يبدأ سيف يومه على السادسة صباحا، ساعة بعد نهاية حظر التجوال الليلي المستمر منذ شهور في عددٍ من المُدن ومن بينها العاصمة الجزائر، يُصلّي ويخرج ليجمع العمّال الذين لا يبيتون في مكان العمل.
هذا الأخير يتغيّر كل مرّة، قد يكون شقّة أو مستودعا، المهم أن يكون فارغا حتى يبيت فيه البنّاؤن إذا اقتضى الأمر.
قبل الوباء، كان سيف يخرج في وقتٍ أبكر من السادسة، ولكن السنة المنقضية عطّلت أشياء كثيرة، والآن –مع بداية سنة 2021- باع سيف سيارة العائلة التي كان يتحرك بها ويستعملها في قضاء مشاغله، كي تُسدّد عائلته قسطا من سعر شقّة اشترتها من الدولة، وتنتظر أن تتسلّم مفتاحها وعقدها.
أُطلِق مشروع “المليون مسكن” في عهد الرئيس المستقيل بوتفليقة، منذ حوالي 15 عاما. ولازال مستمرا إلى اليوم، وصار عدده ملايين بدل المليون. وكانت وزارة السكن، التي مرّ عليها الرئيس الحالي عبد المجيد تبّون، قد أوجدت صيغا عديدة تُمكّن الطبقات الوسطى –بشرائحها السفلى والعليا- من امتلاك شقّة. كل عائلة، أو كل فردٍ، حسب مدخول من يعولها.
“من الصعب الحصول على شقة في الجزائر، حتى الصيغ السكنية الاجتماعية الموجّهة للمواطنين الذين يملكون أجرا قاعديا ضئيلا.. لا يمكن للجميع الحصول عليها”، يرى سيف الذي يعمل في مجال البناء منذ ثلاث سنوات، بعد تخرجّه من المعهد الوطني للأشغال العمومية.
من الصعب الحصول على شقة في الجزائر، حتى الصيغ السكنية الاجتماعية الموجّهة للمواطنين الذين يملكون أجرا قاعديا ضئيلا.. لا يمكن للجميع الحصول عليها
التقيت سيف يوم جمعة، عطلة أسبوعية في الجزائر، ورافقته إلى موقع بناء بتقصراين (الضاحية الغربية للعاصمة) حتى يتسلّم أجر فريقه ويتأكّد مع صاحب البناية من أنّ عمّاله تمكّنوا من عزل سطح البناية الذي كان يرشح بالماء. صباحا، مررنا على المدخل الشرقي للعاصمة، الطريق خالية ولكن قوّات الدرك تركن شاحناتها لوضع الحاجز الأمني الأسبوعي في طريق المطار.
يقول لي سيف: “هم على هذه الحال، كل جمعة تقريبا، منذ مارس 2019 (خلال الأسبوع الأول للحراك) يعني الحراك جاء وراح، والكورونا جات وقريب تروح، ومازالوا يغلقوا الطريق.. الحراك توقف في مارس 2020 وهم مازالوا هنا”.
ضدّ الوظيفة
في شهر أفريل القادم سيُتِم سيف 27 سنة، وهو يقتربُ من تأسيس شركة مقاولات صغيرة مع صديق له، كما يُخطّطُ للزواج نهاية هذه السنة. عاش سيف كل حياته في الضاحية الشرقية للعاصمة، في حيّ شعبي، حيث اشتغل كل من والده ووالدته في قطاع التعليم العمومي طيلة حياتهما.
بعد الثانوية، درس في المعهد الوطني للأشغال العمومية بالعاصمة لمدة سنتين ونصف، وتخرّج بشهادة مُسيّر أشغال بناء، ودرس بعدها في معهد خاص ليحصل على شهادة مهندس تطبيقي.
التحق للعمل في شركة خاصة، حيث كان يُشرف على مجموعة عُمّال في موقع بناء. لم يطل مكوثه، بقي لستة أشهر ثم توقّف ليلتحق بثكنة الخدمة الوطنية حيث صُنِّف “غير مؤهّل” للتجنيد. فيعود ليشتغل لمدة سنتين في موقع بناء داخل مصنع أدوية.
