ظهر على شاشة تليفوني اسم ابنتي ذات الثلاث عشرة عامًا تتصل بي وما أن أجبت عليها، سمعت بكاء بصوت خافت: بابي، انا غالباً عندي اللي هي بتاعة البنات!
أجبت: البيريود يا ميرو؟
أيوه يا بابي
طمأنتها، وحاولت أهدئ من خوفها، ليلتها لم تكن زوجتي بحالة جيدة، عانت طوال الليلة السابقة من نوبات قيء ووجع بالبطن، إلى أن أخبرتنا الطبيبة باشتباه كورونا.
أثناء اتصال ابنتي، كنت بصدد وضع سيارتي في المكان المخصص لها. عدت سريعًا، لأجد زوجتي قد سمعت أنينها الخافت وقامت باللازم.
*
عند بداية تعلمها الكلام، أربكتني كلمة “بابي”، لم تكن بالمرة دارجة بعائلتي، فأنا من مواليد حي بولاق أبو العلا بالقاهرة وتربيت في حي إمبابة في الجيزة، فأنا ابن مناطق شعبية وفقيرة. ولكن الآن في محاولة لإيجاد مستوى تعليمي مقبول، أشاهد نفسي مع آخرين مسئولين عن جيل جديد يتربى على المناهج الإنجليزية بمدارس أجنبية. لم أعترض ولم أرد إشعار أطفالي أنهم مختلفون عن الآخرين، واعتدت الكلمة.
في اليوم التالي، ذهبنا أنا وابنتي لتمرين الكاراتيه، تركتها هناك وذهبت لأحضر تحاليل زوجتي والتي أكدت إصابتها بكوفيد. جاءني اتصال أخر من ابنتي تخبرني باحتياجها إلى فوط صحية، أسرعت بسيارتي قدر المستطاع وأيضاً خطواتي تجاه أقرب صيدلية لمكان التمرين. تشتت عيناي للبحث على أصغر مقاس وأنعم خامة، علّ ذلك يخفف عليها الألم.
*
أنا أصغر أخواتي، لدي ثلاث بنات وولد، وكنّ دائماً يرسلونني لإحضار تلك “الأشياء”، وكنت أطلبها بحمرة خجل!
تربى والدي بحي بولاق أبو العلا بالقاهرة وهو من أصول صعيدية بمحافظة سوهاج –تبعد عن القاهرة حوالي 420 كيلو متر-. زوّج أخواتي البنات قبل أن يتممن التاسعة عشرة، تزوجن وهن أطفال. منهن من عانت ومنهن من عبرت.
بمجرد ظهور إعلان للفوط الصحية في التليفزيون يبدأ أفراد الأسرة النظر في مكان آخر غير شاشة التليفزيون. هكذا نشأت -وأظن الكثيرين جدًا- على أن الدورة الشهرية شيء مخزي، أو على أقل تقدير شيء لا يجب الحديث عنه، وتحديًدا مع الذكور من أفراد العائلة.. تدري لماذا؟ لن يجيب أحد.
*
قادتني الصدفة بالعمل في إحدى المنظمات النسوية بمصر، صدفة غيرت حياتي، تغيرت نظرتي للأشياء، وأضافت معاناة جديدة مع أصدقائي، الذين لا يفهمونني أحيانًا كثيرة
مرات عندما يتطرقون إلى أسماء الأمهات في قعدة القهوة، أسرع وأخبرهم أن اسم أمي فوزية، يستغرب البعض من سهولة إعلاني. ومنهم من يتصنع عدم الدهشة وعادية الأمور، لكن إذا سألته عن اسم أمه؟ يرفض!
أناقشهم، ماذا تفعلون عندما يتم النداء على اسم أمكم في السجل المدني أو عند الطبيب، أو عند استلام المعاش أو في أي مكان؟ يصمتون وينتهي الأمر.
لست مندهشًا، تعودنا على أن ذكر اسم الأم والأخت “عيب”، رغم أن الكثير من أمهاتنا وأخواتنا عاملات وطالبات، لكن في جلسات الذكور ننقلب بدون أن نشعر إلى حقبات زمنية قديمة ومع ذلك يبدو الانقلاب طبيعيًا.
*
مرة أثناء العمل، جاءني اتصال مثل كثير من الاتصالات التي تأتيني تطلب مساعدات قانونية كطلب طلاق، خلع، أو نفقة إلخ. بدأ المكالمة بصوت امرأة تبكي وأخبرتني أن زوجها يعمل في محافظة خارج القاهرة ورجع من إجازته فوجدها حائض “عندها البيريود” انهال عليها بالضرب وأصابها في عينها.
