fbpx
رسمـ : بكرية مواسي

كم هو نصيب إنسانة من السير على الأرض؟

كيف هي الحركة في بلدة مطوّقة من جميع الجهات؟ وكيف هي حركة امرأة في بلد اسمه فلسطين؟
11 ديسمبر 2020

يَفرق معي كثيرًا ودائمًا أن أوضّح موقع البلدة التي أعيش فيها مؤخرًا، لأنها متصلة مع ما في الخارج بوفرة الشرايين الأوتسترادية المتفرعة عنها، ويُتيح لي هذا مغادرتها بسرعة أكبر –في سيارة- ولأنني أرى في موقعها استثناءً غير مقصود قد وَسَمَ البلدة بمصيرها الاقتصادي والاجتماعي.

الحدود ضدّ الحركة

عرفتُ معنى الحدود في جيل مبكرة لأنني كبرتُ في قرية حدودية بمحاذاة الخط الأخضر المُشَوَّش. شاءت الأقدار أن أنمو غرب خط وقف إطلاق النار الذي فرضته اتفاقية رودوس في العام 1949

نُسبت تسمية الحدّ للون القلم الذي استخدمته القوات العسكرية لرسم الحدود على الخرائط الملموسة وليس لاخضرار التضاريس فيها. يفصل هذا الخط المرسوم بوساطة الأمم المتحدة بين إسرائيل والبلدان المجاورة. في المقطع الواقع بين الضفة الغربية وإسرائيل، لم تبذل أيّ من السلطات الأردنية أو الإسرائيلية جهدًا لتعيين الحدود بدقة على أرض الواقع في كافة المواقع وقد نجم عن هذا ثغرات مهولة.

***

سمعتُ بالحدود منذ أيامي الأولى، رأيتُ أسرابًا من العمال يهرولون باتجاه الشارع الرئيسي في البلد قادمين من أماكن وتلال تقع خلفها، مزودين بأكياس سوداء تحتوي على زوادة ليوم شاقّ، وشاهدتهم يركضون بالاتجاه العكسي عائدين إلى بيوتهم وقراهم الواقعة شرقيّ الحدود أو هائمين فارّين من دوريات حرس الحدود الإسرائيلية. 

كان بيتنا قريبًا من الحدّ مع الضفة الغربية ما يبعد ثلث ساعة سيرًا على الأقدام ومُطِلًّا على مركز القرية آنذاك، لأنه بعد وقت وتحديدا في 1996 صنفت “باقة” الغربية مدينة بناء على عدد سكانها المتنامي، كانت الفلاحة في البلدة مصدر رزق ونمط حياة. مع الوقت، اُستغلت الأراضي الزراعية لبناء مناطق سكنية في الأطراف، عدا عن سرقة الأراضي إثر النكبة، صودرت أراضي أخرى لتطوير البلدة ومحيطها في السنين اللاحقة، و”تبلترَ” الفلاح.

***

كانت مدرستي الابتدائية الواقعة على تلة تُشرفُ على حقول الضفة المجاورة. كانت هذه الحدود قريبة لدرجة أننا عثرنا على خروف العيد الذي شراه جَدّي هائمًا سارحًا هناك بعد أن نجح بالفرار في أحد الأعياد. 

ميّزتُ الفرق بين الناس المقيمين في الجانب الشرقي للحدّ -أي أهل الضفة- في كثافة الشوارب عند الرجال وزيادة السكر في الشاي، وفهمتُ أنّ موقعنا المجاور للحدود يحتّم جريان حركة مختلفة في الشارع عن القرى الأخرى في المنطقة، وأن هذا يستدعي حدوث اكتظاظ مروري حتى في التسعينيات، عندما كانت السيارة أقل حضورًا، لأن التبضع في الضفة كان ولا يزال أحد هوايات فلسطينيي الداخل، واليهودي المغامر الذي يجرؤ على زيارة قرية فلسطينية ضفاوية لتصليح سيارته أو شراء الخضار بسعر مضحك.. وكانت بلد نشأتي أحد هذه المنافذ.

