تصوير جيلان حفني

مباني الإسكندرية.. لا تحجز وحدتك الآن!

تلقّى مصطفى في تموز (يوليو) الماضي مكالمة من النوع الذي يضلّل الحواس.. انهار منزل طفولته، وهو العقار رقم 138 الواقع في شارع الخديوي بمنطقة العطارين غرب الإسكندرية
ــــــــ البيتــــــــ حالة أرض
23 أكتوبر 2025

يتكثّف وجود الفرد وينضب في المدينة حتى يصل في النهاية إلى موقعه المفضّل في المنزل؛ أريكة في صالة أو مقعد إلى جوار نافذة تُنسَب له بفعل الاعتياد أو تعدّ له خصيصًا. في شارع سوق الميدان في منطقة بحري غرب الإسكندرية، سكن الكاتب وسيم المغربي لمدة 19 عامًا، في عقار مكون من طابقين ومقهى صغير بالأسفل، وكان موقعه داخل البيت نسخة معدلة من «أوضة الكراكيب».

وصفها المغربي قائلا: «كنا أحيانًا نربي فيها أرانب أو طيور، وعندما أتممت الـ 15 عامًا خصصها لي أبي، طلاها بالأصفر الكناري، ووضع لي فيها مكتبًا خشبيًا ودولابًا كبيرًا لكتبي، وما بين كرسي المكتب الجديد وكتب الدولاب كانت مساحتي الأقرب إلى قلبي». وهكذا كان الحال أيضًا مع صديقه، الكاتب والمترجم مصطفى زكي، مكانه المفضل إلى جوار مكتبته التي كوّنها على مدى أعوام.

نألف خصوصية هذه الأماكن، وأعنف ما يعيد حساسيتنا تجاهها هو فجيعة خسارتها للأبد دون وداع. تلقّى مصطفى صباح يوم 13 تموز (يوليو) الماضي مكالمة من النوع الذي يضلّل الحواس، ويخصم من نصيب الفرد في المدينة ومن نصيبها لديه. انهار منزل طفولته، وهو العقار رقم 138 الواقع في شارع الخديوي بمنطقة العطارين غرب الإسكندرية أيضًا، سبقه المغربي إلى تلك التجربة المُرّة بعقدٍ من الزمن، حين انهار منزل عائلته عام 2007.

يخبرني مصطفى: «كنت في طريقي إلى العمل، لكن بالتأكيد ذهبت إلى البيت مباشرة، شعرت بصمتٍ عجيب يغلف المكان، لدرجة أنني لا أتذكر أي كلمة قالها لي أي أحد، صمت كثيف وسط التراب المعلق في الهواء، وضع الدفاع المدني حواجز، وتراصت سيارات الشرطة والإسعاف. لازمتني رائحة التراب بعدها طويلًا كأنّه رائحة جثّة. أصبح مكان البيت خلاء، جزء داخلي منه صمد، جدار عليه مكتبتي، بقيت معلقة بما تحويه من كتب».

الهم ليس واحدًا

على مدار العقدين الماضيين، تتوالى أخبار انهيار العقارات في الإسكندرية، وتزداد كثافتها غربًا، بوتيرة متسارعة ولا مؤشّرات على تباطؤها. صبيحة اليوم التالي لكارثة العطارين، أقيم مؤتمرًا صحفيًا أمام قلعة قايتباي التاريخية لاستعراض إنجازات الحكومة في تنفيذ خطتها لحماية القلعة من آثار التغير المناخي. وفي بحثي عن بيانات حكومية حول عدد المباني الأخرى التي يعرّضها التغير المناخي للخطر وخطط حمايتها أو تلك التي انهارت بالفعل ومعدل سقوطها، لم أجد وثائق رسمية.

نصحني «جيميني» بالاطّلاع على موقع المحافظة الرسمي فهو يصدر نشرة شهرية ترصد أخبارها المحلية. قرأت نشرة شهر تموز (يوليو) الماضي وعند نهاية بند ترميم المباني، صرّحوا بأنهم على وشك الانتهاء من ترميم مبنى الشؤون الإدارية الخاص بوحدة الرصد البيئي، هو وأعمال الصحي في فيلا استراحة المحافظ في المعمورة أقصى شرق المحافظة، وهكذا انتهت فقرة قطاع الإسكان والمرافق في نشرة يوليو دون ذكر للعقار رقم 138 أو أي عقارات أخرى تشاركه الهم.

