fbpx
تصميم: خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

حكاية جندي (١).. محاولة أولى للهرب من تشاد

قليل من الناس يعلم ما جرى معي ومع رفاقي الجنود الليبين في حرب التويوتا، آخر فصول الصراع العسكري مع جارتنا تشاد.. لهذا الآن أروي حكايتي.
ــــــــ ماضي مستمر
22 مارس 2021

حرب التويوتا عام 1987 هي الجزء الأكثر دموية وغموضاً في الحرب الليبية- التشادية في ثمانينيات القرن الماضي، وبسبب التضييق الأمني المفروض من النظام الليبي السابق لم تتح الفرصة للعائدين من هذه الحرب للحديث عن تجربتهم، وبعد ثورة فبراير انهمكت البلاد بصراعات ناشئة طوت معها أسئلة الحرب التي كان قد مر على حدوثها عدة عقود..

في الذكرى الـ 34 لمعركة وادي الدوم، كبرى معارك هذه الحرب، ينشر خطـ ٣٠ الجزء الأول من شهادة جندي ليبي على ما حصل هناك.

***

في صغري لم أكن تلميذاً نجيباً. دخلت المدرسة لأول مرة في سن التاسعة وبالكاد وصلت للصف الخامس الابتدائي حتى تركت مقاعد الدراسة إلى غير رجعة.. لم  أعرف حينها أن قراري المبكر سيكون بداية طريق طويل، سأدخل فيه السجن ثمّ أقع في الأسر في حرب مجنونة بلا معنى ولا جدوى، خسرت فيها سنوات شبابي وصرت في عداد المفقودين ونصب لي أهلي خيمة عزاء.. قليل من الناس يعلم ما جرى معي ومع رفاقي الجنود.. ولهذا الآن أروي حكايتي.

والدي كان تاجر أغنام وعائلتي من الطبقة المتوسطة في تلك الحقبة المليئة بالخير. فقد كان النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي والنصف الأول من السبعينيات فترة ازدهار اقتصادي. لكن تاركي المدارس من أمثالي لم تتركهم الدولة بحالهم، إذ واجهتني وزارة العمل بطلب الانخراط كفنيّ مساعد لدى ورشة مختصة في ميكانيكا السيارات وتكفلت بدفع مرتبي ضمن برامج التدريب المهني.

في العام 1973 وكنت قد بلغت سن السادسة عشر مندفعاً برغبات المراهقين، قررت الالتحاق بالجيش، وكان ذلك داخل معسكر قرنادة في شمال شرقي ليبيا. سألني عن اسمي الضابط المسؤول وهو أحد الضباط الأحرار الذين تمكنوا قبل أربعة سنوات من الوصول للسلطة عبر انقلاب أبيض.

خليل مؤمن، أجبته. فتفحصني لبرهة ثم دوّن اسمي في كشف يضم مجندين آخرين، وفي نفس اليوم تم ترحيلي مع آخرين إلى العاصمة طرابلس على بعد 1200 كم، دون أن يسمح لنا بوداع ذوينا.

كان هذا الترحيل المفاجئ تلخيصاً لمسيرتي العسكرية اللاحقة كجندي تتقاذفه التكليفات المستعجلة والكشوفات الغامضة.. تخرجت بعدها بتسعة أشهر وعملت في معسكر الحامية بمدينة المرج. 

في 21 يوليو 1977 تحولت الملاسنات الكلامية بين الرئيس الليبي معمر القذافي ونظيره المصري محمد أنور السادات إلى مناوشات عسكرية على الحدود وطلب منا على عجل الالتحاق بقواتنا هناك.

ما عُرف بـ حرب الأيام الأربعة كانت أقصر من أن نشارك فيها إذ انتهت بمجرد وصولنا لمدينة طبرق الحدودية لكنهم كلفوني ضمن مفرزة مدفعية تضم 7 جنود من كتيبتنا بالتخييم قرب بحيرة الملفا في واحة الجغبوب المحاذية لواحة سيوة المصرية لمدة ثلاثة أشهر. 

