حرب التويوتا عام 1987 هي الجزء الأكثر دموية وغموضاً في الحرب الليبية- التشادية في ثمانينيات القرن الماضي، وبسبب التضييق الأمني المفروض من النظام الليبي السابق لم تتح الفرصة للعائدين من هذه الحرب للحديث عن تجربتهم، وبعد ثورة فبراير انهمكت البلاد بصراعات ناشئة طوت معها أسئلة الحرب التي كان قد مر على حدوثها عدة عقود.. في الذكرى الـ 34 لمعركة وادي الدوم، كبرى معارك حرب التويوتا، نشر خطــ٣٠ الجزء الأول من شهادة جندي ليبي على ما حصل هناك، وفي هذا الجزء يواصل خليل مؤمن روايته للأحداث..
***
وقعت أنا ورفاقي في أسر رجال حسن جاموس، قائد القوات التشادية الذي أدار معركة السيطرة على فادا.. وضعونا على متن ثلاث شاحنات وقادونا إلى سجن فادا شرقي البلاد.
كان قد سبقنا المئات من رفاقنا وقد تنوعت إصاباتهم، فهذا يجر ساقه وذاك فُقِئت عينه أو احترق جسده.. كان منظراً يدمي القلب. السّجانون أكرموا وفادتنا فالغارات الانتقامية التي نفذها سلاح جونا أدخلتهم في حالة غضب وكانوا ينهالون علينا جلداً بسياطهم.
قرابة الساعة الثانية ليلاً وضعنا مجدداً في سيارات انطلقت بنا مسرعة وأنا أنظر إلى السماء التي بدت لي أقرب للأرض من تلك التي كانت فوقنا في مدينتي البيضاء (شرق ليبيا) حتى أنني أحسست أن بإمكاني أن أمسك القمر بيدي من شدة قربه..
إنها بلاد سقف سمائها منخفض وخانق ليس مثل براح بلادي حين كنت حراً ذات يوم. مناجاة قطعها نباح كلبين وضعوهما بيننا وكانوا يوقفون السيارة كلما نبح أحدهما ليعملوا السوط في أجسادنا.
وصلنا صباحا إلى قرية الكلاعيط التي استقبلنا سكانها بالعصي والسيوف وتسلقوا السيارات وبدأوا بضربنا بينما العسكريون التشاديون يمنعونهم. وضعنا في سجن وحضر صحفيون فرنسيون وعراقيون والتقطوا لنا صوراً ثم نقلونا إلى مطار أم شعلوبة القريب وقيدوا أيدينا إلى الخلف وأركبونا على متن طائرة فرنسية طارت بنا صوب أنجامينا.
بمجرد هبوطنا في مطار أنجامينا هجم علينا جمعٌ كبير من الصحافيين.. كل الحكومات التي عاداها القذافي رغبت في توثيق الكارثة.. أصوات المصورين المصريين كانت تصلني واضحة وأنا جاثٍ على ركبتي حافي القدمين ومطأطئ الرأس. بعد انتهاء مهرجان التصوير اقتادونا إلى سجن القيادة وهو أهم سجون القوات التشادية ويقع داخل معسكر قيادة الرئيس حسين حبري وكان مخصصاً لضباطنا ذوي الرتب العليا وأسرى ليبيين منذ العام 1983.
في سجن السلاسل
لم نبت إلا ليلة واحدة في سجن القيادة وصباحاً نقلنا إلى مستودع كبير بناه الفرنسيون- ربما لتربية البقر- وتم تحويله لسجن. كنا بالمئات حشرنا دون حصر أو تسجيل لأسمائنا في المستودع الحديدي المقسوم إلى جزأين يفصل بينهم جدار من الطوب.
أحد الأسرى احترق جسده بالكامل جراء هبة نارية من أحد المدافع. حضر طبيب فرنسي ولفه بالجبس ووضعه على نقالة خارج المستودع ما جعله عرضة لغزوات ليلية لفئران صغيرة يسميها التشاديون (القلقاو). كل ليلة كانت الفئران تهاجم جسده المشوي وأنينه المستغيث يصلنا قائلاً: يا أولاد.. الفئران تأكلني. ولم تمضِ سوى فترة بسيطة حتى قضى نحبه فوق تلك النقالة.
كل مساء كان السجانون يحضرون سلاسل حديدية طويلة ويقيدون كل عشرة منا في سلسلة واحدة بها خمسة أصفاد.. إحدى قدمي توضع مع قدم أحد الرفاق في صفدٍ واحد. وهكذا كان يُربط مصير كل عشرة مع بعضهم كل ليلة قبل أن يتم فكهم صباحاً.
