“يقال أن تاريخ الشعوب التي تمتلك تاريخاً، هو تاريخ الصراع الطبقي. يمكن القول، بنفس القدر من الحقيقة على الأقل، بأن تاريخ الشعوب التي لا تمتلك تاريخاً هو تاريخ الصراع ضد الدولة.”
بيار كلاستر، المجتمع ضد الدولة (1974)
كنت مراهقًا في تعليمي الثانوي حين اكتشفت عبر ذبذبات انترنت ضعيفة التدفق وجود لون موسيقي يسمى “بانك روك“. كنت مشدوهًا ومدمنًا لصيحات مغنييه وفوضى ألحانه وجرأة كلمات أغانيه. كانت أغنية “حمى الله الملكة” لفرقة “سكس بستولز” أولى خطواتي في اكتشاف ثقافة البانك. من هذا الذي يسب ملكة الامبراطورية البريطانية بأسلوب ساخر لاذع؟ ما هذه الفرقة التي تتغنى بالأناركية؟ ولماذا هم غاضبون هكذا؟
باكتشاف موسيقى البانك روك، غصت في تاريخ سبعينيات القرن العشرين في بريطانيا والولايات المتحدة واطّلعت على تاريخ صعود الحكم النيوليبيرالي على يديْ “مارجريت ثاتشر” في لندن و “رونالد ريجان” في واشنطن.
وبمرور الوقت، بهت حماسي لفورة موسيقى البانك روك حين أيقنت انفصالي عن واقعي التاريخي والجغرافي واللغوي. فلجأت إلى فن محلي ومعاصر يمتص غضبي وحنقي.
اكتشفت موسيقى الراب التونسي في لحظة كان المجتمع مقيّد بسلطة سياسية رقيبة وسلطة أخلاقية عسيرة.
ومثلما أرّخت موسيقى البانك روك واقع الغرب الأنغلوساكسوني في السبعينات الماضية، يمكن القول أن الراب التونسي قدّم العديد من الوثائق التاريخية على حقبات زمنية متتالية ومختلفة في تاريخ البلاد التونسية أوائل القرن الواحد والعشرين.
“الفن لا يغير العالم ولكن بإمكانه تغيير وعي الناس الذين يمكنهم تغيير العالم”. ربما يبدو هذا الاقتباس الآن مبتذلًا لدرجة تجعله جديرًا بالكتابة على حائط مقهى ثقافي.
يعود هذا القول لأحد روّاد مدرسة فرانكفورت للنظرية النقدية التي اهتمت، في جزء من اهتماماتها، بالفن كوسيلة للتحرّر. صاحب هذا القول هو “هربرت مركوزه” الفيلسوف الألماني-الأمريكي الذي كرّس تفكيره في نقد الأنظمة القائمة في القرن العشرين.
يحاجج مركوزه بأن الفن يعكس الواقع بطريقة صادمة للإنسان الذي يرزح تحت وطأة الظلم والاستغلال. ذلك الإنسان الذي أصبح مطبّعًا مع الوضع القائم ومنكرا لشقائه. فيكون الفن شبيهًا بصفعة تعيده إلى واقع تعب من ملاحظته وتحليله ومحاولة تغييره.
وليست موسيقى الراب بأغراضها المختلفة إلا فنًّا ساهم في عملية الوعي هذه. فأغنية “Fuck The Police” لفرقة NWA الأمريكية مثلًا، أعادت أنظار الجميع للعنصرية التي مازال يعاني منها المجتمع الأمريكي رغم القوانين التي تمنع التفريق والتمييز.
صنفت مجلة “رولنڤ ستونز” الموسيقية هذه الأغنية كواحدة من 15 أغنية أمريكية توقعت انتفاضة شباب لوس أنجلس سنة 1992.
في تونس أيضا، كانت الموسيقى مصاحبة لمختلف أشكال الوعي والنضال السياسي.
“الخمسة اللي لحڤوا بالجرّة” ألهمت الفلاڤة في حربهم ضد الاحتلال الفرنسي.
“إِرْضَ علينا يا لُمِّيمة” ألهبت نضالات اليسار في سبعينيات القرن الماضي.