كم هو نصيب إنسانة من السير على الأرض؟

رسمـ : بكرية مواسي

أحيانًا، أتخيّل الحدود المذكورة وحشًا من الوحوش المتحوّلة التي يرسمها الرسام ميازاكي في أفلامه التحريكية. فمع الوقت وبالتزامن مع الانتفاضة الثانية، نما الحدّ الحيّ والشرس وتحوّل إلى صفائح إسمنتية رابضة، وتوقّفت الحركة المباشرة من “باقة” باتجاه الشرق كما توقفت نداءات بائع الخضار المتنقل بعربة يجرها حمار، وبائع الترمس المتجول على قدميه القادمين من قرى خلف الحدود. لاحقًا مُنحت الشوارع أسماءً وسُمّيَ الشارع المؤدي إلى الضفة -سابقًا- شارع فلسطين، وهو بالطبع طريق بدون مخرج آخرها جدار إسمنتي. 

يكاد لا يلاحظ سكان بلدتي أمر هذه الحدود ولا يتناولونها سوى عندما يأتي الحديث عن تبادل المصالح والخدمات مع القاطنين خلفها، والزيجات، واستقبال “أهل الضفة” كموارد بشرية في قطاع البناء على وجه الخصوص. 

انتسبت “باقة الغربية” قبل أن تقع تحت نفوذ السلطات الإسرائيلية إلى قرى الشعراوية، وهي مجموعة من القرى في قضائَي طولكرم وجنين، سُميّت بهذا التسمية نسبة لوفرة الأشجار فيها. انقطعت ”قريتي“ عن محيطها العضوي إثر اتفاقية الهدنة بين إسرائيل والأردن في 1949. بين ليلة وضُحاها صارت القرية ”لليهود“ وخُلقت حياة جديدة امتازت بالفصل والخوف والكتمان والسرية.

***

تغيّر مفهوم المسافة لدى سكان المناطق الحدودية بالقوة إثر ترسيم الحدود وإثر التطويق الذي فُرض على فلسطينيي الداخل خلال حقبة الحكم العسكري في الخمسينيات، حيث أُخضعت الأجساد ومُنعت عن الحركة أو العودة فيما لو غادرت، لتَسْهُلُ عملية إدارة هذه الفئة الأصلانية المقطوعة من شجرة والتي لم يتوقع أو يرغب القادة الإسرائيليين في بقائها في السنوات التي ستلي. أصبحت الحدود مسألة جلل، وتراكمات أحداث وقرارات لم يتخذها سكان المنطقة، صارت قابلة للتسلل والاختراق، وشكلت حضورها على حساب تشتت النسيج الأصلاني في فلسطين.

مواصلات: كيف نتنقّل؟

“باقة” بلدة مطوّقة من جميع الجهات وكل جهة تحدد مسار الحركة منها أو عدمه، وتسيّر ما سيدخلها أو ما سيخرج منها عبر مداخل رئيسية، وأخرى ثانوية غير مُعبّدة وصلتِ البلدة -القرية سابقًا- بأراضيها الزراعية. 

تحدّ البلدة شمالًا قرية وكيبوتس متجاورَيْن وأراضٍ تابعة لسلطة يهودية، وفي جنوبها منطقة صناعية تابعة للبلدة وقرية ملاصقة يفصلها عن باقة وادي أبو نار المنحدر من جبال نابلس.

أما في الغرب، فقد شُقّ مع الوقت شارع 6 السريع، أطول أوتوستراد في إسرائيل ويُعرف باسم ”عابر إسرائيل“. الذي يمتد في مقاطع طويلة منه على أراضٍ زراعية صودرت من بلدات فلسطينية داخل الخط الأخضر من بينها أراضٍ امتلكها جدي. وللغرابة، يحاذي في أحدها الجدار الفاصل فتبرز من وراء الجدار أطراف مباني مدينة في الضفة الغربية يلوح منها علم فلسطين غير الدارج والممنوع في جهة السفر هذه.

هناك نكتة شائعة عن دجاجة تأخّرت في الوصول فسألوها: لماذا تأخّرتِ؟ فقالت: ”بكا بكاك في باكة“. وبْكَاكْ (پقاق) تعني أزمة مروريّة في العبريّة. 

