fbpx

ملابس لا ترتديها الإنفلونسر

في الجزائر جيل من الملابس ينسحب خلف الستار تاركاً الساحة لتشكيلة متضاربة من القطع.
ــــــــ الملابس
7 ديسمبر 2020

“صباح الخير الحاجة”.. يقول محصل التذاكر بصوت بشوش وهو يمد يدا تنتشل القفة من الأرض، واليد الأخرى ليساعدها على الصعود للحافلة. تدعو له وللجميع بالخير بينما تتوجه لمقعد تطوع به أحدهم حال رؤيتها. يجذب ناظري الحايك الذي تضعه، صرت لا أراه كثيرا، ازار أبيض مصفر، تشد طرفيه تحت ابطها الأيمن، بطريقة ما يحافظ على ثباته دون الحاجة لتدخلات المساسيك.

بجانبها تجلس سيدة تلتحف سوادا من أخمص قدميها لقمة رأسها، على وجهها نقاب لا يكاد يخفي وجهها إلا ليبرز جمال عينيها المكحلتين، تهز رضيعها الذي يتعلق بصدرها أملا أن تطعمه. مستندة على العمود الحديدي، تقف أخرى على مقربة منهما سارحة النظر، شابة تلف شالا أحمر كالمستحضر الذي تضعه على شفتيها. يتدلى من شحمتي اذنيها قرطان ضخمان، وينساب على جيدها الظاهر خيطا سماعات الأذن بينما تندس نهاياتهما في حقيبة الغوتشي السوداء. تظهر بقعة جلد من ركبتها شبه المثنية، تبين عن بياض تحت الجينز الذي يشي بساقين رشيقتين. على السويت شيرت عبارة تتخلل وسطى كلماتها نجمتان.. “I Don’t Give a F**k about Anything”.

أحمل فسيفساء الملابس هاته في ذهني طوال طريق عودتي للمنزل، يخطر ببالي أن جيلًا من الملابس التي اعتدت رؤيتها في طفولتي على النساء حولي، يمشي بخطى متسارعة نحو الاندثار، بينما تغزو المحلات قطع بهويات مختلفة، لا يوحدها قالب ولا يجمع بينها رابط.  أقلب ذاكرتي سريعاً، فتتراءى لي وجوه حية لنسوة من محيطي، بملابس مختلفة، وقصص أكثر اختلافاً.

أحمل مذكرتي الصغيرة وانطلق في رحلة ممتعة لتقصي قصص بعض القطع، من عند نساء ارتدينها، أو يرتدينها. أجدني في ضيافة جدات يخبئن الحلوى كما الحكايا، تحسباً لأي زائر. أول باب أطرقه، لأكبر فرد في العائلة، خالتي شريفة.  

اللْباس.. من رداء يومي إلى بدلة مناسبات

على ماكينة الخياطة “سنجر” التي اشترتها منذ أكثر من ستين سنة، تجلس خالتي شريفة تومي (87 سنة)، تعدل لباسها الحريري الأزرق بنهايات من دانتيل أبيض. على الطاولة كرات صوف وقفازان مغروزٌ في أحدهما إبرة كروشيه، تخبرنا أنها تحضّرهما تحسباً لبرد الشتاء. بذهن وتركيز حاضرين، تتذكر خالتي شريفة ما كانت تلبسه هي وبنات جيلها منذ الصغر. 

ملابس لا ترتديها الإنفلونسر

السيدة شريفة. تصوير: أمينة صابور

درست شريفة في مدرسة ابتدائية فرنسية خاصة بالبنات وسط مدينة البرواقية التي كانت كباقي الجزائر وقتها مستعمرةً فرنسية. تخبرنا أن المعلمات كن يعاملنهن بمساواة، وأن طريقة اللبس كانت هي جل ما يميز بين الفرنسية والجزائرية.

في الوقت الذي ارتدت فيه الفرنسيات تنورات بأقمصة مزررة، أو بناطيل بكنزات صوفية، ارتدت شريفة وزميلاتها الجزائريات السروال المدور، واضعة على رأسها “فوطة” القبايل المزركشة.

