fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

سوريا.. ضرورة أن نتحدث

ليس من مصلحتنا أن نتحدث بلغتين، عامة وخاصة، ولا أن نخفي مخاوفنا ومطالبنا وراء لغة تقية لا تقول شيئاً، ففي هذه الحالة لن يجد أحد نفسه مضطراً للاستجابة لتلك المطالب
8 يناير 2025

ما تزل الأحوال بعد سقوط نظام الأسد غير واضحة، رغم التسارع الكبير للأحداث خلال الأيام القليلة بعد السقوط. فالسائد حالة من التوجس والترقب لما ستؤول إليه الأوضاع القابلة للتطور في كل الاتجاهات الممكنة والمتعارضة. 

حينما أتحدث إلى سوريين في الداخل أو حينما يخبرني الأصدقاء عن أحاديثهم مع أهاليهم ومعارفهم في سوريا، تظهر أمور مشتركة بين جميع هذه الحوارات، مزيج من مشاعر التخوف والتوجس الممزوجة بالأمل بتحسن الأوضاع المعيشية والأمنية. الناس تعبت وارهقت من حرب امتدت على مدار 13 عاماً دون نهاية، رافقها انهيار اقتصادي كان أشد وطأة في السنوات الأخيرة حينما توقفت تقريباً الأعمال القتالية. فهم بحاجة أولاً وقبل كل شيء إلى الأمن والأمان، الاستقرار وتحسين أوضاعهم المعيشية البائسة وإعادة الإعمار. أمل يرافقه أيضاً التخوف والتوجس من القادمين الجدد إلى السلطة، الإسلاميين، وتحديداً هيئة تحرير الشام، وما قد يقومون به.

انطباعات شخصية

الصورة التي تقدمها الأحاديث الخاصة تبدو مغايرة لما تقدمه التقارير القادمة من سوريا، عندما تشاهد الناس يتحدثون علناً، وبخاصة حينما يكون هؤلاء من الأقليات الدينية، من مسيحيين وعلويين وإسماعيليين وغيرهم. أو حتى من بيئة سنية مدنية انحازت ضمناً إلى النظام، أو للدقة ضد الثورة، وهو الوصف الأدق لمجمل السوريين الذين اُعتبروا جمهور النظام. 

لم اسمع أحداً يتحدث، على مستوى الأحاديث الشخصية التي تفترض حداً أدنى من الثقة، بشكل إيجابي عن النظام السوري. يعرف الجميع فساد النظام وسوئه، لكنهم كانوا يخشون الثوار أكثر. هذه كانت الوضعية السورية حقاً. وقدم هؤلاء مواقفهم بأشكال شتى، مع الدولة (وليس النظام الذي يعارضونه) في مواجهة الثورة الهادفة لإسقاط الدولة. أو بوضوح أكثر، أنهم ضد الإسلاميين الذين يشكلون الخطر الأكبر، وبالتالي عليهم أن يختاروا أهون الشرور. وغيرها من مواقف، أعتقد أن عرباً عديدين يعرفونها بدورهم بصيغ شبيهة.

لا يظهر الخوف والتوجس في التقارير القادمة من سوريا، حيث تبدو الصورة أكثر لطفاً عن الأمل والعيش المشترك واكتشاف المحبة الهابطة فجأة على كل السوريين. بالتأكيد، نحن بأمس الحاجة للأمل والمحبة والتمسك بهما مهما كان وجودهما الواقعي ضئيلاً. غير أن إخفاء مشاعر الخوف والتوجس والخشية يحيل إلى تقليد سوري عريق عن التباين الدائم بين العلني والخاص، وهو مكمن الخطورة.

هذا الإخفاء ليس مسؤولية وسائل الإعلام نفسها أو نتاج لسياسة إعلامية، رغم وجود سياسات إعلامية واضحة فيما يخص أموراً كثيرة. إنما يعود للسوريين أنفسهم الذين يتحدثون علناً، ويفعلون ما يفعلون بشكل ذاتي، وهو ما اعتادوه طوال عقود. 