ومع نهاية هذه المأمورية تم استدعاء كتيبتي للسفر إلى تشاد حيث تشارك القوات الليبية في الصراع الدائر هناك دعما لجبهة التحرير الوطني (فرولينا)

استثنيت لأن اسمي كان قد سُجل في كشف غامض يضم 16 عنصراً أخر وطلب إلينا على عجل أن نسلم ما بعهدتنا من مستلزمات ومستحقات للحانوت العسكري ونستوفي بطاقات إخلاء الذمة.

حكاية جندي (١).. محاولة أولى للهرب من تشاد

تصميم: خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

أولى سنواتي الضائعة

 إجراء كهذا كان يعني تسريحنا من الجيش دون سبب، لكنهم وضعونا على متن طائرة مدنية أقلعت بنا نحن الستة عشر خصيصاً من مطار طبرق شرقي البلاد نحو طرابلس في الغرب، للمثول أمام قيادة كتائب المجاهدين، وهي قوة شكلها القذافي من المدنيين وكانت تتخذ مقراً لها داخل المطار. هناك بدأنا رحلة البحث عن المقر وخيالاتنا تنسج افتراضات عما سيجري:  

 – نحن مفصولون. قال أول. 

– نحن منتدبون للاستخبارات العسكرية. رد ثانٍ .

– نحن تائهون في المطار. استدرك متشائم.

عند العصر تمكنا من الدخول على آمر كتائب المجاهدين الملتحف بجردٍ عربي وهو ضابط برتبة عقيد عائد-بحسب ما سمعنا- لتوه من رحلة الحج. خاطبنا الرجل بلهجة مطمئنة، قائلاً إننا قد أصبحنا معلمي تدريب عسكري تابعين لكتائبه. استبقانا في حاوية تربض على أرض المطار لليلتين، ثم سلمنا تكليفاً مكتوباً وأرسلنا لمدننا.

 في تلك الفترة كان النظام قد استحدث فكرة التدريب العسكري العام لكل الشعب معلناً أن “حماية الوطن مسؤولية كل مواطن ومواطنة”، فقضيت قرابة أربع سنوات أقود حافلة بها عدد من بنادق الكلاشنكوف وأتجول بين المدارس التي أصبحت مراكز لتدريب كبار السنّ على حمل السلاح.

لاحقاً استبدلت فكرة كتائب المجاهدين بمجموعات مدنية أخرى تسمى قوات الدفاع المحلي، لكني وعلى الصعيد الشخصي واصلت عملي مدرباً داخل المدارس والمعاهد، وعوّضوني عن كبار السن بتلاميذ تلك المؤسسات التعليمية الذين أُجبِروا على ارتداء الملابس العسكرية حتى في حصصهم الدراسية. 

وكنتيجة لهذا الإقحام للمدنيين في الحياة العسكرية وجدت نفسي فرداً ضمن كتيبة عسكرية مهجّنة تضم خليطاً من أساتذة المدارس ورجال الشرطة مقرها مبنى مدرسة تم تحويله إلى معسكر.

في العام 1984 حدثت جريمة قتل  راح ضحيتها طبيب مصري وزوجته. كنت في المكان الخطأ فقبض علي كمشتبه به، وقضيت سنتين في السجن قبل أن يتم اعتقال القاتل الحقيقي وإعدامه لاحقاً.. ضاعت من عمري سنتان وتلك كانت باكورة سنوات عمري الضائعة.

عند خروجي من السجن كان توتر العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية حديث الشارع الليبي وسفن الأسطول الأمريكي السادس المتمركز في البحر الأبيض المتوسط تشغل بال ساكنيّ باب العزيزية. 

جاءتنا الأوامر بالتمركز على مرتفعات وادي الكوف بالجبل الأخضر شمال شرقي البلاد. كنا 21 جندياً موزعين في ثلاثة مفارز من المدفعية المضادة للطيران نقضي وقتنا في التجول في الغابة وننام في صناديق ثلاث سيارات بيك آب مغطاة بالنايلون المشمّع.

حكاية جندي (١).. محاولة أولى للهرب من تشاد

تصميم: خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

الرحلة إلى تشاد..

