fbpx

حكايات من دفتر نزوح سوداني

وقف عمر وبدأ ينفض الغبار عن ملابسه، وهو ينظر إلى الخيام البيضاء الممتدة أمامنا: "كلنا هنا نريد العودة إلى بيوتنا" سألته: "متى تريد العودة إلى البيت؟" قال بصوتٍ عالٍ: "الآن.. لكنني لا أعرف الطريق".
ــــــــ حدود
2 يونيو 2025

في رحلتي الطويلة للفرار من الموت في العاصمة الخرطوم حيث بدأت الحرب في السودان، رأيت “عمر”، طفل في العاشرة من عمره، يجلس على الأرض وحيداً على مقربة مني يرسم على قطعة من الكرتون بأقلام ملونة مكسورة، كنتُ أنا أجلس قرب سيدة تبيع الشاي والقهوة، ممسكٌ بكوب قهوة ممزوجة بالزنجبيل رغم أنني كنت قد نبّهتُ السيدة أنني أريد قهوتي سادة، لكني لن أشتكي ولن أغضب، فبعد كل تلك الويلات لم يعد الزنجبيل مشكلة. أرى بالقرب مني الخيام البيضاء التي تبدو كبحرٍ من القماش المتهالك، خيام قامت بتشييدها إحدى المبادرات الخيرية على ميدان أحد أحياء مدينة كوستي، قاموا بتشييدها بعد أن اكتظّت الفصول المدرسية بالنازحين، وتشرّبت بعرقهم، خوفهم وأرقهم.

اقتربت منه ببطء، فرفع عينيه نحوي، عينان تحملان ثقل قصص أكبر من سنوات عمره القليلة، جلست بجواره، جاهداً أحاول أن أبدو متفائلاً وودوداً، “إنها لوحة جميلة” قلتُ له بصدق. كان حديثه متقطعاً، خجولاً في البداية، ثم انساب كنهر يجد طريقه أخيراً.

“كنا نعيش في حي بأطراف العاصمة” قال عمر وهو يحرك قلمه على الكرتون، “كان عندنا بيت وشجرة كبيرة.” توقف قليلاً، ثم أضاف بصوت أخفض: “الآن لم يبق شيء”. بينما كان يتحدث، بدأت أنا في تخيّل المشاهد التي يصفها.

“صديقي زكريا صار يهتم بأخيه الصغير الآن”… استأنف عمر حديثه: “أمه دفعته معنا عندما هربنا إلى هنا، قالت له احمل أخاك الصغير واهتم به، وبقيت هي هناك. كانت مريضة ولا تستطيع المشي.” صمت للحظة، ثم أكمل: “يبكي زكريا كل ليلة.. يبكي بحرقة أكثر من الصغير”.

تخيلتُ أنا المشهد: أم تدفع ابنها بيدين مرتجفتين نحو قافلة الهاربين، تختار له الحياة بينما تستسلم هي للمصير المجهول.

بدأ عمر يقلب في دفتر صغير معه، يحوي رسومات بسيطة. “أريد أن أصير رساماً مشهوراً عندما أكبر” قال عمر والذي مع كل رسمة، كان يحكي قصة:

“هذا محمود” أشار إلى رسمة لطفل يمشي وسط أنقاض ما “يحاول أن يبدو قوياً، لكنه يخاف من صوت الطائرات. كلما سمع صوتاً عالياً، يختبئ”.

في مخيلتي، رأيتُ محمود يسير في المدينة المدمرة، كتفه منتصب وفكه مشدود، محاولاً التظاهر بالقوة، لكنه خلف ذلك القناع مجرد طفل تائه.

أشار عمر إلى فتاة صغيرة تجلس تحت شجرة قريبة: “هذه أختي الصغيرة، تعلم الأطفال الآخرين الحروف الأبجدية، هي ترغب في أن تصير معلمة بعد أن تقف الحرب”.

“هل ستقف الحرب يا عمي؟” لم تكن لديّ إجابة وقتها، ولا أحمل إجابة الآن.

“وهناك آدم ابن عمي، بقدميه الكبيرتين، هو في تلك الخيمة هناك، هل تراها؟” أجدني أتخيّل آدم بقدميه الكبيرتين، يمشي حافياً، ولا يعرف هو إلى أين.