في مدرسة L’Ouvroir تعلمت شريفة اللغة الفرنسية والحساب، إضافة لكل المهارات المنزلية، من طبخ، تربية أطفال، تنظيف، زراعة منزلية، وكذلك الخياطة التي صارت حرفتها بعد أن توقفت عن الدراسة، هذه الأخيرة كانت امتيازاً حظيت به القليلات فقط من قاطنات المدن. تقص لنا شريفة كيف أنها كانت تخيط لأبنائها وكذا لنساء الجيران وأطفالهن، إضافة لمزاولتها النسيج والغزل، أهم الحرف التي اتخذتها المرأة حينها مصدراً لإعالة الأسرة. 

ملابس لا ترتديها الإنفلونسر

ورشة خياطة في القسم الذي درست فيه السيدة شريفة بداية الأربعينات. مقتنيات السيدة شريفة.

كانت شريفة تخيط الملابس المنزلية وقتها، التي كانت عبارة عن “اللباس”، أو السروال المدور والكاساكة (سترة من قماش أو صوف). أما في المناسبات فكن يرتدين سروال “الشلقة”، وهو سروال عريض بشقين على الجنبين، يظهر منهما ساقا المرأة. اللباس كان أيضا يلبس في المناسبات، يضاف إليه السخاب (عقد طويل من حبات العنبر)، شنشوف الويز (عقد من أقراص من ذهب)، تتعطر النساء بالمسك وتضعن الكحل والحناء للزينة.

كانت النساء الكبيرات يضعن “البخنوق”، وهو ازار أبيض طويل يوضع على الرأس تلفه عصابة، ويحكم بشماسة (اكسسوار من فضة). تخبرنا أن “الشدة”، وهو شال تلفه المرأة على رأسها، كان شائعا بين أغلب الجزائريات. 

تخبرنا شريفة أنها ارتدت اللباس حتى الثمانينات، حين بدأت المحلات تبيع الأثواب الجاهزة، وهنا بدأ انحسار اللباس ليصير خاصاً بالمناسبات فقط، وبدأت النساء ترتدين قطعاً أخرى داخل المنزل كالجبة، وهو ثوب أضيق من قماش القطيفة. وهنا تناقص الطلب على الخياطات المنزليات كخالتي شريفة إلا لأغراض الترقيع وما شابه.

الستينات.. لباس متحرر بذهنية محافظة

في نفس مدرسة خالتي الشريفة، تلقت السيدة خديجة بن دالي براهم دراستها في الخمسينات، لم تزاول الأعمال اليدوية في الورشات، وواصلت دراستها في المتوسطة حيث اتقنت الإسبانية إضافة للفرنسية.

خديجة التي مازالت تحتفظ بأرشيف صورها منذ نعومة أظافرها، أخبرتني كيف أنها اعتادت لبس آخر صيحات الألبسة في شبابها، رغم أن أمها وجدتها ارتدين التقليدي. “كان أخي الأكبر يبتاع لنا ملابسنا جاهزة من الجزائر العاصمة، ولم يكن هناك من فرق بين ما نلبسه والفرنسيات”.

رغم أن الوضع المادي لأسرتها لم يكن ميسوراً، إلا أن اللبس الجيد كان أولوية.  تذكر لي خديجة أن بعضاً من زميلات صفها واصلن الدراسة الثانوية وانتهين بمناصب إدارية وحتى سياسية، خاصة بعد الاستقلال. 

لكن لباسهن المتحرر، لم يعكس حرية في حيواتهن. تروي لنا خديجة كيف أن أخاها منعها من مواصلة الدراسة، وكيف أنها كانت تتسلل دون علمه لقضاء بعض حوائجها. 

ملابس لا ترتديها الإنفلونسر

جدة السيدة خديجة. المصدر: ألبوم السيدة خديجة.

ملابس لا ترتديها الإنفلونسر

أم السيدة خديجة بالسروال المدور. المصدر: ألبوم السيدة خديجة.

ملابس لا ترتديها الإنفلونسر

السيدة خديجة وزميلاتها في المتوسطة. المصدر: مقتنيات السيدة خديجة.

 بزواجها ارتدت خديجة الحايك، الذي صار بمثابة إعلان على أن صاحبته متزوجة، ثم الجلابة المروكية (المغربية) التي اشترتها حين زيارتها للمغرب في السبعينات. نسألها هل كان الدافع لارتدائها الحايك والجلابة دينياً، فتخبرنا أن الدافع كان عرفاً بحتاً، وأنها لم تبدأ بسماع الفتاوى الدينية المتعلقة بلباس المرأة إلا في الثمانينات.