في العشرين من ديسمبر 1986 صدرت الأوامر للمفارز الثلاث بالتجهز لقضاء ستة أشهر في تشاد كبدلاء عن مجموعات عسكرية أخرى حان موعد رجوعها للوطن. سمح لي آمري المباشر بالبقاء والسفر مع مفارز أخرى لاحقاً تقديراً لفترة وجودي في السجن. كان قرار ذهاب الجنود إلى الحرب أمراً محسوماً على مستويات عليا لذلك قررت السفر صحبة رفاق المفرزة، وخاصة صديقي الأحب إلى قلبي صالح ديعم.

تعود جذور التدخل الليبي في دولة تشاد المجاورة إلى أوائل السبعينيات بدعمها جبهة فرولينا التشادية المعارضة واستغلالها الصراع الداخلي الدائر هناك بين الشمال المسلم، والجنوب الذي يسكنه مسيحيون وقبائل لها دياناتها الخاصة.

وفي العام 1978 تجاوزت القوات الليبية الحدود جنوباً ودخلت العاصمة أنجامينا وأزاحت الرئيس فيلكس معلوم ونصبت زعيم حركة فرولينا كوكوني واداي رئيساً وزعيم تنظيم قوات الشمال المسلحة حسين حبري وزيراً للدفاع. لكن حبري دبر انقلاباً عسكرياً ونصب نفسه رئيساً ودخلت البلاد نزاعاً مسلحاً استمر أربعة أشهر وانتهى بدخول واداي والقوات الليبية العاصمة أنجامينا أواخر عام 1980. 

في العام 1982 ساءت العلاقة بين القذافي والرئيس واداي وانسحبت القوات الليبية تاركة العاصمة فريسة سهلة لحسين حبري الذي عاد مجدداً. ثم أعاد القذافي تحالفه القديم مع واداي وسيطر الجيش الليبي على الشمال رفقة قوات المعارضة التشادية التي أطلق عليها القذافي مصطلح “القوات الصديقة”، بينما استمات الرئيس حبري في الجنوب بدعم فرنسي وعراقي، متخذاً من أنجامينا عاصمة له. 

حان موعد الرحيل إلى الأراضي التشادية.. وجهتنا قاعدة وادي الدوم العسكرية حيث غرفة القيادة الرئيسية لقواتنا في تشاد. الانطلاقة كانت من مطار بنينة في مدينة بنغازي على متن طائرة إليوشن روسية الصنع، احتشدت فيها أربع كتائب عسكرية. تولى أمر مفارزنا ملازم ثان.. ولم أكن قلقاً من ما ينتظرنا فأنا لا أعرف الخوف عندما أكون وسط رفاقي وخاصة صديقي صالح ديعم.

بعد رحلة استغرقت ثلاث ساعات ونصف الساعة هبطنا في تشاد. لم يكن هناك أحد في استقبالنا وجرى كل شيء بشكل عشوائي.. أحاط الجنود المتذمرون من طول مدة بقائهم في الجبهة بالطائرة وشكلوا دائرة حولها بسيارات التويوتا وكلهم يبحث عن بدلاء. هكذا كانت تجري الأمور دون تنسيق من القيادة العسكرية. 

تدخل الضابط المرافق لنا وأنهى هذا المزاد بقوله أننا سنتجه غداً إلى مدينة فادا، وفيها يقع أقرب تمركز ليبي من القوات التشادية المسيطرة على الجنوب.

مهمات ترفيهية 

لم يقدم لنا أي طعام في الطائرة ولم يهتم لأمرنا أحد حيث نحن الآن وكان علينا أن نتصرف. توجهت رفقة صديقي صالح والضابط المكلف إلى الميز العسكري حيث كانت أطباق البيض مكدسة في أكوام مرتفعة. ملأنا قدراً كبيراً بالماء ووضعنا فيه مئات البيضات وأشعلنا ناراً في العراء باستخدام خشب صناديق الذخيرة. تجمع العسكريون الجوعى ليأخذوا حصتهم من البيض المطبوخ واستيقظ النائمون في الدشم ليسدوا جوعهم بوجبتهم المرتجلة الأولى في تشاد. 

