fbpx
من كتاب القراءة في المرحلة الابتدائية في لبيبا. تصميم: خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

ملابس ليبية واحدة.. مجتمع واحد

حكاية الملابس الليبية خلال مائة عام.. من الاستعمار الإيطالي إلى ما بعد القذافي.
ــــــــ الملابس
6 ديسمبر 2020

في طفولتي لم أعرف أحداً لم يُلقب بلقبٍ التصق به، وكنتُ الوحيد بين الجميع الذي التصق به اسمٌ يدل على ملابسه، “شورتات طماطم”، هذا كان لقبي الذي عرفت به في الحي.

كنتُ أرتدي شورتاً أحمر فاقعاً مليئاً بثمار الطماطم البيضاء، يصل الشورت إلى منتصف فخذي أخرج به للعب في الشارع الترابي، أحببتُ ذلك الشورت لكن اللقب المزعج كان يطاردني إلى بدايات وعيي بالملابس، وبتحفيز من والديْ خضتُ تجربة التماهي مع ملابس أقراني.

أذكر أنّ أبي اصطحبني وأخي الأكبر في التاسعة من عمري إلى خيّاط ليخيط لنا بِدلاً، وعلى غرار البدل التي ارتداها والدي وجيله بالقرواطة (الاسم المحلي لربطة العنق)، بدلتي التي فُصِّلت لي كانت عبارة عن سروال من قماش صيني رخيص وقميص صيفي من نفس القماش بلون رصاصي، كنتُ حين أرتديها أشبه الأطفال الشيوعيين في الصين الشعبية، بالطبع لم أكن واعياً بذلك في تلك الفترة، لكنني لم أحبها.

مطّلين ومبتلز، بين اللباس التقليدي والحداثة 

في بدايات القرن العشرين اختلط السكان المحليون بملابسهم التقليدية المتمثلة في الفراشيّةالمغاربية البيضاء للنساء واللباس الليبي فوقه الفرملة للرجال، بالمستوطنين الإيطاليين ببدلاتهم الرسمية، صار بعض المغامرين من المحليين يحاولون تقليد سكان البلاد الجدد، مجموعات من الشباب الليبي بدؤوا ينزعون ملابسهم التقليدية ويرتدون البدلة الإيطالية في أماكن عملهم، سباقات السيارات، وصالات السينما.

 “كان الإيطاليون يلتزمون بارتداء البدلة الرسمية في السينما، لهذا من أراد من الليبيين أن يدخل السينما، تعيّن عليه أن يرتدي مثلهم، يقول لي الكاتب الليبي إبراهيم حميدان، وبهذه الصدفة المحضة، كونه لم يثبت عن حكومة الاحتلال الإيطالي أي اهتمام بنشر ثقافتها في مجتمع السكان المحليين، ونظراً لحاجة المستوطنين للتواصل مع السكان المحليين واكتشاف المجموعة الأخيرة لنمط حياة وثقافة الأولين بدأت قصة الملابس الحديثة في ليبيا

واجه الليبيون الأولون المرتدّون عن لبس الجرد والبدلة الليبيةمجتمعاً حصرهم في خانة أتباع العدو المستعمر، وكانت ملابسهم وصماً للعارالذي ألحقوه بأنفسهم، فصاروا مطّلينينيرتدون البدل الرسمية بالقرواطة والميني جيب، لكنّهم أصرّوا على ذلك وأتاح لهم الاستمرار في نهجهم التنوع الثقافي والإثني كون طرابلس والمدن الكبرى حواضن لأعراق مختلفة.

حماية الحكومات المتلاحقة لحقّهم في اختيار ملابس مختلفة حتى إذا تم نبذهم اجتماعياً، جعل فئة من الليبيين يتّبعون الموضة؛ في الخمسينيات ومنتصف الستينيات كانت البدلة الإيطالية للجنسين دليلاً على الحداثة بين طبقة الموظفين وطلاب الثانوية العامة والجامعيين.

ملابس ليبية واحدة.. مجتمع واحد

طرابلس بداية السبعينات. المصدر: صفحة ليبيا الماضي والحاضر. فيسبوك.

