قدر ما تُسعفها لغتُها العربيّة: «باغسّل الصواني وانضّف البيت كله» . كانت تقيم لديها لأسبوعين ثم تعود لأسرتها في إجازة قصيرة لا تتجاوز يومين. «شغل مُبيت» يقول جون، «بَبَات في بيته ذاته»، تقول ناني.
استمرّت ناني في العمل لدى هذه السيدة لثلاثة أشهر قبل أن تتركها لرفضها زيادة أجرها البالغ 4 آلاف جنيه شهريا (82 دولار تقريباً) إلى 6 آلاف، وثِقَل المهام الإضافية التي كانت تُكلّفها بها، كالنزول لشراء خضروات من السوق واحتياجات للمنزل أكثر من مرة على مدار اليوم، «بانزل من الدور ال11 سلّم.. في اليوم بانزل قَريب 5 مرات.. الأسانسير الباب حجّه مكسور.. أغسّل بطانية تقيل»، بالإضافة إلى سوء المعاملة.
نظراً للمخاطر الشائعة التي يمكن أن يتعرّض لها العمّال المنزليون الأطفال، تُعدّ الخدمة المنزلية في بعض الحالات من أسوأ أشكال عمالة الأطفال، وتشمل هذه المخاطر كما حدّدتها منظمة العمل الدولية: أيّام العمل الطويلة والمُتعِبة، استخدام المواد الكيميائية السامّة، حَمْل الأحمال الثقيلة، التعامل مع العناصر الخطرة مثل السكاكين والفؤوس والمقالي الساخنة، عدم كفاية أو عدم ملاءمة الغذاء والإقامة، المعاملة المُهينة أو المُذلّة، بما في ذلك العنف البدني واللفظي والانتهاك الجنسي.. وهي مخاطر تؤدي لحرمان الطفل من حقوقه الأساسية كالحق في التعليم والرعاية الصحية والحق في الراحة وأوقات الفراغ واللعب والترفيه، والحصول على الرعاية، وأن يكون لديه اتصال منتظم مع والديه وأقرانه. وتتفاقم المخاطر عندما يعيش الطفل في منزل الأسرة التي يعمل لديها.
ووفقاً للمنظمة، هناك ملايين الأطفال في العالم يعملون في قطاع الخدمة المنزلية، أغلبهم من الفتيات، و«تعمل أعداد غير محددة من الأطفال في العمل المنزلي نتيجة للعمل القسري والاتجار». وبوجه عام، ووفقاً لتقديرات المنظمة الصادرة عام 2012 بشأن العمل القسري، يمثّل الأطفال الذين تبلغ أعمارهم 17 عاما أو أقل، أكثر من رُبع ضحايا العمل القسري في العالم، أي 5.5 مليون طفل من إجمالي 20.9 مليون عامل قسري. خطر الوقوع ضحيّة للإجبار على العمل وللاتجار يواجهُهُ الأطفال المهاجرون واللاجئون بفعل النزاعات أو الكوارث أو الفقر، خاصة في حالة أنهم هاجروا بمفردهم، أو سلكوا طرقا غير نظامية مع أسرهم، وفقا لليونيسيف.
ويذكر تقرير منظمة الهجرة أن العمل المنزلي يمثّل الوظيفة الرئيسية لعدد كبير من المهاجرين في مصر من بنجلاديش وإريتريا وإثيوبيا وإندونيسيا والفلبين ونيجيريا والسودان وجنوب السودان وسريلانكا. دون أن يشير لنسبة الأطفال بينهم.
وإلى جانب راتب ناني، تعتمد الأسرة على ما يحصل عليه جون من عمله باليومية. في فترة سابقة عمل بمزارع وادي النطرون، كان يقيم هناك، ويعود مرّة شهرياً، وبعدها صار يلتحق بأيّ عمل «نضافة.. نقل طوب..»، بيومية 250 جنيهاً (أقل من 6 دولارات). جون وزوجته وطفله مسجّلون في مفوضية اللاجئين، بينما لم تسجّل ناني لعدم امتلاكها أوراقاً رسمية، وعندما سألتُه هل تتلقون أي دعم من المفوضية أجاب: نهائي.
سَبَق لناني العمل في السودان خلال الإجازة الصيفية عند امرأة «عرباوية» أيضاً، ولكنّها تقول إن العمل هناك كان أفضل، كظروف وأجر، «هنا شغل كتير وزول بينزل في سلّم وقروش بسيطة.. (هناك) شغل بسيط وقروشه كويس وما فيه سلّم» حيث اختلاف البيوت في السودان عن العمارات ذات الطوابق العالية في مصر.
كانت ناني قبل الحرب منتظمة في إحدى مدارس بلدها، وقد وصلت للصف الخامس وأدّت امتحانات الفصل الدراسي الأول. وعلى الرغم من أنها حالياً لا تذهب إلى المدرسة، فهي ترغب في استكمال تعليمها مستقبلاً، وتحلم بأن تصبح طبيبة كي تعالج الناس.