يتحدث سيف عن هذه التجربة كأهم مرحلة حياته العملية القصيرة. يقول: “كانت وظيفة أيضا، رغم أني اليوم ضد الوظيفة والمرتّب الثابت. تصوّر.. عملت لمدة سبعة أشهر دون الحصول على مرتّب، المدير كان ابن مسؤول ويملك شركة ضخمة حصلت على عشرات المشاريع، يتهرّب دائما من دفع مرتّبات العاملين ويتركهم يصارعون أصحاب المشروع والمموّلين والعمّال، تأخرّ مرتبي لسبعة أشهر، ثم بقيت أعمل لسنتين ويصلني المرتّب متأخرا. لكنّي تعلّمت الكثير. أولا صرت قادرا على تسيير مشروع بناء منشآت صيدلانية وهو ما لم ندرسه، وثانيا صار عندي شبكة واسعة من المعارف في المجال، وثالثا صرت قادرا على إيجاد حلول للمشاكل الكبيرة في البناء.”
في الطريق إلى تيقصراين، نتوقف في الطريق لنشرب قهوة. المطاعم والمقاهي والمحلات في العاصمة لازالت تعمل بنصف طاقتها، أغلبها يضع طاولات في مداخل المحلات حيث يمكنك طلب مشترياتك والدفع ثم الذهاب. ننتظر القهوجي كي يعود، المحل الذي توقفنا عنده “مطعم ومقهى”، أنظر إلى اللافتة التي تحمل العبارة الشهيرة: قاعة عائلية.
حيث تفصِلُ أغلب المحلات في الجزائر في الجلوس بين العائلات وغير العائلات، أي بين الرجل المرافق بزوجته وأفراد عائلته وبين العزّاب، وفي بعض المناطق في البلاد تعني كلمة “العايلة” المرأة وجمعها “العوايل”.
في عُرف الجزائريين تعني العائلة الاحترام وهي الوحدة الأساسية للحساب في المجتمع، لا يوجد قبلها شيء، لا وجود للأفراد سوى كاحتمالات ستُشكّل عائلة في يومٍ ما أو سيعيشون عالة على العائلات.
تعني العائلة في عُرف الجزائريين الاحترام، وهي الوحدة الأساسية للحساب في المجتمع، لا يوجد قبلها شيء، لا وجود للأفراد سوى كاحتمالات ستُشكّل عائلة في يومٍ ما أو سيعيشون عالة على العائلات.
الرجال العزّاب، الذين لم يتزوجوا، يُسمّون “زوافرة” جمع “زوفري” وهي تعريب كلمة “أوفريي / ouvrier ” بالفرنسية، والتي تعني عامل، وغالبا تشير إلى العامل الذي ينام في مكان عمله ولا يجد من يطبخ له ولا من يغسل ثيابه، وتُقال أيضا لعُمال البناء بالخصوص، مثل أولئك الذين يُشكّلون فريق سيف.
لا أحد يريد أن يكون “زوفري” في الجزائر، ولكن: لا يريد الجميع، بالضرورة، تشكيل عائلة.
حتى الحراك الشعبي، في سنتي 2019-2020، أكبر انتفاضة شعبية شهدتها البلاد منذ استقلالها، اكتسب معنى جديدا عندما “خرجت العائلات والنساء” وسارت وسط الرجال في مواجهة الشرطة. شيء يُشبه ملعب كرة قدم في حي شعبي تتطاير فيه الشتائم والمسبّات حتى تمرّ والدة أو أخت أحدهم فتهدأ الجلبة قليلا في انتظار عبور “العايلة”.
ولكن..
عندما هزّ الحراك الشعبي أكثر من مدينة جزائرية يوم 22 فيفري 2019، وجَد سيف نفسه يُتابع مهندسين إيطاليين يضعون آلاتهم في مصنع الدواء الذي بناه. بعدها بأسابيع قليلة ترك سيف العمل مع “ابن المسؤول” وقرّر الخروج للعمل لوحده، كمُقاول صغير حُر من دون إطار قانوني واضح.