كان الشباب الليبي مغرماً بالبدلة الرسمية، حميدان وبعد أول راتب تلقاه من عمله في مؤسسة النفط عام 1976 اشترى بدلة رسميةً بعشرة دنانير اقتطع سعرها من معاشه الذي كان ستين ديناراً، كان يرتاد كغيره من الشباب دكاكين حلاقة الشعر بعد شراء ملابسهم الحديثة ويذهبون للمصوّراتي حتى يلتقط لهم ذكريات مع ملابسهم الجديدة

انتشار موضة الروك آن رول وشهرة فرقة “The Beatles” وسطوع نجم موسيقى الريغي، حول الموضة إلى نوع من الهوس، وبات الشباب يتتبعون موضة سراويل البلو جينز والبتلسوالقمصان المزركشة المفتوحة في منطقة الصدر والنظارات الشمسية الواسعة والأحذية الجلدية وقصات الشعر الأفرو أو الكاصكو كما تعرف محلياً، وتحول من يهتم بالموضة الغربية ويرتدي الجميل من الثياب من مطّلينإلى إمبتلزنسبة للبيتلز.

ملابس ليبية واحدة.. مجتمع واحد

أواسط السبعينات. من مقتنيات ابراهيم حميدان.

ربطة العنق الصليبية والثورة على الملابس

الاحتفاء بالملابس لم يطُل كثيراً، ففي الخامس عشر من إبريل 1973 خرج العقيد الشاب معمر القذافي من مدينة زوارة الليبية ليعلن الثورة الثقافية على كل ما هو رجعي، رابطاً الرجعية بالمملكة الليبية المتحدة التي أطاح بها في سبتمبر 1969م وتبعيتها للغرب، وأذّن القذافي بعصر انعتاق الجماهير.

تحولت الدولة الليبية بمحاربتها للملكية الخاصة في كل شيء حسبما بشّرت فصول الكتاب الأخضر الصادر في سبتمبر 1976 للعقيد معمر القذافي والذي بشّر بالملكية العامة: صار البيت لساكنه، كما أنّ القذافي حذر من أنّ لا حرية لشعب يأكل من وراء حدوده، ولكنّ بشارة دون غيرها قضت على حركة التجارة والأعمال الخاصة في ليبيا آنذاك.

كانت البِشارة تقول بأنّ الجميع شركاء لا أجراء، هذه البِشارة وضعت حجر الأساس لانقضاء عهد الروّاد من رجال ونساء الأعمال الذي كان ينتعش في ستينيات القرن العشرين وتحوّلت تلك الممتلكات والشركات الخاصة إلى الدولة الليبية.

كان ذلك قبل حل الجمهورية الليبية في 2 مارس 1977 وإعلان قيام سلطة الشعب حيث كان للملابس دورٌ محوريٌ في هذا التغيير، الذي تحوّل بعده تجّار الملابس إلى موظفين في الدولة كغيرهم من التجّار وأصحاب الشركات

صارت القرواطة عدواً للقذافي ولم يُعرف عنه أنه ارتداها إلا في مرات نادرة، تحول المذيعون في التلفاز من ارتداء البدل الرسمية إلى ارتداء الجرد والحولي، يخبرني حميدان الذي عاصر تلك الفترة شاباً، مصوراً مشهداً سوريالياً عن مذيعة نشرة ترتدي الملابس التقليدية للمرأة الليبية بينما تقرأ من ورقة الأخبار.

بينما كادت تختفي القرواطة من المشهد العام في أماكن العمل والشوارع، القذافي كان يقول أنّ القرواطة تشبه الصليبيضيف حميدان، لينزع الليبيون القرواطة، وهكذا حوربت عن طريق التعبئة الثورية والثقافية كل أشكال اللبس الغربية.

كانت الملابس محلاً للنقاش في ندوات الفكر الثوري الأولى، حيث نشب نقاش بين الكاتب الليبي الصادق النيهوم وأحد أعضاء مجلس قيادة الثورة عن الجينز الذي كان يرتديه النيهوم، كما شاعت شعارات ثورية ضد القرواطة تُرجمت لإعلانات إرشادية في التلفاز الليبي تنادي بنزع الربطة مركزةً على تشبيهها بالصليب، وشاعت مقولات من نوع خانق روحه بالقرواطة، ناسي مصدرها بعباطة“.

