fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

من القاهرة لكيب تاون: تركت البيت ومشيت

مسار رحلتي من مصر إلى جنوب أفريقيا يبلغ 6,355 ميلاً، أقطعها مشيًا معظم الوقت أو أوقف السيارات والشاحنات والحافلات العابرة وأركب معها من نقطة إلى أخرى
ــــــــ المـكـانــــــــ حدود
17 يوليو 2023

بدأت التخطيط لرحلة من القاهرة إلى كيب تاون في جنوب أفريقيا منذ عامين. حدث ذلك بعد عودتي من رحلة إلى أثيوبيا مع إحدى صديقاتي. ظلّت لذة الترحال وطعمها على فمي، وشعرت كما لو أنني وجدت قطعة كانت مفقودة مني في جغرافيا لا أعرفها ولم أطأها يومًا. عدت من هذه الرحلة وفي بالي السؤال: ماذا لو؟ ماذا لو كان هناك الكثير لأعرفه عن ذاتي في أماكن أخرى أجهلها. 

كان التغيير الذي أخذته في حياتي -من فتاة تعيش في بيئة متزمنة علاقاتها محدودة بالأقارب والجيران إلى امرأة تريد أن تتعلم السباحة على كبر، بل والجري والهايكنج كرياضة على كبر أيضًا- بمثابة مختبر لما يمكنني فعله وتحديه. تركت العالم الذي كنت أعيشه منذ الطفولة إلى عالم كان مجهولًا في البداية، ومتعة اكتشاف المجهول هذه لذة أخرى لا يروح طعمها من بال الواحد فينا، وها أنذا أجرّبها كل يوم في مساري هذا. 

طريق السفر هو طريق اللامتوقع والمباغت والمعضلات والمتع والجوع والإرهاق، في المشي أيضًا تجرب جسدك وتختبر لحظة وصوله إلى آخره وانهياره من الإنهاك، وتعرف أنك لم تترك خلية فيه إلا وشغلّتها، لم تترك عضلة إلا واستخدمتها، وأنك عصرته عصرًا. 

مسار رحلتي من مصر إلى جنوب أفريقيا يبلغ 6,355 ميلاً، أقطعها مشيًا معظم الوقت أو أوقف السيارات والشاحنات والحافلات العابرة وأركب معها من نقطة إلى أخرى. سأمرّ بالسودان وأثيوبيا وكينيا وأوغندا وبوراندي ومالاوي وزامبيا وزمبابوي وموزمبيق وبوتسوانا ثم أمشي إلى كيب تاون نهاية الرحلة في حزيران/ يونيو 2024.

 

21 يونيو (حزيران) 2023 / أديس أبابا

الإنترنت في أثيوبيا ممتاز، أستطيع اليوم أن أكتب وأن أجيب على إيميلاتي وأحدث حساباتي. وصلت أديس أبابا يوم 27 مايو. انتظرت أكثر من أسبوعين قبل دخول البلاد منها أسبوع على الحدود إلى أن أتمكن من الحصول على تأشيرة. في البداية قيل لي أن أقدم طلب فيزا أونلاين وأنني سآخذها بعد 12 ساعة تقريبًا، لكنني انتظرت أربعة أيام دون إجابة. كان الرد دائمًا “لدينا مشكلة في السيستم”، ثم طلب مني التواصل مع السفارة المصرية في أديس أبابا لمساعدتي. وبالفعل تمكنت عبر السفارة  من الحصول على فيزا لمدة قصيرة، حاولت تجديدها ورفض الطلب، قال لي المسؤول بلغة فاقعة صريحة “مش بندي فيزا للمصريين”. حاول شخص أثيوبي مساعدتي بالقول إنني رحالة مستكشفة، لكن ما عرقل طلب تجديد تأشيرتي أنني تلقيت مساعدة من السفارة أصلًا، رغم أنهم من اقترح عليّ ذلك من الأساس.

13 يناير (كانون الثاني) 2023 / القاهرة – أسوان

يعني إيه سفر؟ السفر هو المكان الي بحب أكون فيه. حاولت بكلماتي أن أوصل مشاعري لأمي تجاه هذه الرحلة التي قررت خوضها على قدمي من مصر إلى جنوب أفريقيا، لكنها كانت غاضبة وبالكاد نطقت كلمتين. لم أودع قطتي، خرجت دون أن تراني ولم أنظر نحوها متجنبة الدخول في أي حالة من الحزن وأنا أبدأ في مغامرتي. كان عليّ تفعيل تطبيق تيلدا الذي يساعدني في ضبط نفقاتي وتسهيلها، في يوم سفري نفسه، فقد أخبرني الأصدقاء أن هناك تشديد على السحب بالبطاقات البنكية للمصريين خارج مصر، 100 دولار فقط في المرة الواحدة. أردت أيضًا شراء حاجيات قبل المغادرة.