تصوير جيلان حفني

البحر لم يعد أمامنا فقط

قبلها بشهرين، في أواخر شهر أيار (مايو) وخلال 45 دقيقة من المطر والرياح، اختبر سكان الإسكندرية لمحة مما سمعوا عنه طويلًا؛ التغير المناخي وظواهره الجوية المتطرفة. بلغت سرعة الرياح يومها ما يقارب الـ 70 كيلومترًا، مصحوبة بالسحب الرعدية وسقوط الأمطار. غرق نفق سيدي بشر وكافة الأنفاق المعتادة، سقطت شرفات متهالكة ولافتات إعلانية ضخمة، وجميع ما سبق أصبح، بفضل تكرار حدوثه، أشبه بملامح شتوية للإسكندية، لكن رؤيته بعد انقضاء أوانه، بدا في أعين السكان نذير شؤم. توجهت نظراتهم المتوجّسة نحو البحر، فهل ارتفاعه هو الخطر المناخي الوحيد؟ وهل له دور في انهيار بيوتهم غربًا؟ وإذا كانت الإجابة «نعم» فهل تصميم مدينتهم الآن يضع هذا الخطر في الحسبان أم يتجاهله والأسوأ هل يسرّع من وتيرة حدوثه؟

في محاولة لفهم ما يحدث، علينا أن نبتعد عن البحر نحو اليابسة وما عليها من أفراد. لا يكفي رصد التغيّرات التي طرأت على البحر دون رصد التغيرات التي طرأت على جيرانه من البشر، ففي النهاية هو أشبه بردّ فعلهم. وأوّل ما نلحظه هو اختلاف التخطيط العمراني الذي طرأ على المدينة خلال العقدين الماضيين.

في كتابه «وجوه سكندرية» (2012)، يرصد الكاتب علاء خالد برهافة شكلين مختلفين من تخطيط الإسكندرية العمراني. في التخطيط الأقدم كان النموذج هو الميدان، كتب: «ميدان المنشية أو ميدان القناصل الذي أنشأه محمد علي سيكون مركزًا لنقل الحركة والعمران إلى أحياء الإسكندرية الجديدة. سيصبح الميدان الأم وأي تغير في حياته أو ثقافته سينتقل بسهولة إلى الأحياء التي صنعها من حوله».

بعد أن كان شريكًا ومتفاعلًا، أصبح الفرد مجرد عابر سريع بين نقطتين، محمولًا داخل سيارة، وأولوية التخطيط العمراني تكمن في تجنب تكدّسه في الزحام المروري، وبالتالي لا يعد قطع الأشجار وردم القنوات المائية الداخلية خطرًا حيويًا يستدعي ضجة، بل يبدو وفقًا لهذا المنظور ضرورة ..

وتعريف الميدان كما يطرحه كتاب «حكمة المدن» لهنري لينارد وسوزان كروهيرست لينارد، هو مساحة شاملة لا يُستبعد فيها أيّ فرد (على عكس مراكز التسوق المغلقة والمُنعزلة). وبهذا المعنى، يُعدّ مساحة ديمقراطية في جوهرها. يتيح فرصةً للقاء الآخرين لتبادل المنتجات والأفكار والمشاعر، أي تجربة الحياة كمجموعة من الإمكانيات. وهذا ما تحقق في ميدان المنشية خلال قرنين من الزمن. ثم ينتقل بنا علاء خالد عبر الطرق السريعة الحديثة إلى نموذج المدينة المعاصرة، قائلًا: «صار للإسكندرية تعقيد المدن الكبرى.. استطالت الخطوط الطولية التي صممت عليها، لتتناثر تلك الاستطالات بقع متفجرة بالسكان وبالتعب وبالاحتجاج. ما يميز تلك الضواحي الجديدة هو الزحام، والزحام فقط، كأنها وجدت لتكون جزءًا من حركة العربات المسرعة، إنها ضواح مسافرة بمعنى الكلمة، وارتباطها بوسط المدينة لا يتم عبر شوارع ومنحنيات بل عبر طرق سريعة، تتحول باتساعها إلى حدود مجازية».

وهكذا نرى كيف يتقلّص الحيز الذي يشغله الفرد بين النموذجين. فبعد أن كان شريكًا ومتفاعلًا، أصبح مجرد عابر سريع بين نقطتين، محمولًا داخل سيارة، وأولوية التخطيط العمراني تكمن في تجنب تكدّسه في الزحام المروري، وبالتالي لا يعد قطع الأشجار وردم القنوات المائية الداخلية خطرًا حيويًا يستدعي ضجة، بل يبدو وفقًا لهذا المنظور ضرورة. لكن نتائج  الدراسة التي فحصت آثار ردم ترعة المحمودية التاريخية وتحويلها إلى طريق سريع أوضحت عكس ذلك.