إبراهيم حميدان نفسه ومجموعة من الشباب المثقف تعرضوا لموجات سخرية لاذعة بعد رحلة في منتصف الثمانينيات إلى الجزائر عادوا بها جميعاً يرتدون البرنيطة الفرنسية والتي صارت تعرف بـ”طاقية المثقفين، حيث كانت مجموعتهم من أول من أدخل هذه الطاقية إلى ليبيا

العداء المشبوه للملابس الغربية لم يغيّر كثيراً من ملامح المجتمع الليبي في بداية الثمانينيات، تابعت النساء ارتداء الجيب وتابع الرجال ارتداء الجينز، لكن ذلك سيتغير تدريجياً بعد نشوب العداء بين الجماهيرية الليبية والولايات المتحدة الأمريكية في عام 1985، وتحوّل ليبيا إلى دولة اشتراكية شعبية بنظام اقتصادي وسياسي لا يعترف بالقوانين الوضعية، كان فيها للشركة الوطنية للأسواق الدور المحوري في تاريخ الملابس في ليبيا

ملابس ليبية واحدة.. مجتمع واحد

أربعة من نجوم الفن الليبي في التسعينات، يظهر كل من ناصر المزداوي وأحمد فكرون ونجيب الهوش وابراهيم الحسناوي. المصدر: صفحة قديم xقديم ليبيا. فيسبوك

قطوس في شكارةوسياسات الدولة الاقتصادية

في حيِّنا، أمرُّ بشكل شبه يومي على معلم قديم كنتُ أذهب له كلما احتجت لشراء حذاء جديد، أُغلق المعلم بعد نشوب الحرب الأهلية الليبية في العام 2011، تعلو المعلم القديم لافتة مكتوبة بالعربية بخط أخضر أحذية راتا، موزع فردي، اشتريتُ من هذه الأحذية الليبية الكثير في طفولتي، كانت البراند الوحيدة التي نشتريها في ليبيا حتى نهاية التسعينيات، تعود الأحذية لمصنع راتاالتابع للشركة الوطنية للأسواق المساهمة.

للشعب الليبي قصصٌ سوريالية مع الشركة الوطنية للأسواق المساهمة التي أنشئت حسب قرار رقم 33 للجنة الشعبية العامة للاقتصاد سنة 1979، والتي باتت منذ منتصف الثمانينيات حتى منتصف التسعينيات المورد الوحيد لليبيين (والأساسي حتى انتهاء الحصار على ليبيا في 2003) لسلعهم التموينية ولشراء ملابسهم.

كان للشركة الوطنية للأسواق الأثر في تحوّل ملابس الليبيين من ملكية خاصة يتفرد بها أفراد المجتمع ويعكسون هُويتهم، ثقافتهم، نمط حياتهم وأفكارهم إلى ملكية عامة لا تتوقف على نمو الفرد عن ملابسه أو عدم إيمانه بأنها تعبر عن ذاته، كما كانت الشركة رمزاً لسياسات الدولة الليبية آنذاك في تشكيل المجتمع.

كان الليبيون يصطفون لساعات أمام الجمعيات الاستهلاكية التابعة للشركة حتى ينالوا حصتهم من الملابس في أكياس بلاستيكية من صناعة الشركة ذاتها، عند خروجهم من الجمعية يجتمع المواطنون لإجراء عمليات المقايضة، كانوا يسمون محتويات الكيس “قطوس في شكارة” أي قط في كيس، وهو تعبير يعني أنّ المشتري حصل على شيء مجهول.

ملابس ليبية واحدة.. مجتمع واحد

حشود أمام وداخل الجمعيات الإستهلاكية. المصدر Life in Libya [1980] – youtube

هناك دعابة بين أفراد عائلة محمد قطنّش (31 سنة) من سكان منطقة عين زارة جنوبي طرابلس بأن عمه “كاد أن يعيّد في تنورة، أما حسام الثني (36 عاماً) وهو كاتب ليبي فله ولعائلته ذكريات مع الشركة تعود لزمن طفولته.

أتذكر بأنّ أمي وأبي تحصلا على كيس من الملابس من الشركة كان من بينها فستان لطفلة صغيرة، ولم يكن بين أفراد العائلة الستة أي طفلة، أخذت أمي الفستان على أنّه بِشارة بقدوم فتاة فاحتفظت به حتى مجيء أختي في العام القادم، يحكي لي حسام بطريقة شاعرية عن ذلك الزمن العجيب حيث قد يتحصل الرجل على فردتيْ حذاء مختلفتيْن بمقاسات متفاوتة، أو تتحصل المرأة على ملابس داخلية رجالية.