علناً تبدو كل الأمور جيدة، وخاصة فيما يتعلق بمسائل الانقسامات الأهلية، الأكثر كلفة حقاً على السوريين وعلى تاريخهم. علناً، تحب الطوائف بعضها البعض وتحيل إلى تقليد تعايش طويل الأمد قائم على الأخوة ووحدة الانتماء، لم يشوهه إلا فاعل خارجي (النظام السابق حالياً، وسابقاً الاستعمار وعملائه). إننا، كسوريين، اعتدنا إخفاء مشاكلنا ومخاوفنا تحت السجادة فلا نكشفها، باعتبار المكاشفة والمصارحة مسائل معيبة وربما تهدد العيش نفسه. لا يجب أن نتحدث عن الطوائف ومطالبها ومخاوفها لأن هذا أمراً معيباً، لا مكان للطائفية بيننا، رغم معرفتنا جميعاً بأن المسالة الطائفية تغرقنا حتى رؤوسنا. هذه الازدواجية اللغوية التي تتجنب الخوض والمصارحة لمصلحة لغة لا تقول شيئاً حقيقياً وتخفي ما تريد قوله حقاً خلف التوريات، ولكنها تتمنى أن تتغير الأمور وتصبح أفضل، وأن صاحب السلطة سوف يقوم بما يتمنونه.

كيف يمكن لنا عندها أن نحدد مشاكلنا، أن نحدد مطالبنا، أن نبني الثقة فيما بيننا؟

اجتماع هذه الخصلة مع السياق العام الممثل بالحاجة الماسة قبل كل شيء للأمن والأمان والاستقرار وتحسين الأوضاع المعيشية يجعل من المشهد عامة شديد الخطورة. خطورة نعرفها، مشهد يطلب حاكماً قوياً يستطيع أن يفرض النظام ويؤمن الحماية. الخطر لا يأتي من ممن يمسكون حقاً زمام الأمور، وهم خطرون على كل حال، إنما ينشأ عن ظرف الناس المنهكة والتي لا ترغب بالتحدث صراحة عما ترغب وتحمل أعباء ومسؤولية صراحتها ومطالباتها.

إننا، كسوريين، اعتدنا إخفاء مشاكلنا ومخاوفنا فلا نكشفها، باعتبار المكاشفة والمصارحة مسائل معيبة وربما تهدد العيش نفسه

يُضاف إلى هذا غياب أي تقليد للحريات والديمقراطية في سوريا بشكل كامل. دعنا من الحديث عن الخمسينيات وهي سردية لطيفة، لكن لنتذكر أن من عرف الخمسينات وعايشها يجب أن يكون على الأقل من مواليد الثلاثينيات، أي تقريباً في العقد التاسع من عمره. كم يمثل هؤلاء من سوريا اليوم؟ ومن يرغب أساساً في الاستماع لمن بقي منهم؟ نحن السوريين لم نعرف حقاً سوى البعث، وغالبيتنا الساحقة لم تعرف سوى حكم آل الأسد. لهذا ليس مستغرباً ما نراه اليوم، على الأقل كما يأتينا على الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، عهد جديد للمنحبكجية. “المنحبكجي” لايُعرف بمن يحب، بل بكونه “منحبكجي”. أنه “منحبكجي” سواء للأسد، أو للشرع، ولغيره لاحقاً. فجأة نرى عدداً هائلاً ممن “كوّعوا”، فجأة لم يعد هناك من وقف إلى جانب الأسد، الجميع كان ضد، ولا أحد يعرف حقاً من خاض الحرب طوال هذه السنين.

