من أين تأتي ثقة أهل دارفور بالطبيعة؟ ها هي الفيضانات التي امتدّت أسابيع، بدأت في منتصف آب (أغسطس) الماضي، قد قتلت العشرات ودمّرت المزارع وهدمّت آلاف المنازل. لا يكفي أن الفلاحين هنا في صراع طويل الأمد على أراضيهم الزراعية مع البدو والأنظمة والتقلبات السياسية المتعاقبة، ها هي الطبيعة نفسها تمارس العنف ضدهم.
رغم ذلك لا يبدّل سكان دارفور الزراعة بشيء، إنها صنعتهم الأساس وعمل آبائهم وأجدادهم من قبل، اعتادوا على أن المواسم لها تحوّلاتها فتركوا البذور في الأرض حتى في أوقات العسر، أملًا في أن أيامًا عكس هذه لا بدّ آتية.
تتوزع مزارع الدارفوريين على مناطق صغيرة تسمى الحِلال (مفردها حِلة)، وهي بلدات أصغر من القرية. ورغم أن الأرض تمتاز بخصوبتها العالية لكن الإنتاج الزراعي ضعيفٌ بالعموم، حيث الزراعة ما زالت تقليدية تغيب عنها الأساليب الحديثة، كما أن كثيرًا من المساحات المزروعة ضيقة؛ عبارة عن “جباريك” والجبراكة هي مزرعة صغيرة للعائلة غالبًا ما تكون قريبة من البيت.
تاريخ موجز
يمتد إقليم دارفور على مساحة تقارب الخمسمئة كيلومتر مربع أو أقل بقليل، يسكنها قرابة سبعة ملايين نسمة يشكّلون مجموعات إثنية تتجاوز في بعض المراجع الستين إثنية وتصل في أخرى إلى تسعين بين أفارقة معظمهم فلاحين مستقرين يزرعون المحاصيل الأساسية من الدخن والذرة والفول السوداني والسمسم والكركديه. وإلى جانب الفلاحين هناك عرب معظمهم من البدو الرحّل والرعاة.
تعايشت هذه الإثنيات والمجموعات وتزاوجت واختلطت هوياتهم دون أن ينفي ذلك وقوع الخلافات الحتمية التي اعتاد أهل الإقليم على أن يحلّها شيوخ القبائل والقيادات المحلية.
الحال لم يدم هكذا طبعًا، فتنازع الإقليم شقاقات وصراعات لم يعرفها سكان دارفور من قبل وفي كل نزاع تأثرت الزراعة بشكل أساسي كونها المورد الأم لسكان المنطقة. في عهد الاستعمار مثلًا طوّر البريطانيون الأراضي الخصبة حول وادي النيل في الشمال، بينما أهملوا دارفور في الغرب. وشيئًا فشيئًا تورط الدارفوريون في الصراعات الدائرة حولهم، بين حروب واكتشاف للنفط وصراعات الثمانينيات الداخلية والإقليمية أيضًا بين تشاد وليبيا. وغرقت المنطقة بالسلاح واشتعلت الصراعات الداخلية الدامية بين عامي 1987 و1989، فقتل المئات واحترقت المزارع ووقعت المجاعات.
مرّت على دارفور فترات متقطعة من الأمن والاستقرار، قبل استلام الجبهة الإسلامية القومية، بقيادة عمر البشير، السلطة في السودان في حزيران (يونيو) 1989. في تلك الفترة انقلب الإقليم إلى جحيم، جرت عسكرة المواطنين تحت مسمّى الدفاع الشعبي الذي ضمّ قواتٍ عقائدية. كما قسّمت الجبهة المجتمعات على أسس عشائرية وعرقية مما فاقم النعرات المناطقية والجهوية. وقسّمت الوظائف على أساس الجهة والقبيلة ضاربةً الأحزاب (الأمة، الاتحادي، البعث، الشيوعي). دخلت البلاد في حرب الانفصال، وحارب جزء من أهل دارفور إلى جانب نظام البشير في الجنوب، مما أثر على الاستقرار وبالتالي على الزراعة والإنتاج. وقبل أن يصبح الإقليم تحت رحمة المساعدات الإنسانية، كانت مساهمة دارفور في الدخل القومي بنسبة 26%.
المصدر: EU Civil Protection and Humanitarian Aid. تنشر وفق رخصة المشاع الإبداعي
عند تقاطع السياسي بالزراعي
يقول الأستاذ الجامعي والمحلل السياسي معتصم دونتاي إن فترة حكم الجبهة الإسلامية أثرت على المشروعات الزراعية من حيث دمّرت مشروعات إنتاجية، وكان من أبرز ضحاياها مشروع الجزيرة وسط السودان. اعتبرت الجزيرة آنذاك أكبر مشروع زراعي مروي في أفريقيا، ووصلت أرباح زراعته في عام 1989 إلى 600 مليون دولار معظمها من زراعة القطن التي استبدل البشير معظمها بزراعة القمح؛ مقامرة اقتصادية لأسباب سياسية لم تأت بنتائج إيجابية. فرض النظام أيضًا جبايات على القطاعات المنتجة، وحوّل دارفور إلى أرض معركة توقفت فيها الزراعة.
تعود جذور الأزمة الزراعية في درافور في عهد النظام السابق إلى عام 2003، حين بدأ قمع جيش تحرير السودان وحركة العدل والمساواة المطالبين بإنهاء تهميش دارفور، اعتبر البشير أن الجماعتين متمردتان، وسلّط أفراد المليشيات المعروفين بالجنجويد على المجموعات الاجتماعية التي تعمل في الزراعة وقُتل بحسب إحصائيات الأمم المتحدة 300 ألف إنسان. بينما فرّ مليونا دارفوي من منازلهم وأراضيهم ليصبحوا لاجئين في مخيمات تتلقى مساعدات دولية. وجد الرعاة الأراضي بعد أن نزح أهلها خالية فاستقرّوا فيها، وحين عاد المزارعون يطلبون أراضيهم بدأت الصراعات والاشتباكات مع من حلّوا فيها.