رصدت الدراسة أنّ الردم تسبّب في تبدّل الرواسب في تربتها؛ فقد اعتادت الترعة على تغذيتها بطمي النيل وساهمت عبر عقود في تشكيل نظامها البيئي. تزامن انقطاع الطمي مع ارتفاع منسوب مياه البحر بفعل التغير المناخي، حتى هذه اللحظة ظهر التأثير الملموس بزيادة توغل الملح إلى اليابسة. ومع انقطاع الرواسب النيلية عنها فقدت التربة توازنها، فأصبحنا أمام تشكّل بيئي جديد، يتّسم بنفاذية أعلى للمياه الجوفية المالحة، تتسلّل أسفل البيوت وترشح فوق ركائزها، بحر ضحل ينخرها ويجعلها أكثر عرضة للانهيار. لكن أثر ردم الترعة لم يتوقف هنا، لأن اسمنت المحور وعوادمه خلقا جزيرة حرارية إضافية ترفع درجات حرارة المدينة الداخلية، وتسرّع من عملية ارتفاع منسوب سطح البحر بدورها وكعادة الحلقات المفرغة، ظهرت دوامة من الفعل ورد الفعل.

أساطير بعثت من عالم قديم

المميز في الدراسة أيضًا أنها فحصت وعي سكان المنطقة بآثار ردم الترعة، رأى السكان الذين يملكون السيارات أن محور المحمودية السريع هو طريق فعال يربط أجزاء المدينة ببعضها، أما الأصغر عمرًا ممن لا يملكون سيارات، فلا يجدون وقتًا للتفكير في تأثيره لا البيئي ولا الحضري. هم على موعد يومي مع معاناة عبوره، حيث يوجد 14 كوبري مشاة فقط بطول المحور، والنتيجة ملاعبة للأسفلت ووقت مهدور في انتظار فرصة لعبور الشارع. لكن اللافت هو التوافق الذي ظهر بين رأي الأكاديميين وسكان المنطقة الأكبر عمرًا والأكثر خبرة بها، فقد اختلفت دوافعهم ما بين علم وعاطفة واتفقوا على أن صيانة الترعة وخلق مساحات خضراء من حولها كان أنفع لهم وللمدينة.

ما بقي من تلك القناة المائية التاريخية، هو ما دوّنه الأدباء عنها، كما في رواية لا أحد ينام في الإسكندرية (1996) للكاتب إبراهيم عبد المجيد. نجد القناة حاضرة في أذهان الأبطال ويومياتهم، يرون السفن وهي قادمة في المساء فيعرفون أن غدًا سيكون هناك الكثير من فرص العمل، يتنزهون فيها وحولها، ويخافون من ظلامها، وينبّههم خفوت حركة الملاحة فيها إلى مطلع الشتاء. كانت عضوًا حيًا في جسد المدينة وفي أذهان سكانها، مشتبكة مع صراعاتها الكبرى وأيضًا مع يومياتها البسيطة، كأن ينقع بها باعة الترمس أجولتهم (أكياسهم القماشية) المليئة بتلك الحبوب المرة فتزيل عنهم مرارتها، ثم تكون نقطة انطلاقهم إلى كافة أرجاء الإسكندرية، يبيعونه للسائرين والجالسين للتنزه.

كتب عبد المجيد: «بالمقهى الصغير جدًا يجلسان كل مساء، تهب عليهما ريح طيبة من المحمودية، حاملة نسمة شتوية متأخرة كأنها النفس الأخير للشتاء، وأمامهم تمر السفن فاردة أشرعتها يشدها إلى الشاطىء رجال أشداء، وحولها فلائك ملونة عليها شباب وشابات ونساء وأطفال يمرحون ويغنون، ينتهون عند النزهة ثم يعودون ويشعر مجد الدين أن كل شيء حوله حر..».

ما بقي من تلك القناة المائية التاريخية، هو ما دوّنه الأدباء عنها، نجدها حاضرة في أذهان الأبطال ويومياتهم، يرون السفن وهي قادمة في المساء فيعرفون أن غدًا سيكون هناك الكثير من فرص العمل، يخافون من ظلامها، وينبّههم خفوت حركة الملاحة فيها إلى مطلع الشتاء ..