بالتأكيد، كما أسلفت، لا أحد -عدا أهل النظام أنفسهم- كان حقاً مع النظام، ولكن الخوف من الآخرين كان أكبر. لكننا نشهد الآن حالة تامة من الزيف، فقد أصبح الجميع أعداء للنظام الساقط، يتبارزون في مهاجمته وشتمه. التكويع الحاصل مذهل حقاً. ومن كانوا مصدر الخوف، الإسلاميين، صاروا أبطال. البعض صار يكتب شعراً بالشرع ويغني له. “المنحبكجية” كتقليد، تقليد أنتجه نظام الأسد نفسه على مدار عقود من الاستبداد وعبادة الشخصية طبعت حياة السوريين تماماً، باقية رغم سقوط الأسد. لا يعرف السوريون شيئاً آخر، لا يعرفون تقليداً سياسياً آخر.

لأجمع هذه الانطباعات الشخصية للأيام القليلة، مع التأكيد على كونها انطباعات خاصة: بيئة منهكة من الحرب الطويلة والانهيار الاقتصادي والحاجة لإعادة الإعمار. لغة تقية، لا تقول شيئاً صريحاً وتخفي مخاوفها وتوجسّاتها ومطالبها تحت ستار من الاستعارات الخفية، ثقافة “منحبكجية” لا نعرف غيرها. مزيج خطر، لا يقل عن خطر الإيديولوجية الإسلامية بنسختها السلفية الجهادية المنتصرة في البلاد. بل للحق، أنها أكثر خطراً منها. الخطر اليوم هو هذه البيئة التي يعيشها السوريين، وتشكل وضعية مثالية لمطلب الاستبداد، الاستبداد الحامي، الاستبداد الذي يبني البلد ويمنع الاقتتال. ولن يكون موضوعاً للمزاح أن نراهم يعمدون الشرع بطلاً حامياً لجميع السوريين من بعضهم البعض مرة أخرى، على نموذج الأسد ولكن ملتح. أن ترى الناس يخبرونك، أنهم تعبوا وأن الهيئة والشرع يحمونهم وإن ذهبوا فالقادم أسوأ.

خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

المجال العام.. فرصة قد لا تتكرر

بالمقابل ما نحتاج إليه شيء مغاير تماماً، هو السعي لتأسيس نواة مجال عام يستطيع السوريون أن يصيغوا ويقدموا مطالبهم عبره، أن يتفاوضوا ويتناقشوا سوية وبشكل علني فيما يخص شؤون حياتهم. من جهة، يقدم المجال العام حماية تجاه الاستبداد، ومن جهة أخرى يحمل مطالب السوريين بكل فئاتهم وانقساماتهم إلى الدولة لإبداء رأيهم وأخذ موافقتهم فيما يتعلق بالسياسات التي تقرّها، وأخيراً إمكانية لبناء الثقة وإعادة تأسيس الوطنية السورية نفسها.

اليوم لدى السوريين، مع انهيار النظام والدولة، الفرصة الحقيقية والفريدة لتأسيس هذا المجال العام عبر الحديث العلني والمطالبة بأخذ آرائهم و هواجسهم بعين الاعتبار، وهو ما يتطلب التعبير العلني عنها والنقاش حولها، والاستعداد للدفاع عنها في الشارع عبر التظاهر والإضراب في مواجهة احتمال الإقصاء والتهميش، وليس السلاح وهذا أمر هام. العالم كله ينظر إلى سوريا وإلى الممسكين بالسلطة، وهؤلاء في أمس الحاجة إلى اعتراف دولي، هذه الحاجة هي فرصة للسوريين للمطالبة ولتأمين الحماية لهم أيضاً. سيفكر مئة مرة من يقرر قمع مظاهرة، أو إسكات طرف عنوة، قبل أن يقدم على هذا وهو مدرك كلفة  هذا القمع عليه.

ما يهم هنا ليست المطالب في ذاتها، إنما المجال العام المنبثق عن عملية المطالبة التي يقوم بها السوريون واستعدادهم لمحاسبة ومراقبة المسؤولين عن أمورهم. بالتأكيد، لا يمكن تلبية جميع المطالب، التي قد تكون متعارضة فيما بينها. لكن عن هذه المطالب ستنشأ الحاجة إلى الحوار والوصول إلى تسويات، وضرورة النقاش العلني لها وإخضاعها للنقد من جميع الأطراف.