***

تميّز الحدود “باقة الغربيّة” عن بلدات فلسطينية أخرى داخل الخط الأخضر على الرغم من تشابهها جميعًا في الشكل المعماري العشوائي وفي تصميمها المدني.

لم تُشق هذه الجادة ولم تُزفّت مع الوقت لخدمة أهالي القرية المنقلبة إلى مدينة، بل لتكن ممرًّا للتجمعات اليهودية المجاورة، ولتسهيل اجتيازها من قبل السلطة. 

كل هذه الأسباب أدّت إلى تفاقم الأزمات المرورية واستقرارها كحالة دائمة. مع الوقت تحوّلت القرية النواة ذات الزقاقات الضيقة بين حواريها إلى تجمع سكني عشوائي مع الوقت تشقه جادة طويلة اسمها الطبيعي هو الشارع الرئيسي الذي حمل لفترة طويلة، اسم رئيس دولة إسرائيل الأول حاييم فايسمان. لم يستخدم أهالي البلدة هذا الاسم قطّ بيد أنّه لفترة طويلة كان هو الاسم المعتمد في الخرائط وفي عناوين المصارف والمراجع الحكوميّة. تبدّل اسم الشارع وصار “شارع القدس” قبل سنوات معدودة فقط.

الشارع الرئيسي في “باقة” شريانها الأبهر، يقطع البلد من شمالها إلى جنوبها -أو بالعكس- ويمتدّ طوله إلى حوالي أربع كيلومترات. على ضفافه المصالح التجارية، والمقاهي، والبنوك، ومباني الإيجارات، وبيوت سكنية، ومطاعم، وكراجات لتصليح السيارات، والبريد، والعيادات.

***

فضّلتُ في أيام ما قبل انتشار الوباء أن أستخدم المواصلات العامة للسفر. كنت أفضّل استثمار الوقت الطويل الذي سيستغرقه حتمًا وصولي من نقطة “أ” إلى نقطة “ب” على القيادة في شوارع يسودها الاضطراب، والاختناقات المرورية وعصبية السائقين – وبالمناسبة، وفق تقرير للمجلس الأوروبي للأمان على الطرقات من عام 2018، حصلت إسرائيل على تدريج أفشل الدول في تقليل عدد القتلى في حوادث السير- وظلال الشاحنات في ساعات الضوء المشتتة، وطرقات قيد الترميم مخططة بلون برتقالي مقيت يشوش الرؤية. 

فضّلتُ أن أسير إلى محطة الباص، وأن أصعد الباصات، وأن أنتظرها، وأن ألاحق القطارات بمواعيدها على أن أتحمل مشقة التركيز في الشارع وعدّ جثث الحيوانات الميتة التي أردتْها سيارات مسرعة على قارعات الطريق.

***

لا يُظهر توفر الخدمات الظاهري في البلدات العربية ما تخفيه الهندسة الاجتماعية التي مارستها إسرائيل خلال فترة الحكم العسكري الذي امتدّ من قيام الدولة وحتى عام 1966. 

اتبعت إسرائيل نظامًا تقسيميًّا يُسهّل عليها إدارة هؤلاء الفلسطينيين الذين ظلوا داخل حدودها واستطاعت مع الوقت أن تحكم قبضتها ليس على الجسد فحسب بل على النفس كذلك.

شبكات المواصلات في التجمعات السكنية العربية كانت ضئيلة/ضعيفة أو شبه معدومة لسنوات طويلة، بدأت خطوط الحافلات بالتكاثر فقط في العقد الأخير. 

عدد الحافلات المتاحة محدود. ولا توجد محطات قطار في أي قرية أو مدينة فلسطينية داخل إسرائيل؛ من أجل استخدام القطارات عليك بالسفر إلى محطات في مدن يهودية أو مختلطة. لقلة استخدام الناس لبعض الخطوط، بتّ أخشى عدم ظهورها أو إلغاؤها من قبل وزارة المواصلات التي تأخذ بعين الاعتبار عدد الركاب لكل خط من أجل المصادقة عليه أو ضمان استمراريته، إذ لسنوات طويلة، لم يتوفر خطّ مباشر بين مدينة الناصرة ومدينة القدس على سبيل المثال، وقد تمّ تفعيل هذا الخط إثر مطالب من نواب في البرلمان. 

