fbpx

سطوة النوم.. “أشهى خبز في مائدة االله”

ثنائية الانتباه والمنام مختلفة تمامًا عن ثنائية الحياة والموت، ثنائية مختلفة عن كل ما عداها، فالنوم فعل له سطوة، وكما أنه خبز إلهي، ذو طابع قدري، فليس لنا الاختيار في تذوقه أو الحرمان منه، كل ما علينا هو الامتثال
ــــــــ جسد
3 فبراير 2025

لا أحب صلاح عبد الصبور، ربما كان الأليق أن أقول: لم أتفاعل مع منتجه الأدبي، لكن لندع اللياقة جانبًا هنا؛ اللياقة بنت الموضوعية والتواصل، وما أحدثك به ذاتي، لا يهمني أن ينتشر، المهم فقط أن يخرج؛ فهو ثقيل.

إذًا، لا أحب صلاح عبد الصبور، وإحدى علامات الحب المهمة عندي أن يبقى الأمر في ذاكرتي، يقولون إن ذاكرتي قوية، لكنها ليست كذلك، هي فقط محبة، تحتفظ بالكثير جدًا من الأشياء التي تربطني بها علاقة، وتترابط فيما بينها بعلاقة، العلاقة مفتاح التذكر، فإن بقيت في ذاكرتي، فأنا أحبك.

إذًا، لا أحب صلاح عبد الصبور، لكن بقيت في ذاكرتي جملة قالها، ربما كانت في مسرحية “مسافر ليل”، أقول ربما رغم أنه يمكنني التأكد في دقيقتين ببحث يسير، لكنني أفضل بقاء هذه الجملة مُعمّاة عن سياقها عنده، باقية في سياقي أنا، كانت الجملة تقول: “نومي، أشهى خبز في مائدة الله”.

قرأت صلاح عبد الصبور صغيرًا، وكانت هذه الجملة تجسيدًا لمقولة “الدقة لا الوضوح”، فهذا هو التوصيف الدقيق غير الواضح للنوم، الذي بدأت علاقتي به مبكرًا، وطالما شعرت بالرهبة منه، حتى إنني لم أسعَ، كما أسعى عادة مع الأمور كافة، لفهم طبيعته وآلية عمله، وكيف يسيطر علينا، وكيف يمكننا أن نسيطر عليه.

نعم، كانت الرهبة هي شعوري تجاه هذا الفعل، ولم تقنعني الغالبية العظمى مما سجله الأدباء والشعراء عنه، فهو ليس الراحة، ولا الموت الأصغر، ليس الأمر كما قال أبو العلاء:

ضجعة الموت رقدة يستريح الجسم فيها والعيش مثل السهاد

بل إن أول ما ربطني بالمتنبي هو رفضه لهذا المجاز عندما قال:

تمتع من سهاد أو رقاد     ولا تأمل كرى تحت الرجامِ

فإن لثالث الحالين معنى     سوى معنى انتباهك والمنامِ

نعم، ثنائية الانتباه والمنام مختلفة تمامًا عن ثنائية الحياة والموت، ثنائية مختلفة عن كل ما عداها، فالنوم فعل له سطوة، وكما أنه خبز إلهي، ذو طابع قدري، فليس لنا الاختيار في تذوقه أو الحرمان منه، كل ما علينا هو الامتثال.

شعراء كثروا شكوا من السهاد، وشعراء أقل طالبونا به:

فما أطال النوم عمرًا

ولا قصر في الأعمار طول السهر

لكنني بقيت حتى ناهزت الأربعين لا أفهم هذا ولا ذاك، فأنا حتى ذلك الحين في صيف 2014، لم أعرف السهاد مطلقًا، لم يحدث أنني استعصيت على النوم، بل يمكنك القول إنني كنت أحدد كل شيء في حياتي بناء على أوامره هو.

كان النوم يريد مني حصته كاملة غير منقوصة، ثماني ساعات عدا، ترك لي فرصة أي ثلث من اليوم أمنحه له، لكنه لا يقبل بأقل من ثلث اليوم ولو نصف ساعة، وكنت أمتثل، وإن كان هذا يفتقد الدقة، فمن يمتثل يمتلك فرصة التمرد وإن دفع الثمن، لكن هذا ليس هو الحاصل، كنت مجبرًا على الامتثال.

كم عملًا تركت لأن الالتزام به قد يؤثر على حصة النوم؟ كم ميعادًا غراميًا لم ألتمسه لأن هذا وقت النوم؟ كم فيلمًا في السينما وحفلًا وعرضًا مسرحيًا وسمرًا فاتني وفته، لأن النوم سلطان له الغلب. كنت أسيرًا لديه، ولا أفكر في سبيل للتحرر، لأنني كنت أخافه، لينل حصته ويترك لي ثلثي اليوم وأنا بهما قانع.