أمّا.. “رايس البلاد” فقد ألجمت فم النظام أمام شعب ينتفض ذات جانفي 2011.
أحاول هنا أن أعرض حقبتيْن زمنيّتيْن متناظرتيْن في تاريخ البلاد التونسية. محاولة لتأريخ حقبتيْن سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وثقافيًا باستعمال كلمات أغاني الراب التي نُشِرت في ذلك الوقت.
تنقل الفترة الأولى أواخر حكم نظام بن علي في العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين بينما تدرس الفترة الثانية مرحلة الانتقال الديمقراطي بعد ثورة 2011 حتى إرساء توافق 2014. فيما تحلل الفترة الثالثة الراب في زمن التوافق السياسي.
“العباد في تركينة”.. راب في زمن الديكتاتورية
عندما استيقظ “فريد” بعد الليلة الأولى التي قضاها في زنزانة إيقافه، تذكر حوارًا دار بينه وبين جاره في حفرة بوحوش من منطقة الجبل الأحمر بالعاصمة التونسية. تذكر مقترح جاره.. “برّا خويا نعملوا دورة”، وكيف رفض فريد هذه الدعوة.. “لا لا خويا.. هاو الواحد مبنّك (جالس) قدام الدار.. الوحش ولا الأذى.. هاهم الزنوس (الأوغاد) يلمّوا فيها على بعضها..”.
عند هذا النبش في الذاكرة، أيقن فريد أنه خسر مساحة “الوحش” المريحة ودخل مرحلة “الأذى” وقبض عليه “الزنوس” و “لمّوه” مع رفاق سجنه “على بعضهم”.
تعود أسباب إيقاف فريد المازني إلى أواسط سنوات التسعين من القرن الماضي..
“ضربني بوليس ياخي ضربته دفاعا عن النفس“.
وظلّ يعيش في حالة فرار وبحث بين أعمال نهارية تتمثل في بناء ودهن المحلات وأعمال ليلية تتمثل في هدم وتقشير نظام بوليسي عنيف بقرض شعر الراب. لاحقته هذه القضية بعد محاولتيْ حرقة (هجرة غير نظامية) وهجرة شبه نظامية ناجحة (بجواز السفر وفيزا مع تجاوز مدة الإقامة) إلى أوروبا.
مرض أبوه وهو في الغربة فعاد إلى تونس كي يعايده. فحدث ما كان في النسيان. قبضت شرطة المطار على فريد المازني بعد عشر سنوات من الفرار بين شمال أفريقيا وجنوب أوروبا. وقضى ليلته الأولى، بعد خمس سنوات من الغربة في غربة أضيق.
صباح ذلك اليوم، تذكر ذلك الحوار مع جاره فقرر كتابته كما هو:
“ ـ آه حاج شنحوالك؟ لاباس؟ الصحة بخير؟شعامل؟
ـ هاك تشوف مبنك ڤدام الدار نتكيف سيڤارو.
ـ برا خويا نعملوا دورة.
ـ لا لا خويا.. هاو الواحد مبنك ڤدام الدار.. الوحش ولا الأذى.. هاهم الزنوس راهم يلموا فيها على بعضها..”
قرر أن يكتب سطورًا حول ضيقه في السجن وضيقه في تونس. وكان هذا الحوار مطلعها. وقبل خروجه بكفالة، كان قد أكمل نصف كلمات الأغنية وانطلق عائدًا إلى إسبانيا حاملًا معه غليلًا دام خمسة عشر يومًا أفرغه في كتابة أغنية راب وتسجيلها قبل أن يعود إلى تونس ويتركها هناك كقنبلة موقوتة ذات يوم من سنة 2006.
تهامس الشباب كلماتها وتبادلوها في أجهزة قراءة وسائط MP3 واستمع إليها في سماعات تحت جنح الظلام والسترة.
لم يعلم أحد اسم الأغنية. أطلق عليها البعض اسم “Police” كي يفرقها عن مجموعة “Track Inconnu” في جهازه. فيما تداول غيرهم مطلعها كتسمية لها “العباد في تركينة” كما جرت العادة عند العرب في تسمية الشعر أو سور القرآن.