حدثت قصصٌ أخرى لأفراد عائلة حسام، حيث حصلوا ذات مرة على حذاء جلد أبيض مقاسه 45 داخل الكيس، ولأنهم لم يفتحوا الكيس بعد أخذه مباشرة ولم يدخلوا في إجراءات مقايضة الملابس، ظلت العائلة تبحث لمدة عام عمن يرتديه حتى وجدوا شرطي مرور يعطونه الحذاء.

يحكي حسام عن خيبته هو ذاته في عام 1989 مع حذاء أحمر برّاق أحبه كان سيرتديه لولا أنّ الحذاء كان أكبر من قدمه، ظلّ الحذاء حبيس خزانة الملابس حتى تكبر قدم حسام، وعندما كبرت لم تتمكن قدمه من الدخول في الحذاء

أتذكر أنّ خالتي عادت من بريطانيا وقد اشترت لابنها جاكيت بنفسجي، ورثتُ هذا الجاكيت عن ابنها، كما ورثه ابن خالتي عني، ثم ورثه أخي عن ابن خالتي، يخبرني قطنّش عن تاريخ جاكيت العائلة الذي لازال حياً حتى اليوم، هذا الجاكيت تعود حكايته إلى أيام الحصار التي كانت فيها الملابس الغربية المميزة التي ترِدُ من المواطنين العائدين من رحلات السفر إلى الخارج علامة على التميّز يجب الإبقاء عليها بين أفراد العائلة.

لعب ذوق القذافي وحاشيته في الملابس الدور ذاته، يقول حميدان مؤكداً أنّ ذوق القذافي في الملابس خلق نسخاً عنه في كل مكان في البلاد، حتى عندما يرتدي العقيد ملابس مختلفة كالملابس الرياضية، يتم تزويد السوق والمجتمع بأشكال متشابهة مما ارتداه العقيد.

لم تصبح في ذلك الوقت سراويل الجينز موضة وخياراً لكل الرجال والنساء في ليبيا بعد، حسب ما يقوله المهندس أحمد (31 سنة)، والذي عمل لسنوات في أحد محلات ملابس الماركات العالمية التي تمتلئ بهم مدينة طرابلس متحدثاً عن تجربة رب عمله الذي شهدت عائلته تحولهم من تجّار ملابس في السبعينيات إلى موظفين في الدولة ومن ثم إلى موزعين فرديينفي التسعينيات وبعد ذلك إلى تجّار مرة أخرى.

اختصت العائلة في بيع سراويل الجينز ومن ضمن قصص العائلة الطريفة مع هذا السروال، هي قصة حاوية من سراويل الجينز في التسعينيات كانت بها طبعة للعلم الأمريكي، أمضى العرفي (رب العمل) ثلاثة أيام بموسى حلاقة في الباخرة يمزق العلم الأمريكي عن السراويل حتى تمنحه مصلحة الجمارك الإذن بدخول الشحنة، يقول أحمد الذي يرتدي الجينز على هيئة شورت، سروال أو جاكيت طيلة العام

عندما جاءت أختي للدنيا سنة 1986، بحث أبي المدينة بعرضها عن ملابس داخلية للإناث الأطفال ولكنه لم يجد، فاضطرت أختي أن تلبس ملابسنا الداخلية، يقول لي حسام الثني مؤكداً عن دور الدولة ودكانها الوحيد في تحول الليبيين إلى مجتمع واحد بملابس واحدة، ولكن مؤسسة أخرى في الدولة الليبية كان لها تأثير ضخم على التشابه بين الليبيين.

أخضر وكاكي، والتدرب على اللون الموحد

في عام 2005 دخلتُ الثانوية الهندسية، وجدتُ نفسي قبلها بأيام أبحث عن زي رسمي أتمكن من ارتدائه في المدرسة، كان الزي موحداً ولكنه على خلاف الأزياء الموحدة التي تشيع في مدارس وجامعات كثيرة في العالم كان عسكرياً.

وجدتُ ضالتي في بدلة خضراء أدخلتُ عليها بعض التعديلات في السنوات اللاحقة، تعديلات لم يكن على أبناء الأجيال التي سبقتنا القدرة على إدخالها، فقد خفت حدة وصرامة الدولة بعد رجوع ليبيا إلى حضن العالم” منذ عام 2004. 