صباحاً أقلتنا طائرة “أنتونوف” نحن الـ21 عسكرياً رفقة الضابط صوب مطار فادا والذي كان عبارة عن مدرج  ترابي تربض على أرضيته طائرات من نوع “سمركيت”. تكرر في هذه البقعة التي تحيطها جبال الصوان السوداء مشهد محاصرة السيارات للطائرة ولكن بشكل مصغر. 

ترجانا جنود مضى على بقائهم في الجبهة تسعة عشر شهراً لنكون بدلاء لهم. كانوا مكلفين بموقع في مؤخرة الجيش لتأمين المطار بعربات الشيلكا المضادة للطائرات بمدافعها الأربعة وهي مختلفة عن مدافعنا الـ23 ملم ذات الماسورتين، وقبلنا رأفة بهم. 

تم توزيعنا على ثلاث مفارز تحيط بالمطار بواقع سبعة جنود لكل مفرزة. لم يكن هناك هاتف ميداني للتواصل مع قيادتنا والشيء الوحيد الذي كان يسير بشكل جيد هو التموين الذي كان يصلنا بكميات وافرة وبأصناف نفتقد مثيلها في ليبيا. حتى علب السجائر كانت متوفرة بكثرة. 

قانون خيمتنا كان واضحاً: من يصحو أولاً هو قائد الخيمة وهو من يتولى تسيير أمورها وطبخ الطعام. في الليل كنا ننزع بطارية السيارة الوحيدة لدينا ونستعملها في إشعال المصابيح لنتمكن من قضاء الليل في لعب الورق داخل الخيمة. لم تحتمل البطارية هذه المهمة الترفيهية فتوقفت عن العمل ومعها توقفت حركة السيارة.

حكاية جندي (١).. محاولة أولى للهرب من تشاد

جنود ليبيون داخل المعسكر، فادا. المصدر: منظمة إيثار لقدامى المحاربين (فيسبوك)

غنيمة منتصف الليل

كانت هناك قوات تشادية موالية لنا أو “صديقة” في الموقع الرئيسي لكني لاحظت أن هذه القوات ليست صديقة بالكامل. أفرادها محتقنون منذ أن وصلتهم أنباء تفيد بأن زعيمهم، الرئيس التشادي السابق كوكني واداي قد اختفى في ليبيا وربما تمت تصفيته. إنهم بلا قيادة.. وقبل مجيئنا بأيام انشق قائد كبير يدعى محمد الدقاش وهاجم قواتنا في فادا وانضم لقوات حكومتهم.

لكن الأجواء هنا في مقرنا في فادا لا يبدو أنها تأثرت بما حصل، فلم ألحظ أي حالة نفير، ولا أعرف فعلاً كيف سمحوا لنا أن نحدد بأنفسنا الموقع الذي سنقضي فيه مخدوميتنا، وأن نحمي المطار بسيارة معطلة، وبسلاح لا معرفة لنا به ودون هاتف ميداني.

في الليلة الخامسة لوصولنا تسللت قوة تشادية وأطلقت النار من جبل قريب على مخازن الذخيرة. لم نستطع الرد بالشيلكا التي استوطنت فوهاتها الرمال، وما أن أشرقت الشمس حتى جاءنا ضابطنا الشاب. طلبنا منه بغضب استبدال مدافع الشيلكا بمدافع الـ23 مليمتر ووعدنا بتنفيذ مطلبنا وغادر. 

كان مسكيناً ومغلوباً على أمره، فقد تخرج حديثاً من الكلية العسكرية ولا يملك الخبرة اللازمة في الحرب. لقد نزع رتبته العسكرية مثل أقرانه المنتشرين في هذا الصحراء يتحاشون جنودهم ويضيقون ذرعاً بمسؤوليات أكبر منهم.

من جهتي كنت مشاكساً ومدبراً للمقالب بدرجة تتلاءم مع الفوضى السائدة. كان ضابطنا الطيب يعدد على مسامعي بهدوء شكاوى الجنود من غزواتي الليلية ثم يركب سيارته ويغادر بهدوء مثلما أتى.

كنت أجمع العقارب في علبة زجاجية كبيرة وعندما يأوي الجنود لبطانياتهم كنت أخرج بعضها وأقطع ذيولها بقلامة الأظافر لنزع السم وأضعها في أحضانهم. جمعت عدداً كبيراً من العقارب حتى أن بعضها ربما شارك في حملة الرعب دون أن يمر بمرحلة قطع الذيل.

