fbpx

“العطل”.. هذه ليست لوحة إعلانات

يتناقض اللون الرمادي المصمت مع الغاية من اللوحات التي كانت مزخرفة ومزدحمة بالكلام والصور، هياكل عارية لا تعدو إلا أن تكون انعكاسًا فظًا ومظهرًا مرئيًا من مظاهر السقوط وقسوة الأزمة.
إلسي حداد
10 نوفمبر 2021

لو لم أكن مصورة، لكنت بالتأكيد سائقة، لطالما فكرت في المسألة وأنا خلف المقود أتحرك هنا وهناك في شوارع مزدحمة أتغلب عليها إلى أن أصل إلى غايتي. في الواقع، بعد أن نشأت في ضاحية بيروت الشمالية، كانت القيادة أمرًا ضروريًا بالنسبة لي للوصول إلى المدينة أو إلى أي مكان أحتاج الذهاب إليه، التنقل في المدينة ليس سهلًا بلا سيارة. 

من بين الأشياء العديدة التي أتذكرها من الطرقات، تلك اللوحات الإعلانية الكثيرة المتفرقة والموزعة بشكل عشوائي في كل مكان، مليئة بصور المنتجات والعارضات يبعننا كل أنواع الأشياء التي يمكن للمرء أن يتخيلها. 

وفي كل مرة كانت هناك انتخابات، امتلأت اللوحات الإعلانية بوجوه السياسيين والشعارات التي، لو تم تطبيقها، لكان لدينا نظام سياسي ومجتمع من الأكثر كمالًا ومثالية.

اوتوستراد بعبدا، عاصمة محافظة جبل لبنان

اوتوستراد جونيه، قضاء كسروان

نهر بيروت

لكن المرة الأولى التي أدركت فيها إلى أي حد نحن غارقون في فيضان من اللوحات الإعلانية كانت عندما زرت الجزائر العاصمة عام 2008؛ كانت المدينة أضعاف مساحة بيروت مع عدد قليل جدًا من اللوحات الإعلانية في شوارعها. تلك أيضًا كانت المرة الأولى التي شعرت فيها أن السماء كبيرة وإلى أي حد يمكن للمجتمع الاستهلاكي أن يحدّنا. 

أتذكر لوحة إعلانية رأيتها ذات مرة في شارع جان دارك في الحمرا لحملة ترحيبية لوزارة السياحة، تحتها مباشرة كانت تقبع كومة قمامة ضخمة. بعد أربع سنوات، غرق لبنان في أزمة اقتصادية حادة، إفلاس وتضخم، نقص في المواد الأساسية والسلع. وسرعان ما بدأت الصور على اللوحات الإعلانية تختفي. لم يكن هناك المزيد من المال للترويج لأشياء جديدة. ثم جاء الوباء، كان الأمر كما لو أن كل شيء ألفناه توقف. 

كفر قاهل، شمال لبنان

الكرنتينا، بيروت

اوتوستراد زوق مصبح، قضاء كسروان

خلال الإغلاق الأول، في مارس 2020، بقيت في منزل العائلة في “الضيعة” في الشمال. كنت أعود بانتظام إلى بيروت للاطمئنان على منزلي. في هذه الرحلات العديدة على الطريق السريع الشمالي بدأت ألاحظ هذه اللوحات الإعلانية الفارغة على جانبيه، هياكل معدنية ضخمة تعكس الفولاذ المقاوم للصدأ، يتناقض اللون الرمادي المصمت مع الغاية من اللوحات التي كانت مزخرفة ومزدحمة بالكلام والصور، هياكل عارية لا تعدو إلا أن تكون انعكاسًا فظًا ومظهرًا مرئيًا من مظاهر السقوط وقسوة الأزمة.

حتى اليوم لم تعلن أي من الشركات الإعلانية المتخصصة في هذا النوع من اللوحات في لبنان إفلاسها، سألتُ بدافع الفضول إلى أن عرفت أن الكثير منها خسر مواقع اللوحات لأنه لم يدفع إيجارها للبلدية أو لصاحب الموقع، وهناك شركات استغنت بنفسها عن المواقع لتخفف من ميزانيتها.

كان عدد اللوحات الفارغة يزداد كلما أخذت الطريق السريع مرة بعد مرة، وكنت أوقف سيارتي وأنزل، ألتقط الصور لهذه اللوحات الباردة، والتي بدت لي مثل كائنات جائعة وشاحبة، مع الوقت أصبح لدي الكثير من الصور التي وضعتها في مجموعة تعكس العطل الكبير ومن هنا أتى الاسم The disrupt أو العطل.

البترون، شمال لبنان

اوتوستراد شكا، شمال لبنان

اوتوستراد بلونة، قضاء كسروان

طريق انطلياس الساحلي، قضاء المتن

أدرك اليوم أكثر من أي وقت مضى صعوبة العيش في بلد يستهلك ولا ينتج شيئًا؛ في بلدنا لا بد لكل شيء أن يحمل اسم علامة معروفة لتجميل العطل الخفي والخلل العميق في منظومة العيش برمتها. طبقات فوق طبقات للتستر على الحقيقة. مثل عمليات التجميل واحدة تلو الأخرى إلى أن ينهار الجسم والجلد وتظهر الحقيقة.

كيف لم نر هذا؟ هل كنا جزءًا من اللعبة؟ هل كنا جميعًا عميانًا وجهلة؟ هل كنا نتغذى على الوهم؟ لم أصور تلك الإعلانات الرقمية الغريبة التي ظهرت في يوليو الماضي في بيروت، كانت العبارات على اللوحة الإعلانية في الطرقات تتشقلب وتتحرك إلى أن تستقر ويقرأ العابرون والسائقون عليها: “الحب هو الإجابة”، و”الصبر يجدي”، “السعادة هي المفتاح”، “الأمل هو كل شيء”.. لم أصور هذه اللوحات، ربما لم أرغب في تصويرها.. أو ربما لأنها سرعان ما توقفت عن العمل مع أزمة الوقود والكهرباء.

بيروت كما عرفتها تغيرت جذريًا وتحولت سريعًا إلى شيء آخر. الصمت يصمّ الآذان. أنا لست معتادة على ذلك. أشعر كما لو أن طبلة أذني تتراجع، كما لو كانت متورمة. 

تلك اللوحات الإعلانية التي كانت ترمز في يوم من الأيام إلى شيء قمعي جنوني مفروض علينا، تبدو اليوم كما لو أنها شهود جرى كتم أصواتهم، ربما تنتظر الآن أن يتم ملؤها كدليل على الحياة أو ربما أنها تقف كما لو كانت وعدًا بأن أيامًا أفضل قادمة.

بينما أقود سيارتي على الطريق السريع، بينما أتحرك في شوارع البلد المريض، أفكّر أننا استهلكنا الكثير حتى انتهى بنا الأمر إلى استهلاك أنفسنا.

 

وسط البلد، بيروت

الحمرا، قضاء بيروت

الكرنتينا، بيروت

البترون، شمال لبنان