أمضيتُ وقتًا طويلًا أشكو فيه لخدمات شركات المواصلات رداءة خدمتها وجميع الردود أحالتني إلى نقل شكواي لوزارة المواصلات.

***

«في القطار، التفتَ مسافر نحو آخر بجواره وقال بنبرة هادئة جملة مندهشة: ”والله في عندكو أوتوسترادات عادي متل عنا“. جلستِ في رباعية مقاعد: رجل ورجل يجلسان باتجاه سفر القطار، وأنت بجوار مجندة بالاتجاه المعاكس. جرت لغة الحوار بين الرجل والرجل الآخر بالعربية، العربية الصافية. بدا أحد الرجلين، وهو صاحب الجملة التي تصف ما يراه من النافذة؛ سائحٌ قدم للتو من المكان العام ”خارج البلاد”.

كان هذا السائح لاجئًا عاديًّا وليس من صنف فلسطينيي الشتات، منتجي الثقافة الوافدين إلى فلسطين للمشاركة في مهرجان أو برنامج أكاديمي. لاجئ قرر أن يزور أقرباءه تعرف على أصواتهم عبر سماعة الهاتف لأن جدته حرصت على محادثتهم عبر الهاتف لسنوات طويلة، يعيشون في الجليل وقد انخرطوا انخراطًا عاديًّا في الحياة في بلاد فيها شبكة مواصلات قلّما يتنقلون بها وإن تنقلوا بها يكون هذا اضطرارًا فقط ليس إلا. 

امتنع السائح اللاجئ عن ذكر مكان ولادته في لبنان وال- ”عنّا“ التي ذكرها في سؤاله كانت ألمانيا. لهجته بدت خليطًا من اللهجات الشامية ولكنه ذكر الجنوب مرة واحدة. عندما سألتِه سؤال ال- ”من وين“، امتنع عن ذكر لبنان أصلًا. وبدا الرجل الذي رافقه من المطار متوجّسًا. ضببتِ على ما في نفسكِ من أسئلة ووضعتِ السماعات دون أن تُشغلي أي صوت في الهاتف.»

رهاب السّير على الأقدام: المشي والذاكرة

تحوّل ذكر المشي في البلد إلى مفهوم رياضي حصرًا، فلو سألتَ أحدهم أو إحداهنّ ”وين بتمشي؟“ سيرسم لك مسار المشي الذي يسلكه لممارسة رياضة المشي، ولن يُفهم من السؤال أن القصد هو تعداد أماكن التجوال التي يتّخذها للقيام بمهام عادية. نوع المشي هذا، أي السير كوسيلة للتنقل من مكان إلى آخر، هو فعلٌ مُستغرب تلقائيًّا. ”كنّك جيتي مشي؟ كيف تنّه؟ ملقيتيش حدا يْوَصلك؟“ بهذه الأسئلة تُستقبل الوافدات اللواتي وصلنَ إلى الأماكن سيرًا على الأقدام.

***

سألتُ كاف (فتاة، 16 عام) لو كانت تقضي أيًّا من مشاويرها سيرًا على الأقدام، وكان جوابها النفي ”الناس بتتطلع“. سألتُ ألف (27 عام) لو أراد الانضمام لي للسير في شارع على حواف البلد وقال لي بحزم أنه يرفض الفكرة لأنه جرّب المشي بضع مرات وكانت تجربة كابوسيّة لأنه شعر – يقول بتهكم – بالعيون تتأمل مفاتنه. السير في الشارع، هذه العملية البسيطة التي يتشارك بفعلها بلايين البشر حول كوكب الأرض، هو كشف وانكشاف وهشاشة على ما يبدو. 

يُعتبر الانتظار في محطة باص فعلًا غرائبيًّا ويُنظر إليه بعين مقبولة فقط عندما تحمل المنتظرة حقيبة مدرسية أو ترتدي زيّ عمل مع شعار معروف مثل ماكدونالدز أو شبكة سوبرماركت ما. تمتنع نساء كثر من فئات عمرية مختلفة عن السير في الشارع تفاديًا للظهور في العلن. 

