fbpx

قهوة تونسية.. حكاية الفناجين الأربعة

التاريخ الطويل للقهوة وفضاءاتها يمنحنا رؤية لتاريخ مشروب مفعول به سياسياً، وخاضع للوصم والتنميط من طرف السلطة السياسية والمجتمع، ولم يكن فاعلاً كما يشاع أحياناً
ــــــــ الطعامــــــــ رُبع صوت
28 فبراير 2025

العامة يشربون القهوة، وحدهم المثقفون يحتسونها. هذه الجملة، على الأرجح من أكثر المزح الدارجة على مواقع التواصل، للسخرية من المثقفين – أو المدّعين-  والربط السائد بين القهوة والثقافة، وكأنها صنو لها لا تقوم إلا بها. غير أن هذا المثال البسيط، لا يمكن أن يحجب ميراثاً طويلاً من الوصم والتنميط والتقسيم الذي ارتبط بهذا المشروب منذ ظهوره، ومنذ معركة تحريمها الكبرى في عهد سليمان القانوني. بداية من اليمن وأثيوبيا فالقدس وإسطنبول وصولاً لفيينا، كان للقهوة قصص مختلفة، في كلّ مكان حلّت به أثارت نقاشا قلّما غابت عنه السلطتان السياسية أو الدينية.

تونس أيضاً لم تشذ عن هذا، خاصة وأن الإنتاج الثقافي سعى، في مبالغة أحيانًا، لربط هذا المشروب بماضي حراك سياسي متخيل ولو كان ذلك على حساب الحقائق السياسية. يكفي هنا أن نطّلع على عملين تاريخيين ظهرا في نفس السنة: سنة 2002، واللذان رغم اختلافهما في الشكل وفي الحقبة إلا أنهما اشتركا في تصوير فضاء المقهى باعتباره فضاءً سياسياً على اختلاف الحقب والظرفيات. بداية من رواية “رحمانة” لحسنين بن عمو والتي افترض كاتبها أن الحراك المناهض للغزو الإسباني لتونس بين 1532-1574، نشأ وترعرع في مقاهي ضواحي الحاضرة البعيدة، بالرغم من غياب أدلة تاريخية موضوعية عن وجود المقاهي أصلا في تلك الحقبة.

أما العمل الثاني فهو المسلسل التلفزيوني “قمرة سيدي المحروس”، الذي تناول الحقبة الاستعمارية الفرنسية بين 1881-1956، وفيه تجذّرت صورة المقهى كفضاء سياسي أكثر، وتحديداً للدعاية وتأطير الحركة الدستورية الوليدة. ربما في المثال الأخير، يكون المشهد أكثر مصداقية لعوامل موضوعية من قبيل انتشار المقاهي فعلياً في تلك الفترة مقارنة بالقرن السادس عشر، إلا أنه يبقى بعيداً عن المعطى الثابت في التاريخ والذي مفاده  أن المقهى التونسي لم يكن فضاءً لصنع السياسة على امتداد الحقب من الحكم الحفصي فالعثماني فالاستعمار بل وحتى تونس المستقلة، ولعل أشهر مثال على استمرار هذه القطيعة، هو سرعة اضمحلال تجربة “المقهى السياسي” بعد ثورة 2011، واقتصار المقهى على أن يكون فضاءً مهيمناً عليه ومستهلكاً من طرف السياسيين إعلامياً وتحديداً انتخابياً، باستثناء انتخابات رئاسيات أكتوبر 2024 ربما، والتي يبدو أنها لم تتزامن مع حملات انتخابية حقيقية.

وبالتالي فإننا وإن استبعدنا التصوير المتخيل للمقهى كفضاء للفعل السياسي، وهو ما يجافي الحقيقة،  لكن يمكن للتاريخ الطويل لهذا المشروب وفضاءاته أن يمنحنا زاوية مغايرة للرؤية السابقة وذلك باعتبارها فضاءً ومشروبًا مفعولًا به سياسيًا، وخاضعًا للوصم والتنميط من طرف السلطة السياسية والمجتمع. ونظراً لأننا أمام لهجة عامية تحمّل كلمة القهوة معنيين: المشروب في ذاته، وفضاء شربه: المقهى. وبالتالي يمسي التمييز بينهما رهيناً للسياق لا غير. هنا سنكون وفيّين للهجة التوانسة، ذلك أنها تسعفنا في سعينا لتتبع ما سُكب في تاريخها من فناجين، بفرصة القفز بين المشروب والمكان بيسر وسلاسة.