يوم بداية الرحلة كان يوم زحمة، ووالدتي ما كانتش بتكلمني. لكنها رافقتني صامتة إلى محطة القطار، حيث سأتوجه إلى الأقصر في البداية، فأنا مشاركة في ماراثون مصر الدولي الذي ينطلق من أمام معبد الملكة حتشبسوت بالدير البحري. في المحطة وجدت عشرة من أصحابي وصديقاتي بانتظاري لتوديعي، بعضهم قادم معي إلى الماراثون. ما زلت أعتقد أن تلك اللحظة من أسعد لحظات حياتي، وما أن تحرك القطار خفت وقلت لنفسي “يا نهار أزرق أنا كدا بقيت لوحدي”.

في الماراثون أجري وأجري، علمني الركض أن أعرف جسدي، ما يقدر على فعله وما يعجز عنه، علمني كيف أصل إلى الذروة وكيف أشعر بأني في عالم وحدي حين أتجاوز هذه الذروة ولو للحظات، علمني الركض أن قدرة الجسد على التحمل مسألة ذهنية.

 كان هناك الكثير من الناس والأصدقاء الذي يركضون معي والذين شجعوني حين عرفوا برحلتي، منذ أن أصبحت جزءًا منه وجدت أن مجتمع الرياضيين في مصر مجتمع لطيف ومتعاون جدًا وقد وجدت فيه نفسي منذ أن هجرت مجتمعي الأم. في البداية كانت لدي مخاوفي، ليست كثيرة ولكن الرياضيين الذين يمارسون الهايكنج والسباحة والركض أبناء طبقة معينة كنت أقترب منها وأنا مترددة وسرعان ما تبددت كل مخاوفي، فقد تحول كثير منهم إلى أصدقاء ربما سيكونون أصدقاء العمر.

عشت من طفولتي في هليوبوليس بمصر الجديدة في عائلة محافظة جدًا، وكنت منتقبة لستة أعوام قبل أن أقرر هجران كل هذا. كنت أعرف أن علي العمل إن كنت أريد الخروج فعلًا. فاشتغلت في مصانع قطونيل بينما كنت أدرس علم النفس في الجامعة، ساعدني دخلي على بساطته في أن أترك منزل العائلة وأعيش وحدي لفترة طويلة قبل أن أقرر العودة وتقبلني أمي كما أنا ولكن على مضض.

قال لي زملائي في الماراثون أن علي الركوب للحدود المصرية السودانية، فالمشي سيكون سيكون صعبًا ومعقدًا من أسوان لحلايب. وكانت هذه أول مرة أؤشر فيها لسيارة تعبر الطريق وأطلب من سائقها بإحراج وخجل شديدين أن يوصلني. فاجأني ببشاشته وسمع عن مغامرتي باستغراب وأخذني إلى الحدود.

 

10 يناير (كانون الثاني) 2022/ البيت في القاهرة

تسألني ماما أين سأقيم وأرتاح في الطريق؟

أعتمد في أماكن إقامتي على عدة أمور، مثلًا كان عندي صديق سافر إلى السودان سابقًا ولديه أصدقاء هناك يمكنهم استضافتي. أيضًا أعتمد على الـ CouchSurfing حيث أتواصل مع أشخاص أبيت عندهم جربهم قبلي زملائي الرحالة الذين مشوا الطريق نفسه. كما أنني اشتريت عدة التخييم اللازمة والتي أحملها على ظهري مع أغراض أخرى يصل وزنها إلى 14 كيلو. اشتريت معظم مستلزمات رحلتي من خلال شركات شحن دولية، لم أجد شيئًا مما يلزم للأسف في مصر، وأنفقت نقودًا ووقتًا وجهدًا على متابعة البريد والاتصال بموظفي الكول سنتر أسأل عن أغراضي. استغرق الأمر عدة أشهر قبل أن يكون لدي كل ما يلزمني في طريقي، كنت أسأل نفسي هل أريد شراء سيارة؟ أحوش لشقة؟ طبعًا لا، لذلك لم أكن أتردد في إنفاق كل ما أملك في ما أعتبره أولوية في حياتي: الترحال.