“ليتحدث الجميع” هو أكثر شعار يمكن أن يعبر عن هذه الحاجة. الجميع، تعني حقاً الجميع. السوريون ليسوا فقط طوائف أو اثنيات أو قبائل، السوريون أيضاً طبقات، وأنماط حياة متنوعة ومختلفة، هويات عديدة يمكن لهم اختيارها. السوري، مثلما هو مسلم أو مسيحي، هو ابن مدينة أو ريف، هو مؤمن أو ملحد، هو ليبرالي أو اشتراكي، هو عروبي أو وطني سوري، هو محافظ أو تقدمي، هو أشياء كثيرة ممكنة. والجميع تعني كل هذه الإمكانيات. الطائفة والاثنية إحداها، إنها هامة حقاً ولكنها ليست الوحيدة.

أن يتحدث الجميع لا يعني اختزال المسألة السورية حصرياً في مسألة ترتيب تعايش الطوائف، ومن التجارب التي نعرفها، انتهت تجارب تعايش الطوائف إلى ما لايحمد عقباه. وما يصدق على تعايش الطوائف يصدق على تعايش الاثنيات وغيرها، حديث الجميع يعني أننا لا نقف أمام هوية واحدة علينا تنظيم البلاد على أساسها، إنما أن نأخذ بعين الاعتبار من لا يرون أنفسهم من خلال عدسة هذه الهوية.

المجال العام يفسح للناس فحص إدعاءات الآخرين ونقدها، هذا التمرين يدفعهم إلى تعلم فحص إدعاءاتهم ومطالبهم نفسها أيضاً. كما يدينون، سيدانون!، مطالبهم، مثل مطالب غيرهم، أصبحت مطالب تقدم للعموم لمناقشتها، وللإدلاء بآرائهم بصددها. فمطالب أي جماعة لا تحدد فقط كيف تحيا هذه الجماعة وحسب، إنما كيف يتعامل الآخرون معها، أي بالمحصلة كيف يحيا الآخرون بدورهم وهذا ما يجعل منها موضوعاً لنقاش عام يتجاوز أصحابها المباشرين أنفسهم.

مثلاً، موضوع القوانين الإسلامية نفسه يصير موضوعاً عاماً لا يقتصر على المسلمين، إنما مفتوحاً لنقاش عام من قِبل الجميع الذين يمكنهم الإدلاء بآرائهم عنه. لن يقتصر أثر القوانين الإسلامية، وليس العقيدة، على المسلمين وحدهم، بل يطال الجميع، ولهذا هي أمر مفتوح للجميع لمناقشته، و لإعطاء رأيهم به. حصر المسألة في المسلمين، وهؤلاء في السنة، وهؤلاء في المؤمنين منهم، وهؤلاء في أصحاب الرأي الصائب ينتهي به الحال إلى استبداد ضمني يتعلق بجماعة محدودة تُقرر عن الجميع ودونهم، وأهم ما تقرره من ينتمي إلى هذه الجماعة أساساً، وهو ما يفتح الطريق إلى الإقصاء واحتكار أمر السلطة.

المجال العام حماية السوريين الأولى من خطر الانزلاق إلى الاستبداد الجديد، أو حتى إلى الحرب الأهلية، حيث يتحدث الجميع، يعرضون أمورهم و يناقشونها، ويسعون إلى الوصول إلى تسويات واتفاقات بصددها. هذا بدوره يقدم فائدة أخرى، لا أمور مَخفية، وأيضاً من جانب الجميع!