لعب الزي العسكري في المدارس دوره أيضاً في جعل الليبيين ينقادون نحو أن يكونوا نسخاً متشابهة، يقول لي حميدان راسماً صورة المدارس التي تحولت إلى ثكنات عسكرية منذ الثمانينيات وحتى نهاية العقد الأول من الألفية، وحسب هذا النمط فرضت المؤسسة العسكرية على الأجيال الجديدة عقلية الملابس الواحدة، أصبح الجميع جنوداً للدولة، ولأنهم كانوا كذلك، فإنّ التشابه بين ملابسهم زاد تعقيداً، فصار الليبيون يرتدون اللون ذاته.

جينز أزرق أو أسود، حذاء رياضي بألوان غامقة، جاكيت شتوي كاجوال وقميص تحته لونه أزرق أو سمائي، أما الصيف، شورت كارجو على الركبة أو تحتها وتيشرت أبيض أو أسود بكتابة بسيطة غالبا ما يكون عليها اسم البراند، هكذا وصف محمد قطنّش ألوان الملابس التي يرتديها الشباب من حوله، في السياق ذاته، يحدثني المهندس أحمد عن الألوان التي كانت تواجهه صعوبة في تسويقها عند عمله بدكان الملابس.

الألوان الفاقعة في العادة لا يشتريها أحد، الأصفر والأحمر الفاقع والوردي وسراويل الجينز الخضراء والبيضاء وغيرها من الألوان لا تجد إلا جمهوراً بسيطاً من الصينيين وأصحاب البشرة السوداء، يقول أحمد مضيفاً حكاية شخصية مع سروال جينز برتقالي لم يرتديه أبداً.

بعد أن اشتريتُ السروال وعدتُ به للمنزل، وجدتُ أنّ لونه قريب من بشرتي، أحسستُ بأنّني عارٍ فيه ولم ألبسه البتة، ورغم أنّ أحمد يعد فاشن أيكونبالنسبة لأصدقائه المحيطين به فإنّه يتحاشى ارتداء ألوان بعينها في بعض الأحيان، فقد حدث أن تمت السخرية منه فقط لأنه كان يرتدي قميصاً وردياً.

ملابس ليبية واحدة.. مجتمع واحد

طرابلس ١٩٨١. من مقتنيات ابراهيم حميدان.

الآن، بمرورك في الطريق العام ستلاحظ تكرر أنماط معينة من الألوان للرجال والنساء، وهذا لا يعني أنّك لن تجد من يخالف المجتمع المحيط في ارتداء ألوان خارجة عن المألوف.

ففي طريقي لتفحص ملابس الناس من حولي وجدتُ أن الألوان المختارة تميل إلى التماهي مع ما يرتديه رجال السلطة الأمنية والعسكرية، فالأزرق والسمائي التي يختارونها تتماهى مع ما يرتديه عناصر الشرطة، البني بتدرجاته يتماهى مع اللجان الثورية والمؤسسة العسكرية، كذلك درجات الأخضر والكاكي، وهو أمر قد يعود إلى مبادئ الجماهيرية المأخوذة من الماركسية على أن لا تفاوت بين الناس.

نحن شعب يحب الموضة من زمان، إلا أنّ واحدة من الأشياء الغريبة التي لاحظتها بأنّ أي صيحة جديدة لن يتم قبولها إلا إذا ما اتبعتها مجموعة كبيرة من الناس، يقول قطنش، موضحاً حباً طبيعياً عند الليبيين لكل ما هو جديد لم تستطع آثار الاشتراكية مسحه بالكامل.

ملابس ليبية واحدة.. مجتمع واحد

باترون الألوان العسكرية. تحت رخصة المشاع الإبداعي CC0

ملابس ليبية واحدة.. مجتمع واحدقميص تحت المؤخرة، شورت تحت الركبة

المدرسة الثانوية وسنواتها الثلاث جعلتني أخرج غير مهتم بتكوين نمط محبب من الملابس، فبعد تخلصنا من البدلة العسكرية باتت علاقتي مع الملابس سطحية، كنتُ في الغالب أرتدي ما يخلفه لي أخي الأكبر، وإذا اشتريتُ لباساً جديداً، كنتُ أتماشى مع ما تقدمه محلات الملابس من ما تستورده من تركيا التي كانت ولازالت الوجهة الأولى لتجار الملابس الليبيين على مدى عقديْن.