“لم أخرج في أيّ مسيرة خلال عام ونصف من الحراك” يقول سيف. “الحراك كان كل يوم جمعة، كان أيضا في وسط الأسبوع مرّات.. لكن الجمعة كان اليوم الرئيسي، أنا الجمعة كنت يا إمّا أعمل أو أرتاح بعد أسبوع طويل من العمل.”
يقول سيف أنّه نادمٌ قليلا اليوم لأنه لم يخرج في الحراك. “لماذا أنا نادم؟ لأنّي أنا أيضا أريد للأمور أن تتغيّر في البلاد، أن تنتهي البيروقراطية ونحصل على نظام مصرفي أحسن ممّا هو موجود اليوم، لكن دعني أسألك ماذا تغيّر مع الحراك؟ لا شيء.”
أسأله هل غيّرت الانتخابات الرئاسية، في 12 ديسمبر 2019، شيئا؟ يجيبني: “نعم، انتخاب رئيس جمهورية جعل العديد من المشاريع المتوقّفة تتحرّك، ثم لا تنسى هناك مقاولون كانت الدولة تدين لهم بملايير الدينارات، تمكّنوا من أخذ أموالهم، كل شيء كان متجمّدا بسبب الحراك.. لكنني لستُ ضدّ الحراك، أريد فقط أن أطرح السؤال: بماذا جاء الحراك؟”
يخبرني سيف أنه قد يخرج لو عاد الحراك. أشعر أنه يريد الخروج حتى يشاهد بعينه ما يحصل، لكنّه لا يستطيع تجاهل سؤال “ثم ماذا بعد؟”. ذات مرّة تحدّثنا عن عودة الحراك، فقال لي أنه يفضّل عودة الحراك، فعلى الأقل سيكون هنالك مكان يُسمِعُ فيه النّاس صوتهم. لكن الآن، ونحن على بُعد أيام قليلة من الذكرى الثانية للحراك، لا يبدو متحمّسا.
أنا أيضاً أريد للأمور أن تتغيّر في البلاد، أن تنتهي البيروقراطية ونحصل على نظام مصرفي أحسن ممّا هو موجود اليوم، لكن دعني أسألك ماذا تغيّر مع الحراك؟ لا شيء.
ليس سيف وحده، وهو الذي لم يُشارك في مسيرات الحراك، من يتحدّث عن هذا الأخير بوصفه مكانًا. فطيلة عام ونصف من المسيرات والأحداث، سمعتُ مئات النّاس من حولي –وأنا معهم- يتعاملون من “الحراك” كمكان، أو بالتحديد كتقاطع للزمان والمكان. قد يسألك صديقك “هل نلتقي في الحراك”؟ أو تسمع جارك يقول: “خلال أيام الحراك..” فتسأله مستفسرا: “قصدك في المسيرات؟” فيوضّح: “لا، يعني لما كان هناك حراك”.
البعض يرى أن الحراك انتهى بانتهاء المسيرات، فيما يرى آخرون أن المسيرات ليست سوى الجزء الظاهر من الحراك. مثل الآيسبرغ، هنالك قمّة جليدية فوق سطح الماء هي المسيرات وكل ما يحدث في الشارع، لكن الحراك موجود في كل مكان.
جدران لحماية العائلة
وعندما أسأل سيف هل يعتبر الجزائريون أمّة بنّاءة، يجيبني بلا تردّد: “لا”. ثم يشرح: “دعنا ممّا هو فوق الأرض، سنتكلم عمّا هو تحت الأرض. نحن لا نملك بنية تحتية قوية”. يشرح فكرته بخصوص البنية التحتية، الطرقات والصرف الصحي حالها كارثي في الجزائر. خاصة في المدن الكبيرة. “هناك أموال مهولة تُصرف لإنشاء الطرقات وحفر الأنفاق ووضع سكك حديد القطارات والمترو وتركيب أنابيب الغاز وتوصيل الكهرباء، لكن بالمقابل التسيير كارثي والرشوة والمحسوبية في المناقصات، وهذا يدوم منذ عقود.. كل هذا يصل بك إلى سؤال واحد: يا أما البلاد عندها بنية تحتية أو ما عندهاش !”، يقول سيف.