دخلت المنظمات الدولية إلى دارفور التي أصبح أهلها يعتمدون على برنامج الأغذية العالمي وتحولوا بالتدريج من مجتمع زراعي منتج إلى مستهلك للمساعدات الغذائية. لم يقدم البرنامج أي نوع من الإرشاد الزراعي أو يمكّن الفلاحين القدامى من وسائل الإنتاج، ودخل الإقليم في فترة طوارئ طويلة الأمد. وتعرّضت مخازن برنامج الأغذية العالمي نفسه، الذي يخدم قرابة عشرة ملايين نسمة في المنطقة، للنهب والسلب كان آخرها في كانون الأول (ديسمبر) 2021، مما اضطر البرنامج إلى تعليق خدماته للإقليم.
وفي حين ينحصر دور برنامج الأغذية العالمي، كما يوضح المهندس الزراعي أحمد عرفات في تقديم المساعدات الغذائية، فإن الإرشاد الزراعي وتمليك وسائل الإنتاج جزءٌ من مهام منظمة الفاو وجهاتٍ أخرى ناشطة في مجال الزراعة، غير أن هذه المنظمات تواجه معضلةً تحول دون قيامها بجهودٍ مثمرة، إذ أن العودة إلى الزراعة المنتِجة مسألةٌ متعلقةٌ بالاستقرار السياسي في الإقليم والسودان كله بشكل أساسي.
المصدر: UNAMI. تنشر وفق رخصة المشاع الإبداعي
الحرب أهلكت ماشية البدو
للرحّل روايتهم أيضًا عن الواقع، يقول مسعود محمد يوسف أحد أبناء البدو الذي أصبح في ذات الوقت مزارعًا أنهم تحولوا إلى مزارعين بسبب فقدانهم الماشية، مصدر عيشهم الوحيد، في الحروب وسنوات الجفاف، مما اضطرهم إلى الاستقرار. ويتابع أن البدو يتنقلون من الجنوب إلى الشمال في موسم الخريف والعكس في موسم الصيف، وأثناء هذه الرحلة تبقى الأسر في مواقع ثابتة تُسمّى الدمر ومن يبقى في “الدامرة” يعمل في الزراعة حتى عودة الماشية في رحلة تُعرف محليًا بـ “النشوق”. ومن مناطق الدمر رجل الكبرى، وعيش برة، وديسة، وسطاني وأم كلول.
ينفي مسعود أن الانتهاكات ممارسة بدوية ممنهجة في دارفور، واصفًا الاعتداءات من وجهة نظرة بالحالات الفردية التي لا ترقى إلى عملٍ جماعي منظّم كما يشاع، بل إنه يذهب إلى أن الاشتباكات هي مشاجرات بين الرعاة والمزارعين. فالبدو يملكون، بحسبه، أراضٍ زراعية حصلوا عليها تاريخيًا لأغراض الرعي. إلى جانب ذلك تمتلك المجموعات العربية في دارفور حواكير، مثلاً في غرب الإقليم حواكير لقبائل المهادي والترجم والعطرية والمسيرية والحوطية.
في جنوب دارفور أيضًا هناك مضايقات من مليشيات مسلّحة تنازع المزارعين على نتاجهم وقت الحصاد، كما يقول المزارع خطاب سيف الدين من منطقة مرشنق في ولاية جنوب دارفور، بعض الرعاة أيضًا يدخلون الماشية عنوة للرعي من المحصول. أحيانًا يكون سبب النزاع ليس اعتداء الرعاة بل طمع المزارعين في التوسع على حساب الرحّل مثلما يحدث أحيانًأ في منطقة شنقل طوباي بولاية شمال دارفور.
المصدر: UNAMI. تنشر وفق رخصة المشاع الإبداعي
نزع السلاح أولًا
اقترح كاتب هذه السطور -بعد طرح مجموعة من الأسئلة التي تستطلع ما تراه جهاتٌ ومتضررون من مناطق مختلفة بدايةً لحلٍ- مسودةً لخطّة عملٍ تحل نزاع المزارعين-البدو يستغرق تنفيذها ثلاثة أعوام.
ومما استخلصته هذه الورقة أن أي حلول في الأفق لا يمكن البدء في تنفيذها من دون نزع السلاح المنتشر بين المواطنين أولًا، ومن دون محاسبة المعتدين ومرتكبي الجرائم. ألا تكون هذه بداية مطمئنة إن تحققت؟
بعدها يمكن الجلوس والحوار حول قضايا هي في صميم المسألة الزراعية، من ذلك العنصرية والتمييز العرقي بين الأفارقة والعرب، والحاجة إلى بناء مجموعات تفاهم وإيجاد منافذ أخرى للشباب غير الزراعة مثل الصناعات والمهن من ذلك صناعة الجلود مثلًا.
ما زالت المسودة قيد التطوير والنقاش مع المعنيين بها، فالجهود الرسمية وحدها لا تكفي ولم توصل أهل دارفور إلى مكان آمن وحياة مستقرة. وعلى الرغم من أن الحكومات المحلية تدرك حجم المشاكل والتناقضات وقد سنّت قوانين حدّدت فيها توقيت “الطلقة” أي فترة الحصاد، لكن سلطة هذه الحكومات نفسها ضعيفة وهي أقرب إلى أن تكون عاجزة عن تطبيق القوانين التي تسنّها أو حماية القرارات التي أخذتها.