خضعتُ لما يخضع له الجميع من ألوان وأشكال وأطوال قياسية للثياب، مرت سنوات طويلة من عمري بهذا النسق، خصوصاً أنّ ملابس البدناء (والذين أعد جزءاً منهم) لم تكن يوماً ملفتة للأنظار

أنا ليست لدي مشكلة مع من يرتدي الشورتات القصيرة، في النهاية هي حريته الشخصيةيقول لي قطنش، بينما يخبرني بأنه غير جاهز لارتدائها نظراً لأنّ ساقه وسيقان كثير من الشباب غيري مليئة بالشعر، مبرراً أنّه وفي البلدان الأخرى يمكن للرجل أن يحلق شعر ساقه ويهتم بنفسه دون أن يعاديه أحد ولكن هذا الأمر غير جائز في ليبيا.

أعتبر منظر الساق بالشعر غير لائق، يضيف قطنش طارحاً مسألة أخرى عن الكودالاجتماعي، كوديعاني معه غيره من الرجال كأحمد الذي كان في فترة ما من حياته يريد أن يلبس تيشرتاتعليها صور لفرق الروك آن رول، كما أراد أن يرتدي سلاسل حديدية وخواتم عليها جماجم وذئاب وملابس تعبر عن هُويته العاشقة لموسيقى الروك آن رول، لكن لم يتمكن من ذلك فقط لأنه لا يحبذ أن ينظر له المجتمع بطريقة مختلفة، لا أحب أن يتنمر عليْ أحديقول المهندس أحمد.

معاناتي وغيري من الشباب الذكور لا تعد مهمة إذا ما تم مقارنتها بمعاناة المرأة الليبية مع لباسها، حيث تزداد الحدود والمضايقات لها كل ما ابتعدت عن مركز العاصمة الليبية، تختفي في القرى والمدن المجاورة لطرابلس سراويل الجينز للنساء وتحل محلها العباءة الخليجية، كما تقل حركة النساء كل ما ابتعدت عن المدينة.

كانت أمي ترتدي تنورة حتى الركبة، شعرها ينسدل على كتفيها بينما تذهب للجامعة في بداية الثمانينيات، كغيرها من الشابات، يحكي أحمد قصة والدته مع التحول إلى العباءة والحجاب في شارع عمومي في طرابلس مليء بفتيات يرتدين العباءة داخل سياراتهن.

أنا غير قادرة على تشكيل علاقة مع ملابسي، لأنني أرى أنها فرضت عليْ، الحجاب بالذات فرض علي، ملابسي أرتديها من أجل المجتمع فقط، تخبرني فيروز (28 عاماً) معلمة لغة إنجليزية من إحدى مدن الجبل الأخضر شرق ليبيا عبر سماعة الهاتف بصوتٍ حانق تحكي معاناتها مع ملابسها اليومية سواء داخل البيت أو خارجه.

الدولة في عمقها كانت أصولية تستمد شرعيتها من القبيلة والمجتمع، ثقافتها ثقافة البداوة التي يكون فيها الجميع متشابهون، ثقافة تكره الاختلاف حتى في الملابس، يحدثني حميدان عن كيف انهارت حركة النهضة والتحديث التي استمرت لثلاثة عقود أمام موجة الصحوة الإسلامية المدعومة من المملكة العربية السعودية في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات.

هذه الصحوة التي تشكلت في البداية بمحاربتها لخروج المرأة بدون حجاب تطورت مع السنوات من الاشتباه بالجينز الاكسترا سليم– أو كما يسميه الشباب سروال الـHD الذي صارت الفتيات ترتديه بعد 2010 وظهور ملصقات توعوية في ممرات الجامعات تنهى عن ارتدائه، حتى تغلغلها لدور رقابي بين أفراد المجتمع على مواقع التواصل الاجتماعي حيث يتم التشهير بالانفلونسرز الفتيات اللائي يسوقن للملابس في انستاجرام وسنابشات وفيسبوك، وانتشار حملات خطاب الكراهية ضدهن فقط بسبب طريقة لباسهن المختلفة

انهارت تلك الحداثة التي تحمي المرأة من الذكورية، أول ما بدأ الليبيون يشاهدون متولّي الشعراوي ومن خلفه كعمرو خالد وغيره، صارت ردّة عن التحديثيقول حميدان، كانت الملابس رمزاً لهذه الردة وللقابلية للانغلاق دون ردود فعل من الدولة، إذ كان المجتمع هو الحاكم.

