fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

تيليغرام.. رسائل فلسطينية عابرة للحواجز

يمدّ تطبيق تيلغرام ويصل الطرقات المقطوعة في الضفّة الغربية، يصبح معبرًا جديدًا لمواجهة سطوة الاحتلال الأمنية التي وصلت إلى حدّها الأقصى بعد السابع من أكتوبر
20 مارس 2025

صباحات مراد (اسم مستعار) تشبه ساعات النهار الأولى التي يقضيها معظم الناس. لم يكن يميّزها شيء عن أيّ صباح آخر. قبل حلول السابع من أكتوبر سنة 2023، اعتاد الرجل أن يشرب فنجان قهوة قبل الذهاب إلى عمله من قريته عزون في محافظة قلقيلية، وأن يُعدّ زوّادة طعام تعينه على قضاء ساعات طويلة كعامل مياومةٍ في واحدةٍ من مدن شمال الضفة الغربية.

تبدّلت الأمكنة والطرقات التي يسلكها بعد ذلك التاريخ؛ نشر جيش الاحتلال عشرات آلاف الحواجز العسكرية الدائمة والمؤقتة بين المدن الرئيسيّة وبين المدن والقرى، فضلًا عن البوابات الحديدية والسواتر الاسمنتية والجدران الأمنية التي أغلق بها المداخل والمخارج ليقطع ما كان مقطوعًا في السابق، ويعزل القرى المعزولة منها بفعل المستوطنات وشوارعها الالتفافية والنقاط العسكرية والحواجز والطرق التي كان بعضها مغلقًا قبل ذلك التاريخ.

تزامن هذا العزل مع تزايد عدد الاقتحامات والمداهمات لمناطق الضفة الغربية لتصل إلى 19151 اقتحامًا منذ عمليّةطوفان الأقصى، وهي اقتحامات يجري معظمها بشكلٍ مفاجئ أو في ساعات الليل التي تشهد اغتيالات واعتقالات. بعد اشتداد الليل، تهجم عصابات المستوطنين بحراسة الجيش على القرى المعزولة والمغلقة بالبوابات والجدران الحديدية، ويُلاحَق المقاومين يوميًّا. كلّ هذا دفع الناس إلى تطوير وسائل للتواصل فيما بينهم والاطمئنان على بعضهم سيما في المناطق النائية التي تغيب عنها تغطية الأخبار العاجلة.

تهمة تيلغرام

اختلفت استعدادات مراد الصباحية؛ إلى جانب فنجان القهوة وزوّادة الطعام، صار يقضي بعض الوقت في تفقّد قنوات ومجموعات على تطبيق تيلغرام. مجموعات أنشأها أهالي المناطق لأغراضٍ مختلفة مثل تبادل أخبار المناطق التي يسكنون ويعملون فيها، والاستفسار عن وضع الحواجز والطرقات السالكة وتلك المغلقة، وأيّ الطرق عليهم أن يسلكوا للوصول في أسرع وقتٍ ممكن، لمعرفة ما إذا كانوا سيتمكّنون من الوصول إلى أعمالهم في ذلك اليوم أم لا.

في أحد الأيّام أوقفه جنود الاحتلال الإسرائيلي على أحد الحواجز وفتشّوا هاتفه الذي وجدوا فيه تطبيق تيلغرام. سألوه عن سبب استخدامه للتطبيق، فشرح لهم أنّه يتابع أحوال الطرق المؤدية إلى مكان عمله، لكن الجنود أنزلوه من السيارة وضربوه: “قال لي ممنوع يكون عندك تيلغرام”.

بعد ذلك اليوم، أضاف مراد إلى روتين نهاره تعديلًا جديدًا، يقوم فيه، بعد تصفّح قنوات تيلغرام، بإزالة التطبيق عن هاتفه، ثم يعيد تحميله عندما يصل إلى مكان عمله لاستئناف متابعة أخبار غزّة وأخبار منطقة سكنه والإطمئنان على عائلته.

