fbpx

الحدود السودانية المصرية.. اليوم نعم غدًا لا

ما بين الحدود السودانية والمصرية قطعة من الصحراء، كأنها خارج نطاق الزمن، يمر فيها الوقت ببطء وهدوء
ــــــــ حدود
19 يوليو 2023

تُولد كإنسان، ثم تسجل كرقم في جواز سفر. 

منذ أكثر من عام، بدأت في حمل جواز سفري معي أينما ذهبت، لست أدري لماذا. ربما لأنني لا أملك أي إثبات هوية غيره. نبهنّي أهلي وأصدقائي لخطورة حمله في كل مكان. كانت أسئلتهم دائمًا: ماذا لو ضاع؟ ماذا لو سُرق؟ فعلًا، ماذا لو؟ 

يوم السبت، الخامس عشر من أبريل (نيسان) 2023، كنت في سيارتي عندما بدأت أسمع أصوات الضرب في الخرطوم، اندلعت الأحداث وأنا أحسب أنني في نهار عادي أنتظر مكالمة هاتفية للتحرك إلى المكتب. حمدتُ الله أني ما زلت أحمل جوازي معي في كل مكان، بعد أن استلمته الخميس، الثالث عشر من أبريل عند الثالثة عصراً من السفارة الألمانية، حيث كان يقبع لأكثر من اثني عشر يومًا في انتظار الفيزا. 

تنصّ الصفحة الأولى من الباسبور على أن حامل هذا الجواز يُسمح له بالسفر والتحرك في جميع الأقطار (عدا اسرائيل). 

كانت هذه هي الكذبة الأولي لجوازي.

 

في الرابع و العشرين من أبريل (نيسان)، الساعة السابعة صباحًا، خرجنا أنا وأخي من منزل جدتي في الخرطوم للحاق بالحافلة المتجهة الي مدينة حلفا بشمال السودان. باص بحالة أفضل من المهترئ يتحرك في المدينة التي كنت أعرفها. الشوارع خالية إلا من حطام الزجاج، حريق المركبات، وآثار الحرب التي، كما قالت صديقتي أمل على الفيسبوك، كنت أحسبها خرافة.  

أثبت جواز السفر قوته و ضعفه، برهن في هذه المحنة على الاثنين في آن.

 

تمكنت من العبور عبر الحدود إلى مصر. الحدود التي طالما حسبتها ذات هيبة ووزن اتضح أنها عدة خطوات قطعتها على قدميّ. 

ما بين الحدود السودانية والمصرية قطعة من الصحراء، كأنها خارج نطاق الزمن، يمر فيها الوقت ببطء وهدوء. قضيتُ فيها ليلة كاملة ما بين القلق والأرق والخوف من المجهول. 

عبرت الحدود مع عمي تاركة خلفي أخي الذي قضى أكثر من أسبوعين في حلفا بانتظار الفيزا إلى أن استطاع الدخول. عبر أخي تاركّا خلفه الآلاف من الشباب في انتظار الفيزا التي أصبحت شبه مستحيلة بمرور الأيام وتقلب الإجراءات.

 

اليوم يمكنك التقديم بفيزا تم إصدارها في الخرطوم، غدًا لا تستطيع. 

اليوم يمكنك التقديم بجواز غير سارٍ، ممدّد يدويًا، غدًا لا تستطيع. 

اليوم يمكنك التقديم لوثيقة سفر اضطرارية، غدًا لا تستطيع. 

اليوم يمكن للنساء والأطفال الدخول بدون فيزا، غدًا لا تستطيع. 

اليوم يمكنك التقديم إذا كان طفلك مضافًا إلى جوازك، غدًا لا تستطيع. 

اليوم يمكنك التقديم إذا كان لديك جواز سفر سارٍ، غدًا لا تستطيع.

اليوم لا تستطيع الدخول.

أنتِ الآن في القاهرة، ماذا بعد؟ 

لست أدري. سأحلم بمنزلي في الخرطوم ذي الطلاء المائل للوردي، سأحلم بأصدقاء لم أتحدث إليهم من سنين، سأحلم بالنهار الذي قضيته في المرسم أعمل على لوحة لن ترى النور أبدًا. 

ثم نمضي، كما الحياة.