لا يفصح صيف مونتريال عن ذاته بتؤدة، لا يأتي خجلاً أو متمهلاً، بل ينفجر كربيع ألف بلد، ليس ألوانًا فحسب، بل أيضًا أصواتًا بنغمات مغايرة ترشح حياة وفتوة. فبعد انحشار طويل تحت طبقات الثلج، لا توقظ المدينة نداءات الطبيعة، ولا قهقهات العجائز وثرثرات الأطفال الذين تحرروا من عبء المعاطف. ما يعلن قدوم الصيف بلا رجعة، هو زئيرٌ متفجر كعين بركان، هدير وحوش من نيكل وكروم، يمتطيها سائقون وسائقات يرتدون الجلود، تزينهم الوشوم الملونة حينًا، وأخرى حيادية بلون الفحم. لا ينقصهم الاستعراض، يلفّون أرجلهم بأحذية عالية الساق، ويغطون أجسادهم بقشرة من الغطرسة المحببة والادعاء المتقن. يتبعون هواهم، يمشون بخطى متباعدة، أعصاب مشدودة، وهيئة معتدة بنفسها، كأنها أسلوب حياة لا يمكن وصفه إلا بأنه مزيجٌ من التمرّد والسحر، سواء شاء ذلك كل منضبط أم أبى.
بينما يمضي أصحاب الوظائف بظهور متقوسة، وكرافاتات حيادية الخياطة، وحقيبة لابتوب، وبدلات ثلاث قطع مكررة حتى البؤس، أولئك المستيقظون فجراً، يجرّون خيبتهم وروتينهم كذيل ثور، يتجاهلون نداءً يرنّ في وجدانهم كأجراس الندم، يتركون الشوارع لتبوح بمفردتها الأكثر صيفية على الإطلاق، ليلحقوا بعربات المترو في أوقات ثابتة، كرقم نهائي في جدول الرواتب.
وهم غافلون عن الطرقات المعبدة بالمغامرة والحلم، الضاجة بغنج الفتوة المتقافزة على ظهور الدراجات النارية. إذ إن فتوتك لا تتحدد بعدد سنوات حياتك، فلا يهم إن كنت في الأربعين أو الثمانين، فعلى ظهر الدراجة النارية الكل يتحولون شباباً. ولكي تكتمل فتوتك، وإحساسك الهائل بالحياة، والفن، والمتعة بعد شتاء همجي، لا تستطيع سوى امتطاء الهواء، فلا يلزمك لإتمام الصيف سوى سائق دراجة نارية يقرأ لك الأدب أو يلهمه.
لطالما كانت الدراجات النارية مصدر إلهام مبهراً للجمال في الأدب والفنون، فمنذ اختراعها في أواخر القرن التاسع عشر، عام 1894، وهي لا تنفك تلهم البشر بمختلف حساسياتهم ومرجعياتهم المعرفية. فركوب الدراجة النارية يحرض على رؤية الذات بشكل مغاير، إذ يكفي أن تصعد وراء مقودها أو خلف سائق متمكن، حتى تُصنع لك صورة سحرية، تقود حواسك صوب المفاهيم الكبرى، فتجد على حواف صورتك تلك آثار الزيت المبارك للحرية والتمرد والمغامرة، تباركك هناك فوق الطريق المفتوح على الاحتمالات.
ركوب الدراجات النارية.. تجربة برنين بعيد
لا يمكننا فهم هذه الظاهرة منفصلة عن تجربة حياة تفاعلية مغرقة في الذاتية، متجذرة في الوعي، ليس الجمعي، بل الوعي ذي الفردية العالية، حيث تتشابك هذه المقاربة مع مفهوم الحرية كجوهر، وتتناقض معه في ذات الوقت. ففكرة الحرية مطلقة بفردية تامة لا تتحمل الشراكة، إذ إن أساسيات حالة الانعتاق هذه، وشكلانيتها وشرطها الجمالي، تتطلب أن يعيشها الفرد بكامل وحدته، كحالم يقود مصيره، ممتطيًا القدر، ومعتنقًا الطريق. لكن هنا، في قيادة الدراجة، تقتضي فرديتك الشراكة بحتمية لا يمكن الاستغناء عنها أو التحايل عليها، كونها شراكة حسية، لا بين روح وروح كما كان يحصل في الماضي، عندما كتبت القصائد ورويت المرويات وحيكت آلاف الحكايات والأساطير عن الفارس المغوار وخيله، رفيق الطرقات وساحات الوغى. فالعلاقة هنا هي علاقة القرن الجديد مع ما أنتجه العقل في هذا العصر، إنها تواصل شاعري وإنساني بين مخترع ومرآة اختراعه الآخاذة، تفاعل بين مُبدع (creator) وآلة صممها وهندسها ذلك العقل.