“حين ارتديت الجلابة لأول مرة في الشارع، أحسست بالغرابة والإحراج وكأنني بلباس منزلي. النسوة طالعنني بنظرات متعجبة، ذلك أن أغلبهن كن يرتدين الحايك ولم تصر الجلابة شائعة إلا بعد فترة”. يبدو أن الجلابة بتطريزاتها وتصميمها الذي يبين قامة المرأة أكثر من الحايك، كانت أقرب إلى ما ترتديه النسوة داخل البيوت لا في الشارع. لكنها صارت مقبولة تدريجياً باستيراد المحلات لها بفضل الحركة التجارية بين حدود الجزائر والمغرب وقتها. 

تخبرنا خديجة أيضا كيف أن لباس النساء الريفيات تغير تدريجياً بدخولهن المدينة بعد الاستقلال، كيف بدأن بالتخلي عن البخنوق والشدة.

تشير لصورة أم زوجها الموضوعة في إطار أسود في مكتبة الغرفة. الوشوم على وجهها، الضفيرتان وحلق الأذن الضخم كلها تدل على أنها من الريف، حيث أن هاته لم تكن من مظاهر نساء المدينة، وياقة القميص البارزة تشير إلى التحول الذي طرأ على لباسها، حيث أن القمصان بالياقة كانت تخص نساء المدينة أكثر، بفضل امتلاكهن ماكينات الخياطة التي هي ضرورية لصنع هكذا قطع، وكذلك بسبب احتكاكهن المباشر بالفرنسيات وتقليدهن في بعض أزيائهن.

ملابس لا ترتديها الإنفلونسر

والدة زوج السيدة خديجة. المصدر: مقتنيات السيدة خديجة.

الجلباب… من دخيل إلى شائع

بداية من السبعينات، بدأ التغير في لباس الجزائريات في الشارع يعكس مدى تأثير المدين الإخواني  والوهابي. وضعت بعض الجزائريات الاسدال، وهو خمار طويل يغطي الصدر وقد يصل للركبتين، على عباءة فضفاضة بلون موحد، وكان هذا تجاوباً مع الحركة الإخوانية التي عاودت النشاط السياسي والعمل الجمعوي خاصة في الوسط الطلابي.

بينما لبست الأخريات الجلباب السعودي، وهو قطعة واحدة سوداء بذيل يُسحب على الأرض حين المشي، مع جوارب وقفازات وأحياناً مع برقع يغطي الوجه ولا يُظهر إلا العينين. هذا الأخير لاقى استهجاناً كبيراً وقتها، لأنه كان يرمز إلى التطرف الديني الذي بات يلقي بظلاله على الجزائر في نهاية الثمانينات.

صار المؤيدون للجلباب يرافعون بسترته وعفته، وكرسوا له من الحملات حتى صار رمزاً للعفة. ويكفي أن نلقي نظرة واحدة على لباس الجزائريات قبله من حايك، جبة القبايل، الملحفة، وغيرها ما يختلف بين منطقة وأخرى، لنكتشف أن لباس الجزائريات كان دائماً مستوراً وأنيقاً في نفس الوقت.

تخبرنا سمية، طالبة دكتوراه مقيمة بتركيا: “انتشر الجلباب كثيراً في مطلع الألفية، بعدما كان تقريباً حكراً على زوجات السلفيين، و كان مرفوضاً في المجتمع وكانت تطلق على اللواتي ترتدينه ألقاب من قبيل “الخيمة، والغولة”.  أنا نفسي تعرضت لضغط كبير من المجتمع والعائلة حين ارتديته.  ثم صارت حتى الشابات ترتدينه، هنا بدأ يطرأ عليه تغيير وبدأت المصانع الجزائرية تخيطه، وتحول إلى قطعتين: تنورة وقطعة علوية.  وهذا ما جعل قبوله أسهل، وصارت له ألوان فاتحة أكثر، صار يلبس مع شالات ملونة، ومع أحذية رياضية، هنا تخلى الجلباب عن جانبه الديني، وصار مجرد موضة رائجة.”