لن يكون من مصلحة أياً كان أن يتحدث لغتين عامة وخاصة، أن يخفي مخاوفه ومطالبه وراء لغة تقية لا تقول شيئاً، لأنه عندها لن يضطر أحد لتلبيتها. هو لم يقل ما يريد، وبالتالي لا يمكن لنا أن نقدم له ما لم يطلبه ويسأل عنه. هذا يطال بالتأكيد لغة الوطنية السورية التي أنهكها استنزاف نظام الأسد لعقود طويلة، فلطالما قدم النظام نفسه من داخل لغة وطنية تترفع على الانقسامات الأهلية مُحيلة إلى دولة تنظر إلى المواطنين جميعاً بعين المساواة، مساواة تقوم على اغتيال فكرة المواطنة عبر نزع السياسة عنها. وهي اللغة نفسها التي اعتمدها السوريون للتعبير بوصفها اللغة الوحيدة المسموح بها، فصار يستخدمونها للتعبير عن كل شيء، بما فيها هواجسهم ومخاوفهم الطائفية، مما جعل منها لغة عديمة الدلالة، لغة تقية، وظاهر يمكن تأويله لقول أي شيء. من المؤسف حقاً، أن يكون هذا حال لغة “الوطنية السورية” التي يفترض حقاً أن تكون لغة موحدة وقاعدة لتلاقي السوريين جميعاً.

لن يكون من مصلحة أياً كان أن يتحدث لغتين عامة وخاصة، أن يخفي مخاوفه ومطالبه وراء لغة تقية لا تقول شيئاً، لأنه عندها لن يضطر أحد لتلبيتها. هو لم يقل ما يريد، وبالتالي لا يمكن لنا أن نقدم له ما لم يطلبه ويسأل عنه.

وبشكل أهم، لا يسمح المجال العام للسلطة أن تخفي بدورها شيئاً، لا أجندة سرية، لا ترتيبات غير علنية، لا تعيينات سرية وغيرها. السرّ سلطة، وعندما تنتفي الأسرار تنتهك قوة السلطة نفسها. اعتاد السوريون على التأكيد دوماً على السرّ المخفي للسلطة، الأشياء التي لا نعرفها، وهناك مركز السلطة الحقيقي. وهذا أمر عاينه السوريون بأشكال عديدة. لطالما عرفنا أن مكان السلطة الفعلي لا تصرح به التراتبية الرسمية، السلطة لها تراتبية خاصة، وذلك حتى في أشد المؤسسات هرمية وانضباطاً: الجيش. يمكن أن يكون أحدهم برتبة رائد ولكنه أشد نفوذاً وقوة من لواء. أن يكون وزيراً، لكنه يركض مهرولاً أمام مدير عام. حسابات الوزارات والعقود الكبرى، من شركة “سيريتل” للاتصالات إلى عقود النفط، لم تكن معروفة وعلنية، ومن طلب مناقشتها دفع ثمناً لهذا. لا مكان لمثل هذه الأسرار في المجال العام، وهذا في ذاته إضعاف حقيقي للسلطة لقوتها المخيفة والمغرية. وبقاء هذه الأسرار يعني بدوره انحسار وموت المجال العام.

أيضاً، اعتاد السوريون على موضوع الإدعاءات المزيفة، أن يقدم أحدهم وجهاً غير وجهه الحقيقي، حتى يتمكن ويظفر، وعندها يُظهر وجهه الحقيقي. أليس جزءاً من التخوف والتوجس السائد هو توقع مماثل تجاه الإسلاميين، الذين لا يقدمون وجههم الحقيقي، إنما وجهاً مزيفاً لإرضاء العالم وكي يتمكنوا من الظفر بالسلطة وترسيخ أقدامهم حتى يظهروا وجههم الحقيقي؟

ربما يكون هذا هو الواقع حقاً، وتجاربنا تدفع باتجاه هذا التوقع. لكن المجال العام هو حمايتنا أمام هذا الاحتمال. عندما يقدم أحدهم إدعاءً، فإننا نطالب بتثبيته، بتقديم ما يصادق على إدعائه، على ضمانات كافية للثقة والتصديق على ما يطلب. قد يكون كاذباً، لكن مع الوقت وأمام هذه المطالب فإنه سيصير ملزماً بالتزام ما إدعاه. ما بدا وجهاً مزيفاً سيتحول إلى وجه حقيقي، الوجه الوحيد الممكن ارتداؤه، القناع يلتصق بالوجه حتى يصيرا واحداً. والوجه الحقيقي المخفي، ربما يبقى وجهاً ذاتياً في الجماعة الصغيرة، لكنهم يعرفون أن لا مكان له في العام.