تتنقل الغالبية العظمى من الناس في هذا البلد بين الحارات والشوارع باستخدام المركبات حتى وإن قصرت المسافة باتجاه الغاية، إما لقضاء شؤونهم اليومية من مشتريات، أو لإتمام الإجراءات البيروقراطية، أو لتلقي الخدمات أو تزويدها، أو للذهاب إلى أماكن العمل، أو للسفر خارج البلدة. 

***

السيارة هي الصندوق الحاجب والواقي، تمنح المركبة راكبيها شعورًا بالإنجاز وبالتفوق، شعورًا بالراحة والأمان، بهيبة، وبسلطة موهومة على ما يشاهدونه في الخارج وعلى كيفية عرض أنفسهم في هذا الفضاء. 

شوارع “باقة” ليست حيّزًا تشاركيًّا وهي بعيدة عن أن تكون حيّزًا متكافئًا للأجناس. السير في الشارع الرئيسي فعل منهك لأسباب نفسية، وأخرى مادية يحكمها تفاوت الأرصفة المتاحة للسير، أو انعدام الأرصفة كليًّا فبعض الشوارع عبارة عن زقاقات غير معبّدة. تسيطر المقاهي التي تشكل حيّزًا يحتكره الذكور والمحلات التجارية في مواقع معينة على المساحات المخصصة للمشي إما ببسط بضاعتها عليها أو باستخدامها كمكمّل للمحل، أو بمجرد إلقاء جبال القمامة عليها. 

تضطر السائرة إلى الالتفاف حول هذه العوائق بليونة أفعى، ويضطر السائر أن يعرض نفسه للخطر فينزل عن الرصيف ليعود إلى الشارع بإيقاع نوتة فالتس. فضلًا عن حجز مساحة الرصيف، هناك مسألة سلامة الأرصفة ودرجة الأمان فيها، فهذه مَرافق مهملة إلى حدّ كبير، ولا تراعي احتياجات كبار السن أو أصحاب الإعاقة. 

غياب المشي كسلوك لا يقتصر على النساء فقط بل على الرجال أيضًا، مع العلم أنّ عدد السائرات أقل على نحو ملحوظ من عدد السائرين. يؤدي اختيار عدم المشي إلى استخدام زائد للسيارة، وبالتالي إلى استخدام الأرصفة مصفّات، خصوصًا أنَ تشكل مخطط الجادة المدني لم يأخذ بعين الاعتبار إنشاء مواقف سيارات تتناسب مع تصاعد استخدام الناس للسيارة. من بين أكثر أنواع الخلافات شيوعًا في القرية والمدينة الفلسطينية في إسرائيل خلافات السيارات والمصفّات.

كم هو نصيب إنسانة من السير على الأرض؟

رسمـ : بكرية مواسي

السائرات اللواتي يخترنَ السير طوعًا في شوارع “باقة” هنّ الكادحات، أو اللواتي عثر حظهنَ ولم يجدنَ توصيلة لصندوق المرضى، الجريئات اللواتي لا يهبنَ نظرات الناس في الشارع، طالبات المدارس، الغريبات اللواتي يزرنَ البلد للمرة الأولى، أو الجدات اللواتي اعتدنَ على السير واضطررنَ إلى المواظبة عليه خصوصًا مع غياب شبكة مواصلات داخلية، وخصوصًا بسبب الحاجة إلى فسحة لتحريك الجسد والتنزه. 

أما السائرون الرجال في بلدي فهم الذاهبون للصلاة في الجامع ممّن يؤدونها في الجامع القريب لمكان سكنهم، أو العمال المنتظرون على ضفاف الجادة، أو طلبة المدارس من الذكور، أو الذاهبون إلى مقاهي الشارع الرئيسي الحصرية للرجال فقط والتي تسبب بحدّ ذاتها تهديدًا للمرأة في الحيز فهي تضاعف من التشييء وتُشبع غريزة التلصص، ويحدّد لها التهديد المبطن في طقس الفرجة هذا ما يجب أن تلبس عندما تمشي في الشارع وكيف تهندس ظهورها في الحيز العام. 