بدت الطريقة الجديدة فعالةً بالنسبة إلى الرجل وللكثير من شباب الضفة، إذ لم تكتشفه حواجز جيش الاحتلال خلال فحصها المتكرّر لهاتفه. غير أنّه سيعيد النظر بهذه الطريقة بعدما روى له صديقه ما جرى له على أحد الحواجز. طلب الجندي هاتف صديقه لكي يتفقّده، وحين لم يجد التطبيق عليه طلب رقم هاتفه وأضافه على هاتفه الشخصي ليجد أن له حسابًا على تيلغرام بالفعل، فانهال عليه الجنود بالضرب والشتائم وكلبشوه واحتجزوه بضع ساعات ثم أطلقوا سراحه بعد تحذيره من استخدام هذا التطبيق مجددًا.

دفعت هذه الحادثة مراد إلى حذف حسابه على تيلغرام قبل حذف التطبيق نهائيًا من هاتفه، وعندما يصل إلى عمله بات يحمّل التطبيق وينشئ حسابًا جديدًا ويعيد انضمامه إلى القنوات والمجموعات الخاصة بالقرية التي يسكنها، ليبقى مطلعًا على ما يحدث هناك ويضمن أمنه الشخصي بتجنّب المرور في الحارات والشوارع التي تشهد اقتحامات ومواجهات. وبذلك، شكّلت قنوات ومجموعات تيلغرام واحدةً من محاولات الناس في الضفة الغربية لضمان أمنهم الشخصي وأمن مقاومتهم والتواصل فيما بينهم في ظل محاولات الاحتلال عزلهم عن بعضهم البعض وعن محيطهم الخارجي ومنعهم من المشاركة في توثيق انتهاكاته بحقهم.

أيّ الطرقات نسلك؟

لأن الحياة اليومية العادية في الضفّة الغربية مُثقلة على الدوام بالرقابة الأمنية الإسرائيليّة، حتّى على أكثر الأفعال عادية وروتينية، فقد ظهرت قنوات على تيلغرام تحمل أسماء خطوط المواصلات العامة التي تربط منطقتين أو مدينتين، مثل “خط قلقيلية – نابلس”، وتضم سائقي وسائل النقل والمواطنين الذين يترددون على هذه الخطوط دائمًا من عمال وموظفين وطلبة جامعات، وتتواصل عليها طوال ساعات النهار الرسائل أو “البلاغات” كما يسميها السائقون، لتحديث حالة الحواجز والطرق المغلقة والمفتوحة ومعرفة أي الطرق يسلكون إلى أعمالهم، سيما وأن الاحتلال يُخضع هذه الطرق والحواجز لحالة من التقلب والاغلاقات المفاجئة لعرقلة حياة الناس والتضييق عليهم.

استفاد من هذه القنوات السائقون أنفسهم، لتجنب الطرق والحواجز المغلقة والمزدحمة، وبات يعتمد عليها الموظفون والعمال والطلبة الذين يمرّون من هذه الطرق يوميًا، لمعرفة أوضاعها والاستفسار من السائقين عن الحلول المثلى في تنقلاتهم. وفي الأوقات الصعبة مثل الإغلاقات والاقتحامات يستفيد الناس من هذه القنوات لحجز مقاعد الركاب وانتظار وسائل النقل في مناطق معينة حين يتعذّر الوصول إلى مجمّعات السفريات والنقل العام، أو المحطات التي تقف عليها عادة. 

ظهرت قنوات على التطبيق تحمل أسماء خطوط المواصلات العامة التي تربط منطقتين أو مدينتين، تضمّ السائقين والمواطنين الذين يتردّدون على هذه الخطوط دائمًا من عمال وموظفين وطلبة جامعات، وترُسل عليها الرسائل أو “البلاغات” لتحديث حالة الحواجز والطرق المغلقة ونقاط التفتيش

لم يعد بإمكان أبو سامر الذي يقود سيارة نقل عمومي بين مدينتي نابلس وطولكرم، أن يتحرّك قبل أن يتفقّد القنوات التي تضمّ سائقين وركّاب دائمين من المحافظتين. نهار عمله يعتمد حتًما على وضع الطرقات والحواجز: “بشوف اذا هذاك اليوم بزبط نشتغل أصلًا ولا لأ”، لذلك يستطلع الرسائل الصوتيّة التي تصل من مختلف السائقين على تيلغرام، وتحمل مستجدّات عن وضع الطرقات، ومواقع الحواجز، وهو ما ينقله بدوره لركابه.