“العباد في تركينة لحمها مڤطع بالسكينة
يزيد الحاكم يجينا يدز يهين يذل فينا “
كان لهذيْن السطريْن وقع يجعل كل مواليد جيل Y يتماهون مع هذه الصورة. فكما هناك صور تُسْمَعُ، هناك أصوات تُرَى. وهذه الكلمات تحمل داخلها وضعية شباب الحومات وشباب الفيراج وشباب فن الشارع وشباب الانترنت جميعًا ومعاملة البوليس لهم.
كان جو تلك الفترة محمومًا بعناية سيادة رئيس الجمهورية الموصولة بالشباب. مظاهر البهجة كانت ظاهرة للعيان بعد فوز المنتخب التونسي بكأس إفريقيا للأمم في فيفري من سنة 2004. ثم انتصر الرئيس انتصارًا ساحقًا في انتخابات أكتوبر 2004 (بعد تعديل دستوري سنة 2002 يسمح له بالترشح لعهدة رابعة) واعدًا الشباب بمزيد الفرص والتمكين. كما نظمت تونس القمة العالمية لمجتمع المعلومات برعاية الأمم المتحدة في شهر نوفمبر 2005.
نظمت تونس هذا المؤتمر الذي يسعى إلى “تقليل وصاية الحكومات على الإنترنت” – حسب نص إعلانه – بعد بضعة أشهر من وفاة زهير اليحياوي، أول ضحية لشرطة المعلوماتية في نظام بن علي، الملقب بشهيد الانترنت، صاحب التساؤل الشهير: “هل تونس جمهورية أم مملكة أم حديقة حيوانات أم سجن؟“.
وسط هذه الأجواء الفولكلورية والمآسي المكتومة، ترك فريد قنبلة موقوتة على شكل MP3 في تونس وغادرها إلى إسبانيا دون أن يكون متيقنًا من مدى انفجارها.
كانت الأغنية صدامية حد العنف ضد نظام بوليسي أحكم قبضته على كل صوت يخرج عن السرب. نظام أخمد كل معارضة سياسية إما بسجنها وتعذيبها وترحيلها أو بضمها تحت جناحه كي تكون أليفة مهادنة تساند سياساته تارة وتشارك في مسرحيته الانتخابية أطوارًا أخرى.
“ويني هالحرية ويني هالديمقراطية“
كان هذا التساؤل المحوري للأغنية. أين هي الحرية والديمقراطية التي يتشدق بها نظام يقوده فريق أول وصل إلى سدة الحكم بانقلاب “غير دموي” ومارس فيه سلطته حسب تكوينه العسكري البوليسي.
في حوارات إذاعية بعد ثورة 2011، يصف فريد المازني أغنيته بأنها “تعبير عن ما عاشه في تلك الفترة” حيث كان الراب التونسي اجتماعيًا نصائحيًا يخرج من الواقع كما هو ويقدم صورته التي لا تُرى في الإعلام الرسمي ولا تُحْكى في الفضاء العام.
تمثل أغنية “العباد في تركينة” وثيقة تشهد على عصر طغت فيه المؤسسة الأمنية، إذ أن مطلع مقطعها الثاني يصلح كحفرية تاريخية تصف بدقة تعامل البوليس مع المواطنين:
“بالشاماد يهدوا علينا والمسنوت تركب في يدينا
ويعبونا كي السردينة تتسكر الأبواب علينا
ويهزونا ويحطونا في المراكز يخلونا
يضربونا ويسبونا يسخسونا ويدزونا
عامل وإلا ماكش عامل ذوڤ المرّار“
وتستمر كلمات الأغنية مراوحة بين الوصف والألم والوعيد بعقاب إلهي ينتقم لضحايا ظلم هذا النظام.
خمس دقائق فقط من الكلام المقفى جعلت النظام البوليسي يرتبك ويتغوط حجارة فيحارب هذا اللون الموسيقي كاملًا ثم يحاول تدجينه في التلفاز تارة أو في حفلات “التجمع” تارة أخرى.