هذه العلاقة الفرانكشتاينية الصماء لن تكون صماء تمامًا، إذ يتحدث ممتطو هذه الآلات الأيقونية الجمال بإجماع عن حالة تشبّع، تفهّم، تعشيّق، وقراءة “بريلية” للعماء والطوطمية، لروح المعدن وصوت الاحتراق في خزانات الوقود، وتجليات صوفية في زئير جسد معذب تسوطه ضغطات أيدٍ متمرّسة، هائلة الحساسية ومتعددة الخبرات، تجمع بين القوة والتردد، بين الدعة والعنف، تتناوب بين مقابض المكابح والوقود، وتفصح عن ذاتها كممارسة أليفة للحب.
من يلبي النداء الجمالي الاختباري للدراجات النارية؟
في تعقّب شديد الإصرار على إيجاد الجوهر وتحديد القصدية، يسعى فلاسفة ومنظّرو الفينومينولوجيا، الفلسفة التي تدرس الظواهر، إلى تحديد البنى الأولية لفكرة التجربة، وتصميم هيكل لمعنى الاختبار باعتباره ممارسة أولًا، وتفسير الواقع من خلال تلك الممارسة، مرتبطًا بالقصدية، أي بـ”النية الواعية” المتمثلة في التمحور حول شيء مادي، متواشج عضويًا مع مضمون فكري (abstract)، تاركًا جوهر “التجربة” ليترنّح بين شيء ملموس مادي التجسّد وآخر جمالي فلسفي.
وهكذا، عندما يكون تشبّع الحواس انغماسيًا حدّ الغرق، وحسيًا كفعل تنويري، تصبح قيادة الدراجات النارية “تجربة” تستدعي التوقّف والتأمل في التحليل. إذ ليس خافيًا أن ركوب الدراجة النارية ينطوي على حالة عالية من التنوير بمعناه التوعوي. فكثيرًا ما يصف راكبو الدراجات النارية الشعور بملامسة الرياح، وتفاعلهم مع اهتزازات المحرك، واحتكاك عجلات دراجاتهم بالإسفلت، بأنه جزء لا يُستهان به من التجربة. حيث ترتبط حركات جسم الراكب ارتباطًا وثيقًا بحركات الدراجة النارية، فالميلان المنسجم بتناغم مدروس مع المنعطفات، واستشعار التوازن في جسد معدني، وتحسس درجة التحكّم، ثم الإفلات وترك الذات للسرعة، لا يتمّ إلا بروح صوفية تصبو إلى الانعتاق. إنّ كمية الطاقة المضخوخة في جسد هذا الكائن المعدني، الذي يتواءم السائق معه في رقصة أولية شديدة الغريزية، لا يتم ضبطها عبر الأرجل، بل من خلال تواتر النبضات المنبعثة من أيدٍ متمرسة، تخلق إحساسًا بالتلاحم والتوحد بين يدي الراكب وجسد الآلة.
الأناقة.. ميكانيكيًا أيضًا
غالبًا ما تُستخدم الجوانب الميكانيكية للدراجات النارية – مثل التروس والمحركات والعجلات – كاستعارات للعواطف الإنسانية والعلاقات وتعقيدات الحياة. حيث يتشارك سائقو الدراجات النارية حالة من التعاطف والاشتباك الميكانيكي، إن جاز التعبير، إذ يصبح فهم الجوانب الميكانيكية للدراجة النارية والشعور بها، وقراءة همساتها، همهماتها، أصواتها الحرون، المتعبة، أو المختنقة بفعل الاحتراق، وتحسس الاحتكاك والجهد المبذول من المحرك، مهمة تقع على عاتق شريك لا يكلّ عن الترقب. إذ تحمل أصوات المحرك تفسيرات غير تقليدية، قد تُثير حُمّى اللغة وإلهامات تبدو مدعاة للسخرية لمن لم يخبروا تجربة القيادة، فطول الصحبة يُعلّم لغةً أخرى لحبيبة صمّاء لا تملك سوى همهماتها لتبثّ تعبها، همّتها، أو تعافيها بين يديك.
الدراجة النارية في المرويات
سجّلت الدراجات النارية، بصورة تلقائية، انحيازًا تامًا ونهائيًا لموضوعات الحرية واكتشاف الذات، وعزّزت مفهوم الرحلة بمعناها الحرفي والمجازي. إنها تجربة “راكب” آلةِ زمن، كبسولةٌ مجازية، شرنقةٌ تنقلك وتحوّلك لتصبح فراشًا ملونًا، جاهزًا للتحليق بمعانيه المنتجة تحت سمع وبصر المغامرة. حيث يحتويك فضاء مشرّع يتيح التحوّل، ويمنح احتمالاتٍ تأتي بها الطرق، بالمعنى الفلسفي، حيث تُقاد الشخصيات لا عبر المناظر الطبيعية وحدها، بل داخل صمت لا يفهمه سوى معتنقي السفر بوصفه فعلًا ارتحاليًا أوليًا في جغرافيا الوجود المحسوس.