5 مارس (آذار) 2023/ من فوق مأذنة مسجد في أبو سمبل

قطعت الطريق من أسوان لأبو سميل بصعوبة، 400 كيلو تقريبًا وأنا أوقف السيارات على الطريق، واحدة منها تحملني إلى نقطة أقرب ثم تتوقف لي أخرى وهكذا إلى أن وصلت. أنا منهكة تمامًا وجائعة لكن النوم غلب جوعي وفتشت عن مكان آمن أبيت فيه، فكان خياري أن أخيم فوق مئذنة مسجد.

6 مارس (آذار) 2023/ على العبارة

مع أول خيوط الصبح، جمعت خيمتي وهرعت إلى شاطئ النيل لأركب العبارة، فحتى تصل إلى الحدود السودانية لا بد من اجتياز النيل أو البحر كما يطلق عليه في هذه المنطقة. كانت العبارة مسلية فعلًا، فعلى متنها تحمل أيضًا سيارات نقل، يسألني سائقوها بفضول: ماذا تفعلين هنا؟ أخبرهم أنني مصرية أريد مشي الطريق إلى جنوب أفريقيا. ولم تكن الإجابة هذه إلا بابًا لأسئلة كثيرة وآراء مختلفة معظمها شجعني على التجربة الجميلة التي أريد أن أعيشها.

 قال لي أحدهم “ما ينفعش تدخلي الحدود على رجلك شوفي أي أوتوبيس واركبي معاه بس يدخلك”، ركبت في أتوبيس على العبارة. ومع اجتياز النيل كان لا بد أن أنهي أوراقي من داخل الحدود المصرية قبل عبورها، وهنا أخذت الأمور مسارًا دراميًا إلى درجة ما، اقترب أحد رجال الأمن وأخذ باسبوري واختفى.

حين عاد بدأ يسألني عن أوراقي والفيز التي أخذتها في السابق، وبدأ يسألني عن ما فعلته سابقًا في حياتي، وماذا أريد من رحلتي الغريبة هذه، ومالذي يجبرني على ذلك، وخريطة الطريق، والوقت الذي سأقضيه في كل بلد. ثم أخذ حقيبتي وفتش كل قطعة فيها لم يترك شيئًا مهما كان صغيرًا أو خاصًا. لقد صورت كل هذا بالفيديو لكنه فتش هاتفي أيضًا فاضطررت إلى مسحها، ما زلت حزينة على مسح تلك الفيديوهات التي نسيت استعادتها بعد أن انتهت هذه التجربة.

لم ينته الأمر عند هذا الحد، اختفى مرة أخرى وحين عاد بدأ يسألني عن أهلي، هل قبض عليهم من قبل الأمن الوطني سابقًا. ماذا ترتدي والدتي؟ طلب فتح الفيسبوك وتنقل بين صوري وسألني منذ متى تحجبت ومتى خلعت الحجاب. وفهمت في تلك اللحظة أنه يشك في أنني هاربة من أهلي. 

تأخر الوقت وقال لي الضابط “إنت كدا كدا هتبيّتي هنا، لكن عشان بنحبك مش هنبيّتك في المحايد هتنامي في المسجد”. والمحايد هو منطقة بين المعبر المصري والسوداني يمكث فيه المسافرون ممن تأخر عليهم الوقت قبل أن تنتهي أوراقهم. أحضر الضابط لي طعامًا، ثم فتح لي حمام الضباط أستحم فيه بعد يومين من دون علاقة لجسدي مع الماء.

نومة المسجد كانت مريحة فعلًا بعد تلك التفاصيل الطويلة، ولكن كان ينبغي أن أعطي درسًا أونلاين، حيث أعلّم العربية للأجانب ولم أكن أريد أن أقطع هذه الدروس بأي شكل كان، فهي مصدر دخلي الآن خلال رحلتي، فأعطيت الدرس ونمت.

6-7 مارس (آذار) من الليل للحدود لحلفا

أفكار كثيرة تقاطع راحتي، أخبروني ليلًا أن تأشيرتي صدرت، وسوف اجتاز الحدود السودانية صباحًا. لكني سمعت أقاويل وشائعات من سائقين ومسافرين على العبارة: “خدي بالك السودانيين ما بيحبوش المصريين”، “خلي بالك تعاملهم مع المصريين وحش”. لم يقدم أحد برهانًا ولا ترجمة لهذه التعاملات المزعومة، وأصبحت متحفزة تجاه كل تصرف أريد أن أكتشف بنفسي حقيقة ما يتناقله المسافرون.

عند المعبر السوداني كان هناك شخص عرض مساعدتي في المعاملات، أخذ مني عشرة آلاف آلاف جنيه سوداني قيمة العبور، لأكتشف لاحقًا أن المطلوب مني كان خمسة فقط. لسبب ما استأمنته ولم أتوقع أن يحتال عليّ. كانت هذه أول حادثة نصب من نوعها في الرحلة. 