أمام السائقين خيارات محدودة في حال كانت تلك الحواجز والطرقات مغلقة، إمّا البقاء في المنزل، وإمّا تغيير خطّ سيرهم الاعتيادي والالتفاف عنها عبر طرقٍ زراعية، ومن داخل قرى وبلدات ما يضيف مزيدًا من الوقت لعمر الرحلة المفترض: “الطريق لو فاتحة بتوخدك نص ساعة من نابلس لطولكرم. مرات بتوخذ معنا ساعتين وثلاث”، يخبرنا أبو سامر.

تفاصيل هذا الالتفاف تتغيّر هي الأخرى وفق الوضع الأمني، فقد شهدت بعض القرى والمناطق، إغلاق بالبوابات الحديدة والمكعبات الاسمنتية، وبهذا تزداد الحاجة الى التواصل المستمر بين السائقين لإبلاغ بعضهم البعض بالطرق الجديدة التي اكتشفوها خلال التفافهم على الطرقات المغلقة. وبسبب ملاحقة الاحتلال للتطبيق، وتعرّض السائقين للتنكيل بسببه انتقلوا إلى تطبيقات أخرى أبرزها واتساب وأنشأوا عليها مجموعات جديدة.

بدأ تقييد حركة الفلسطينيين في الضفة الغربية وتقطيع أوصال مدنهم وقراهم منذ مخطط اللواء في الجيش الإسرائيلي يغآل ألون سنة 1967، بالإضافة إلى خطّة آرييل شارون سنة 1977. أمّا التحوّل الأساسي فقد تزامن مع مرحلة الانتفاضة الثانية عام 2000، حين تعرّضت البنية التحتية الفلسطينية إلى التقطيع والقصّ عبر الحواجز والجدران. وفي سنة 2021 التي شهدت نموّ فصائل المقاومة المسلّحة في شمال الضفّة الغربية، قاد الاحتلال الإسرائيلي مرحلة جديدة من تقييد حركة المواطنين الفلسطينيين في تنقّلاتهم اليومية، والتي باتت تفرض عليهم المكوث لساعاتٍ في السيارات أو في غرف التوقيف بسبب تشديد الرقابة عليهم.

سيناريو العزل والفصل عاد مجدّدًا بشكل مضاعف بعد عمليّةطوفان الأقصى، وفق ما يشير الأكاديمي أحمد عز الدين الأسعد في ورقته البحثيّةالحواجز والإغلاقات وتقييد الحركة في الضفّة الغربية بعد 7 أكتوبر“.  إذ عزّز الاحتلال من انتشار حواجزه العسكرية التي قطعت أوصال الضفة وحولها إلى معازل صغيرة، ونصب مئات الحواجز الجديدة خصوصًا في مناطق شمال الضفة، ينتشر معظمها على مداخل ومخارج المدن والبلدات، كما كثف من استخدام البوابات الحديدية والسواتر الاسمنتية ليغلق بها بعض المداخل بعض البلدات بشكل دائم.

أشباح في الضفّة

تضاعفت شهرة تطبيق تيلغرام بين أهل الضفة مع بداية ظهور المجموعات المسلّحة في مناطق شمال الضفة الغربية عقب معركة “سيف القدس” عام 2021.  انتشرت حينها قنوات على التطبيق تحمل أسماء هذه المجموعات المقاومة للتواصل مع حواضنها الشعبية والمناطق التي تنشط فيها، إما للإعلان عن تنفيذها عمليات تصدي واشتباك مع الاحتلال أو لتبنّي الشهداء.

التقطت هذه المجموعات استعداد الناس لمساندتها، فصارت توجّه لهم الرسائل لاحقًا وتطالبهم بفعاليّات وأنشطة معينة مثل الخروج والتجمهر في الشوارع وإشعال الإطارات المطاطية، غالبًا للتغطية على المقاتلين أو لإفشال تسلّل القوات الإسرائيلية الخاصة، وهي أنشطة وصفها الناس بفعاليات “التمويه” و”الإرباك” لجيش الاحتلال وقواته المقتحمة لمناطق الضفة الغربية.