فنجان العرش.. بحثًا عن منشور مزالي المفقود

عام 1981 وحرب الوراثة على عرش الزعيم العجوز في أوجها، حاول محمد المزالي، الوزير الأول خلال فترة توليه لرئاسة حكومته الأولى بين 1980-1986، تدعيم وضعه الهش مقابل أجنحة الصراع الأخرى. ليجد ضالته في حراك معارض تصاعد وسرعان ما اكتسح الجامعات و الأوساط الجماهيرية: حركة الاتجاه الإسلامي، أو حركة النهضة كما سيمسي اسمها بعد ذلك.

استمالة الإسلاميين والهوى العروبي والإسلامي الميّال للتخفيف من موجة “التغريب” السائدة، اجتمعا معاً لرسم سياسة مزالي مطلع الثمانينات، من تعريب التعليم العمومي إلى إصداره قراره الشهير بمنع بيع المشروبات الكحولية وإغلاق المقاهي والمطاعم خلال شهر رمضان، كما درج عليه الحال في تونس خلال العقدين الماضيين. صدر هذا القرار في شكل “منشور وزاري” في نفس السنة، سرعان ما حاز من الشهرة الكثير باعتباره أول وثيقة قانونية في الجمهورية الحديثة تعيد تكريس هذا التحجير.

المثير هنا أن هذا المنشور لم يعمّر طويلاً، إذ يبدو أن مزالي سحبه بعد عدة أشهر على إثر عريضة قدّمها عدد من النخب والمثقفين. غير أن الممارسة ذاتها لم تتوقف إلى اليوم.  إذ تبنتها جلّ الأنظمة السياسية اللاحقة بداية من بن علي في أيام صفوه مع الإسلاميين ثم أيام صراعه معهم مطلع التسعينات إلى آخر أيام حكمه. ووصولا لحكومات عشية الثورة من الإسلاميين وخصومهم على حد السواء.

في محاولة بحثها عن مستندات هذا التحجير، وقفت حفيظة شقير على تبريرات وأسس مختلفة برّرت بها السلط المتعاقبة سياستها: إشاعات مفادها أن وزارة الداخلية أصدرت مناشير وزارية جديدة، ثم تصريح أن الأمر يقتصر على مجردإجراءات سارية منذ عهد بن علي، أو لعلهتدابير دأبت الوزارة على اتخاذها منذ سنوات“.  الطابع العلمي لدراسة  لشقير، حتّم عليها عدم الإشارة لفرضية أخرى، أقرب للأسطورة، ترددها ألسن الحقوقيين والمشتغلين بالقانون عموماً، عن أن ذلك المنشور السرّي لمزالي. بقي طي الكتمان الإداري منذ الثمانينات ولم يقع إلغائه بل تواصل العمل به لحدود هذه الأيام. ومن خلاله تواصل إغلاق المقاهي كل رمضان.

مقاهي الجرائد

قبل منشور مزالي، كان إغلاق المقاهي  مرتهن بـ”تقوى” صاحب المحل وأعراف المكان وقاطنيه. فقط مع المنشور وما تلاه، تدخّل معطى آخر خارجي هو إكراه السلطة ومن كونه إغلاقاً أو فتحاً إرادياً، أمست الدولة صاحبة القرار والمنفذة له. وكنتيجة طبيعية، لم ترضخ كل الفئات لهذا الإكراه، ولا كل المقاهي.