كان وقع هذه الأغنية على نظام بن علي البوليسي يشي -كما نرى الآن- بضعفه وتخلخله. فقد طالت العديد من الحملات البوليسية محلات الإعلامية التي يُشْتَبه في أصحابها ترويج الأغنية. كما انطلقت محاكم التفتيش تتحرى جهاز MP3 يحمله أي شخص تبحث عن هذه الأغنية فيه. ووصلت الوشاية حد التجسس على السماعات في وسائل النقل لعلّ الصوت يكون عاليًا كفاية ليصل إلى مسترقي السمع فيكون البوليس في الإنتظار عند المحطة القادمة.
خمس دقائق فقط من الكلام المقفى جعلت النظام البوليسي يرتبك ويتغوط حجارة فيحارب هذا اللون الموسيقي كاملًا ثم يحاول تدجينه في التلفاز تارة أو في حفلات “التجمع” تارة أخرى.
يمكن القول أن فريد المازني، الذي يطلق على نفسه كنية El Extranjero (الكلمة الإسبانية التي تعني “المهاجر” والتي يترجمها هو بكلمة “الغريب”) – بصم في التاريخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي التونسي وثيقة راسخة في العمق المحلي تشهد على واقع عبّر عنه الكثيرون غيره في تنظيمات سياسية ومجموعات فنية ودوائر شعبية مغلقة داخل هامشها الحضاري المضاد لبهرج الإعلام الرسمي وزيفه.
طائر الفينق أمام رماد النظام البائد
تسير الخطة كما تم التمعّن فيها منذ مدة. الخروج من تونس أو “الهجّة” هو الحل. لم يعد يحسّ بقيمة ما يفعل على هذه الأرض وبخسته هذه البلاد حقه و “طاح قدره” فيها.
انتصرت دولة البوليس واستنفذت جميع الحلول والخيارات. مرة تلاحقه من أجل سيجارة ملفوفة فتطبق عليه سجونها ومرات تنغّص عيشته في حومته بين أهله وناسه بتلفيق تهم السرقات الموصوفة والمتخيَّلة.
كل هذا بسبب ماذا؟ لسان مطلوق ودماغ يرى الكلمات زهورًا شائكة ورصاصات ناعمة؟
مأساة المبدع تكمن في وعيه بإبداعه وتتعمّق حين يبني طموحا فوق رمال متحركة وسراب.
“ما على بالي بنيويورك
Tunis is killing me
فدّت منّي موڤّف في موقفي وفي كلامي”
بمطلع هذا الأسلوب الحرّ – Freestyle، كشف “عبد السلام “Phénix” النوالي” أوراق بداية النهاية. طلّق مغني الراب العشريني البلاد التونسية نحو أفق أوروبي أرحب.
بعد “ألبوم أسود“، قرر فينيكس أن يعتزل فن الراب في تونس. ولكن الرياح لم تكترث يوما بشهوات السفن.
مطلع سنة 2011، كانت الانترنت في تونس مخنوقة بنظام حجب فولاذي. وكانت الأنامل تنتج وتستهلك المعلومات الرقمية عبر أنظمة اختراق من نوع Hotspot. وقبل أسبوع من سقوط رأس هذا النظام، سرّب شابّان فيديو كليپ على منصة يوتيوب لأغنية أسموْها “تونس الخضرا“.
“حمزواي ماد أمين” و”عبد السلام فينيكس” يستعيران شعار الپروپاجندا النوفمبرية كي يصفا حال بلاد قُبيْل ثورتها بأيام. فكانت هذه أولى بدايات “فينيكس” الموسيقية الموثّقة على الانترنت.
“يا والله حال
تونس خضرا بشقوفاتها مالشعب البطّال”
وبدأت رحلة عبد السلام مع موسيقى الراب في ساحة ثورية قدّست هذا النوع الفني واستقبلته كصوت الشباب الثائر الحامل لطموحات جيل لم يتذوّق طعم الحريّة قطّ..
وانطلق الإنتاج خصبا محفَّزًا بعدد المشاهدات والمشاركات على الانترنت وبالدعوات المفتوحة للحفلات في الساحات العامة والجامعات والمسارح.