ساهمت هذه المنشورات في إنقاذ بعض المطارَدين من عمليات اغتيال أو اختطاف على يد القوّات الخاصّة والمستعربين، وشكّلت وثائق لا بديل عنها، عن الانتهاكات اليومية التي تحصل في بيوت الفلسطينيين جرّاء مداهمتها من قبل قوات الاحتلال لتفتيشها وانتهاكها

ولأن الظروف الأمنية المشدّدة هي التي تسيطر على الحياة في الضفّة، انخرط الناس في معركة ضدّ اقتحامات جيش الاحتلال من خلال تأدية دور الإسناد لمقاتلي الضفة بأشكال مختلفة، وأحد أشكال هذا الإسناد كان عبر مجموعات وقنوات أنشأها شباب المخيمات والقرى التي تشهد اقتحامات متكررة من قبل جيش الاحتلال. عُرفت هذه القنوات بـ “قنوات التتبيع” التي استقلّاها هؤلاء الشباب لكي يحرسوا أبواب القرى والمخيمات المستهدفة، ويرصدوا حركة الجيش وآلياته ويبلغوا عن حركته على تلك القنوات تحت عنوان “للمعني”، والمعنيين هنا كثر، بينهم المقاوم المتخفي والمتابع لتحركات جيش الاحتلال على هذه القنوات.

ساهمت هذه الوسيلة في إنقاذ بعض المطارَدين من عمليات اغتيال أو اختطاف على يد القوّات الخاصّة والمستعربين. كما شكّلت هذه المنشورات وثائق لا بديل عنها، عن الانتهاكات اليومية التي تحصل في بيوت الفلسطينيين جرّاء مداهمتها من قبل قوات الاحتلال لتفتيشها وتكسير أثاثها وتدمير محتوياتها. على تيلغرام إعلانات عن كلّ شيء، عن استهدافات، واعتقالات، وإغلاق طرقات..

ومع الوقت صار جيش الاحتلال يداهم البيوت التي أرسل بعض ساكنيها على هذه القنوات أخبارًا وصورًا لتموضع جيش الاحتلال وحركة الآليات في الشوارع. ويبدو أن المنازل كانت تُحدّد من خلال زاوية التصوير بسرعة كبيرة، وقد جرت اعتقالات كثيرة لأفراد من تلك العائلات ومصادرة هواتفهم بسبب هذا النشاط.

يا طالعين الجبل

لم تكن مقاومة الفلسطينيين للاستعمار البريطاني وللاحتلال الصهيوني مرتبطة بمجموعة ثوّار منقطعين عن مجتمعهم. الثوار كانوا دائمًا من أبناء العائلات المعروفة في المجتمع، وكان المجتمع واحدًا من الركائز التي تعتمد عليها حالة المقاومة على عدة مستويات منها أنّ الناس شكّلوا وسائل إسناد وتواصل وتأمين اختباء لهؤلاء الثوار.

في بدايات الثورة الفلسطينية في ثلاثينيات القرن الماضي، تحديدًا في بداية ثورة عام 1936، استُخدمت الحناجر والأغاني الشعبية كواحدة من أوائل وسائل التواصل بين الثوار أنفسهم، وبين الثوّار وحاضنتهم الشعبيّة. في واحدة من مراحل ثورة العام 1936 كان الاستعمار البريطاني قد قطع كل وسائل الاتصال بين الثوار المأسورين في معتقلاته والثوار خارج المعتقلات، فلجأت النسوة الفلسطينيات إلى التراويد الشعبية كأولى الرسائل المشفرة في نضال الشعب الفلسطيني. مرّرت النساء الرسائل بالأغنية الشعبية بعد إضافة بعض الأحرف إلى نهايات الكلمات كي لا تكون مفهومة للجنود البريطانيين الذين يعرفون لغة عربيّة محدودة، وكنّ يغنينها قرب السجون والمعتقلات ليسمعها الأسرى. وتُعدّ ترويدة “يا طالعين الجبل” بمثابة رسالة إلى الأسرى أنّ الثوار قادمون لتحريرهم في وقتٍ معين، إذ يجيء فيها: “أنا الليلة لابعث مع الريح الشمالي، يوصل ويدور على الحباب يابا، يا هوا روح سلملي عليهم”.

