في نظرته الطويلة الممتدة إلى اللاشيء، يحاول عم “حسين السيد محمود الغزولي“ استعادة مشاهد سابقة من حياته. يستعيد لحظة انتقال جده الكبير “الغزولي“، الذي تعلم حرفة رفا ملابس في القاهرة، إلى الإسكندرية وتحديدًا في حي بحري ليستقر هناك أوائل القرن العشرين، مورّثًا حرفته لأبنائه لتكون حرفتهم.
يستعيد دخوله إلى الحرفة وهو في العاشرة بعد أن ترك المدرسة في مطلع الستينيات لضيق حال الأسرة، ومعلمه “الحاج أنور طمان” “برنجي الحرفة” – كما يصفه – الذي علّمه أسرار الحرفة ومايزال ممتنًا له. يفكر في ولديه وابن أخيه الذين يعملون معه في محله، ثم يتنهد ويتمتم، “ربنا يرحم اللي ماتوا“.
وقت طويل قضاه عم “حسين” منكبًا على أقمشة وملابس من صوف وحرير وقطن وجينز وتريكو وسجاد يعالجها لأجل إصلاحها، ساعات طويلة على مدار أربعين سنة أو يزيد، وهو جالس في صمت وتركيز وصبر لا يقطعه إلا مواعيد ذهابه لبيته وأوقات تدخينه للشيشة.
الرفا حرفة تليق بالرهبان، لما تحتاجه من صبر وتركيز وقدرة على المكوث في موضع واحد لوقت طويل. إنها مهنة التأمل والاستغراق ونسيان العالم في محاولة لرتق الثقوب والفجوات. على صنايعي الرفا أن يتأمّل مسارات خيوط النسيج الطولية والعرضية للقماش لصنع مثلها. ينسّل خيوط الثوب ليتحرى من أين سيبدأ لإعادة غزل النسيج المنتوش أو المثقوب أو الممزق، وذلك بخفة ومهارة وبخيوط من نفس درجة اللون.
في عالم الملابس، تقف حرفة “رفا ملابس” موقف “جراحة التجميل“، هي ليست “خياطة“، قص وتمكين، أي صنعة وخلق، ولا “تصاليح“، أي تصليحات، أو ما يُعرف بالروتوش، كالتقطيب والتطويل والتقصير والتضيق والتوسيع، لكنها تختص بعلاج النسيج نفسه وإصلاح شكله وهيئته كي لا يبدو ملحوظًا.
تحتاج إلى ممارسة وخفة يد. اسمها نفسه يوحي بذلك، رفّ يرفّ رفّا، ومنها رفيف ورفرف، وكلها دلالات تشي بطبيعة الحركة السريعة لليد الغازلة وطبيعة أدواتها من الإبر الرفيعة.
خلافًا للخياطة و”التصاليح” التي تعتمد على ماكينات الخياطة، تعتمد الرفا على ثلاثة أنواع من الإبر اليابانية ومقص وخيوط كثيرة ومتعددة الألوان لنسج النسيج المفقود ولحم القماش في بعضه البعض. الرفا والمنجّد والـ”كومترجي” -مرقِّع الأحذية- هي الحرف الأكثر اعتمادًا على الإبر في عملها كعدّة أساسية.
اليابان أحد أهم البلدان التي ازدهرت بها حرف الحياكة وأعمال الأبرة كالترقيع – وتسمى ساشيكو– ونوع آخر من فن التصليح – اسمه بورو – والرفا وتسمى كاكيتسوجي، وتوجد دلائل حول وجود هذه الحرف في اليابان تعود للقرن الثامن الميلادي، منها روب أحد الرهبان الذي تظهر عليه تطريزات الساشيكو باللون البنفسجي.
كانت حرفة الساشيكو والبورو سائدتين لأنهما في متناول الجميع وبخاصة الطبقة الفقيرة، تهتمان بمتانة الثوب وإصلاح العيب بغض النظر عن الشكل. وكانت هناك زخارف تُصنع على الرقعة لكن الرقعة في النهاية واضحة، على عكس كاكيتسوجي التي كان شرط اختصاصها هو إخفاء العيب وآثار تصليحه، وكانت هذه الحرفة لملابس الميسورين الذين يدفعون من أجل إخفاء الثقوب.
قبيل الصناعة كانت الملابس واحدة من الأصول والممتلكات التي تورَّثها العائلات فيما بينها، وكانت حرفة الخياطة والروتوش والرفا شأن منزلي تختص به ربات البيوت. ومع انطلاق الثورة الصناعية ونشأة مصانع الملابس والأحذية، ازدهر سوق حرف التصليح ومن بينها الرفا كقطاع تكاملي يصون البضاعة لوقت أطول.