بالتأكيد هذا يتطلب مأسسة للمجال العام، ترسيخه وتعزيزه، وفرض قوته، وهذا بمجمله مسار طويل وعسير ويحتاج زمناً طويلاً. لكنها الآن الفرصة السانحة لتأسيسه والانطلاق باتجاهه.

خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

تحديّات المجال العام

قدمت مصر بعد الثورة، فترة المجلس العسكري ولاحقاً الرئيس مرسي، نموذجاً ملهماً ومفيداً للنظر فيما يتعلق بالمجال العام وصعوباته، وختاماً انهياره تحت وطأة تناقضاته الخاصة. فالمجال العام فُتح عنوة بفضل الثورة، واندفعت الجماهير لملئه. عرفت مصر مظاهرات عديدة من جميع الأطراف، الأقباط والإسلاميون، الأحزاب الوطنية، العمال والفلاحين، رجال الصناعة، وغيرهم. لقد فتحت الساحة العامة وسعى الجميع إلى دخولها.

خلال فترة المجلس العسكري والرئيس مرسي عرفت مصر عهداً من الحريات الواسعة لم تعهده سابقاً، فظهرت وسائل إعلام عديدة من جرائد ومجلات إلى محطات تلفزيونية، والقديمة منها تحولت بشكل كبير متأثرة بالحريات التي انتزعها المصريون خلال الثورة. ظهرت أيضاً المنتديات ونشأت أحزاب سياسية جديدة، والقديمة منها انتعشت. تناولت هذه الوسائط المواضيع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما أنها تناولت أيضاً أصحاب السلطة، المجلس العسكري ولاحقاً الإخوان والرئاسة. ساعدت هذه الوسائط في إيصال أصوات الجميع ممن خرج ليتظاهر أو يحتج ويقدم مطالبه، حيث صار الاحتجاج وسيلة أساسية وثابتة بفضل الثورة. 

بالتأكيد، عملت وسائل الإعلام في اتجاهات متعاكسة ومتناقضة، فمثلاً الاحتجاجات العمالية لم تنل دعماً، بل سعى الجميع من المجلس العسكري حتى الإخوان ومن ورائهم عموم وسائل الإعلام إلى ضبطها ورفضها تحت مسمى المطالب الفئوية، وباعتباره أنها فئوية فإن الوقت ليس وقتها وهي تضر بالإصلاح الاقتصادي والأمن عامة وهما مطلبان أساسيان في هذا الوقت. رغم هذا، فإن صوت هذه الاحتجاجات والمطالب وصل. الحال كان شبيهاً مع مظاهرات الأقباط، خاصة ماسبيرو. لكن، عموماً وبفضل مجال الحريات الجديد فإن المظاهرات كانت وسيلة فعالة وناجحة في إيصال أصوات المحتجين ومطالبهم والضغط على أصحاب السلطة، بما فيها السلطة الكنسية في حالة الأقباط، من أجل الاستماع إلى المحتجين والسعي للوصول إلى تفاهمات واتفاقات معهم وتلبية جانب من مطالبهم.