عُرِفَ فينيكس في الأوساط الفنيّة “البديلة” بسلاسة تنقُّله بين ألوان الموسيقى من راب مربّع الأبيات إلى راجا – Ragga سريع المقاطع وصولا إلى غناءٍ مخضّبٍ بتقنية Auto-Tune. هذا التنوّع والتمكّن يوحي بثقافة موسيقية واسعة أصلها في الثقافة المحليّة من مزود وراي وطرب وفرعها في رياح الثقافة العالمية المعوْلمة.
إلى جانب هذا الإبداع الفني، لا يختلف اثنان في فصاحة اللغة وحصافة قافيات الكلمات لدى عبد السلام. مزيج من الفرنسية والإنجليزية المرصوف وسط دارجة تونسية تتخللها عبارات وتعابير مبهمة من نوع “الڤجمي” (لهجة المساجين والعمال، ويقبلون فيها الكلمات حتى لا يفهمهم العسس) المشفّر.
داخل هذا المبنى اللغوي والموسيقي محكم الأسوار، يرصف عبد السلام فينيكس صوره الشعرية ومعانيه السياسية التي ما انفكت تنقد وضعًا اقتصاديًا واجتماعيًا مزريًا لبني طبقته من سكان الحومة العربي: باب الجديد. فلا تخلو جمله من وصف دقيق ونقد بذيء لما يعيشه وما يراه.
عناوين من نوع “احكموا الحيوط” و “انفلونزا” و “bastardo” أذاعت صيت فينيكس وجعلته في صفوة مغنيي الراب التونسي وأكسبوه احترامًا جمًّا في الساحة الناشئة.
ولكن، إن لم تكترث الرياح بشهوات السفن، فإن السلطة السياسية تكترث وتستاء وتعاقب شهوات أصحاب الصوت الحر.
كانت الأجواء احتفالية ممزوجة بحذرٍ قلِقٍ ومتشائم. أول انتخابات ديمقراطية في دولة تخلصت من النظام الملكي منذ 50 عاما وأسقط شعبها نظامًا ديكتاتوريًا منذ 10 أشهر. انتخابات تؤسس لمرحلة جديدة بدستور جديد وتركيبة برلمانية غير مسبوقة.
وكانت حرية التعبير والتنظم حجر أساس هذه المرحلة ولم تتجرأ سلطةٌ على تهديد هذا المكسب سواء كانت سياسية أو أمنية أو اجتماعية. ولكن الراب “أحرش” ولم يكن بوسع السلطة أن تغفر حزن الشباب المهمش وخمره وغضبه وكلماته القاسية فقالت عنه بذيئًا وأرَتْهُ موقفًا أكثر بذاءة ممّا هو فيه.. “عام وفسبا”، هكذا ترجم الناس العقوبة.. عام حبس وغرامة تعادل ثمن دراجة بخارية.
“يعاقب بالسجن من عام الى خمسة أعوام وبخطية من ألف الى ثلاثة آلاف دينار كل من استهلك أو مسك لغاية الاستهلاك الشخصي نباتا أو مادة مخدرة في غير الأحوال المسموح بها قانونا والمحاولة موجبة للعقاب.”
تم الزجّ الجماعي بعدد من مغنيي الراب بتهمة استهلاك مادة الزطلة (الحشيش). غنى عبد السلام “يمين يسار، احكموا الحيوط” مساندة لهم، فأمر النظام بسجنه ليكون من الصاغرين والتجأ لنفس التهمة التي استعملها النظام الذي سبقه حين يُحْصَر في زاوية الإحراج. سنسجنك من أجل كلماتك ولكننا سنتهمك بأنك “زطّال كلوشار فاسد“… ولن يتعاطف معك المجتمع والدين والعرف.
أمضى عبد السلام فينيكس 5 أشهر و20 يومًا في السجن حيث استجمع شتات رماده كي يولد منه من جديد بعشر أغنيات سجّلها ونشرها حينما عاد إلى “السيفيل” (مدنيًا) حيث يعلم كل العلم أنّ “même في civil تونس الكل مرابيط“. وبقي النظام يلاحقه ويفرض عليه الإقامة الجبرية في حومته بتهم يلفقها له كل بوليس ـ ينطق عن الهوى ـ يحاول جاهدا إخفاء ألمه من كلمات أغاني عبد السلام.