لقد أذتنا تلك السلاسل حتى أطلقنا على السجن اسم حبس السلاسل لهول ما رأينا فيه. سجنٌ باردٌ وخاليٌ من أي فرش يغطي أرضيته الإسمنتية ونتيجة لذلك كان المريض بالسكري ومن يشعر بالبرد يذهب لقضاء حاجته أكثر من مرة أثناء الليل ورفاقه التسعة يسيرون خلفه مثل قطار يجر عرباته ليتوقفوا عند برميل حديدي حافته مسننة.
مع الوقت كان الرفاق المتآلفون يصطفون عند المساء بجانب بعضهم حتى يتم تقييدهم في سلسلة واحدة ويتمكنوا من الهمهمة سوية وينطلقوا مع بعض في رحلات قطار الليل كلما استدعت الحاجة ذلك .
الجوع هو أشرس أعداءنا في “حبس السلاسل” ولم نكن ننال إلا وجبة واحدة في اليوم هي بضع حفنات من الأرز تقدم عند الساعة الحادية عشرة صباحاً في طبق معدني، ولا أبالغ إذا قلت إنه إذا التفت أحدنا لم يجد في الطبق شيئاً.
لذلك عندما توفرت لنا بعض الأقداح الصغيرة كنا نقلبها على الطبق وكل واحد منا يأتمن على حصته داخلها ويحرسها كأنه يحرس مضاربه. وأحياناً يحدث أن يذبح السجانون بعض الماعز فكانوا يتكرمون علينا بطبخ أمعائها مع الأرز.. وهذا كان التغيير الوحيد الذي يطرأ على طعامنا في ذلك السجن.
طعام في الأحلام
أكثر شيء كنا نشتاق له هو رائحة الخبز لذلك كنا نقسم بأننا سنعمل في مخابز إن كتب لنا النجاة. التنوع في الأكل كنا نصنعه في عقولنا: رفيقي “أبو بكر” كان يحلو له أن يتخيل أنه ضيف في بيتي ويطلب مني أن أعد له وجبة اللحم المكمور وأنا أنطلق في وصف طريقة اختيار اللحم وتقطيعه وتتبيله وأشرح له بالتفصيل كيف سأحفر الحفرة وأرص جوانبها بالحجارة وأشعل النار في الحطب وأعد الوجبة كاملة. أبو بكر كان يأكل مكمور الأحلام بنهم من يدي وأنا كنت أعده لضيفي الجائع بشغف وتفانٍ تامّين.
في أحد الأيام دخل علينا الرئيس التشادي حسين حبري دون بروتوكولات رسمية. تمشى في المكان وعندما تجمع حوله عدد من الأسرى المشتكين من الجوع أكد لهم أن ما يصلهم من الأكل هو نفس الأكل الذي يتلقاه جنوده وغادر.
لم يكن في تشاد الفقيرة كهرباء وكذا كان السجن مظلماً وحياة السهر فيه تنتهي عند المغرب ويحدث أن يلقي إلينا أحد السجانين بسيجارة مشتعلة فيطول سهرنا قليلاً ونحن نتزاحم بأصابعنا المتشوقة للإمساك بالسيجارة والمحظوظون فقط من يحظون بسحب نفسٍ منها.
مع الوقت طور نزلاء “حبس السلاسل” تقنيات خاصة بالبقاء وخلقوا عالماً تنافسياً مع أقرانهم على أمور لا تعد ذات أهمية لمن هم خارج السجن. تحصل السجانون في أحد الأيام على ثلاجة جديدة ورموا لأحد الأسرى بأوراق الكرتون لينام عليها.. فككنا الأعواد النحاسية التي تربط قطع الكرتون ببعضها واستخدمناها في تحريك أقفال الأصفاد وفكها. يجثم أحدنا مترقباً في الظلام وما أن يرمي أحد الحراس بسيجارة داخل المستودع حتى يركض إليها مسرعاً ويلتقطها ويعود بالغنيمة ليتقاسمها مع رفاقه.. في الصباح كنا نعيد الصفد ونستلقي بمكر في انتظار دخول التشاديين بمفاتيحهم.
يومنا في السجن يبدأ مع دخول السجان قرابة السابعة صباحاً. قبل ذلك نكون متحفزين في انتظار دخوله وبمجرد أن يفك أصفادنا ويغادر مغلقا الباب خلفه نكتشف تلك الحقيقة المرة وهي أن لا شيء آخر لدينا نفعله سوى الاستلقاء على الأرض في انتظار دخوله الآخر عند الساعة الحادية عشر وهو يقود عربة يدوية عليها طنجرة تفوح منها رائحة وجبتنا الوحيدة.