إذا أردت أن ترى مدى حداثة مجتمع ما، فانظر لحال المرأةيقول حميدان شارحاً مصطلح التحديث الزائفالذي اتخذته الجماهيرية، مقارناً ليبيا بجارتها الغربية تونس وكيف أنّ لباس المرأة التونسية وحالها والاختلاف المتباين فيه وحريتها في ارتداء ما شاءت دون ضغوط يعد انتصاراً لها ولحريتها.

بالنسبة لفيروز فملابسها لا تعبر عنها، بل تشعر بأنها حبيستها خصوصاً عندما يأتي فصل الصيف حيث تصبح أثقل عليها.

أنا لا أستطيع الخروج بفستان صيفي فضفاض ومريح، يجب أن تكون ملابسي لا تظهر شيئاً مني، تقول فيروز وتضيف يجب أن يصل طول قميصي إلى الركبة كما يجب أن أرتدي سروال جينز يضيقُ الخناق عليْ، هذا عدا عن الحجاب وخنقه لي عندما أتحرك من البيت إلى المدرسة مع ارتفاع درجة الحرارة وانقطاع الكهرباء في البلاد“.

تصف فيروز معاناتها مع حجابها والملابس المفروضة عليها والتي ترتديها حتى إذا أرادت السباحة في البحر، بأنها ليست مميزة فالفتيات في ليبيا يخضن يومياً مغامرة صعبة مع ملابسهن التي لا تتغير أياً كانت المناسبة وأياً كان الطقس.

في المدرسة الإعدادية لم أكن أرتدي الحجاب، ولكن في المرحلة الأخيرة منها بدأت مدرسة التربية الدينية تضايقني وتخبرني بأنني لم أعد صغيرة وبأنّ عليْ أن أرتدي الحجاب وإلا لن يسمح لي بحضور حصتها، حتى المدرسون ومدير المدرسة كانوا يشجعونني على ارتداء الحجاب، تحدثني فيروز عن قطعة الملابس التي أكرهت على ارتدائها.

في مايو 2014 تم تسريب رد لديوان رئاسة الوزراء الليبية تحت رقم (0501) على مفتي الديار الليبية د.الصادق الغرياني الذي طلب في رسالته للديوان تنظيم استيراد الملابس الداخلية النسائية ورصده لظاهرة استيراد ملابس تتعدى الغرض الشرعي لها، قاصداً بذلك الملابس الداخلية التي تشتريها النساء لغرض جنسي تثير به شريك الحياة.

وتمت في ذات السياق محاربة ملابس الذكور أيضاً من قبل المؤسسات الدينية، خطب الجمعة منذ بداية الألفية وملصقات التوعية في المدارس امتلأت بمحاربتها للقمصان المكتوب عليها باللغة الإنجليزية، سراويل الجينز الممزقة عند انتشارها لاقت حروباً من المؤسسة الدينية أيضاً كما لاقت الإكسسوارات والصور التي لها علاقة بموسيقى الروك آن رول والهيب هوب ذات المصير.

وقد خصصت المساجد أحاديث طويلة عن اللباس الشرعي للرجل سواء في الخطب أو حتى في دروس السلفيين عن الملابس التي يجب على الرجل ارتداؤها، هذه الأحاديث والدروس زادت من انتشار الشورتات الطويلة والقمصان الخليجية خصوصاً مع انتشار ثقافة إهدائها للأحباب عند عودة الحجيج والمعتمرين من المملكة العربية السعودية بالإضافة للُبان ومياه زمزم.

ملابس ليبية واحدة.. مجتمع واحد

طرابلس، ديسمبر ٢٠١٠. تصوير: David Stanley. تحت رخصة المشاع الإبداعي.

المانيكان لا ترتدي مثلنا

في 2014 وفي آخر سنة جامعية كنتُ قد فقدتُ أكثر من 40 كيلوغراماً من وزني، الأمر الذي شجعني على العودة لارتداء ألواني الزاهية التي اعتدتُ عليها في طفولتي وتجربة صيحات جديدة، كانت البداية مع قميص وردي ومن ثم انطلقتُ لارتداء الشورت القصير نسبياً وتجربة الأحذية الحمراء والقمصان المزركشة.