عانى المجال العام المصري الحديث الولادة من التعثر في التفاهم وإثقاله بآراء لا يمكن التوسط بينها، فصارت المزايدات السياسية فرصة للأكثر تطرفاً لتقديم أنفسهم بوصفهم الممثل الحقيقي للجمهور 

شكل النقاش المفتوح والواسع، الذي انخرط فيه عموم المصريين بكل تنوعهم واختلافهم، حائط صد أمام محاولات المجلس العسكري للاستئثار بالأمور، حتى لحظة الانتخابات الرئاسية ومواجهة أحمد شفيق مع محمد مرسي. لم يقدم المجال العام الحماية فقط في مواجهة المجلس العسكري، إنما في مواجهة محاولات الإخوان أنفسهم للتحالف مع المجلس العسكري. ولاحقاً، كان للمجال العام دوراً حاسماً في مواجهة استئثار الإخوان أنفسهم بالسلطة وأسهم في رسم حدود فعالة لممارسة السلطة، كما حصل في مواجهة الإعلان الرئاسي الذي أصدره مرسي. لقد لعبت البرامج التلفزيونية، والفكاهية منها، في تحطيم أية إمكانية لرسم هالة حول السلطة، وجعلتها موضوعاً للتندر والمزاح والمناقشة والاعتراض، مما أضعف إمكاناتها في الضبط والإخضاع.

غير أن المجال العام المصري عرف تناقضاته العديدة، فالجماهير التي لم تعتد على المجال العام ونقاشاته، أتت إليه بكل مخاوفها، بكل أساطيرها وخرافاتها، بكل تطرفها، وبكل الكراهيات الأهلية. لقد صار بإمكان الجميع الحديث، فصاروا جميعاً يتحدثون بكل شيء دون مراعاة لأية اعتبارات تتعلق باللياقة والاحترام، والأهم عدم خضوعها لمعايير عمومية، بمعنى أن البعض صار يطالب بأشياء لا يريد هو نفسه أن يُطالب بها. فصار الهجوم على الأقباط وتخوينهم وإزدارئهم والاعتراض على كنائسهم أمراً شائعاً على سبيل المثال. كما ظهرت نقاشات حول حفظ النظام العام ومنع طيف من الآراء كونها تضرّ النظام العام والقيم والتقاليد الاجتماعية المعرفة ضمناً بالموقف الإسلامي المحافظ.

وزاد الطين بلة مزايدات اُبتلي بها المجال العام وخاصة من جهة الإسلاميين، فالسلفيون صاروا يزايدون على الإخوان في كل الأمور، فحينما يسعى الإخوان إلى تحقيق تسويات مع الآخرين، يزاود عليهم السلفيون باسم الإسلام والدين، هكذا أثار حزب النور نقاشاً مراً حول المادة الثانية من الدستور والشريعة الإسلامية وهوية الدولة، وهو موضوع لم يختلف فيه أحد أساساً. وقامت القنوات السلفية بتأزيم الأوضاع مع الآخرين عبر إثارة مواضيع غريبة، فظهر مشايخ يناقشون ثياب الممثلات ويخضعونهن لحملات تفتيش، وآخرين يهاجمون الأقباط ومحاولة قوننة بناء الكنائس.

عانى المجال العام المصري الحديث الولادة من التعثر في التفاهم وإثقاله بآراء لا يمكن التوسط بينها، وعوضاً عن حوار للوصول إلى حلول واتفاقات، صار المجال العام مسرحاً للتعبير عن الرفض والخوف والإنكار. فصارت المزايدات السياسية فرصة للأكثر تطرفاً لتقديم أنفسهم بوصفهم الممثل الحقيقي للجمهور والحقيقة والضغط على أية طرف سياسي سعى للوصول إلى تسوية عامة يمكن قبولها من أطراف مختلفة ومتنوعة.

لم يعرف المصريون سابقاً مجالاً عاماً مفتوحاً، لكنهم عرفوا هامشاً واسعاً من الحريات لم يعرفه السوريون، ولهذا دخلوا إلى المجال العام الوليد بنقص الخبرة والمعرفة، لينقلوا إليه أمراضهم. بالمقابل، فشلت النخب السياسية المصرية في الوصول إلى تسويات حقيقية، فاستنزفت في مواجهة المزاودة الحاصلة من قبل أطراف أخرى عليها، فصار على الإخوان ليس فقط الوصول إلى تسوية مع غير الإسلاميين، بل مقارعة حزب النور والتيارات السلفية على تمثيلية التيار الإسلامي.