اتصلت بشخص يدعى مزار على واتساب يستضيف الرحالة عادة، لكن مزار كان يعتقد أنني أجنبية وما أن أدرك أنني مصرية حتى شعرت بتغير طفيف في طريقة كلامه معي، وبعد أن تركني أنتظره على الحدود من 12 ظهرًا إلى السادسة مساء، اعتذر عن استضافتي. وكل ما فعله أنه نسّق مع سائق يوصلني إلى حلفا. كنت خائفة، لا أعرف أين أذهب في هذا الوقت المتأخر ولا حتى أعرف إن كان يمكنني التخييم، ووجدت نفسي في مكان غريب في نص الليل ولم يعد تلفوني المصري يعمل والمحلات كلها مغلقة.

كنت أسأل نفسي: ما العمل؟ هل آمن جانب الغرباء أم لا؟ قلقة أن تضيع أغراضي أو تسرق. أعطاني السائق “سيمكارد”، واعتذر عن دعوتي للمبيت في منزله لأنه يعيش وحده، وكنت تواصلت مع شخص آخر عن طريق أصدقاء فاعتذر عن استضافتي أيضًا لأنه يعيش وحده هو الآخر، واقترح علي المبيت في فندق ولكني كنت أريد التخييم بالقرب من النيل فكرة كانت شبه جنونية في ذلك الوقت حيث العثور على موضع مناسب للتخييم شبه مستحيل، لكن الشاب أقنعني بالبحث عن أوتيل. كانت كل الفندق التي حاولنا فيها مشغولة في حلفا لأنها مدينة حدودية يبيت المسافرون فيها إلى أن تنتهي معاملات الجمارك. بعد تفتيش مطوّل، عثرنا أخيرًا على فندق، وأصر الشاب على أن يدفع أجرة الليلة.

8 مارس (آذار) في بيت سمية

مر وقت طويل لم أتعامل مع نساء ولم أر فتيات، كل التعاملات كانت مع رجال، المناطق الحدودية ذكورية جدًا، وحتى النساء القليلات هنا وهناك، كن يتعاملن بحذر وأنا كذلك لم أكن مرتاحة ومتحفزة طيلة الوقت. لذلك حين اتصلت سمية التي وصلت إليها عبر أصدقاء في مصر، كانت مثل نسمة باردة في نهار قائظ، وأخيرًا. قالت: تعالي. وأعطتني عنوان بيتها في حلفا.

وصلت ونمت كثيرًا وعميقًا وبدا لي حين استيقظت كأنها كانت أول مرة أنام في حياتي.

16 أبريل (نيسان) 2023/ الخرطوم

كنت مقيمة عند سيدة في الخرطوم تعمل في الشرطة وزوجها في الجيش لشهر تقريبًا قبل أن يبدأ العنف ليلة أمس. استيقظت في الثالثة صباحًا على صوت ضرب نار، اعتقدت أنني أهلوس، وجدت كل من في البيت مستيقظ تبادلنا الحديث وغرقت في موجة نوستالجيا غريبة، بدا لي كل شيء كأنه حلم. كلام وشرطة وجيش وقلق. 

فجأة تداخل زمانان ومكانان كنت في الخرطوم ولكني هناك في القاهرة، كنت في 2023 ولكني في 2011 في الوقت نفسه. في الصباح اتصلت بصديق في المدينة أطمئن عن أحواله، قال إنه جائع قلت له سأخرج وأحضر معي فطورًا لنا، بدأ يضحك ويقول لي “تجي فين وإزاي، كل الطرق مقفولة يا بنتي”.

علقت في السودان وأخذت أفكر في الحلول الممكنة لأكمل مسار رحلتي كما وضعتها، لكن بدا ذلك مستحيلًا، قابلت زملاء لي رحّالة أيضًا يأخذون طرقًا مختلفة في أفريقيا، بعضهم قرر العودة إلى مصر، بعضهم قرر الانتظار. نصحتني السيدة التي كنت أقيم لديها بالعودة إلى مصر عن طريق البور.

استغرقني الليل كله قبل أن آخذ قراري، كنت خائفة بالفعل ولأول مرة يصل الاضطراب عميقًا داخلي تجاه رحلتي، ليس خوفًا من الطريق، بل فزعًا من الحرب. مع أولى لحظات الصباح كنت قد عزمت أمري، سأكمل طريقي إلى أثيوبيا، لن أعود أدراجي.

Previous slide
Next slide
Previous slide
Next slide