ربما ذكرى مماثلة هي ما دفعت السكان الأكبر عمرًا لاعتقاد أن صيانتها كان أولى، وغياب التجربة عن الأصغر عمرًا هو ما خلق بينها وبينهم فجوة. تلك الفجوة إن لم يملأها التاريخ والمعلومات والأبحاث، تجد لنفسها حيلًا لسد الفراغ، مثل ما شاع عن البحر بعد عاصفة أيار (مايو)، عندما تداول السكان مخاوف أشبه بأساطير بعثت من عالم قديم. تحدثوا عبر الصفحات الاجتماعية عن أن الأمواج لا تنتظر نزول السباحين بين تياراتها لتبتلعهم، بل أصبح لها اليوم قوة خرافية، تشدهم من بين رمال الشاطئ نحو شق ضيق في البحر، فسروا مخاوفهم من تأثير التغير المناخي على الساحل عبر تأويل ديني يستعير معجزة موسى، لكنها معجزة معكوسة، فحين ينشق لهم البحر يغرقون.

تصوير جيلان حفني

سبعة آلاف عمارة.. كيف نحميها؟

عرفتُ من موقع وزارة البيئة المصرية أن المجلس الوطني للتغيرات المناخية هو الموكل بزيادة الوعي بتلك الأزمة. اللافت أن هيكله التنظيمي لا يضم وزارة الإسكان وبالتالي قطاعها للتخطيط العمراني، وكذلك لا يضم المحليات والمؤسسات العلمية والبحثية. وذلك بالرغم من أن الهدف رقم 5 من المجلس الوطني -وفقًا للموقع- هو زيادة المعارف العلمية والبحوث المنشورة المرتبطة بالتغيرات المناخية، من أجل تحقيق الهدف رقم 7 وهو دمج نتائجها وتوصياتها في خطط التنمية المستدامة، واستخدامها في زيادة فرص التمويل الدولية والإقليمية. وقد نجحوا في تحقيق الشق الثاني من الهدف فقط.

قدّر المركز العربي لسياسات تغير المناخ أو الإسكوا، أن مصر تحصل على النصيب الأكبر من التمويل المناخي الموجه لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على تواضعه، لأن التمويل كما وصفته مديرة المركز كارول شرفان في محاضرة لها، يعتمد بشكل رئيسي على فصاحة البلدان في عرض الأزمة، لا بمدى خطورتها أو درجة إلحاحها. وبالفعل أصدرت وزارة البيئة المصرية في تقريرها المتجدّد كل سنتين خطّتها لمواجهة آثار التغير المناخي والميزانية المقدرة لذلك، وحجم التمويل الذي تلقته من صندوق المناخ الأخضر، والمشاريع التي نفذتها ضمن هذا الإطار، لكنها لم تتطرق إلى انهيار العقارات بصفته الجزء الحي من الأزمة.

ما رصد بالتفصيل ظاهرة العقارات المنهارة كان دراسة نُشرت عام 2024 في مجلة وايلي العلمية. ذكرت الدراسة أنه ما بين عام 2001 و2004 سقط مبنى واحد في منطقة غرب، ثم تسارعت الوتيرة حتى وصلت إلى حوالى 280 مبنى بحلول 2021. صممت الدراسة برنامجًا جغرافيًا شاملًا لفحص أسباب الانهيار، شمل المواد التي استخدمت في البناء، قربها من الساحل، والتغيرات التي طرأت عليه، وقيّمت درجة ارتخاء التربة عبر فحص 70 عينة من مناطق مختلفة من الإسكندرية وتوصلت إلى الآتي:

«أوضحت الدراسات السابقة أن العوامل الرئيسية التي تسرع من وتيرة انهيار المباني هي ضعف صيانة المباني القديمة، وعدم كفاءة التوسع العمراني وضعف البنية التحتية لمياه الصرف الصحي، بالإضافة إلى قصور لوائح وتشريعات البناء، ومع ذلك فإن هذه العوامل مشتركة بين جميع مدن العالم والمحافظات الأخرى في مصر، وبالتالي لا يمكنها وحدها تفسير التمركز الجغرافي للانهيارات، ووفقًا لنتائج فحص البيانات يرتبط القرب من الساحل بأكبر عدد من الانهيارات، لذلك، فإن التغيرات التي طرأت عليه خلال عقود لها تأثير على تآكل أساسات المباني».