-أي تخصص تفضلين؟.. هناك قلب.. أطفال.. عيون..؟
-كُلّه، وتضحك لأوّل مرة.
بعد فترة وجيزة من لقائنا كانت ناني –كما أخبرني جون– قد التحقت بعمل آخر، لدى سيدة مصرية هذه المرة، وفي محافظة أخرى، براتب 6000 جنيه كما كانوا يريدون (تقريبا 123 دولار)، وسوف تستمر إقامتُها لدى السيدة الجديدة لـ 26 يوما، ثم تأخذ إجازة لأربعة أيّام.
أبعد من العمل والتعليم
إلى جانب عمالة الأطفال والانقطاع عن المدرسة، ثمّة قضايا أخرى تخصّ الأطفال السودانيين في مصر جديرة بالنقاش، كالأثر النفسي للحرب عليهم، ومدى توفّر الدعم النفسي لهم، وحرية الحركة والوجود في المساحات العامة التي باتت تتقلّص أمام الجميع، وممارسة الأنشطة الترفيهية والرياضية، وما قد يتعرّضون له من ممارسات عنصرية تؤدي لانعزالهم وتَحُول دون اندماجهم مع أقرانهم من المجتمع المضيف، وكذلك الوصول إلى الرعاية الصحية والتطعيمات.
في نهاية كانون أول/ ديسمبر 2023 نشرت مفوضية اللاجئين تقريراً بنتائج «مسح الوصول إلى الخدمات الصحية والاستفادة منها بين اللاجئين في مصر» الذي أجرته على مجموعة من الأسر من مختلف الجنسيات، مع تحليل منفصل لكل من السودانيين والسوريين. وكان 58% من المشاركين السودانيين قد وصلوا مصر خلال عام 2023. وسجّلت المجموعة السودانية أعلى معدّل بطالة بين أرباب أسر اللاجئين بنسبة 74%، مقارنة بـ 47% بين المجموعة السورية. وفيما يتعلق بصحة الطفل، رَصَدَت: «انخفاض مثير للقلق في تغطية اللقاحات. ففي عام 2022 كانت النسبة المُبلغ عنها للأطفال الذين تتراوح أعمارُهم بين 9 أشهر وخمس سنوات ممّن تلقّوا التطعيمات ضد الحصبة وشلل الأطفال 88% و89% على التوالي. لكن في عام 2023 انخفضت النسب إلى 80% و86%».
ويُعتقد -كما يذكر التقرير- أن تدفق اللاجئين الجُدد من السودان قد ساهم إلى حد كبير في هذا الانخفاض العام في تغطية التطعيم، فقد بلغت النسب في المجموعة السودانية 72% و80%. ويُلاحظ أيضا انخفاض النسب في المجموعة السورية من 89% و93% إلى 84% و91%. وفي كلا المجموعتين كان السبب الأكثر شيوعاً لعدم تطعيم الأطفال هو نقص المعلومات، بالإضافة إلى ضيق الوقت بسبب العمل أو العناية بالأطفال في المجموعة السودانية. وقد تلقّى 64% من الأطفال السودانيين في الأسر التي شملها الاستطلاع التطعيم في مركز صحي عام، ورُبعهم تقريبا تلقّوه قبل الوصول إلى مصر.
في بعض مناطق تتسم بارتفاع الكثافة السكانية السودانية بالإسكندرية (التي تضم نحو 9% من السودانيين المسجّلين لدى مفوضية اللاجئين، والقاهرة 25%، وتستأثر الجيزة بالنسبة الأكبر 60%) كان مشهداً مكرراً بالنسبة لي رؤية أطفال سودانيين يتمشّون بصحبة أسرِهم -غالباً الأم أو نساء عموماً- على كورنيش البحر، أو يجلسون في حديقة مجانية قريبة.. في أحد الشوارع الجانبية، حيث كانت تُذاع مباراة كرة قدم مهمّة وكانت المقاهي تزدحم بالمتفرّجين، كان طفلان سودانيان يستندان على إحدى السيارات خارج مقهى ليتابعا المباراة من بعيد..
على سور كورنيش الإسكندرية جلست الشقيقتان الشابّتان إيلاف ومشاعر وابنة خالهما الطفلة الصغيرة نور باتجاه البحر، وكان الوقت يقترب من الغروب حيث قرص الشمس الداكن يختفي تدريجياً وراء البحر بينما نتجاذب أطراف الحديث. تبلغ “نور” من العمر 6 سنوات، وقد جاءت مصر في الأسابيع الأولى من الحرب بصحبة والدها ووالدتها وخمسة إخوة يكبرونها، عَبَروا بصورة رسمية، وما لبث الوالد أن غادر إلى ليبيا للعمل. بينما لحقتهم أسرة إيلاف المكوّنة من والدتها وجدّتها وشقيقتين أصغر، وتغريد، الطفلة ابنة خالتها، عن طريق التهريب أواخر العام الماضي، بعد أن باتت إجراءات الدخول الرسمي أكثر تعقيداً.