لاحقًا وبعد تأسيس إذاعة “صوت العاصفة” الفلسطينية سنة 1968، وُظّفَت الإذاعة كواحدة من أدوات التواصل لتحديد وقت تنفيذ بعض عمليات المقاومة أو لتسيير شكلها على الأرض وهذا ما أظهره مقطع مصور طويل لترتيبات خليل الوزير مع منفذي اقتحام سواحل فلسطين العام 1985.

في الانتفاضة الأولى عام 1987 أرسلت قيادة الانتفاضة التي كانت خارج فلسطين حينها التعليمات والإشارات إلى خلاياها ومجموعاتها الناشطة في فلسطين عبر قنوات الراديو. وكانت الإشارة فيما بينهم أحيانًا أغنية أو كلمة يذكرها المذيع ويلتقطها المعنيون ويكون فيها إشارة إلى تنفيذ عملية أو مهمّة متّفق عليها سابقًا. فيما شهدت هذه المرحلة أيضًا الاعتماد على المنشورات المطبوعة التي وُزّعت على أبواب الجوامع وفي الليل تحت أبواب البيوت أو جرى تناقلها بالأيدي بين الشباب.

أدرك جيش الاحتلال خطورة هذه المنشورات كوسيلةٍ للتواصل حينها، ففرض منذ مارس 1988 حظرًا للتجوال على مدن ومخيمات قطاع غزة بأكمله واعتبره منطقة عسكرية، وكانت الحجّة إحباط العناصر المعادية التي استطاعت الانتقال من منزل إلى آخر، ومن قرية إلى أخرى لتوزيع المنشورات، كما يشير عدنان أبو عامر في مؤلّفهالانتفاضة الفلسطينية الكبرى في قطاع غزّة (1987 – 1993)”.

استمرّ هذا النوع من التواصل خلال الانتفاضة الثانية التي اندلعت في أيلول (سبتمبر) 2000، لكنّه أخذ بعض الأشكال الجديدة مثل توزيع البيانات الورقية في ساعات الليل المتأخرة أو إذاعتها عبر مكبّرات المآذن في المساجد، وفي بعض الأحيان عبر سيّارات الملثّمين التي كانت تجوب الشوارع بمكبّرات الصوت لحثّ الناس على الإضرابات أو المشاركة في المظاهرات. ومع تطور وسائل التواصل الاجتماعي، ووجود تطبيقات مراسلة خاصة رائجة بين أفراد المجتمع، طوّعت استخدامات هذه التطبيقات لتكون إحدى الوسائل التي تعين المقاومين على التواصل فيما بينهم ومع الحواضن الشعبية.

قبضة إلكترونية على الأعناق

مثلما بات معبرًا للتواصل المشفّر بين الناس للتغلّب على السطوة الأمنيّة المتشدّدة في الضفّة، شكّل تطبيق تيلغرام في الأشهر الأخيرة مخرجًا من منظومة المراقبة شديدة التعقيد والحزم التي انتهجتها وسائل التواصل الاجتماعي مثل “فيسبوك” و”إكس” (تويتر سابقًا) ضدّ المحتوى الفلسطيني، والذي وصل إلى تطوير خوارزميات تحذف أو تقيّد الحسابات التي تنشر جملًا تحتوي على كلمات من مثل: شهيد أو فلسطين أو حماس. وقد وصل عدد الانتهاكات إلى 23 ألف انتهاك رقمي خلال سنة واحدة، منذ أكتوبر 2023 حتى أكتوبر 2024، استحوذت فيها منصّات “ميتا” على نسبة 56% من هذه الانتهاكات، فيما سجّلت منصة “تيك توك” نسبة 25%، و”إكس” (تويتر سابقًا) 15%، وشكّلت “ساوند كلاود” نسبة 3.7%.