يُعدِّدُ سيف أسماء “المشاريع الكُبرى” التي أنجزتها الجزائر منذ الاستقلال: “مقام الشهيد… جامع الجزائر… مترو الجزائر… مشاريع الإسكان الضخمة، زِيد؟ كلها مشاريع أطلقناها مع الأجانب وسُمِّيت علينا طبعا، لا ضرر في ذلك.. لكننا لسنا بنّائين. والسؤال ليس هل نحن بنّاؤن أم لا، أيّ بلد يحترم نفسه عندما يُقدِمُ على مشروع كبير، تجد مكاتب الهندسة تعطي وقتا أطول للدراسة ثم يتم الإنجاز في وقت قصير نسبِيا، لكن في الجزائر العكس هو ما يحصل: سنة دراسة وثلاثون عاما لإنجاز المشروع”. يضيف: “أنا دائما أشتغل مع مكتب دراسات، لا أهمِل ضرورة المهندسين المعماريين والمدنيين، رفضت العمل على أكثر من مشروع بسبب غياب الدراسات”.
أيّ بلد يحترم نفسه عندما يُقدِمُ على مشروع كبير، تجد مكاتب الهندسة تعطي وقتا أطول للدراسة ثم يتم الإنجاز في وقت قصير نسبِيا، لكن في الجزائر العكس هو ما يحصل: سنة دراسة وثلاثون عاما لإنجاز المشروع
في تيقصراين، المنطقة المتاخمة لحديقة حيوانات العاصمة، والتي كانت غابة وبساتين تنامُ خارج أسوار مدينة الجزائر قديما، أصلُ مع سيف إلى حي كلّه بنايات شاهقة غير مكتملة. الطريق غير مُعبّد وضيّق، ورغم ضخامة البنايات إلّا أن التخطيط عشوائي.
يشرح لي سيف أن الأرض هنا مائلة لأنها جبلية، أو كما تُسمى –بتعريب للتسمية الفرنسية: أرض مكسورة- وأغلب البنايات تظهر من الخارج أنها تتكوّن من خمس أو أربع طوابق، لكنها في الحقيقة تتكون من ثمانية أو تسعة طوابق.
وكذلك كان الأمر، ما أن فتح سيف الباب الكبير حتى وجدت أن ما ظننته الطابق الأرضي، كان الخامس، وأن هنالك أربعة طوابق إلى الأسفل. اضطر صاحب البناية إلى تكسير الجبل ثم تغليفه بالبيطون والحجر ليبني.
يخبرني سيف أن فريقه أنهى العمل هنا. “هذه بناية لشريكين، يريدان تأجيرها لاحقا. لكن حصل لهم مشكل في آخر طابق، السقف والجدران تُدخِل المياه، لم يعزلوها بالشكل الكافي. المفروض تضع سبع طبقات من الزفت ومواد أخرى حتى تحصل على عزل تام ضد البرد والمياه والحرارة، لكن النّاس يحبّون الحلول السهلة التي تدوم عاما أو أقل”.
نصعد إلى آخر طابق ونُطلّ على أرض خضراء واسعة، وتقابلنا مشاريع سكنية مكتملة من الناحية الثانية. تقصراين تُعتبر اليوم من أغلى المناطق في العاصمة، ولكنّ شكلها يشبه عشوائيات ضخمة. يُشير سيف إلى البناية المجاورة ويقول: “هذا مثلا طلّع عمارة كاملة، وأجّر كل شققها، شوف المسافة بينه وبين هذه البناية…” أقترب لأرى فأجدها أقل من متر تقريبا.