أبدت الطفلة نور، ذات الضحكة الساحرة، إعجابَها بكل ما سألتُها عنه: الإسكندرية «تُحفة»، والبحر الذي قالت إنها لا تزوره كثيراً وإن كانت جرّبت من قبل السباحة فيه، وبرفاقها المصريين الذين تحادثهم أحيانا من البلكونة. تقول إيلاف إن تجربتهم في الخروج والتنزّه كانت عادية، ولم يتعرضوا لمضايقات. في السودان «أول ما اصحى باطلع ألعب»، تقول نور، حيث طبيعة البيوت هناك توفّر للأطفال مساحة أكثر اتّساعاً من الشقق السكنية، خاصة إذا كان عدد الأفراد التي يقطنونها كبيراً. هنا صار الجلوس على الهاتف والإنترنت يأخذ كثيراً من وقتها.
وبوجه عام اختلف روتين الحياة اليومية بالنسبة لهم، «كُنّا هناك نمشي الجامعة.. الأهل، هنا مفيش قرايب»، حيث يقيم أقرباء لهم في القاهرة، كما تقول إيلاف، التي كانت والدتُها تعمل مدرّسة، وكانت هي تدرس في السنة الثانية بالجامعة عندما اندلعت الحرب، وفي ظل ارتفاع تكلفة الالتحاق بالجامعات المصرية، انعدمت فرصة استكمال دراستها هنا، وهي تنتظر توقّف الحرب في بلدها لتعود. كانوا يقيمون في منطقة الكلاكلة جنوب الخرطوم وتعود أصولهم إلى دارفور، وقد اضطروا للنزوح إلى كوستي بولاية النيل الأبيض، قبل أن يغادروا البلد بأكمله مع استمرار الحرب وانعدام الأمان، على حد تعبيرها.
سجّلت أسرة إيلاف في مفوضية اللاجئين، وباستثناء البطاقات التي حصلوا عليها لإثبات صفتهم كطلاب لجوء، لا يتلقّون أي دعم من المفوضية أو أيّ من المنظمات، باستثناء مرة وحيدة وفّرت لهم إحدى المنظمات ملابس. وتحصل جدّتها مريضة القلب والسكّري على خدمة طبية متمثلة في كشف طبي بنصف القيمة، بينما تتحمّل الأدوية على حسابها الخاص. تقول إيلاف إن بعض الأسر التي أتت وسجّلت في وقت مبكر يُصرف للفرد فيها مبلغ 700 جنيه شهرياً (14 دولار تقريبا). تعتمد أسرة إيلاف، المتوفّى والدها منذ سنوات، على ما يُرسله لهم خالها الذي يعمل بالخليج، وتقول إنه غير كاف بالنسبة لمتطلبات الأسرة، المكوّنة من 6 أفراد، ومن بينها إيجار شهري للسكن قدره 4500 جنيه.
أمّا تغريد، ذات الاثني عشر عاماً، فكانت تجربتها أكثر قسوة. فقد رافقت أسرة نور للمغادرة إلى مصر ولكن لم يُسمح لها بالمرور من المعبر لعدم امتلاكها جواز سفر، وأعيدت إليهم كما تروي إيلاف عن طريق بعض الأقارب الموجودين في حَلْفا. وخلال الحرب تُوفّيت والدتُها المصابة بالسرطان بعد تدهور حالتِها لعدم توفّر دوائها. وباتت الابنة الوحيدة تحت رعاية جدّتها، أمّا والدُها فمنفصل عن الأسرة ولا يتواصل معها.
ساءت الحالة النفسية للطفلة، وبسبب أصوات القصف العنيف الذي تعرضت له منطقتُهم، صارت «بالليل بتتخلّع»، كما تصف إيلاف، وتقول إنه بتوجيه من إحدى المنظمات الشريكة للمفوضية، واظبت تغريد على حضور جلسات نفسية بأحد المراكز المتخصصة.
بالعودة إلى ناني، التي كانت قد أخبرتني بأنها رأت «ناس ميّتين» في أم دُرمان، فهي لم تتلقَ مثل هذا الدعم. هي لا تملك وثائق، ومع وجود والديها بعيدا عنها في السودان، ربما تفتقد الرعاية الأسرية والاهتمام الكافي، أو حتى المعرفة، فضلاً عن انخراطها في عمل تغيب فيه لأسابيع، بين جدران منزل غريب.
* جميع الأسماء مستعارة بناء على طلب أصحابها
** وجّهتُ هذه الأسئلة وغيرها إلى مسئولي الإعلام بمنظمات: العمل الدولية، والهجرة الدولية، واليونيسيف – بالقاهرة، ولكن لم تَرِدْني إجابات، حيث انقطع التواصل من جانبهم بعد تسلّمهم الأسئلة، دون اهتمام بالرد. كما تواصلتُ مع المسئولة الإعلامية بمفوضية اللاجئين بالقاهرة عبر الإيميل المعلَن للتواصل، دون ردّ.