وطالت 29% من مجمل هذه الانتهاكات الصحفيين والصحفيات والمؤسسات الإعلامية وفق التقرير السنوي لـ “صدى سوشال” المختصّ في رصد انتهاكات الاحتلال الرقمية. تنوّعت هذه الانتهاكات بين الحظر التام والجزئي وحظر البث المباشر من صفحات وحسابات الناشطين والمؤسسات الإعلامية، وتقييد انتشار محتواها، فضلًا عن محاولات الاحتلال اختراق صفحات وحسابات فلسطينية على تطبيقي واتساب وفيسبوك وغيرهما.

لم يقتصر انحياز هذه التطبيقات على محاربة السردية الرقمية الفلسطينية فحسب، إنّما تعدّاه ليصل إلى حدّ المشاركة الفعلية في إبادة الفلسطينيين، بتسريب تطبيقواتسابالبيانات الشخصية لأهالي غزة لاستخبارات الاحتلال، لكي تغذّي بها أنظمة الذكاء الاصطناعي. أحد أبرز هذه الأنظمة هو نظاملافندرالذي يعمل بحدٍّ أدنى من التدخل البشري وتستخدمه وحدات السايبر في الجيشالإسرائيليلتحليل كميّات ضخمة من البيانات واستخدامها في تحديد الأشخاص واستهدافهم. وباعتماده على بياناتميتا، حدّد نظاملافندرنحو 37 ألف فلسطيني في غزة كأهدافٍ للجيشالإسرائيليفي الحرب الأخيرة، إضافة إلى نظام آخر مشابه يُسمىغوسبيل، يستخدم لتحديد الأهداف العمرانيّة مثل المباني والمنشآت.

يوميّات الفصائل في غزّة

ينجو تطبيق تيلغرام من الرقابة التي تخضع لها التطبيقات الأخرى، ويخلو من المعايير التي تحدّد المضمون المنشور، كما أنه لا يفرض قيودًا على المحتوى الفلسطيني حصرًا كباقي منصّات التواصل الاجتماعي. ما تخفيه وسائل التواصل الكبرى، يسمح بنشره التطبيق الذي تأسّس عام 2013. ثمّة مساحة لتناقُل المرفقات من فيديوهات وصور تصنّفها منصّات أخرى “عنفًا” أو “تحريضًا”، فضلًا عن سهولة استخدامه وإمكانية انضمام عدد غير محدود من المشاركين إلى قنواته، والأهمّ قدرته على الحفاظ على خصوصية المستخدمين وحجب هويّتهم. يترك التيلغرام مجالًا للمستخدمين للوصول إلى الأخبار من المصدر مباشرة. وبخلاف وسائل الإعلام التقليدية، التي تضع أطرًا محدّدة لتغطية الحدث، يقع المستخدم هنا على أخبار من كل الأنواع، يقرأ ويتفرّج على الأحداث بفجاجتها، من دون خضوعها للممرّ التحريري أو التوجيهي الذي تعبر فيه الأخبار في الوسائل الكبرى.

الموقع بدا منصّة ملائمة جدًّا لحركة حماس، ولبعض الفصائل الفلسطينية المسلّحة في غزة. ففي الأيّام الأولى لعمليّةطوفان الأقصى، اعتمدتحماسعلى صفحتها على تيلغرام من أجل التواصل مع جماهيرها ونشر عمليّاتها ضد جيش الاحتلال، وذلك من خلال قنوات خاصّة على هذا التطبيق، مرفقةً معها مقاطع مصوّرة لعمليّات المواجهة، مثل الكمائن والاشتباكات من المسافة صفر. أتيح للمقاتل أن يتحكّم في ما يريد ولا يريد نشره وفق التوقيتات التي تقتضيها مصلحته الأمنية. وبفضل هذه القنوات صار المتابع مطّلعًا على لحظات وتفاصيل تنفيذ العمليات، لتشكّل هذه القنوات مصدرًا أساسيًا لمتابعة تفاصيل المعركة لدى الناس العاديين وأيضًا لدى المختصين من محللين عسكريين وسياسيين وصحفيين، وغيرهم، بعيدًا عن البروباغندا الهائلة التي قادتها القنوات والفضائيات العالميّة ضدّ غزّة.