ودارت الأيام وتماسك النظام بعد اشتداد عوده المؤسساتي والقانوني. فكان شرسًا أمام أغنية “ولد الكانز” التي تحمل اسم “البوليسية كلاب” التي صدرت سنة 2013.
هنا، يشي النظام السياسي في العالم العربي بتشوّهه الأمني الفولاذي سواء كان الحكم ملكيًّا ثيوقراطي أو عسكريًّا قوميًّا أو “ديمقراطيًّا” مؤسّساتيًّا. القاعدة واحدة: وزارة الداخلية معصومة وعلى الأمور أن تبقى على هذا الحال.
صدح كل رابورات تونس بمساندة “ولد الكانز” ضد حكم بسنتيْ سجن نافذٍ بتهمة التحريض على العنف ضد المؤسسة الأمنية. انتفضت كل الساحة الحقوقية ضد هذا الحكم الذي يهدد مكسب حرية التعبير وسط تشرذم مجتمعي بين مبرر لهذه التهمة ومساند متحفظ.
عاد عبد السلام فينيكس من وقفة المساندة لولد الكانز التي صارت أمام المحكمة الابتدائية ببن عروس مغاضبًا بكلمات عدّةٍ تجول بخاطره. فينيكس لا يكتب كلمات أغنياته على الورق، بل يدخل إلى الاستوديو وينقض على اللحن انقضاضًا مرتجلاً مسترسلاً عنيفًا.
“تحب تسوڤ me،
No مشني animal
هاني نڤول فاللي نحب ڤلي criminal“
هكذا انفجرت قريحة الفينيكس دفاعا عن نديم فنّه “ولد الكانز” في أغنية أسماها: لا تصالح.
أصدر عبد السلام النوالي هذه الأغنية بعد أن قرّر اعتزال الراب التونسي واعتزال تونس حالما بواقع أفضل في سويسرا.
“ڤلبي ما يصالحك وبلاصتك ما نفَضّي
تونس برّي توضّي”
حي الزهروني.. منبع الأساطير
إن الثورات أوقاتُ شدةٍ يجتمع الناس حولها عند اندلاعها فيتّحدون ويتبادلون العون ثم ينفضّون من حولها – حين لا تفي بوعودها – فإمّا يهربون إلى أرحام وهويّات وإمّا يختارون طريق الخلاص الفردي.
وليست الثورة التونسية استثناءً – في هذا المعنى – وليس ربيعها أزليّا. فقد كان المجتمع التونسي متراصّا و متلاحما عشيّة الثورة قبل أن يتفرّق جهده واهتمامه بين القبائل ويسلّم ثورته لأصحاب العمائم وربطات العنق مغادرا البلاد في قوارب موتٍ إلى أوروبا أو مستبشرا بموضات الستارتاب والتنمية الشخصية و “نفسي نفسي والله يرحم من مات“.
10 سنوات مرّت بين مسار ثوري وانتقال ديمقراطي وتوافق سلطوي انتقل فيها المجتمع من هبّة شعبية إلى نزعات فردية.
ولا يختلف مسار الراب التونسي عن مسار الثورة التي جعلت منه الفن الشعبي الأول في تونس.
إن الثورات أوقاتُ شدةٍ يجتمع الناس حولها عند اندلاعها فيتّحدون ويتبادلون العون ثم ينفضّون من حولها – حين لا تفي بوعودها – فإمّا يهربون إلى أرحام وهويّات وإمّا يختارون طريق الخلاص الفردي.
“أنا علاء.. من الزهروني.. نسمع برشا موزيكا ماللي صغير مغروم نحب برشا الموزيكا.. عشت برشا في الشارع.. تعلمت برشا من الشارع.. فهمت برشا من الدنيا..”.
هكذا قدم “علاء الفرشيشي” المشهور باسم A.L.A نفسه في أول ظهور تلفزيوني له. علاء من مغنيي الراب ما بعد الثورة، كان في بداية عشريناته حين بدأ ممارسة هذا الفن.