فإلى جانب المقاهي السياحية – المستثناة أصلاً من هذا المنع- ظهرت مقاهي “الجرائد”. هي ببساطة مقاهي العادة، مقاهي “وسط البلاد” وغيرها، تلك التي اعتاد جلّ ساكني المنطقة على ارتيادها، فقط مع بعض التحوير: بوابة شبه مواربة ونوافذ مغلقة وعادة مغلفة بأوراق الجرائد القديمة لتحجب الأضواء وأعين المتطفلين، وورق الجرائد ذاك سرعان ما أمسى رمزاً مقاهي رمضان السرية. مقاه لها جميعا هيكلة رمضانية موحدة: غرفة فسيحة معتمة ومغلقة، وكثافة دخان سجائر لا تطاق. وبطبيعة الحال أسعار مضاعفة، يضطر عليها اضطرارا “فطّارة رمضان”.

وفي رمضان عام 2017، انطلقت حملة “صيّد فطارة” فريدة من نوعها، لم تقم بها أجهزة الدولة، وإنما رجل ينسب نفسه للمشيخة. بجبّته الفضفاضة وعمامته الزيتونية، مصحوباً بمصوّر وعدل منفذ، قاد الشيخ عادل العلمي حملة تشهير -موثّقة من طرفه على مواقع التواصل الاجتماعي-  بالمقاهي المفتوحة خلسة وأصحابها. في واحدة من “غاراته” على مقهى “بو أحمد” بالعاصمة، لم يكتف مرافقوه بتصوير صاحب المقهى – والتهكم من ارتباكه فيما بعد- ولكن المشهد برمته تحول لمحاضرة اختلط فيها الوعظ الديني: حرمة بيع القهوة للمسلمين في الشهر الفضيل بالألفاظ القانونية: إجراء معاينة وصولاً لاستعراض “مخابراتي” لبعض السلوكات اليومية لصاحب المقهى: نعلم أنك تصلي الفجر “حاضراً” كل يوم. وفي الختام جاءت العبارة الملغزة عمّا ينتظر صاحب المقهى إن لم يغلق محله مستقبلاً: “لكل حادث حديث”.

باستثناء رمضان 2017، انتهت تجربة العلمي في ملاحقة العصاة من فطّارة المقاهيعلى الأقل علناًفما صاحبها من سخرية وإدانة حال دون تطورها وتكرارها في الفضاء العام. لكن المعركة استمرت في فضاءات أخرى، ومرة أخرى كان للقهوة دور آخر في لعبة التمايز والاصطفاف ولكن بشكل أجلى هذه المرة.

معركة “البيوفات”

البيوفات أو الكافيتيريا، هي التسميات المحلية ذات الأصول الفرنسية، للمشارب الموجودة في محطات النقل أو المؤسسات الكبرى وخاصة الكليّات. وبالنسبة لكلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس، “بيروت الجامعة التونسية” كما لقّبت نهايات القرن الماضي ثم “كامبالا” على اسم العاصمة الأوغندية فيما بعد، لم تكن البيوفات الخاصة بها كغيرها. إذ وقع هدم المبنى الذي يحتويها عام 2015 في إطار أشغال إعادة ترميم الكلية القديمة ومن وقتها بقي المشروع معلّقاً قرابة الثماني سنوات وحامت الإشاعات عن إفلاس المقاول المتعهد بالأشغال. ولمجابهة الوضع، جاء الحل الوقتي -الذي قارب على التحول لوضع دائم- لتعويض البيوفات من خلال نصب خيمة كبرى وضعت تحتها عربة مشرب متنقل، عرفت في الكلية باسم “الكميونة”.

وجنب الكميونة وتحت الخيمة، خيضت واحدة من أكثر معارك الكلية سخرية وتشنجاً وتكراراً، ولو أن الأمانة في النقل تطلب منّا التنويه بأن المعركة لم تخض بأتم معنى الكلمة هناك، إذ أن جلّ فصولها وقعت في مجموعات الفيسبوك المغلقة والمخصصة لطلبة الكلية. هذه المعركة هي معركة غلق البيوفات من عدمه، كالعادة كلّ رمضان. واللافت هنا أن الدعوتين للغلق -والفتح- لم تصدرا عن طلبة عاديين، ربما في بعض السنوات تشتعل المعركة من مجرد منشور فيسبوكي منفرد لطالبة متقية تندد بانتهاك حرمة الصوم في الشهر الفضيل أو من طالب أقلقه التضييق على الحريات الفردية للزملاء المضطرين للصوم القهري مع المتعبدين. في الحالتين تدحرج الأمور وتخرج من بين أيديهما ويُصادر المطلبان لحساب ما تبقى من هياكل التنظم النقابي والسياسي بالجامعة: إتحادي الطلبة ولو بشكل غير رسمي.

