منذ اعتقالي وأنا أخشى الصورة. أصبحت الكاميرا شيئاً يخيفني، أداة ادانة و شاهداً صامتاً على الألم، الذاكرة، والحقيقة. في مدينتي، كانت العيون تخاف أن ترى. فالتصوير جريمةً معلنة، والعدسة كأنها فوهة تخترق كل ما أود إخفاءه والكتابة عنه أو حتى تخيله. بتّ أخشى الحديث عن أي شيء.. وعما جرى هناك، في الأسفل، حيث الغياب مزدحم بالحكايات التي لا صوت لها.
لكن اليوم مختلف جداً.. سقط الأبد، وكأنه يوم قيامة صغرى لنا نحن السوريون.. أول ما بدى لي فعله أن بحثت عن الكاميرا، كأنني أبحث عن شجاعة مفقودة. نسيت أين وضعتها،. أريد أن ألتقط صورة. أريد أن أتحدث. هذه أول صورة لي منذ ستة أشهر. ستكون ذكرى، شاهدة على يوم الحرية. ذكرى تعيد لي حقي في النظر إلى مدينتي دون خوف وبلا رقابة.
كانت الصورة الأولى عبثية بتوقيت يقيني بالحرية في الثامن من ديسمبر، عند السابعة وثمانية عشر دقيقة صباحاً.. لحظة استعادة للذات في ظل سقوط قيود سياسية قمعية، إذ يتحول التصوير، رغم بساطته، من إدانة الى فعل مقاومة واسترداد للحظة مسلوبة.. المشهد ضبابي مليء بأصوات الرصاص، لكن ما هو واضح فيها هو جبل قاسيون، اللوحة الثابتة أمام نافذة منزلي، سيد مشهد دمشق، أحد أضلاع ثالوثها المقدّس. وأول مكان يتبادر إلى ذهني حين فكرت بالحرية. قاسيون الضبابي يرمز لحقيقة أننا متحولون والمدينة ثابتة رغم القهر.
الصورة الأولى
طيلة أربع عشرة سنة، كان قاسيون معزولاً عن المدينة، محاصَراً ومقيداً بسلطة تمنحك فقط حق المرور عبره دون أن تلتفت يميناً أو يساراً، كأنك متسلل في أرضك. واليوم، اخترت أن أبدأ من هناك، أن أذهب لرؤية دمشق من “ربى قاسيون”، المطل الأعلى للمدينة. اصطحبت سامر ورهام كاحتراز أمني داخلي وشهودٍ على الحرية. كانت تلك الزيارة الأولى منذ أن عُزل المطل عن مدينته. الطريق شهد عودة الناس إلى مساحاتهم المسلوبة، رجالاً ونساءً يحملون نراجيلهم وكأنها أسلحة، وكأنهم فرسانٌ قادمون لاستعادة جبلهم، مستردين الهواء نفسه من قبضة السلطة.
عند الوصول، تنكشف تفاصيل معقدة للغاية، ليس فقط في المشهد الطبيعي والبشري المحيط، بل في العلاقة المتشابكة بين المدينة وسكانها. هناك سباق محموم على تملّك وإعادة تشكيل الفضاء العام، حتى لو بدا ذلك عشوائياً وأحياناً مزعجاً.. هي شهادة على حيوية أهل المدينة وسرعتهم في التكيف ومواجهة القيود. لكنها أيضاً تكشف عن تعقيدات اجتماعية وسياسية أعمق، وقصص عن التملّك استرداد الحيّز المفقود، وكيف يتحول الاستثمار العشوائي إلى علامة على حيوية مؤلمة.
الصورة الثانية
على المطل، جلست مع رفيقيَّ نتأمل دمشق الممتدة تحتنا، كانت الصورة الثانية حين قالت رهام: “كم كان النظام يوماً جاثماً على صدر المدينة، خانقاً أنفاسها وأنفاسنا”.. وكان مشهداً بانورامياً من الجمال والدمار، من الحلم والخيبة. هناك، في هذا المكان، أدركت أن دمشق ليست فقط ما نراه، بل ما نخفيه فيها. هي صوتٌ، إذا أصغينا ستقول لنا: “أنا لست لكم وحدكم، لكنني أيضاً لست لغيركم”، ليست لنظامٍ، وليست لسلطة. إنها لكل من عاشها، لكل من حلم بها، لكل من أراد أن تكون حرة.