صحيح أنه لم يكن لدينا هاتف ميداني لكن أسلاكه المعدنية كانت متوفرة بكثرة. جمعت بعضها وصنعت شركاً ووضعت معه بقايا عشاءنا كطعم.. منتصف الليل اهتزت الخيمة بقوة.. لم تكن الغنيمة إلا ثعلباً ساقه الحظ العاثر لنا.. ارتمى الرفاق على الثعلب بقطعة كبيرة من النايلون المشمع، فيما قمت أنا بربط ذيله بخيط تتدلى منه علب معدنية فارغة ثم أفلتناه. كل ليلة كنا نسمع صوت العلب وهي ترتطم ببعضها يتلو ذلك  أصوات أعيرة نارية لجنود يشتبهون بتسلل التشاديين إلى خيمهم. 

سقوط فادا.. والهرب

في الثاني من يناير 1987 كان قد مر حوالي عشرة أيام على وصولنا. استيقظنا فجراً على أصوات رماية كثيفة تأتينا من جهة الجنوب حيث تمركزات قواتنا. خرجنا من الخيام نستطلع؛ لمحنا سيارة  تويوتا تطير مسرعة وعلى متن صندوقها الخلفي يجلس عدد من الجنود فاستوقفناها لنستعلم عما يحصل. كان السائق أحد أولئك الضباط الشبان ومكلفاً بقيادة سلاح الجراد (صواريخ الكاتيوشا) في الموقع الرئيسي. زعم الضابط المستعجل أن اشتباكا حصل بين قواتنا ومجموعة من القوات الصديقة الطامعة في وقود الآليات وانتهى لصالح الجيش. أنهى كلامه المطمئن ومضى في طريقه شمالاً صوب غرفة القيادة الرئيسية في وادي الدوم. 

بعد قليل مرت بقرب خيمتنا سيارة تنهب الأرض نهباً ثم عدداً من الدبابات ثم شاحنة لنقل المياه .. كلهم كانوا يهربون شمالاً نحو وادي الدوم وضابط الجراد الهارب خدعنا لنكون دروعاً بشرية تؤخر لحاق العدو به.. 

صعدنا أعلى الجبل وألقينا نظرة على المطار.. يا للمصيبة.. التشاديون داخله بأعداد كبيرة وطائرات السمركيت الرابضة أضحت في قبضتهم.. في أعلى نقطة من الجبل وجدنا أحد جنودنا متمركزاً بمدفع الـ14.5 ملم المضاد للطائرات.. كان يجهّز فطائر السفنز الليبية على نار الحطب دون أن يعلم بما حصل.. طلبنا منه أن يتصل بالقيادة بهاتفه الميداني، أدار القرص المعدني ووضع السماعة على أذنه فرد عليه التشاديون المحتفلون بسقوط قاعدة فادا في ساعات معدودة.. شاركنا الجندي فطائر السفنز وفكرة الهروب تختمر في رؤوسنا.

أصابتنا حالة من الحيرة ونحن نفكر في كيفية قطع مسافة 160 كم نحو وادي الدوم دون سيارة وسط هذه الصحراء المترامية وحقول الألغام التي زرعها الجيش الليبي في وقت سابق، ولم يقطع هذه الحالة إلا تفطننا متأخرين إلى أن سبعة مسلحين تشاديين قد صعدوا الجبل وصاروا تحتنا مباشرة.

كنت أحد الذين سحبوا بنادقهم فورا وبدأوا بإطلاق النار على الرجال الصاعدين فقتلنا أحدهم، فيما ارتمى الآخرون مستسلمين ومذعورين. لم يكونوا إلا عناصر تابعين للقوات الصديقة الهاربين من بني جلدتهم المسيطرين على فادا وصرخوا في وجوهنا بسبب مقتل رفيقهم. زعيمهم عجوز يضع حول عنقه حجاباً من الجلد وكانوا في حالة نفسية سيئة. بينوا لنا أن أقصى ما سينالنا نحن الليبيون هو الوقوع في الأسر أما هم فمصيرهم الإعدام بتهمة الخيانة. 