ساعدت الحرب العالمية وما تلاها من ركود اقتصادي في نمو سوق هذه الحرف، خاصة عندما كانت مصانع الملابس تعمل بكل طاقاتها في صنع الزي العسكري لآلاف الجنود وكان على الناس أن تكتفي بما لديها من ملابس أو أن تصنّع أو تصلّح ملابسها بنفسها، وانطلقت دعاوى الاكتفاء الذاتي “فصّل، واعمل وصلّح” و“لاتسرف، ولا تطلب” في انجلترا وغيرها من الدول الأوربية.
كذلك كان الحال في مصر، وخاصة في القاهرة الخديوية التي كان زيها الملابس الرسمية، الأفرنجية، ملابس الأفندية، وكانت الجلابيات ثياب العامة من أولاد البلد، وصار صيانة هذه الملابس سوق متنامٍ في القاهرة.
فمع نهايات القرن التاسع عشر، بدأت الحرف المتعلقة بالملابس والترزية في الظهور فكان هناك ترزية وخياطون، حيث اختص الترزية بتفصيل الموديلات الأفرنجية للجنسين كل على حده، واختص الخياطون والخياطات بتفصيل ملابس العوام للجنسين معا، ويازماجية، وهم العاملون في صناعة اليازمات (أي الطرح والشالات)، وقمصانجية، المتخصصون في تفصيل القمصان الأفرنجية والطرّازون، وحرف مختلفة تتعلق بالملابس كالصباغة والفراء وكان غالبية أصحاب هذه الحرف من الأرمن واليونانين الذين نظموا أنفسهم تحت مظلة جمعية اتحاد الخياطين التي تأسست عام 1901 برئاسة د.”بستس“ اليوناني.
جلد فوق الجلد
تعمل الرفا من فرضية أساسية وهي أن ملابسنا جلد ثانٍ فوق الجلد، وجهنا الذي نلاقي به الآخرين والعامل الحيوي في إحداث انطباعات لديهم والسيطرة عليهم أحيانًا.
الملابس الرسمية المكوية المتلائمة وهيكل الجسم، الملابس الغامقة، والملونة، والكاشفة والمحتشمة، كلُّ يؤدي وظيفته وتأثيره ويسفر عن ميولنا ورغباتنا. وأي إصابة لملابسنا سواء كانت نتشًا أو مزقًا هي إصابة مباشرة تنال من وجهنا الذي نمارسه على المتعاملين معنا، خاصة وإن حدث هذا في مناسبة عامة أو رسمية مثلًا. بنطلون ممزق من الخلف، ثقب في معطف أكلته العثة أو السجائر، إصابات تحتاج إلى تضميد وتجميل كي لا تظهر تحت أعين الآخرين.
من الثابت والمتعارف عليه عند كثيرين أن ملابسنا لابد وأن تكون سليمة، لأننا إن خرجنا بملابس ممزقة فإن هذا سيسترعي انتباه الآخرين وإن لم نقدم تفسيرًا فإنهم سيفكرون في إيجاد تفسير بأنفسهم وهذا قد يغير من نظرتهم إلينا أو يبطل من تأثيرنا عليهم. يتوقع الآخرون أن نخرج بملابس سليمة، وبسبب هذا التوقع نلجأ إلى الرفا.
بالطبع هناك الجينز الممزق والقمصان والتيشرتات المقطّعة التي انطلقت بالأساس من احتقار الآخر ورفض الكود الاجتماعي السائد لكنها انتهت بأن صارت موضة تُرتدى لجذب انتباه الآخر وإثارة إعجابه وهو ما أدى لظهور حرفة المقطّعاتي الذي يقطّع الجينز السليم ليصبح على الموضة!
بالتأكيد من يرتدي موضة المقطّع لأول مرة في نطاق عام فإنه عادة ما يستشعر وطأة الآخر وسطوة كود اللباس العام المهيمنة على الفضاء الخارجي واضطراب التفاعل بينه/ها وبين المتعاملين معه/ها نتيجة للفعل المنافي لتوقعاتهم وهو ما يترتب عليه صناعة توقعات جديد ليس بالضرورة محببة إلى الشخص المرتدي لهذه الملابس.