بالنسبة لي، المطلّ ليس مجرد مكان للنظر فقط، بل مساحة للمصارحة. من هنا، دمشق تُقرأ كخارطة مفتوحة، كل زاوية منها تروي أخطاءنا في تشكيل فضائها في التخطيط والتعمير، وتكشف عن غياب الرؤية التي تركت فراغات مليئة بالعشوائية والارتجال. يتجاوز المكان في الصورة الثانية كونه مجرد نقطة جغرافية ليصبح منصّة مفتوحة للكلام والتفكير في ما تعنيه الحرية والملكية الحقيقية للمدينة.
شيئاً فشيئاً ازدحم المكان. كان لابد من المغادرة من نفس الطريق الذي سلكناه صعوداً، لكني شعرت برغبة في مخالفة الجميع. انعطفت بسيارتي إلى طريق دائري يلتف حول قاسيون، وكأنني أبحث عن شجاعة أكثر وعن حرية أكثر. توجس سامر ورهام، “هل سيوقفنا أحد؟”.. تهددنا كل اللافتات التي تقول “منطقة عسكرية ممنوع الاقتراب والتصوير”، سارعت بالسيارة في طريق ممتد خشينا التوقف فيه إلى أن رأينا النهاية التي كانت بدايةً لصعود جديد.
من بعيد، قادتني عيناي إلى قبة حمراء صغيرة تستقر على قمة جبل جنك، قبة مرصد جبل قاسيون، المعروفة باسم “قبة السيار”. هذا المكان، الذي لطالما أثار فضولي كلما مررت بجواره، كنت أعرفه عبر ما ذكره المؤرخون عن القبة، حيث نسب بعضهم تشييدها إلى الأمير سيار الشجاعي في العصر المملوكي وكانت نقطة اجتماع للمتعبدين في الوقت، بينما رأى آخرون أن طرازها المعماري يشير إلى الحقبة الأيوبية. أما ابن عساكر، فيروي أن القبة تعود إلى زمن الخليفة العباسي المأمون، وكانت تستخدم كمرصد فلكي يساعد على وضع جداول فلكية دقيقة.
الطريق إلى المرصد كان أشبه بدعوة للمواجهة مع الماضي القريب. لم أظهر خشيتي من الصعود إليه، رغم أن السبيل الوحيد للوصول كان السير على الأقدام. تساءلت في داخلي إن كان شبح عنصر أمن يختبئ في أعماقي قد يظهر فجأة ليمنعني. لكنني قررت المحاولة، تخطيت السور ومخاوفي، وتسلقّت المنحدر كمن يكسر قيداً غير مرئي. كأنني رحّالة في مغامرة نحو أرض جديدة.
عند الوصول، غمرتني سعادة عارمة، لم تكن فقط لتمكني من لمس أحجار المرصد التي طالما بدت بعيدة المنال، بل لفكرة أنني قد أكون أول من يصعد إلى هذا المكان بعد سقوط “الأبد“. هناك، وقفت على قمة التلة، أمام المرصد، والتقطت الصورة الثالثة. شعرت أنني أستعيد شيئاً من المدينة، شيئاً من نفسي.. بدا لي المرصد كأنه عين تطل على الزمان والمكان معاً.
الصورة الثالثة
في هذا الموقع، حيث كان الإنسان يوماً ما يبحث عن النجوم ويحاور الكون، شعرت وكأنني أقف على خط فاصل بين الماضي والمستقبل. هنا، في هذا المكان المهجور والمثقل بالحكايات المنسية، وجدتني أتصالح مع فكرة أن المدينة ليست ملكاً لأحد، وليست عمراناً فقط، بل حكايات تراكمت، عاشها من سبقونا، وحلم بها من لم يولدوا بعد.. ذاكرة جماعية بُنيت فوق دماء وأحلام وأشعار وصور، تبدو الآن كأنها تُولد من جديد. سقوط النظام أعاد إليها صوتها، أعاد إليها أهلها، وأعاد إلينا جميعاً الحق في أن نرى مدينتنا كما تستحق أن تُرى: بلا قيود، وبلا خوف … دمشق لم تكن يوماً لنا كما هي الآن.
هذه الصور الثلاث البسيطة، هي بالنسبة لي ليست مجرد لقطات عابرة. هي دعوة لقراءة دمشق والتفكر بها من جديد، للتصالح مع الماضي وبناء حاضر أكثر عدالة.. دمشق، إذا ما حاولنا الحوار معها، قد تهبنا مفتاح المستقبل الذي طالما حلمنا به، فالحرية ليست فقط في الفضاء، بل في القدرة على الحلم