جاءت فتاة صغيرة لتنضم إلى عمر، لكنها لم تجيبني عندما سألتها عن اسمها.. أخبرني عمر أن اسمها فاطمة وأنها فقدت كل عائلتها وفقدت معها القدرة على الكلام، أتخيلها تجيبني: “اسمي فاطمة .. أنا الوحيدة الباقية من عائلتي”، أراها طفلة تحمل في قلبها الصغير ذكرى عائلة كاملة.

قاطعت تخيلاتي السيدة التي تبيع الشاي والقهوة.. “لقد عرفنا الحرب منذ سنوات عديدة، عرفنا الفقد والموت والذل والهرب نحو حياة قد تكون أو لا تكون”.

قالت أنها هربت من الحرب في دارفور، وأنها قد فقدت طفلها وحيدها الذي لم تنجب غيره، وها هي الآن تقوم بصنع الشاي للهاربين من الحرب في الخرطوم إلى هذه المدينة التي فتحت قلبها رغم بؤسها.

أغمضتُ عيني للحظة، متخيلاً الطفل الذي اعتقد أن أمه تظنه نائماً، بينما كان قد رحل إلى البعيد، غير مدرك أن قبلتها على جبينه كانت بمثابة الوداع الأخير.

أخبرتني السيدة التي تبيع الشاي والقهوة بأن اسمها عائشة، سألتها عن كيف هي الأوضاع الآن في القرية التي هربت منها؟ قالت إنهم يترقبون الموت كل ساعة، وأن الطفلات اللاتي يذهبن في رحلة يومية لجلب الماء لعائلاتهن يحملن جرار ثقيلة فوق رؤوسهن تمنعهن من رؤية ما إذا كان هناك خطراً قادماً من أعلى.

تناولت أنا دفتراً صغيراً أحمله معي دائماً ورسمت طفلة صغيرة أسميتها زهرة، رسمتها في رحلتها اليومية لجلب الماء، رحلة لا تدري معها إن كانت رحلة للحياة أم الموت، تحمل على رأسها الصغير أملاً في شكل جرة ماء.

“أنت رسام أيضاً؟” سألني عمر، أجبته أنني أحاول أن اكون رساماً لكنني لن أكون بمثل موهبته، ضحك وقال لي “نعم أنا أجيد الرسم” ثم التفت لي متسائلاً: “لماذا يجب علينا دفع الثمن؟ لماذا لا نستطيع أن نكون بأمان؟ أن نلعب ونرسم؟” سألني عمر، لم أجيب وكذلك لم تفعل عائشة.

“هذا عمار”، أشار عمر إلى طفل نحيل طويل يبدو عليه أنه تجاوز العاشرة من عمره، “عمار يستيقظ فزعاً كل ليلة، ويصرخ بأسماء أشخاص ليسوا موجودين معنا”.

وقف عمر وبدأ ينفض الغبار عن ملابسه، وهو ينظر إلى الخيام البيضاء الممتدة أمامنا: “كلنا هنا نريد العودة إلى بيوتنا” سألته “متى تريد العودة إلى البيت؟” قال بصوتٍ عالٍ: “الآن.. لكنني لا أعرف الطريق”.

بينما كنت أستعد للمغادرة، أعطاني عمر رسمة صغيرة. “هذه لك،” قال. “لتتذكرني.” في الرسمة، أطفال يمسكون بأيدي بعضهم البعض، ويقفون أمام شمس مشرقة.

ودّعت عمر وعائشة وانتبهت إلى أن الوقت قد حان للحاق بالباص المغادر إلى مدينة حدودية، أنظر إلى تذكرتي وفي ذهني صور لا تُمحى، وفي قلبي ثقل قصص أطفال يحملون في قلوبهم الصغيرة أحلاماً أكبر من معسكرات النزوح.

افترقت طرقنا أنا وعمر، لكن كلانا يحاول أن يرسم ويحكي للعالم ما رأته عيناه؛ هو بأقلامه المكسورة على الكرتون والورق، وأنا على جهازي اللوحي… وما أزال حتى الآن لا أدري إلى أين ستقودنا ألواننا.