كنتُ أشكل هُوية جديدة لي، ومع تحسن وضعي المادي صرتُ أشتري ملابس جديدة من رحلاتي إلى البلدان المجاورة، كانت إحدى تلك القطع قميص أحمر فاقع مرسوم عليه زهور وأغصان بيضاء وقعتُ في حبه وتحول فجأة إلى قميصي المفضل.

في أحدِ أيام الصيف في العام الماضي ارتديتُ القميص مع شورت إلى منتصف الفخذ، وعند خروجي من المنزل قابلني عمي الذي كان يرتدي في المقابل شورتاً طويلاً إلى منتصف ساقه وقميص داخلي أبيض في الشارع العام، سمعتُ كلماته ترتد بصوت ساخر ما هذا؟ هذه الملابس ليست لنا، بالنسبة له، كنتُ أشبه بمانيكان.

في ليبيا، دمى العرض (المانيكان) ترتدي الجريء من الملابس، فبمجرد مرورك داخل أحد الأسواق التي تنتشر في طرابلس أو حتى على الأسواق الإلكترونية في مواقع التواصل الاجتماعي، يمكن ملاحظة نمط معين من الملابس التي ترتديها دمى العرض: قمصان فاقعة للرجال وسراويل جينز ممزقة على الأطراف وشورتات قصيرة بألوان صفراء، أحذية حمراء، ودمى رجالية بقبعات إفرنجية من النادر أن تجد من يرتديها.

أما النساء فقصة أخرى، دمى ترتدي ملابس مثيرة، سراويل جينز ممزقة، فساتين قصيرة حتى منتصف الفخذ، وشورتات جينز قصيرة وملابس داخلية.

بالنسبة للمانيكان، لا تخف من تلبيسها ما لديك، يمكنك أن تجعلها ترتدي سروال جينز أبيض ممزق وقميص به صورة، إنّ الغرض منها هو لفت الانتباه، حتى أصحاب محلات الملابس النسائية يعملون بذات الطريقة، يقول لي المهندس أحمد.

يضيف أحمد أنّ الدكان كان يبيع شورتات الجينز القصيرة للإناث في فترة معينة، توقع أنّ هذه الشورتات ستبقى لفترة طويلة في المحل إلا أنه فوجئ بعد أن أخبرته زميلة معه مسؤولة عن ملابس النساء بأنها نقصت في غضون شهرين، عرفتُ بعد ذلك بأنّ هناك سوقاً مختلفاً، خاصاً بالعرائس الجدد، يشترين هذه الشورتات كلانجيري“. 

لا يحق للفتاة في ليبيا أن تشتري مثل هذه الملابس إلا عند دخولها في عمر الزواج، كما لا يجوز لها أن ترتديها إلا بعد أن تتزوج، تسمي الفتيات هذه المرحلة بـ البْتَات، وهي عملية شراء قطع الملابس وتجهيزها للحياة الجديدة

الملابس التي أحبت أن ترتديها الفتاة يوماً ولكن عيشها مع أهلها لم يسمح لها بذلك صار بإمكانها أن ترتديها في بيتها عند الزواج: أرواب، شورتات قصيرة، فساتين قصيرة، لانجيري، أحذية عالية، فساتين مفتوحة عند الظهر لحفلات الأعراس وغيرها.

يمكن للفتاة قبل زواجها أن تشتري فساتين معينة في حفلات الأعراس بشروط معينة، كأن لا يظهر الفستان ظهرها عارياً أو حتى أن يظهر صدرها أو منطقة البطن رغم انتشار هذه القطع في السوق الليبية، أكثر مكان تستطيع الإناث أن ترتدي فيه ما يحلو لهن هو حفلة العرس، يمكنك القول أنهن يرتدين فيه القصير انتقاماً من المجتمعتقول لي فيروز

عندي قبعات شتوية حاكتها لي والدتي لم أرتديها منذ الطفولةتقص لي فيروز عن الملابس الكثيرة المليئة بها خزانتها دون أن ترتديها، قبعات شتوية، فساتين صيفية قصيرة، نظارات شمسية، كل تلك الملابس تنتظر منها أن تلبسها ولا تستطيع ذلك حتى داخل بيتها، ولكن فيروز لم تتوقف عن شرائها، ليس من أجل البتات، بل من أجل حياة أخرى تصفها بصوت حزين أشتريها على أمل إذا سافرت يوماً أن أرتديها كما أحب“.