الرفا هي تحايل على عين الآخر، وتأكيد على سلطته وتأثيره، ومحاولة لعدم كسر توقعاته حيالنا. وكذلك هي أيضًا ترسيخ للأثر الذي نود أن نثيره في نفوس الآخرين لإثارة إعجابهم أو احترامهم أو خوفهم، أو حتى لخداعهم. الرفا هي تثبيت لأركان كود الملابس المتعارف عليه الذي يُرتدى على نطاق واسع في القطاع الرسمي وفي هيكل طبقي أعم، عملية إصلاحية لأجل الحفاظ على منظومة التوقعات البديهية التي يفرضها الآخرون فيما يخص اللبس.
جندرية الرفا وتقليد العائلة
تكسر الرفا الفرضيات الجاهزة حول أن أعمال الخياطة والأشغال المتعلقة بالملابس هي أعمال النساء، وأنها حرف السيدات المعيلات وما يصاحبها من سردية “الأم المكافحة وماكينة الخياطة“، فضلًا عن أنها حرف تتعلق بما هو جمالي وأنثوي، بالطبع هناك خيّاطات لكن الحقيقة أن أغلب الحرف المتعلقة باستخدام الإبر يقوم بها رجال. وليست هذا فقط بل إنها تسير وتُعلَّم وفق مبادئ النظام الأبوي، يرثها الابن من الأب والصبي من الأسطى، وأن الكلمة الأخيرة للمعلم الكبير.
يختلف الوضع جغرافيا، ففي فرنسا حرفة الرفا تمارسها النساء، إلا أن السمة المتشابهة هي أن الحرفة تقليد عائلي تتوارثه الأجيال، حيث تورّثها الجدة للأم والأم للابنة، والابنة للحفيدة وهكذا وفق نظام أمومي مثل عائلة جودفروي، التي اشتهرت حفيدتهن إيزابيل بعملها المتقن والرائع الذي نالت عنه ميدالية أفضل حرفية في فرنسا في الثمانينات.
أحمد ابن عم حسين هو الآخر ورثها عن أبيه، كما ورثها عم حسين نفسه عن أبيه الذي ورثها عن جده. بدأ أحمد العمل في المحل وهو ابن سبعة عشر عامًا والآن هو في آواخر العشرينات. تعلّم الحرفة بالممارسة على يد أبيه لأكثر من اثني عشرة سنة، وبرع فيها. بالنسبة إليه هذه الحرفة تتطلب بالأساس قدرًا كبيرًا من الحب والصبر.
الرفا واستعادة الذات
الآن تتآكل الحرفة، وأحمد نفسه بدأ في تطوير قدراته في مجال “التصاليح“، أخوه الكبير تعلم الرفا هو الآخر لكنه غوى النجارة، ومع قلة أعداد العاملين بها، تواجه الرفا خطر الانقراض. على موقعها الإلكتروني ترى إيزابيل جودفروي أن “الرفا تكاد أن تختفي منذ وصول الملابس الجاهزة ومع عادات الشراء الجديدة التي تلت ذلك. لقد فقد الجمهور عادة استخدام الحرفيين المحترفين. لكن الحاجة إلى إصلاح الملابس والستائر والأثاث ما تزال قائمة، والرفا لا تزال ضروريًة. من الذي لا يملك بدلة أو فستانًا يحتاج إلى إصلاح، أو ثوبًا ثمينًا للمحافظة عليه، أو قطعة أثاث قديمة تتوسل إلى الحياة؟ لقد نسينا الخطوة البسيطة المتمثلة في إصلاح ممتلكاتنا بدلاً من التخلص منها. ومع ذلك، عندما ننظر عن كثب، غالبًا ما يكون استعادة سترة أسهل وأرخص من شراء سترة جديدة“.
قد يبدو عم حسين متفائلًا في كلامه عن مصير الحرفة، تمامًا كما تفعل جودفروي، لكن آنا كونيج المحاضرة في الدراسات الثقافية والتاريخية في جامعة الفنون، بلندن في مقالها “غرزة في الزمن” ترصد ظهور أعداد من مجموعات للحياكة وتصليح الملابس في انجلترا وأوروبا وشمال أمريكا عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومشاركتهم لفيديوهات تعلم المهارات، من أجل مزيد من الاستدامة ليس فقط من خلال إصلاح الملابس وإنما من خلال تدويرها إلى ملابس جديدة، ليس لدواعي اقتصادية لكن لتحقيق متع شخصية من خلال القدرة على تنفيذ الأشياء ذاتياً.
عم حسين حكى عن محامٍ جاء إلى أخيه ليتعلم الرفا وكان يأتي إلى المحل ويجلس للتدريب بشكل دوري، بالنسبة لعم حسين من يحب الحرفة سيتعلمها لكنها تحتاج لتدريب وممارسة على نحو مستمر وطويل.