كان الأمر صادمًا بالنسبة لي، ليس لعدم معرفتي بما تتعرض له الكثيرات هنا من عنف، لكن تبقى كل حادثة مفردة صادمة عندما تتعرف على تفاصيلها.
ينظر المجتمع إلى الحائض باعتبارها نجسة وغير مؤهلة لأخذ أي قرار ويتطور الأمر بإبعادها عن كثير من الوظائف والمناصب بالدولة.
عندما تخبرني زوجتي أنها لن تذهب إلى قداس يوم الجمعة، أعرف بالبداهة أنها حائض، حيث تمنع الكنيسة الأرثوذكسية طقس التناول عن المرأة الحائض دون غيرها من الكنائس البروتستانتية أو الكاثوليكية.
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
أعطيت ابنتي فوطة صحية داخل مكان التمرين إلى أن أنهت تدريبها وأوصلتها إلى البيت وذهبت لأضع سيارتي في المكان المخصص لها. أوقفت السيارة وبدأت في لملمة أشيائي ووقع نظري على كيس الفوط الصحية وقررت أن أضعه في السيارة للاحتياط. فكرت في الدعوات الكثيرة على مواقع التواصل الاجتماعي لوضع فوط صحية مجانية في الكافيهات والمدارس والأماكن العامة وتمنيت أن يحدث ذلك.
هل تفكر الدولة في تقديم مثل ذلك الدعم للبنات والنساء غير القادرات؟نعرف جميعًا الإجابة، فكرت أيضًا في السجينات الفقراء كيف يتعاملن مع الأمر؟ لا أظن أن هناك يوجد فوط صحية في حمام مدرسة ابنتي وهي مدرسة بنات فقط، غالبًا يتركون المسألة على عاتق الفتيات الصغيرات.
*
خلال فترة عزل زوجتي، كنت أقوم بما تقوم به في يومها العادي من نظافة وغسل صحون وإحضار الطعام، ولكني تعبت في يومين من هذه الأعمال، فكرت من أقوى؟ أنا أم هي؟
وتطرق إلى ذهني مفهوم “القوامة” وما يعنيه، فكرت في الأعمال المنزلية غير مدفوعة الأجر التي تقوم بها السيدات ومشاركتها في اقتصاد الدولة دون أن يدري أحد.
تعاني البنات والنساء من الدورة الشهرية على الأقل 5 أيام شهرياً، تسبقها بضعة أيام من الاضطرابات النفسية والجسدية، فهل تُقدَر الدولة والمنشئات والسجون والذكور تلك الأشياء في التعامل مع البنات والسيدات؟
لا أعرف كيف كنت سأرد على ابنتي في مكالمتها الهاتفية لولا الصدفة التي حدثت في حياتي، وفكرت كثيرًا متى يمكن أن يتحول الأمر من مجرد صدفة إلى وعي مشترك، إلى أسس ننشأ عليها ولا نقطع أميال من أجل اكتشافها وبـ “الصدفة”.
غالبًا ما أقوله ليس جديدًا بالمرة، وغالبًا ما سيتكرر الكلام، حتى اللحظة التي تصبح الصدفة أمرًا عاديًا.
*
كبرت بنتي وشب عودها. أصبحت كل يوم أفكر في رسالة إلى صغيرتي، أصبحت كل يوم أفكر في موقف جديد يوضح لها معلومة أو نصيحة ما، دون أن أوضح بشكل مباشر أنها نصيحة.
أتقرب منها، أحتضنها، حتى لا تخجل مني في يوم من الأيام، نقرأ سويًا قضايا ابتزاز لصغيرات، أسمع رأيها ونتناقش وأصل معها إلى أنه مهما حدث يجب أن تعرف أني وأمها ملاذها الأول.
صغيرتي الآن لاعبة كارتيه، تتدرب لتأخذ الحزام الأسود ومن ثم تتأهل للمشاركة في البطولات، في الحقيقة لم يكن الغرض في البداية ممارسة الرياضة لأنها رياضة، بل لكي تدافع عن نفسها من أي مضايقات أو تحرشات.. أحيانًا عندما أفكر في الأمر أجده محزنًا بعض الشيء، ألم يكن من حقها هي والجميع أن يمارسن ما يردنه من رياضات دون كثير تفكير في الأمر؟