السير على الأقدام إلى وادي الدوم كان هو القرار الذي استقرينا عليه رفقة التشاديين الستة الذين تعهدوا بقيادتنا عبر مسالك يعرفونها شريطة أن يكون المسير في الليل فقط تحاشياً لدوريات الجيش التشادي وكمائن قطاع الطرق المترصدين في الأودية والجبال.

بادر أحد الرفاق بفتح مخزن الملابس المشيد في فتحة داخل الجبل وأمدنا بعدد من الأحذية والملابس والمعاطف وقِرب الماء اللازمة للمسير الطويل وانطلقنا عند المغيب.

حكاية جندي (١).. محاولة أولى للهرب من تشاد

جنود القوات المسلحة الوطنية التشادية، وادي الدوم. حرب التويوتا 1986-1987. المصدر: منظمة إيثار لقدامى المحاربين (فيسبوك)

اختفاء “صالح”

سرعان ما توترت الأجواء مع رفاقنا التشاديين إذ كنا نزج بهم أمامنا بسبب عدم ثقتنا بهم وخشية من وقوعنا ضحايا لمزارع الألغام التي زرعها الجيش الليبي في وقت سابق، كما أننا لم نستطع مجاراة رتمهم السريع في المشي. 

أشرقت شمس اليوم الثاني ونحن قرب بركة ماء يرتع عليها قطيع من الغزلان وبعض القرود. كان المنظر أشبه بالحلم.. اغتسلنا وبللنا ملابسنا وشربنا ثم ملأنا قِرب الماء وواصلنا سيرنا.

بعد عدة ساعات وصلنا وادياً خيّرنا العجوز التشادي بين سلوكه لاحتمال وجود عين ماء فيه أو مواصلة السير على الرمال. فضلنا الخيار الأول. تحذيرات العجوز الخبير كانت واضحة: التزموا الصمت فالوادي معقل قاطع طريق يدعى قُران. 

كان المدخل عبارة عن شق صواني ضيق، والسماء لا تكاد ترى لانكفائه على نفسه من الأعلى. سرنا مسافة قصيرة قبل أن نتعرض إلى اطلاق نار. جُرحت في ساقي بينما أصيب اثنان من رفاقي. أحدهم تلقى رصاصة في رأسه ومات فورا أما الأخر فأصيب في رقبته وظل يصرخ مترجياً أن لا نتركه حتى أسلم الروح. انسحبنا إلى الخلف بينما استغل مرافقونا التشاديون الفرصة واندفعوا إلى داخل الوادي هاربين.

 هكذا ابتعدنا عن الوادي بعد أن فقدنا رفيقين وهرب منا الأدلاء.. لم يكن جرحي عميقا لكنني أحسست بالدم ينساب في حذائي.. شعرت بالحمى وغلبني العطش.. بحت بذلك لصديقي صالح ديعم فأصر أن نرتاح بينما يذهب هو ليبحث عن الماء. جلسنا عند صخرة كبيرة فيما كان صالح يبتعد ممسكاً بالقِربة في يده.

 ليلاً سمعنا طلقات كلاشنكوف.. أردت أن أرد بإطلاقات فلربما كان صالح هو المطلق كي يعرف مكان وجودنا.. منعني الرفاق خوفاً من أن يكون التشاديون في الجوار.. انفطر قلبي مرتين.. مرة لحالنا البائس ومرة لغياب صالح وتلك كانت أخر مرة أراه فيها في تشاد.

في قبضة جاموس

في الصباح أقسمت لرفاقي أنني لن أدخل الوادي مجدداً فمقابلة عدو مرئي وسط الرمال المكشوفة أهون علي من تلقي رصاصات أشباح (قُران) المختفية في ذلك الشق الصواني اللعين.

 غيرنا وجهتنا صوب الرمال المترامية التي سرنا فيها 4 أيام. تخلينا عن حذرنا وصرنا نسير حتى في النهار نسابق الزمن بأقدامنا المتثاقلة وأعصابنا المنفلتة.. أفواهنا عجزت عن الحديث وتشققت شفاهنا وهي تشتهي شربة ماء ونحن نحث السير عسانا نصل إلى وادي الدوم قبل أن يفيق التشاديون من نصر فادا. أما جرحي فكنت أسده بالرمال كلما توقفت لأخذ قسطاً من الراحة.