وفقًا لتلك المعطيات قدّرت أنّ عدد المباني -التي تشترك مع المباني المنهارة في الخصائص، والتي يعرّضها التغير المناخي للانهيار-  يعادل 7000 مبنى بطول الساحل الممتد إلى 70 كيلو متر. والسؤال المُلِح هو كيف نحميها ومن المسؤول عن حمايتها؟ هل ساكنيها ملاكًا كانوا أو مستأجرين؟ وزارة البيئة أم وزارة الإسكان؟ أم نشطح بعيدًا ونحملها للمسؤولين التاريخيين عن التغير المناخي؟

في تعليق له على حوادث انهيار العقارات، قال رئيس الوزراء أنّ ما يعطّل عمليات الترميم هو الصراع بين المؤجر والمستأجر، وبالتالي تفتت مسؤولية الترميم بينهما، ثم ردد العديد من النواب لاحقًا ذلك السبب في الإعلام لتمرير إجراءات قانون الإيجار القديم. ونتساءل في سياق الإسكندرية، كيف سيؤدي إخراج سكان الإيجار القديم من منازلهم إلى توفير الموارد اللازمة لتقليل نفاذ المياه الجوفية المالحة إلى تربة المدينة ككل؟ وماذا عن العقارات الحديثة التي تميل؟ هذه اللحظة وأنا أكتب، تتناقل المواقع خبر إخلاء عقار حديث البناء وذلك إثر حدوث ميل مفاجئ له.

حلم خبيث

في الإسكندرية مثل كل مدن العالم القديم، ترى التاريخ طبقات؛ بناية عتيقة لها شرفات منقوشة، تتكدّس فوق سطحها اليوم طوابق عدّة من أسمنت مصمت، تبدو كأنها تصرخ «أنا الحاجة الملحة». لطالما كان الوقود الحي للبناء ليس إمكانية تعمير أرض خلاء، إنّما حلم الإنسان الأزلي بامتلاك بيت، وهنا تحديدًا مكمن خبثه.

لعقود طويلة والحضور المزمن والمؤلم لهذا الحلم يشكّل طبقات اجتماعية بأكملها، فما زال السيناريو الأمثل لحياة المصري أن يغترب ليراكم ما نسميه تهكّمًا الخميرة، وهو ثروة ضئيلة، لديها خصائص الكائنات الفطرية؛ فكما تتغذّى هي على السكر، تتغذى تلك الثروة بصبر على جودة الحاضر.. تُغيّب الأب عن الأسرة، وتُبقي على مقعد فارغ في المناسبات العائلية السعيدة منها والحزينة. حين تبدأ الخميرة في التفاعل، ويتضاعف حجمها، تتجلى درّة الرحلة في شكل بيت، ويتطلب امتلاكه طريقة سداد تلائم نمط حياة الخميرة البطىء، فهل مع تكرار حوادث الانهيار والميل العقاري في الإسكندرية يتسلّل الخوف من آثار التغيرات المناخية يومًا إلى معايير اختيار السكن؟

يجيبني المغربي: «كل عائلتي ما زالت في بحري، يسكنون بيوت تتشارك في طابعها المعماري العريق، لكن لا أحد يهتم بالصيانة أو الحماية، وستتكرر الكارثة، أنا عانيت كثيرًا حين انتقلت لشقق مغايرة لما نشأت عليه، وغلب الضيق والتعليب على حياتنا».

أما مصطفى فيقول: «المعايير الآن مختلّة أصلًا، لأن المعايير الطبيعية أصبحت رفاهيات، كانت التهوية ودخول الشمس لكافة حجرات منزلنا في العطارين شيء طبيعي، حتى المطبخ كان فه شرفة تطل على الشارع الرئيسي، ولا مجال لمقارنة ذلك بأي بيت حالي، حتى لو وجدتها به ستكون مميزات لابد من دفع ثمن إضافي لها، في النهاية هي محكومة بالقدرة المالية».

علماً أن الشقق والعمارات التي تهاوت أو تلك التي تتعرّض للميل أحياناً بسبب هبوط التربة، تنتمي إلى حقبات زمنية مختلفة. إذ لا يتعلّق خطر سقوط الأبنية بعمرها الطويل، فهناك بنايات عُمّرت في بداية الألفية معرّضة للخطر تماماً مثل العمارات التي بنيت مطلع القرن الماضي.