المنظمة الأولى: الاتحاد العام لطلبة تونس ” UGET”، أقدم المنظمات الطلابية وأعرقها، والتي طردت من بين صفوفها منذ السبعينات والثمانينات، الطلبة الدستوريين ثم الإسلاميين، واقتصرت بذلك مكوناتها على الأطياف اليسارية والقومية، مع بعض المستقلين. وفي المقابل يوجد الاتحاد العام التونسي للطلبة ” UGTE” المنظمة المحسوبة على الإسلاميين، وإن إدعى  منتسبوها استقلاليتهم عنها. ما يهم في كل هذا أن الاتحاد الأول، طالب باستمرار فتح المشرب بالوتيرة العادية، ذلك أن الكلية فضاء يضمن حريات المعتقد لجميع منتسبيها، وبالتالي لا حق للصائمين في حرمان زملائهم من “الكرواسون اللايث والقهوة المذرحة” كما ورد في تدوينة لأحد الطلبة.

أما عند الاتحاد الآخر مثّل مطلب غلق المشرب تجسيداً لحرمة الشهر ومشاعر المجتمع المسلم، وفي فلتة بهلوانية  من أحد أنصار الاتحاد وقع الدفاع عليه باعتباره امتثالاً للقانون الوضعي للدولة! الطريف هنا أن المعركة لم يحسم فيها يوماً أي من الشقين، فلا نجح الاتحاد الأول في غلق المشرب ولا الثاني في فتحه بالقوة. ليبقى القرار بيد صاحب الكميونة نفسها، والذي اختار كل عام غلق مشربه طوعاً، دون أن نعلم سبب ذلك: هل هو تقوى أم ببساطة تجنب لـوجايعالراس. المهم أن قراره يرضى  الصائمين ممن تجرح مشاعرهم، أما فاطرو الشهر، فقد احتلوا بسلام الخلاء المنزوي وراء أكبر مدارج الكلية. وبذلك تسكُن النفوس، انتظاراً للعام القادم كالعادة.

فنجان الحداثة.. عن جذور الصراع حول القهوة

من بين كل أعلام الفكر والإصلاح التونسي خلال القرن التاسع، بقيت شخصية “سليمان الحرايري” الأكثر غموضاً. إذ يغيب الحديث عنه في المؤلفات التاريخية أو الدراسات المتعلقة بحركة التحديث، إلا لماماً، بالرغم من أن تجربته تبدو أثرى وأكثر جاذبية من شخصيات أخرى. سننتظر إلى حدود عام 2012، عندما ظهر أول مؤلف،صغير الحجم، مخصص كلياً للحرايري، وحاملاً لاسمه، للمؤرخ منصف الشابي، خصص مقدمته لاستقصاء سبب تغييبه.

تغييب يعزوه لمسيرة الرجل نفسه، الذي وُلد بالعاصمة عام 1824، ودخل جامعها الأعظم للدراسة، أين نبغ في العلوم “العقلية” واللغوية، حتى وقع تعيينه وهو ابن السادسة عشر فقط رئيساً لكتابة ديوان ملك البلاد أحمد باي. أما نقطة التحول في حياة الشاب، حدثت في العام الموالي، مع وصول قس فرنسي لتونس عام 1841، هو الأب بورغاد للإشراف على أهم كنيسة في البلاد وتعليم فقراء المسلمين واليهود، ولما لا تبشيرهم أيضاً. خلال تلك السنوات اكتسب الشاب بعضا من اللغة الفرنسية، وهي ميزة لم يتمتع بها إلا قلائل من أبناء البلاد المسلمين، ممّا مكنه من الالتحاق بمدرسة الأب بورغاد في النهاية، حيث أشرف على تدريس العربية للفرنسيين. ومنها توطدت علاقته بالأب ليرافقه في جلّ رحلاته كمترجم وأنيس سفر وتلميذ.