كان علاء عضوًا في مجموعة “الزمرة” التي كانت مدرسة من مدارس ثقافة الهيب هوب في تونس ما بعد الثورة، مثلما كانت مدرسة من مدارس التنظّم الذاتي الملهم. كما كان المجتمع التونسي متراصّا ومتلاحما عشيّة الثورة، كانت مجموعة الزمرة تضم بينها مغنيي/ات راب وفناني/ات قرافيتي وصانعي/ات ألحان وراقصين/ات تجمع بينهم أهداف مشتركة من أجل بسط مساحة شبابية جديدة في الثقافة التونسية.
كانت هذه المجموعة مرتبطة في علاقاتها الإنسانية وفي نشاطاتها الفنية ارتباطا وثيقا بمجموعة “بلاش حس” التي بنت محل تسجيل للموسيقى بتنظيم وتمويل ذاتيّيْن في تجربة غير مسبوقة.
ثم طال الأمد بالزمرة وتنظيمها الجامع لتنويعات فنية مختلفة، فانطلق علاء في تجربة موسيقية صحبة جاره في الزهروني “الكاسترو“. فبعد أن كان ينشط في مجموعة واسعة، تدحرج علاء إلى وكره الجغرافي وانتقل فنه من منحاه الشامل إلى هوية ضيّقة فأسّس قناة “ZZH5” (كنية مبتدعة لحي الزهروني) وتشارك مع “حمه غراب” aka “الكاسترو” في مجموعة من الأغاني التي تفاخر بمسقط رأسهما ومقر سكناهما.
وفي مرحلة ثالثة، اختار حل الخلاص الفردي فقام بانشاء قناته الخاصة على يوتيوب فسطع نجمه وأصبح أيقونة الراب التونسي الذي تصادفك أغنياته في الإذاعات والتلفزات والملاهي الليلية الفاخرة وألسنة الأطفال الصغار.
تميّز علاء عن بقية الرابورات بسلاسة كلماته وإتقانه للراب المثلّث وقدرته على أن يكون “فوق البيت منظّم”، كما وصف نفسه في واحدة من أشهر أغانيه. واشتهر أيضا بتفضيله للون “الفخر – Egotrip” في شعره.
فبعد أن كان الراب التونسي يتغنّى بالثورة وينقد الظلم الذي تعانيه الطبقات الشعبية ويقارع قمع الدولة للهامش، استهل علاء موجة الفخر والاعتداد بالنفس وبالأصول الاجتماعية وبالانجازات المادية فبلغ أوج هذا اللون الغنائي في أغنية “UZI” التي يقول مطلعها: “يحبّوا يجسّوني في فلوسي“.
كانت هذه الأغنية مفصلية في حركة تاريخ الراب التونسي في معنى كلماتها ومبنى فيديو كليبها.
خرجت الأغنية للجماهير في نسختيْن: نسخة “وسخة” بمفرداتها “النابية” المعتادة في موسيقى الراب ونسخة “نظيفة” من أجل النفاذ إلى وسائل الإعلام والآذان المحتشمة.
ثم تم نشر فيديو كليبها الذي يحاكي أفلام العصابات “الشعبية” في صراعها مع العصابات “المالية” النافذة. فكان الممثل الشهير “هشام رستم” في دور رجل الأعمال المتحيّل الذي يهزمه علاء بقوة التكتيك والسلاح.
واستمر علاء في كتابة هذا اللون الموسيقي الفرداني الذي يتغاضى عن الحالة العامة المتسببة في تهميش مسقط رأسه والذي يركّز على الخلاص الفردي والاستفادة من الوضع القائم والمحافظة عليه.
إثر هذا الانتقال الديمقراطي المخضب بالاغتيالات السياسية والاعتقالات الأخلاقوية، دخل الراب التونسي سردابًا سيزيفيًّا موازيًا للسلطة السياسية والاجتماعية لا معارضًا لها ومهادنًا لسُلطة اقتصادية وجد نفسه عبدًا لها.
أصبح الراب التونسي يلهث وراء العروض والمهرجانات ويصبو التعاقد مع شركات الإنتاج. يبحث عن نصيبه من أضواء الإعلام، يُدجّن كلماته وإيقاعاته، واقِعًا أكثر من مرّة في فخ رأس المال.
صار أليفًا وديعًا مطيعًا، مُكتفيا باستعمال عنفه ووحشيّته للعرض والإمتاع.. مثل حيوان سيرك.