كان الجيش قد تلقى ضربة قوية في فادا وقتل قائد المحور العقيد فتح الله الحاسي وتبعثر أفراده في الجبال. التقينا خلال المسير عدة مرات بجنود هاربين يسيرون مثلنا صوب قاعدة وادي الدوم. بعضهم سار معنا لفترة ثم سلك درباً آخر وبعضهم بقي معنا. 

كنا أربعة عشر رجلاً  نسير مبتعدين عن بعضنا حتى كانت المسافات تصل بيننا لعدة كيلو مترات. نسقط على الأرض منهكين.. نلتقط أنفاسنا وما أن يقترب منا رفاقنا المتأخرون حتى نواصل المشي ونتركهم يرتاحون في مكاننا.

منتصف النهار تناهى إلى مسامعنا دوي بعيد. اعتقدنا لوهلة أن احدى طائراتنا تجوب السماء بحثاً عنا. ثم لاح لنا من بعيد رتل من سيارات التويوتا قادم باتجاهنا من جهة الجنوب.. كان الرتل مكوناً من 15 سيارة ويسير في تشكيل يشبه رأس الرمح؛ مجموعة تتقدمه في المنتصف وعن يمينها ويسارها خطان من السيارات. أحاطوا بنا وتوقفوا. ارتمينا على الأرض مستسلمين وصوت في داخلي يقول بأنها نجدة من قواتنا الصديقة. أحد رفاقنا كان مستلقياً تحت نتوء صخري ينشد بعض الرطوبة. وجهوا له بنادقهم وأردوه قتيلاً. اختفى على الفور ذلك الصوت المطمئن..

صرخ الجنود الذين نزل بعضهم بلهجة عربية تشبه لهجة أهل السودان: قم قم. اركب. اركب. وفي ثوانٍ معدودة كنت جالساً في الصندوق الخلفي محاطاً بالتشاديين مذهولاً وعطشاناً ومنهكاً. نزعوا أحذيتنا وأمدّونا بالماء وانطلقوا عائدين.

لاحت في السماء طائرة ليبية مقاتلة فأطلقوا عليها زخات من مدافعهم الـ14.5 ملم المثبتة على صناديق السيارات وابتعدوا سريعاً.

وصلنا معسكر التشاديين في فادا.. أوقفونا بالقرب من شجرة يستظل بها رجلٌ أسمر يجلس على بساط من جلد الماعز ويلف رأسه بعمامة خضراء ويرتدي نظارة شمسية… تم استعراضنا أمام الرجل الذي نهض عند وصولنا.. إنه حسن جاموس قائد القوات التشادية الذي أدار معركة السيطرة على فادا قبل أيام.

حكاية جندي (١).. محاولة أولى للهرب من تشاد

معتقلون ليبيون، حرب التويوتا 1986-1987. المصدر: شهداء حروب تشاد (فيسبوك)

طمأننا جاموس بلغة عربية واضحة بانتهاء مرحلة الخطر وبأننا سننقل للعاصمة أنجامينا لنلعب البلياردو مع رفاقنا هناك. أوعز الرجل لجنوده بأن يعطونا باللغة العربية بعض الإيعازات العسكرية كالمسير والدوران ليتأكد من عدم وجود مرتزقة أجانب بيننا ثم ذهب إلى مجلسه. 

كان وقت الغداء قد حان: أزال أحدهم غطاء علبة زيت طعام فارغة بخنجر بندقيته ثم وضع فيها بعض الأرز والماء ووضعها على النار. بعد قليل رفع العلبة من على النار وصب ما في جوفها على صخرة وأمرنا بأن نتناول غداءنا…هذه بداية معرفتي بأرز السجانين التشاديين.. معرفة ستتوثق في مقبل الأيام.

 

الجزء الثاني: هزيمة أسرع من سيارة تويوتا

الجزء الثالث: تقنيات خاصة بمواصلة الحياة