وفي عام 1849، أصدر الأب بورغاد كتابه الضخم مسامرات قرطاج، والذي كان عبارة عن محاورات مطولة بين راهب مسيحي وقاض ومفتي مسلمان. كل الحوارات انصبت أساساً حول اللاهوت والتاريخ والدين، وفي جلّها كانت الكفة ترجح لصالح الراهب. ما يهم هنا أن هذا العمل الضخم والمعقد، عهد الأب بترجمته لصديقه الشاب والذي قيل أنه حضر بشكل أو بآخر كشخصية في متن النص. وبقدر ما توطدت علاقة الحرايري بالأب ورفاقه الكنسيين، إزدادت الجفوة بينه وبين أهل بلده، جفوة سرعان ما تعمّقت في القادم من السنوات.

بداية تخلى عن كل مشاغله التعليمية أو الشرعية في البلاط والزيتونة، في مقابل انضمامه رسمياً لسلك السفارة الفرنسية. وهناك أقدم على ما لم يفعله غيره من التونسيين، خلع جبّته وشاشيته الحمراء، وعوضاً عنها ارتدى الزيّ الأوروبي. ومع توسع الحملات الفرنسية في احتلال الشرق الجزائري، أصبح الحرايري مشبوهاً حتى لدى السلطات المحلية، وقبلها طعن المشائخ ورجال الشرع في إيمانه وعقيدته. وأمام عزلته تلك، غادر تونس نحو فرنسا عام 1858، ملتحقاً بعرّابه الروحي بورغاد، أين أمضى ما بقي من سنواته وكتب مقالاته ورسائله.

في فرنسا ومن خلال جريدة “برجيس باريس” التي أشرف على تحريرها، هاجم الحرايري ضيقي النفوس والمتحجرين في الشرق، ندّد بالسياسة العثمانية والتضييقات ضد مسيحيي المشرق، ودافع عن الدور الفرنسي هناك وفي بلاد المغرب. ولكن أين القهوة من كل هذا؟ سؤال منطقي، بعد مقدمة طالت، إجابته تكمن في رسالة تقع في نيف وعشرين صفحة بعنوان “القول المحقّق في تحريم البنّ المحرق”. الرسالة كانت من أول ما نشره عام 1860. قبل أن تظهر في طبعة ثانية في قائم حياته تحت عنوان “مقالة في القهوة لمؤلفها الشيخ أبي الربيع سيدي سليمان الحرايري نفعنا الله بعلمه”.

من محتوى الرسالة، والاستعراض الواسع لتاريخ القهوة في تونس -سنعود له فيما بعد- نستنتج أن الأخيرة جاءت في سياق تونسي بحت وموجهة بالأساس لجمهور تونسي قبل غيره. ذلك أنها جاءت رداً على فتاوى محلية حرّمت التقنية الجديدة لشرب القهوة، القادمة من أوروبا والتي تقوم على تحميص البن في الأفران قبل طحنه، وهي الطريقة الحديثة والمعروفة اليوم دون سواها لتعاطي المشروب. لم يستسغ المشائخ بداية هذه الطريقة، ذلك أنها تضاعف من قوة المشروب المستخلص من حبّات البن، وبالتالي من أثره المنبه على الأعصاب. مما يقرّبها من فعل الخمور وتأثيرها في الشعور والنفس.