في هذه المقاهي يتوقف الوقت ويصير الشارع عرض أدائي لا ينتهي. باتَ السير مفهومًا مرتبطًا بالقِدَم، بالعالم البدائي السابق الذي لم يتباهَ فيه فلاح القرية بسيارة يعتبرها راكبها مملكته وهُويته في هذا الفضاء. 

إن التنزه في الجادة فعل مستهجن خاصة لو مارسته النساء جماعةً، ويتعارض هذا مع القصد من وراء إنشاء الجادات في أماكن أخرى. أما ومساحات المشي بهدف الرياضة فهي من ابتكار المُشاة، وتكون عادة على حواف البلدة أو على الأوتسترادات. 

في عام 2013، نظم مركز نشاطات جماهيري في البلدة مسيرة لتشجيع العائلات على المشي مخصصة لأصحاب الإعاقة. ضجّ الفيسبوك ووسائل الإعلام المحلية بخبر إلغاء المسيرة بسبب تهديدات من قبل مجموعة متطرفين سلفية اعتبرت مبادرة ”يلا نمشي سوا“ حدثًا شائنًا يحثّ على الفسق و”يميّع الثوابت“ ووصفتها بـ ”فكر من ثقافة الشيطان“. 

تلقّى المنظمون تهديدات من الجماعة وتمّ إلغاء الحدث. لو كان السير فعلًا مُطبّعًا، ولو مارس هؤلاء القامعون المشي عوضًا عن تصيّد الضحايا والعربدة على الحيز، لما كان الموضوع جديرًا بالنقاش في الأساس.

***

هناك من يسير دون غاية. في ذاكرتي أشخاص كان ما يجمعهم هو السير الأبدي في شوارع “باقة” بحقبات مختلفة. منهم أبو رضوان، عجوز يرتدي بزة عسكرية رثة ويلفّ رأسه بكوفيّة نقشتها سوداء بأسلوب عرفاتيّ. كان يرمي هذا الرجل الشواكل على أسطح السيارات. عرفتُ أنه كان ضابطًا في الجيش الأردني قد مسّه الجنون بعد النكسة، وأنه ضفاوي ومقيم غير قانوني في البلد. 

هناك رابعة، سيّدة ضخمة الجثة تسير مع أكياس منتفخة، وتطلب توصيلات من الغرباء عندما ينهكها الحرّ. وهناك ترافيك، عجوز ببدلة لا يقود سيارة اعتاد أن يقف في وسط الشارع وأن يمثل دور شرطي المرور. ملوك التسكع في بلدي هم الدّوديم، ودود عبارةٌ مشتقة عن كلمة “دود” وتعني الخال أو العمّ بالعبرية، يسيرون على أربع في جوف سيارات كمعظم سكان البلد، يلفون البلد طوافًا بلفّات صوفية الطابع. و”اللفة” هي التجوال غير الهادف في زقاقات البلد وشوارعها حتى مع كثرة مطباتها وسوء حال بنيتها التحتية، نشاط يمارسه الدوديم وغير الدوديم على حدّ سواء خصوصًا مع عدم توفر أماكن للهو في البلدة.

***

عرفتُ قيمة الوقت عبر قطع المسافة من البيت إلى المدرسة أو بالعكس. وعرفتُ معنى الأمان واحتمالات الخطر من خلال السير والعودة بجسد سليم إلى البيت. بدأتُ أربط غياب النساء من الحيّز بعد عودتي للسكن في البلد مع تجربتي في السير في أماكن ومدن أخرى.

كل ما أعرفه عن الذاكرة والسير حصل في مدن وقرى ليست القرية-المدينة المحاصرة التي خطوتُ فيها خطواتي الأولى. تدربتُ على الانتظار في المحطة حتى في ساعات الفجر الكاحلة. اضطررتُ إلى استخدام الباص الوحيد الذي واظب على المجيء يوميًّا في سن مبكرة للذهاب إلى المدرسة في مدينة أخرى. حرصتُ أن أفلترَ لساني وألا أتكلم العربية في الشوارع خارج البلدة في فترة الانتفاضة الثانية، وخفتُ من صعود الحافلات حينها. 