تضيف: “حتى أنه صارت هناك ظاهرة شائعة وهي ارتداء الجلباب لاستقطاب الخطاب، حيث أنه صار رمزاً للحياء والعفة. بالنسبة لي ارتديت الجلباب ليس اتباعاً لحزب معين، بل لأنني أعجبت بشكله، لأني أميل إلى الملابس الفضفاضة، وصارت لي تشكيلة متنوعة ملونة منه: إماراتي، سعودي مصري، وحتى الفرنسي. أحس بالراحة وأنا أرتديه، ولا يعيقني أن أكون أنيقة به”.

جيل الألفية وعولمة الملابس

في ركن هادئ وأنيق، تخلق مروة بوقارة عالماً من الألوان والتصاميم، تشاركه مع متتبعيها على منصاتها على السوشيال ميديا، الذين قارب عددهم على الثلاثين ألف. 

تحافظ مروة على بساطة ملبسها رغم أنها تتابع صيحات الموضة والمصممين، أحد الأسباب حسبما عبرت، أنها لا تجد دائماً ما تريد شراءه، في ظل الخيارات المحدودة التي تعرضها المحلات “إن ارتديت شيئاً غالباً ستجدين عشرة أخريات على الأقل يرتدين مثله”. حالياً تتعلم مروة الخياطة، وهي تخطط لتلبس ما تصممه في المستقبل. 

ملابس لا ترتديها الإنفلونسر

المصدر: انستجرام.

على السوشيال ميديا تظهر مروة غالباً بالتوربان الذي بدأت وضعه منذ قرابة عامين، لأنها أعجبت بشكله، تخبرنا أن المسألة ليست أنها تفضله على الخمار العادي بقدر ما الأمر متعلق بتغيرات مزاجها، ذلك أنها أحياناً تضع الخمار العادي.

بالنسبة للانتقادات حوله تقول “أنا لا أبالي بها لأني أؤمن أني حرة في لبس ما أريد. لا مجال للهرب من الانتقادات مهما كان نوع لبسك”. 

تحكي لي مروة عن شغفها وشعورها بالانتماء لعالم الأزياء “وكأني ولدت لأفعل هذا”. تخبرني كيف أنها تعلمت ذاتياً عن طريق الانترنت مهارات التصميم، وكيف أنها تعتبر موهبتها مكتسبة وليست ربانية. حالياً، تحاول مروة مشاركة ما تعلمته على منصة اليوتيوب.

أسأل مروة عن رأيها في اللباس التقليدي فتحكي لي كيف أنها تلبس بعض القطع في الأعراس التي هي دائما برعاية اللباس التقليدي الذي تلجأ له مجتمعاتنا هرباً من اللبس العاري. تحب اللباس التقليدي لكنها لا تؤيده كثيراً، ترى قيمته الفنية من ناحية تصميمه وخياطته، لكنها ترى أيضاً أنه وبسبب التمسك الشديد به فنحن ننسحب من المنافسة العالمية.

المفارقة كما تقول مروة “رغم أننا متمسكون به إلا أننا لا نسوق له كثيراً.  هناك حادثة وقعت قبل فترة وهي أن المصمم ايلي صعب تبنى سترة الكاراكو في تشكيلته دون الإشارة إلى جزائريتها، كنت ضد البلبلة المستنكرة التي وقعت لأنني ألومنا نحن الجزائريين، نحن لا نقوم بواجب التسويق كما يجب”.  تضيف مروة أن القفطان مثلاً، ليس مغربياً ولا جزائرياً بل عثمانياً في الأصل، لكن ولأن المغرب يسوق له صار معروفاً بأنه مغربي. لا تعول مروة على التقليدي لأنها لا ترى له مكانة كبيرة في الموضة العالمية.

بين خالتي شريفة ومروة، جيل من الملابس ينسحب خلف الستار، تاركاً الساحة لتشكيلة متضاربة من القطع. عند خروجنا من بيت شريفة، قالت متحسرة: “ايييه على زمان السترة، كان كل شيء مباركاً، غابت السترة فغابت البركة”. أستحضر العبارة وأنا أتأمل في التفاصيل الساحرة لرسومات مروة، هذا الفن إحدى البركات أيضاً، بركة جميلة.