رفض الحرايري هذه المسارعة نحو التحريم، وفي المقابل تبنى مقاربة “علمية”، لم تغادر النظرية العربية التقليدية للطب -والموروثة عن اليونان- والتي تعتبر أن جسم الإنسان نتاج الأخلاط الأربعة: السوداء والصفراء والبلغم والدم. وعليه فإن القهوة المحروقة لا يمكن تحريمها إلا إذا شربها المصابون أصلاً بعلل أحد الأخلاط: السويداء أو الصفيراء. والذين من الممكن أن تتأثر أمزجتهم بالطابع المنبه للمشروب. أما من سواهم فلا ضرر عليهم طالما اعتمدوا قاعدة الاعتدال في استهلاك المادة. بعد هذا العرض العلمي الذي لم يحز أكثر من خمس صفحات من حجم الرسالة، اختار الحرايري المواجهة مباشرة مع الفقهاء. بداية جمع جلّ ما دوُن من عهد السلطان سليمان في القرن السادس عشر وصولاً إلى عصره. ثم فنّد بعضها وحاجج أخرى، واضعاً نفسه في مصاف أصحابها ولو لم يحمل من ألقابهم أو تعترف له سلطة دينية أو معرفية بشرعية الاجتهاد. شرعية لم يطلبها، ولم يخش التشكيك في أصحابها، أو حتى السخرية من حامليها ومن بعض السائد بينهم من إدعاءات، حتى أنه وصل للتلميح بأن طريقة القدامى في شرب القهوة، التي يدافع عنها الفقهاء، أثقل وأخطر على الصحة من تقاليد الجمع بين الخمر والبن المحروق لدى الأوروبيين، قبل أن يستدرك ويعود للجد من جديد.

حاول الحرايري الدفاع عن مظهر من مظاهر الحياة الحديثة الزاحفة رويداً نحو الشرق. ربما لم تعنه القهوة في ذاتها -إذ من المحتمل أن الرجل كان ميّالاً نحو مشروبات “أقوى”- ولكن ما ساد من تضييق ورفض كليّ للانفتاح.

غير أن تجربته لم تنل نجاحا كبيراً، إذ لا نعلم عن أصداء لرسالته سوى تلك التي نجح الشابي في حصرها والتي لم يجاوز أصحابها الموصوفون بالاصلاحيين كالأديب محمد السنوسي، عن السخرية منها ومن صاحبهاالمتفرنج“. وبذلك نسيت الرسالة مثل صاحبها المسجى في إحدى مقابر الأغراب بباريس. ولكن شرب القهوة استمر، ومحرّقاً هذه المرة.

فنجان البركة.. بضعة قرون للوراء

نحن مدينون للحرايري من ناحية أخرى لكونه وثّق لنا في رسالته القصة السائرة بين التونسيين حول جذور القهوة، ليؤكد بذلك أن هذه الخرافة دارجة منذ أوائل القرن التاسع عشر أو أقدم. خرافة تربط قدوم القهوة لـ “برّ تونس” بحياة أبرز متصوفي الفترة الوسيطة، أبي الحسن الغماري. ذلك الشاب القادم لتونس من بلاد المغرب الأقصى بوصيّة من شيخه. وفي ضواحيها التقى بأبي علي الحطاب أول مريد له، والذي رافقه نحو قريته شاذلة ومنها أخذ اسمه الأشهر: أبو الحسن الشاذلي. من جبل المنار، مقام أستاذه أبي سعيد الباجي إلى جبل التوبة مقام مغارته الفضلى، واصل الشاذلي الأيام بالليالي، ذاكراً وعابداً ومعلماً تلامذته الأربعين.

وحتى يشد من عزمهم ويعينهم على قيام الليالي وتلاوة الأوراد، وهبهم تلك الحبيبات السحرية، حبيبات بن لا يُعلم على وجه التدقيق من أين جاءت له أو كيف جلبها -ربما هي إحدى بركاته- كما روُي في المناقب. علّمهم كيفية الاستفادة منها، من خلال غمسها في الماء البارد وتركها لتتحلل رويداً رويداً، فترة طويلة. وفيما بعد يُشرب منقوعها بارداً، دون أن تمسها النار. وبذلك أمست الطريقة الوحيدة لشرب القهوة خلال القرون اللاحقة، إلى حين معركة البنّ المحرّق.