صاغت الحركة في جوف سيارة أو صندوق تأملي للمشاهد والطبيعة، بينما يحرّك السير عندي ترقّبًا للصدفة التي ربما أجدها في ثمرة تمتدّ يدي لتلتقطها، أو رغبة لقياس هذه القدرة الميكانيكية التي تميّز البشر، أو بحثًا عن ذاكرة طليقة ومتجددة. في يناير 2018، وقع هاتفي النقال في كابينة مرحاض في المكتبة الوطنية الإسرائيلية في القدس. 

***

تجولتُ في المدينة الباردة دون النظر في شاشة أو الاستعانة بالخرائط الرقمية لأني عشتُ في المدينة وقتًا كافيًا يدعني أن أميّزها مناطقيًّا عن ظهر قلب على الرغم من تفاوت تجارب السير فيها بين شقّيها الشرقي والغربي. وفي غياب شاشة هاتفي، لاحظتُ تحسّن سَمَعي وحدة حواسي الأخرى. 

انتظرتُ القطار الخفيف في تقاطع شارع يافا مع شارع الملك جورج. تذكرت أن المرة الأولى التي رأيتُ فيها التقاء الشارعين كانت على شاشة التلفاز في 2001 إثر انفجار في المطعم المقابل لمحطة الانتظار اليوم خلال الانتفاضة الثانية.

سيلان مياه الأمطار أمامي وعجوز ضئيلة الجسد بجواري تتمعن وتتسائل: هل يعيق السيل مجرى القطار؟ نفيتُ أن يكون هذا سبب تأخره. فقالت: “لا أصعد القطارات في العتمة والطقس غائم وأريد لهذا القطار أن يأتي. لم أكن أستقل القطارات في الماضي وحرمتُ أولادي من صعودها. مع الوقت صرتُ أستقلها في النهار وأخافها في العتمة حتى بجوفها المضيء. أخاف هذه الصناديق وأخاف مراقبة العتمة في الخارج.” لم يخطر على بالي أبدًا أن السيدة ناجية من المحرقة . فسألتها عن سبب خوفها فاستغربتْ هي سؤالي كما لو أن الشخص الذي يحدثها بلغتها الثانية أو الثالثة هو كائن فضائي.

***

نعيش المشي على طرفين من أطراف أجسادنا كتجربة تلقائية مرافقة لحياتنا، ننهض من أسرتنا لنمشي لتناول كوب ماء أو لغسل الوجه أو للرد على جرس البيت. لا نعمل حسابًا لهذه الأطراف البعيدة عن عيوننا نسبة لحوافنا الأخرى. 

أقدامنا هي رأس رجائنا الصالح، نشعر بها فقط بعدما بذلنا جهدًا مضاعفًا يأخذ تلقائية المشي، نعيش المشي على طرفين من أطراف أجسادنا كتجربة تلقائية مرافقة لحياتنا، ننهض من أسرتنا لنمشي لتناول كوب ماء أو لغسل الوجه أو للرد على جرس البيت. لا نعمل حسابًا لهذه الأطراف البعيدة عن عيوننا نسبة لحوافنا الأخرى. 

أقدامنا هي رأس رجائنا الصالح، نشعر بها فقط بعدما بذلنا جهدًا مضاعفًا يأخذ تلقائية المشي من الظل وينقلها إلى مساحات أكبر. أثناء السير، يتوازن العقل مع الجسد مع الأرض، عندما أسيرُ في “باقة” مشاويري القصيرة، أحضّر نفسي لطقس مركّب. 

ما يربطني بشوارع هذا البلد هو الذاكرة البصرية فحسب. عندما أسيرُ في الشارع الرئيسي أراني سائرة في مكان محجوب عنّي، تبدو فيه البنايات، وجودة الإسفلت، ومحطات الانتظار، وطوابير الانتظار بجوار ال-ATM، كلها محطّ اهتمام لنفسي المتأملة أكثر مما هي فرصة لتفاعلات ممكنة، فالأحاديث فيها موؤودة. 

هل حدّدت حدود هذا البلد وتاريخها مسالك المشي فيها؟ هل فاقم وفود الغرباء إليها ومنها وعبرها من رهاب السير؟ لماذا يختار الناس أن يترفّعوا عن ملامسة الأرض؟