تصوير جيلان حفني

حدائق مقاومة للملح

قدمت الدراسة المنشورة في مجلة «وايلي» شرحًا مفصلًا للحلول وقارنت بينها، فالأرصفة البحرية والحواجز الخرسانية المعمول بها في الإسكندرية، توفّر حقًا استقرارًا سريعًا وملحوظًا للشواطئ، لكنها تسبب تآكلها على المدى البعيد، لذا تحتاج إلى الدعم بطرق تكيف مناخي أخرى. ناقشت دور الكثبان الرملية في التغذية الطبيعية للشواطئ، مثل حزام الكثبان الرملية الممتد بطول الساحل بين الإسكندرية والعلمين، وكيف أنّنا بحاجةٍ إلى استنساخ المزيد منها، لا تجريف الموجود أو التغافل أثناء التخطيط عن الدور الذي يلعبه تآكلها في تعريض المدينة للغرق.

اعترفت الدراسة أننا ما زلنا نجهل الكثير ونحتاج المزيد من الأبحاث، وأن الحل المناسب يأتي عبر خياطة تصور على قياس كل مدينة؛ ليلائم حالتها الخاصة بيئيًا وحضريًا واجتماعيًا. ولا يكفي استيراد خطة معلبة من تجربة سابقة. قدمت تصورًا راعت فيه أن السدود الخرسانية التي حمت بعض المدن من الفيضانات في مرحلة زمنية معينة من عمر المناخ، لن تحمي مدن اليوم إذا ارتفع منسوب البحر إلى 10 سم زيادة عن سطح الأرض.

اقترحت بدائل مثل حدائق المد والجزر المقاومة للملح، هذا الشكل الطبيعي الذي يمزج بين الماء والنباتات ليس غريبًا على جسد الإسكندرية التي كانت لديها ترعة المحمودية وما زال لديها بحيرات مالحة وبرك. فعند زراعتها بنباتات وأشجار ملائمة للتربة عالية الملوحة، تخلق رئات خضراء، وتعمل كمضخات حيوية تتحكم في نفاذية الملح إلى التربة، وفوق كل ذلك، أظهرت التجارب السابقة أن لها التأثير الأكبر فاعلية في رفع وعي السكان بالأزمة، فهي تجسدها لهم وتبقيها حاضرة في الأذهان، والقوس مفتوح للحلول بالبحث والتجربة.

خسائر مؤجلة

نجا والد مصطفى من كارثة انهيار العقار، وأجّل ذلك حصر الخسائر، لكن لا مهرب من مواجهتها، فقد اثنان من جيرانه حياتهما وأصيب خمسة آخرون. أما حين انهار منزل عائلة المغربي، هوى الطابقان فوق المقهى أسفل العقار وابتلعت الأنقاض ابن صاحب المقهى وحفيدته. يقول المغربي: «رغم فداحة الحدث، لم أفقد فيه قريب، وللمصادفة معظم متعلقاتي نقلتها معي للمنزل الجديد، فقط كان فيه ألف نسخة من كتاب جماعي نشرت به قصصي بالاشتراك مع زملاء كتاب من الإسكندرية، غامرت بصحبة أبي وصديقي الأديب مصطفي زكي في نقل كل النسخ من غرفة المعيشة الخارجية التي ظلت متماسكة، ونجونا، وكانت تلك أخر زياراتي للبيت».

لم تتوفّر تلك الفرصة لمصطفى الذي خسرت عائلته ذاكرة كاملة، يخبرني: «أهمها صور ماما رحمها الله، ومتعلقاتها التي حافظنا عليها في مكانها بالبيت، آلاف الطوابع التي تشاركت مع أبي في هواية جمعها، كتب كثيرة عزيزة جدًا على قلبي». ربما من بينها نسخته من الكتاب الجماعي الذي غامر من قبل لإنقاذه من بين أنقاض منزل سوق الميدان المنهار.

يضيف مصطفى: «قطع كاملة من الذكريات لا أريد أن أتذكرها أو أفكر بها الآن».

لكن يحتم علينا نحن أن نفكر في الساكن بالبيت المجاور، يستند إلى الجدار المشترك الذي صمد، وما زال وجهه العاري يحمل مكتبة معلقة، هل ينبغي عليه أن يواجه منفردًا آثار التغير المناخي ويفكر في حلول مبتكرة لصيانة بيته؟ وإن تمكن من النجاة الاستباقية، إلى أين يذهب؟

* يُنشر هذا المقال ضمن مشروع «غرين بانتر» بالتعاون مع مؤسسة «تاز بانتر»