تكشف لنا هذه القصة، أول حكم قيمي على القهوة وشاربيها، ولكنها على النقيض ممّا سبق لم تعكس إدانة أو تأثيما لمتعاطيها. بل على العكس من ذلك، احاطتهم وإياها بهالة من البركة والتقديس. قبل أن تغادر تدريجياً مقامات المتصوفة، نحو “عامة” الناس. شيوع  لم يفقدها جلالها، حتى أن اسمها في اللهجة العامية صار “شاذلية”، عبارة بقية دارجة لوقت غير بعيد. وإجلالاً لها ولأهلها القدامى، مُنحت امتياز الحلف بحقها: “وجاه ها الشاذلية” أي بجاه هذه القهوة، صيغة قسم رفعتها إلى مصاف المقدسات: القمح والزيتون والصالحون والمصحف.

يبدو أن الحرايري لم يستوثق كلياً من مصداقية هذه القصة، ربما لم يشأ تكذيبها علناً مراعاة لمشاعر أهله، ولكنه اختار وضع موازنة أخرى بعد سرده لتاريخ ظهور القهوة في العالم وانتشارهاالذي وقع على الأقل بعد قصة الشاذلي بثلاث قرونإذ فصل بين مسيرة المشروب في جلّ أنحاء العالم باعتباره حقائق تاريخية ثابتة، وبين مسيرتها الشاذلية التي اعتبرها مخصوصة بالتونسيين دون سواهم، وكأنها مبتورة عن السياق التاريخي الإنساني.

فنجان الكيف.. قفلة موسيقية

في ليلة من ليالي رمضان أواسط القرن الماضي، وفي مقهى “الكامور” الشهير، أحد أعرق مقاهي مدينة صفاقس العتيقة، ألهمت روائح البن العربي وماء الورد ومشهد النادل وقد طاف على الرؤوس، الشاب محمد الجاموسي الذي دندن كلمات صارت واحدة من أشهر أغانيه فيما بعد: ” قهواجي يدور… هاتلي قهيوة“. أغنية الجاموسي، جاءت في مرحلة  أمست فيها المقاهي فضاءات أكثر رحابة وقبولاً لتونسيين من شتّى الأطياف، بعد أن تراجعت -ظاهرياً على الأقل- تلك التقسيمات الطبقية الصريحة بين مقاهي الأعيان الأرستقراطية وشبه مقاهي الفئات الدنيا.

تقسيم لم يقتصر على التصنيف الاجتماعي للمقاهي وروّادها، ولكن أثره الأكبر كان على ما عٌزف داخلها باعتباره نواةً للموسيقى التونسية الحديثة مطلع القرن العشرين. وبالعودة للعاصمة -مركز الحياة الفنية للبلاد- تمنحنا الخارطة العمرانية للمدينة ومقاهيها مفتاحاً سهل القراءة لتفكيك المشهد. ففي قلب المدينة، قريباً من جامعها الأعظم يقع مقهى المرابط، أحد أقدم مقاهي البلاد بل ربما هو الأقدم تاريخياً، إذ برز منذ القرن السابع عشر كفضاء لاسترخاء الجند الإنكشارية وبعدهم أعيان البلاد وكبار أرستقراطيتها. وفي بهو المرابط، تطوّرت موسيقى المالوف، النمط الموسيقي الحضري الكلاسيكي ذي الجذور الأندلسية. ومع نهايات القرن التاسع عشر أصبحت إقامة “نوّب” المالوف أمراً معتاداً، ليعزّف هناك ويغني أشهر أعلامه من أحمد الوافي وخميس الترنان وصولاً لآخر مشايخه الكبار الطاهر غرسة، أواخر القرن الماضي.