في ذلك اليوم من صيف 2014 جاء موعده، ولم يأتِ، ربما كان ذلك لأول مرة في حياتي، ها أنذا أعرف إذًا معنى السهاد، إنه ليس سيئًا كما صوروا، وليس ممتعًا كما ادعوا، إنه فقط شعور ما بالحرية، السيد غاب تلك الليلة، لا بأس من بعض الجوع جراء غياب الخبز الإلهي، لكن كانت بي همة غير اعتيادية.

ليلتها، قرأت وكتبت، وشاهدت مباراتين في كأس العالم لكرة القدم، وثرثرت في مواقع الاتصال الاجتماعي، وجلت في البيت مرات، وما زال الليل طويلًا، حتى جاءت السادسة صباحًا، وجاء النوم، وغادرني في السابعة، أي بعد ساعة واحدة فقط لا غير.

كان هذا حدثًا جليلًا، فعندما استيقظت، كنت كأنني نمت الساعات الثمانية المعتادة، من حيث الهمة والقدرة على الحياة، وممارسة الأنشطة كافة، وبالفعل كان يوما “عاديًا”، وأحيانًا ما يكون “العادي” هو غير العادي، أن يموت الوالد مثلا فيشعر الابن بأنه “عادي”، هذا أمر لا علاقة له بالعادية، وهذا ما كان يومها.

تذكرت حديث زميل أكبر سنًا قبلها ببضع سنوات، عندما قال لي: تهيأ لـ “هدايا الأربعين”، وقبل أن أستفسر حدثني عما يتغير في أجسادنا مع بلوغنا ما نعرفه بـ “سن النبوة”، وهذه الهدايا هي ما ترسله لنا أجسادنا وقتها لتخبرنا من خلالها أن منطق تعاملنا معها (مع أجسادنا) قد تغير.

كانت الأربعين في صيف 2014 على بعد سنة، فقلت: ربما تعجل جسدي في إرسال هداياه، جسد متعجل لرجل عجول، العجلة بنت الملل، كما أن الحكمة بنت الهزيمة، لكن إن كان ذلك كذلك، فماذا عساي أن أصنع؟

هل يعني هذا أنني سأعيش السهاد الذي طالما سخرت ممن تنالوه سلبًا أو إيجابًا؟ هل يمكنني تحمل ذلك الضيف الغريب، هو لم يكن ضيفًا ثقيلًا، لكنه غريب وهذا يكفي، أم أنها مجرد هدية عابرة، يعود بعدها سلطان السيد كما كان؟

في الواقع، لم يتكرر الأمر مطلقًا في أي وقت آخر، ومرت سنة وربع السنة دون تغير يذكر في سطوة النوم، بل ربما بالغ بعدها في صرامته بشأن ثلث اليوم، ثم إنه لم يترك لي فرصة أي ثلث يأخد، منذ 10 أبريل 2015 صرت أنام في منتصف الليل وأستيقظ في الثامنة صباحًا دون تأخر في النوم أو الاستيقاظ ولو لدقائق.

بقيت ذكرى السهاد الخاطف في تلك الليلة الصيفية من 2014 سؤالًا معلقًا، ما الذي جرى؟ وهي تستحق ليلة سهاد كل هذا الاهتمام، وهل ينبغي أن أكسر هيبتي من السيد النوم، فأحاول فهم مكونات الخبز الإلهي.

كلما زادت سطوة السيد، كلما زادت الرغبة في الفهم، كلما زادت الهيبة، وبقي قرار الفهم مؤجلا حتى داهمني خريف 2015، وبدأت سطوة السيد تهتز، هكذا بدا لي، لم أكن أعرف أنها تزيد، هو فقط بدل آلياته في الحكم.

بدأت ساعات النوم تقل، وتصير غير محددة، وصار بإمكاني عبر ستة أشهر أن أختار ما شئت من الوقت كمًا ونوعًا لأنامه، ثم أستيقظ لأمارس يومًا “عاديًا”، في بعض الأيام كنت أنام ساعات ثلاثًا ثم أستيقظ كأنني نمت الثمانية، لم أعد أهتم إن كانت تلك هدايا الأربعين، أو هدايا الجنة أو الجحيم، فقط شعرت أنني حر، حر، حر، وهذا يكفي، لم أكن أعرف أنه لا يكفي أبدا، أبدًا.