لم يكن هناك أي دليل على أننا أحياء وتسليتنا الوحيدة هي جمع القمل ووضعه في عُلب الأدوية الفارغة. لم نكن بحاجة للبحث عنه في رؤوسنا فقد كان ينزل جماعات على صدورنا وأذرعنا.
ماذا نفعل بالقمل؟ لا نفعل به شيئاً. نضعه في العلب ونرجها وكفى. إنها العبثية التي نعيشها. لا هدف لنا نفكر فيه ولا أمل لنا ننتظره.. حياة هي أقرب للجنون منها إلى أي شيء آخر.
نشأت في موطني بدوياً محباً للشعر الشعبي ورقصة الكشك والآن أمتنع عنهما لأوفر طاقتي وأعيش بها يوما آخر.. لا قوة لدي لأقف مباعداً بين ساقي الملتصقتين بساق عن يميني وأخرى عن يساري لنشكل تلك الدائرة الكبيرة من الراقصين ويرفع كل منا كفه اليمنى عالياً ويهوي بها على كفه اليسرى محدثين معاً تلك الصفقة المزلزلة الموحدة.
هزيمة وادي الدوم
هروبنا أو انسحابنا في فادا لم يكن منظماً لذلك كان التشاديون يكثفون دورياتهم بحثاً عن جنود مختبئين. بعد 45 يوماً جلبوا لنا عدداً من هؤلاء. أحدهم إدريس الذي اختبأ مع رفاقه في شق داخل أحد الجبال.. كانوا يأكلون صغار الحمام البري المعشش داخل الشق ويشربون الماء من بركة أسفل الجبل.. فضح أمرهم راعي ماعز لاحظ آثار أحذيتهم قرب البركة. عندما أُخذوا لتمركز الجيش التشادي انقض أحد الجنود بسكين قلامة الأظافر على أذن إدريس وكاد يقطعها لولا تدخل جندي آخر. أثر السكين كان بادياً على أذنه عندما انضم لنا.
بقينا في حبس السلاسل قرابة الثلاثة أشهر انتزع منا خلالها عدد من رفاقنا المصابين بمرض الملاريا. كانوا يختفون بعد ذلك ويكتفي السجانون بإبلاغنا بوفاتهم دون أن نرى جثامينهم أو أن نشارك في دفنهم.
كنا على وشك أن نفقد عقولنا أو ربما فقدناها دون أن ندري. أحياناً كانوا يتركون لنا علب زيت الطعام بعد ملئها بالماء لنستعملها للاستحمام. لم نأبه لها فما لحق بأجسادنا أكبر من أن تزيله بضع لترات من الماء.
لقد فقدنا شغفنا وكنا في حكم الموتى ورغم ذلك كنا نضحك من قلوبنا على مآلنا دون تفكير في المستقبل. تواصلنا الوحيد مع العالم كان عن طريق بعض الحراس الذين سبق لهم العمل كرعاة أغنام في ليبيا ويجيدون التحدث باللهجة الليبية فكانوا ينقلون لنا أنباء تنقلات مسؤولي القذافي بين الدول وكنا نمني النفس أن يعترف بنا القذافي الذي أنكر وجود قوات أو أسرى له في تشاد.
“إن شاء الله خير.. إن شاء الله في سلام.” تلك كانت كلمات أولئك الحراس المعهودة. يقذفونها في وجوهنا ليمنحونا بعض الصبر ونحن نرحب بكل شائعة ونظل نرددها ونبني عليها قصوراً من الوهم حتى تأتي أخرى طازجة لتحل مكانها.
في إحدى الليالي قطع الصمت أصوات إطلاق نيران. بعضنا أعتقد أن جيشنا قد دخل العاصمة عندما صرخ أحد السجانين مبتهجاً :
– بإذن الله نشرب طاسة قهوة في طرابلس.
ولم يكن ذلك الدوي الذي أيقظ العاصمة أنجامينا إلا احتفال بأسر قائد القوات الليبية العقيد خليفة حفتر وسقوط مركز قيادة القوات الليبية الرئيسي في وادي الدوم بيد القوات التشادية.
حدث هذا في الـ22 من مارس حين شنت القوات التشادية بقيادة حسن جاموس هجوما كاسحاً على الموقع. التشاديون كانوا قوة خفيفة الحركة يركبون عربات التويوتا المسلحة بمدافع الـ106 وصواريخ الميلان الفرنسية بينما كانت القاعدة محمية بقوة كبيرة من الطائرات والدبابات وناقلات الجنود والعربات المدرعة ومنظومات الصواريخ وأجهزة الإنذار ومحاطة بحقول الألغام. كل ذلك تهاوى في ساعات معدودة.