الصادق الرزقي ( 1874 – 1939) عايش مجّد إحياء موسيقى المالوف في مقهى المرابط والرشيدية. تحمّس لذلك الحراك، وهو المعتز بانتمائه للحاضرة وبثقافته وقيافته “البلّدية” ولذلك خصّص قسماً وافراً من عمله الأشهر “الأغاني التونسية” -بعد الاستقلال تم الاعتناء بالكتاب مبكراً تدقيقاً وتحقيقاً، منذ صدور طبعته الأولى سنة 1967- لتوثيق قصة المالوف وتاريخه، باعتباره الممثل الرئيس للثقافة التونسية العالية. أما ما سواه، فقد أشاح الرزقي بنظره عنه، ولم يذكره إلا مزدرياً طابعه السوقي المنحط. ازدراء امتد حتّى للفضاءات التي ظهرت وانتعشت فيها هذه الموسيقى، وعلى رأسها مقاهي “الربطين” أي أحياء المدينة الخارجية، الواقعة على هامش أبوابها القديمة، قبل بروز الأحياء العشوائية المنفصلة أواخر الثلاثينات.

بكل فجاجة، يكتب الرزقي ممتعضاً عنبعض القهاوي العربية المنحطةوجلها كذلكيستخدم الربوخ وهو أن جماعة من سوقة العامة يحسنون بعض الأغاني الدارجةالتي هي في غاية السقوطويحسنون نقر الدربوكة والتوقيع على المندولينة، وألحانهم مزعجة بضرب الأكف والغوغاء، فيجلسون في القهاوي حلقة ويتغنون بأغانيهم“. هذه القهاوي المنحطة كما وصفها الرزقي لم تكن غير المقاهي الشعبية للطبقات العمّالية من سكان الحاضرة والنازحين لها من الأرياف والبوادي. يمنحنا هيكل الحزقي قائمة بأسماء بعض هذه المقاهي كالــالفخاخرية وعنوزة والزوليالواقعة خارج أسوار العاصمة. صحيح أن جلّها اندثر اليوم، ولكن بعضها لازال باقياً وشاهداً على من مرّ بها، كقهوة الزعزاع برحبة الغنم، الرابضة هناك منذ ما يزيد عن قرن، والتي عُرفت بشهرتهاقهوة الطبابليةنسبة لضاربي الطبل الشعبيين، حتى صار اسماً لها. في هذه المقاهي، اختلطت موسيقى القادمين من البوادي كالصالحي وغيرها، بآلات وإيقاعات أخرى جلبها معهم نازحو الأقاليم البعيدة، لتحمل أسمائهم لليوم كالفزّاني على سبيل المثال. خليط نمى بعيداً عن موسيقى طبقات المجتمع العليا،  وتمخّض في النهاية عن النمط الموسيقي الشعبي الأشهر في تونس لليوم: المزّود.

ثُمالة الفنجان

عبر أربعة قرون من التاريخ المكتوب وثمانية من التاريخ الأسطوري، عمّرت القهوة، وأثارت ما لم يثره مشروب آخر من الجدل، من التقديس إلى التحريم. لم تكن قيشماً أو بوخة أو غيرها من الخمور التقليدية، التي لم يثر تأثيمها مشاكل كثيرة. ولا كانت شرباتا أو روزاتا يستبشر بها الناس في الأفراح. هي ببساطة قهوة، مشروب آخر مختلف، منزلته مخصوصة بين المنزلتين. مشروب استثناء لو أجزنا استعارة المفهوم من مدونة الإيطالي جورجيو أغامبين الفلسفية.

ولكن المفهوم يتسق أكثر مع القهوة الأخرى: المقهى. ذلك الفضاء الذي كان في أحيان كثيرة لا فقط فضاء للتصنيف والتنميط المجتمعي، ولكن أساساً عتبة بين عالم الأجسام وعالم الأرواح، بالنسبة للمتصوفة القدامى، ثم عتبة تجمع بين انطباق القانون وأوامر السلطة، والتهرب منها وتحديها في الوقت نفسه بالنسبة مفطري رمضان. عتبة تكشّف طابعها الاستثنائي أكثر عام 2022، عام الحجر الصحي وقرارات الغلق الشهيرة من أجل احتواء الكورونا. وقتها ظهرت مقاهيالخلسةمن جديد، ومرة أخرى تمايز المجتمع بين الملتزمين بالمصلحة العامة والمستهترين بأرواحهم وأرواح الناس“.. ولكن، تلك قصة أخرى.