ليسوا كتّابًا فقط.. بل مخزّنو تجارب
ما بين “الزن وفن صيانة الدراجات النارية” لروبرت إم. بيرسيج، و“ملائكة الجحيم: الملحمة الغريبة والرهيبة لعصابات الدراجات النارية الخارجة عن القانون” لهانتر س. طومسون، و“قافلة رجل واحد” لروبرت إديسون فولتون جونيور – الذي يروي فيه رحلته حول العالم بالدراجة النارية في ثلاثينيات القرن الماضي – أو “صنف المتجر كـ Soulcraft” لماثيو ب. كروفورد، وهو تحقيق في قيمة العمل اليدوي في العصر الرقمي، حيث يستخدم الكاتب خبرته كميكانيكي ليقدّم مرافعات أخلاقية وفلسفية عن الرضا المستمدّ من العمل اليدوي. أما في “رحلات المشتري” لتيد سايمون، فتُروى رحلته بالدراجة النارية حول العالم، والتي استمرت أربع سنوات. داخل هذه المرويات، تصبح الدراجة النارية رمزًا للحرية المنعتقة من قيد العالم المادي، لكنها أيضًا أداةٌ راقيةٌ للتواصل ومنح الإلهام، لمطاردة الأحلام، ولتشكيل روابط يصعب انفصامها مع الأشخاص والأماكن. وفي “الراكب الشبح” لنيل بيرت، عازف الدرامز في فرقة “راش“، تتجلى الرحلة بالدراجة النارية كوسيلةٍ للشفاء واكتشاف الذات، عقب مآسٍ شخصية قاسية. أما “الركوب مع ريلكه: تأملات في الدراجات النارية والكتب“ بقلم تيد بيشوب، فهو مذكرات تجمع بين حبه للدراجات النارية وشغفه بالأدب. فهل سيكون مفاجئًا، بعد كل هذه الأعمال وغيرها العشرات، أن نجد كتابًا بقلم مفجّر الثورات الأول وهو يقصّ يومياته من على دراجة نارية؟
غيفارا مغامرًا كما دوماً
“يوميات دراجة نارية” – بهذا العنوان المباشر والمقصود – يكتب تشي غيفارا مذكراته، حيث تأتي مقدمته مترجمة على يد كاتبة هذه السطور:
“هذه ليست حكاية عن الجرأة، ولا نوعًا من ‘الروي المتهكم’، على الأقل، لم يكن هذا القصد من وراء روايتها، إنها اقتطاع وافر من تفاصيل حياتين وقعتا بالتوازي، تحملان تطلعات مشتركة وأحلامًا متشابهة. حيث يمكن لرجل أن يفكّر كثيرًا خلال تسعة أشهر، بدءًا من ذروة مساءلاته الفلسفية، مرورًا بحنين ‘مبتذل’ لطبق حساء يمنحه كمالًا وانسجامًا مع معدته. وإن كان، في الوقت ذاته، مغامرًا إلى حدٍّ ما، فها هو قد اختبر ما يثير اهتمام الآخرين أيضًا. بينما تروي حكايته الاعتباطية شيئًا شبيهًا بهذه اليوميات”.
يوثّق الكتاب، بأدبية عالية، الرحلة التي قام بها غيفارا وصديقه ألبيرتو غرانادو عبر أمريكا الجنوبية، وهما في منتصف العشرينيات من عمريهما. تتناول المذكرات تجاربهما، والتحديات التي واجهاها، والأشخاص الذين قابلوهم، وتأملات غيفارا الفلسفية والسياسية خلال الرحلة، حينما عايش الفقراء، والمنبوذين، والمصابين بالجذام في مستعمرات معزولة، حيث شكّلت هذه التجارب وعيه الثوري لاحقًا.
أدبيات القيادة كفعل تحكّم وتحديد مصائر
يدلّنا الأدب على الطريق، يحدّد لنا المفاهيم لنعتنقها ونرسم مصائرنا. ففي سيمفونية الفولاذ تلك، في هندسات الإتقان، واجتماع العلم بالمخيلة تحت السماوات المفتوحة، يهمس سائقو الدراجات النارية بأسرارهم عن الحرية وللحرية. يعجنون قوانينهم على مهل، يُخمّرون الأفكار، ويخبزون تجاربهم تحت شموس العزلة. تبدأ الرحلة بقلبٍ جامح، حيث يصبح الطريق قماشةَ حياةٍ مفرودة، بلا اسم خاص. تصبح اللا فردية فعلَ مشاركة، لكنها فرديةٌ حدّ الإعجاز. فها أنت تعبر الممرات المتعرجة والسهول المفتوحة بسيارتك المغطاة، بينما يرقص فرسان العصر الحديث فوق “خيولهم” الحداثية، مستعيدين مرويات العبيد المحرَّرين، كاسري سلاسل الفولاذ والخارجين عن قانون العادة وأحكام التكرار. حيث تجد النفوس “الميلانكولية” عزاءها في عزلة الريح، بينما تُرسم التأملات ويلتقط الأدب جمال الرحلة. فتتسارع الاستعارات، وتشتعل الرمزية في أصداء انفجارات لا تتوقف لمحركاتٍ مشتبكةٍ بشعرية الطريق، حيث يُخزَّن جوهر التجربة، لا في الروح فقط، بل في مرويات الساردين.