الشريكان، أحدهما كان يعيش في أوروبا وعاد ليستثمر ما جمعه هناك والثاني تاجر “مُتدين”. يشرح أمين أن الأول “كان عايش برّا وشاف البناء والهندسة والديكور” لذلك دائما يُشجّع المهندسين والبنائين على استثمار المساحات المفتوحة وتوسيع الشرفات، في حين أن الثاني “محافظ”، يقول سيف أنّه سمعه يُردّد أكثر من مرّة أنه يريد جدران فصل داخل الشقق، وجدران عالية بين شرفات الطابق الأخير وبين الجار، حتى “تكون الحرمة والسترة للعائلات والنساء”.
يواصل: “الناس هنا طلعت عمارات من عشر طوابق من غير أدنى قواعد السلامة، هذا لو يروح يطلّع أوراق سجّل عقاري لن يستخرجه. نصف ما بناه مخالف للقانون، ولكن لا أحد يهتم. تعال أنظر إلى أسفل، أترى ذلك الجزء الأسود في الأرض الخضراء؟ هذا تفريغ أنابيب الصرف الصحي، تصوّر أنت تبني كل هذا وليس عندك مكان تفرّغ فيه مياه الصرف الصحي، تصوّر أنك تؤجر شقة هنا بالملايين والخراء والبول على بُعد عشرين متر تحت أنفك. حسب صاحب العمارة فإن صاحب الأرض رفض توصيل أنابيب الصرف الصحي بالبالوعات القريبة، رفض أن يحفروا في أرضه ولكنه قبل أن يفرغوا فيها وسخهم”.
لاحقا عندما يأتي صاحب البناية، وبرفقته أصدقاؤه، حتى يُعاينوا عمل فريق سيف أنزوي مع هذا الأخير في ركن قريب تاركين الجماعة يتأكّدون من جودة العمل، ويقول لي بنبرة ساخرة: “الجزائري لما يطلبك في البداية، يعمل روحه ما يفهمش في البناء، ولما يجي يستلم النتيجة يأتي بأصحابه وأحبابه ومعارفه من البناءين والخبراء حتى يراجعوا عملك”.
يقول سيف للرجل: “عندما تُمطر السماء ستجدني هنا عندك في الصباح حتى مدى فعالية العزل”. ثم يجلسان على حجر آجُر يتحاسبان. يحمل سيف معه محفظة بلاستيكية صغيرة، بها أوراقه وفواتيره وأقلامه، مُنظّمٌ جدا في عمله ويُحاسِبُ من دون لف ودوران.
سيارة عائلية
سوق السيارات مُشكِلٌ آخر في حياة سيف التي ترتبط، كحياة أكثر من مقاول صغير، بالعديد من الأسواق الراكدة في الجزائر بين مطرقة الدولة وسندان المضاربين وأرباب السوق السوداء. “مش وقت الواحد يبيع طونوبيلتو.. اضطرينا، وإلاّ ما نبيعوش، صعيب نشري طونوبيل اليوم”.
السيارة التي يُريدها سيف مرتبطة بالعائلة أيضا. يبحث في موقع “واد كنيس” (أشهر سوق افتراضي جزائري) عن السيارات المستعملة والتي توجد بحالة جيّدة ولكن بسعر غير باهظ… يُصفِّر ويقول: “النار شاعلة فيهم، شوف هذي.. غالية”.
يريد سيف سيارة “تكون واسعة، مليحة للعايلة وللخدمة..” يشرح لي. توصف هذه السيارات قانونيا بـ “السيارات النفعية”. يُكمِل: “عندك زوج خيارات، كونغو ولا بارتنر”. يحتاج سيف سيارة نفعية وهو في بداية مشواره وحياته، تسعُ له العائلة التي سيؤسِّسُها والعمّال الذين سيتزايد عددهم، كما يأمل، مع الوقت.
إغلاق الحدود عطّل الكثير من الأشياء، وجعل فريق سيف يتناقص عدده. أكثر من عامل عاد لبلده، لأن من ضمن الفريق “المُرتجل” معلّمو نقش على الجبس من المغرب. يقول لي سيف أنّهم يدخلون الجزائر في أغلب الأحيان بشكل غير شرعي، عبر الحدود البرّية المغلقة منذ 1995. “هل تغيّر شيء مع الكورونا؟” أسأله، يجيبني: “طبعا الحدود مغلقة بالكورونا ولاّ من غير كورونا، ولكن الآن العسّة كبيرة… راك تشوف، الزطلة ما عادتش تدخل”.