وبسبب هذه الانتصارات السريعة سميت هذه المرحلة من الحرب الليبية التشادية بـ حرب التويوتا، فيما خسرت ليبيا في هذه المعركة وحدها ما يزيد عن 1200 قتيل و400 أسير بينهم قائد القوات الليبية في تشاد العقيد خليفة حفتر.
حبس الفرارات
تلك الهزيمة كانت نهاية اقامتنا في “حبس السلاسل” وتقرر نقلنا إلى سجن آخر أسميناه “حبس الفرارات” لأن جدرانه بها مراوح معطلة، وفيه تخلى سجانونا عن تقييدنا بالسلاسل بسبب ضيق المكان وأراحونا من قطار الليل وعرباته التسع.
كان مستقرنا الجديد أفضل من سابقه إذ أن جدرانه لم تكن من المعدن بل بنيت بالطوب أما سقفه فكان من صفائح الزنك. وفي حين أننا كنا في “حبس السلاسل” نشكو برد شتاء يناير، فقد أنهكنا في “حبس الفرارات” حر مايو وتزايد الأوساخ على أجسادنا التي تحشر فوق بعضها عندما نستلقي ليلاً لننام.
واصلنا صناعة مكمور الأحلام وتعاطي شائعات السجانين ولم يكن هناك مفر من أن نواصل تسليتنا بجمع القمل والقادمون الجدد من الجنود الذين يتم كشف مخابئهم كانوا يشمئزون من رائحة المكان. القدامى أمثالي اعتادوا تلك الرائحة ولم تكن تشكل لنا مشكلة.
بعد وصولنا بفترة وجيزة حل شهر رمضان. قررنا الصيام لأننا كنا في حالة صيام دائم منذ وقوعنا في الأسر تقطعها وجبة الأرز المعتادة. الفرق بين شهر رمضان وغيره من الأوقات هو استحضارنا لنية الصيام. في غير شهر الصيام عمد بعضنا إلى دس جزء من حصتهم من الأرز في العلب المرمية في السجن ليأكلوا فتاتها لاحقا كوجبة ثانية.
مرة أخرى زارنا الرئيس التشادي حسين حبري. كان شخصاً متواضعاً ولم تصحبه أي مراسم رسمية ولم يطلب السجانون منا حتى أن نقف له. سمع الرئيس نفس شكوى “حبس السلاسل” عن الطعام وكرر على مسامع المشتكين نفس الإجابة وغادر.
مكان يتسع لمزيد من الأسرى
السجانون في العادة هادئون لكنهم مخيفون عندما يتطلب الأمر أن يكونوا كذلك. سجائرهم تغرينا بأن نتحايل للحصول عليها.
تطوعت أنا ورفيق أخر لحمل برميل الفضلات وسكبه في تجويف عميق حفره الفرنسيون ليكون بمثابة خزان تصريف صحي. كان الحِمل ثقيلاً وانزلق البرميل من أيدينا داخل الحفرة ولم يبقى ظاهراً منه إلا بضع سنتيمترات. سحب الحارس المرافق بندقيته وأمرنا بلهجة عربية ركيكة بأن نلتقط البرميل.. رفعنا البرميل بخفة وكأننا نرفع علبة أعواد ثقاب خوفاً من أن نقتل ثمناً له.
بقينا قرابة الشهرين في هذا السجن، أخذ قرابة عشرين سجيناً منا للتحقيق على انفراد في سجن القيادة وكنت أحدهم. عندما دخلت لمكتب التحقيق وجدت قبالتي شخصا عراقياً يرتدي ملابس مدنية. الرئيس صدام حسين كان ضالعاً في دعم حبري انتقاماًَ من دعم القذافي لإيران خلال حربها مع العراق.
أبدى المحقق إلماماً بمواقع تمركزاتنا وحتى بمعسكراتنا في ليبيا. استعرض خرائطه وناور للحصول على معلومات حول مشاركة مقاتلين أجانب معنا وحاول تهدئتي مرة بالقول إنني أشبه أخاه ومرة بإعطائي سيجارة من علبة الروثمان خاصته. لم يستعمل العنف ولم يكن بحاجة له فلم يكن الوضع يسمح لي بغير الإفصاح عن ما أعرفه من معلومات بسيطة.
كان هذا آخر عهدي بـ “حبس الفررات” إذ نقلنا من سجن القيادة مباشرة إلى سجن جوندماريا الذي بني خصيصاً للسجناء الليبيين الذين لم تعد تستوعبهم سجون المستودعات بعد معركة وادي الدوم.
لقراءة الجزء الأول: محاولة أولى للهرب من تشاد
الجزء الثالث والأخير: تقنيات خاصة بمواصلة الحياة