جنود يحتلّون حسابات الفلسطينيين

أدركت قوّات الاحتلال شيوع التطبيق بين الفلسطينيين الباحثين في معظم الأوقات عن أمنهم الشخصي ومحاولة تسيير شؤون حياتهم اليوميّة بأقل أذى ممكن، فشدّدت بعد السابع من أكتوبر حربها على التطبيق ومستخدميه، ولاحقت منشئي القنوات ومدرائها وحتى المشتركين فيها.

يبذل الاحتلال جهدًا استخباريًا كبيرًا لاقتحام المساحة الفلسطينيّة الافتراضيّة، عبر اختراق هذه القنوات والتلاعب بها، مستغلًا مشاركة الفلسطينيين فيها بأسماء مستعارة لتجنّب الملاحقة الإسرائيلية. بدورهم، يشارك الجنود والضباط الإسرائيليون أيضًا من أرقام هواتف فلسطينية وبأسماء عربيّة مستعارة لاختراق  الحسابات والمجموعات التي كانت تحمل في البداية أسماء الأحياء والقرى، علمًا أنّه يكفي بحث بسيط عن إسم المستهدف منها على تيلغرام لتظهر هذه المجموعات.

يُحقّق الاحتلال من هذا الاختراق جملة من الأهداف، منها فهم المزاج العام ومتابعة ما يقوله الناس وما يرسلونه أو يتداولونه فيما بينهم، وأيضًا لرصد المتتبعين لحركة الجيش وآلياته، والتقاط معلومات أمنية معينة تساعده في القيام بعمليات الاقتحام المفاجئة، بالإضافة إلى بثّ المعلومات المضللة والمغلوطة بين الفلسطينيين.

اتسع هذا الاختراق مع مرور الوقت وأخذ شكلًا جديدًا، لينشئ ضباط مخابرات الاحتلال قنوات مشابهة بأسماء المناطق المستهدفة ونقاط التماس التي يتجمّع فيها الناس ظنًا منهم أنها كباقي القنوات وأن مدرائها أو مشغليها من الفلسطينيين. عمدت الاستخبارات الإسرائيلية إلى استخدام هذه القنوات لاصطياد الشبان الذين يطاردونه، وأيضًا لبثّ الشائعات بين الناس ومحاولة تأليبهم على المقاومين.

ضاعفت هذه الاختراقات من حذر الناس وبات بعضهم يكتفي بمتابعة القنوات والمجموعات بحدّ أدنى من المشاركة خوفًا من الملاحقة والاعتقال، فصاروا أكثر حرصًا وابتعدوا عما أطلقوا عليها “القنوات المشبوهة”، أما “المعنيون” بتتبع حركة الجيش فصار لهم قنوات بأسماء مشفرة و مموّهة لا تحمل أسماء مناطقهم ولا تدلّ عليها، فيما أصبحت عضوية الناس فيها حصرية وبتزكية الموثوق فيهم من أقارب ومعارف وأصدقاء.

من ناحية أخرى، ورغم دفاعه لفترة طويلة عن حريّة كلّ المستخدمين أو المنظّمات التي تستخدم التطبيق للتواصل مع الإعلم ومناصريها، خضع مؤسس تيلغرام بافيل دوروف للضغوط العالمية من شركات التكنولوجيا الكبرى (بضغط من مؤسسات قانونية تابعة للاحتلال)، فحجب مجموعة حسابات تابعة لحماس عن مستخدمي “آبل” و”آندرويد”.

للحرب التي يشنها جيش الاحتلال على الفلسطينيين على الأرض ويضيق فيها حرية حركتهم، نظير آخر في سماء الفضاء الإلكتروني، لا يقلّ عنفًا. وإن بدا أنّه مجرّد عنف رمزي، إلّا أنّ هذه الأدوات تسعى إلى النيل من الفلسطينيين والمقاومين على الأرض وليس افتراضيًّا. كلّما أنشأ الناس مساحةً لهم بعيدًا عن الاحتلال، وجدوا جيشه ومخابراته أمامهم، لكنهم يواصلون البحث عن وسائل وأدوات جديدة يلتفون بها على الواقع الذي يحاول الاحتلال فرضه عليهم.