لكن سيف يريد الطرق مفتوحة للعاملين الذين يتعاون معهم، لا تهمه الزطلة ولا الدخان ولا الكحول، لم يقربها في حياته. يقول “تعرف.. المغاربة هذو يخدموا في دزاير من قبل 1995، ولما الحدود تغلقت، ما قبلوهاش، حياتهم وخبزتهم هنا..”
بسبب الوباء، أيضا، فقدت خطيبة سيف وظيفتها، ولازالا يبحثان لها عن منصب آخر، بعدما ظلت قُرابة السنة من دون عمل. كانت تعمل في مركز طلب تأشيرة بلد أوروبي. لكن كل المراكز أغلقت لأن الجزائر، ومع بداية الوباء، أغلقت حدودها البرّية والبحرية والجوية ولم تفتحها إلى اليوم سوى للترحيلات.
يخبرني سيف أنه صار وقتُ تأسيس عائلة والاستقلال. يشرح لي أنّه واعٍ للمسؤوليات ولا يريد الزواج حتى يُغيّر فقط من روتين يومه. هو يمارس الرياضة ويسافر مع أصدقائه للتخييم كلما استطاع، يحاول أن يُسيّر حياته بأفضل طريقة ممكنة، تماما كما يُسيّر مواقع البناء.
ويرى أنّ عمله في المقاولات هو الباب نحو تحقيق أحلامه. ما هي أحلامك؟ أسأله، فيجيب: “تكون عندي استقلاليتي، نكون مرتاح نفسيا وماديا، يكون عندي مسكن أحبه وأستطيع أن أتحرّك براحتي.. الوظيفة لا يمكنها أن تعطيك هذا، الوظيفة تربطك بالمُرتّب. أنا لا أمانع أن أبقى أربعة أشهر بلا أموال، ولكن عندما ينتهي المشروع الذي أعمل عليه، قد أحصل على ما يعادل سنة من مرتبات موظّف”.
يسعى سيف كل يوم إلى العمل، ويستعدُّ منذ أشهر كي يؤسّس شركة وعائلة. سيلتحق بالضفة الثانية للنهر، ضفّة العائلات. بداية الطريق ليصير وحدة أساسية في الحساب.. بالنسبة للدولة والمجتمع.
فكّر سيف قبل سنوات في احتمالية الهجرة، الذهاب إلى بلد أوروبي والعمل في مجاله والبدء من الصفر. لكن الآن هو يستبعد هذه الفكرة، يقول أنّه قضى 27 عاما يحاول فهم طريقة عمل الأمور في الجزائر، وبالكاد بدأ يتأقلم ويفهم، لن يُغيّر الملعب الآن.
ويضيف: “أنا في رأيي الجزائر فيها الكثير من المال، لمن يعرف كيف يحصل عليه. يعني لازلت ترى أناسا يتجوّلون في سياراتهم بثلاثة أو أربعة ملايير، داخل أكياس سوداء، كي يدفعوا فواتيرهم. الكل لا يثق في البنوك طبعا، هنالك الكثير من المال في التجارة والبناء، ولست أتحدث حتى عن السوق السوداء، أنا أستيقظ كل يوم على الخامسة.. أنا من يسعى نحو العمل، ولا أنتظره كي يأتي نحوي”.
يقضي سيف أغلب وقته في قضاء مشاغله، لا يستعمل شبكات التواصل الاجتماعي إلاّ “للتواصل”، لا ينشر شيئا على فيسبوك أو أنستغرام، فقط واتساب وفايبر ومسنجر. يسعى سيف كل يوم إلى العمل، ويستعدُّ منذ أشهر كي يؤسّس شركة وعائلة. سيلتحق بالضفة الثانية للنهر، ضفّة العائلات. بداية الطريق ليصير وحدة أساسية في الحساب.. بالنسبة للدولة والمجتمع.