النمسا وألمانيا أيضاً عرفتا مجالاً عاماً وليداً بعد الحرب العالمية الأولى وحظيتا بحكم جمهوري وقوانين ديمقراطية متقدمة، لكن مع وجود انقسامات اجتماعية وسياسية حادة دون قدرة النخب السياسية على الوصول إلى تسويات مقبولة من الجميع

أُثقل المجال العام بهذه التناقضات وغياب الثقة، وضعفت القدرة على تحصينه من الانهيار تحت وطأة هذه التناقضات. بل عاش المجال العام تهديد الانهيار تحت استبداد الأغلبية الديمقراطي، وهو ما كان مصدر فزع حقيقي. فكلما اُختلف في موضوع، اٌقترح أن يتم التصويت عليه. لم تكن هناك مبادئ أساسية تحفظ حداً من الحريات والحقوق التي لا يمكن المساس بها. وبهذا صارت الديمقراطية وحكم الأغلبية شعاراً يسمح بانتهاك ومهاجمة الحقوق الأساسية وحتى المجال العام نفسه. صارت الخشية من الديمقراطية أن تتحول إلى استبداد أغلبية، كانت بدورها جاهزة لممارسة هذا الاستبداد، كما عبر عنه الشيخ السلفي محمد حسين يعقوب عند حديثه عن غزوة الصناديق.

ازداد الخوف من الإخوان والإسلاميين عامة وخاصة مع فشلهم الكارثي في الإدارة، وتخبطهم في تحديد استراتيجية تسوية حقيقية تسمح بتأسيس جديد للجمهورية، فانتهز الجيش الفرصة وانحاز إليه قسم كبير من المعارضة السياسية التي سبق وخرجت إلى ميادين الثورة وقسم كبير من المجتمع الذي فضل الجيش ووعده بالأمن والاستقرار والحريات الشخصية على الإسلاميين، وكانت الخاتمة الانقلاب العسكري ووأد التجربة الديمقراطية والعودة إلى السلطوية العسكرية مرة أخرى.

ليست التجربة المصرية أمراً فريداً، ويمكن النظر إلى التجربتين الألمانية والنمساوية في فترة بين الحربين العالميتين من زاوية مشابهة. فقد عرف البلدان مجالاً عاماً وليداً بعد الحرب العالمية الأولى وحظيا بحكم جمهوري بقوانين ديمقراطية متقدمة، لكن بانقسامات اجتماعية وسياسية حادة دون قدرة النخب السياسية على الوصول إلى تسويات سياسية مقبولة من الجميع. وعلى العكس غلبت الخشية وعدم الثقة بين الأطراف التي صارت تنظر إلى الديمقراطية كوسيلة للظفر بالسلطة. وعند عجزها فإنها تمترست بالخنادق، خاصة مع وجود تيارات أكثر راديكالية على كل طرف، الشيوعيين على يسار الحزب الاشتراكي الديمقراطي والنازيين والضباط على يمين الأحزاب المحافظة. 

عدم القدرة على الحكم كان وضع الجمهوريتين اللتين عاشتا ما يشبه حرباً أهلية منخفضة الحدة بعد قمع انتفاضة سبارتاكوس ومحاولة انقلاب الضباط في ألمانيا. في النهاية انهارت الجمهوريتان تحت وطأة هذه التناقضات التي عاشتاها، وانتصر النازيون. وهو ما تم تفاديه بعد الحرب العالمية الثانية، عبر تسويات بين الأطراف السياسية وتشكيل حكومات وحدة وطنية، كما في النمسا، تمثل فيها الاشتراكيون مع المحافظين الكاثوليك كتسوية تاريخية تسعى لتجسير الهوة بين الانقسامات الاجتماعية الحادة.

يظهر المجال العام كاندفاع شعبي من أجل التعبير والحريات، وستجد كل الآراء طريقها إلى العموم مهما كان تطرفها وغلوها. الشكوك الكبيرة والمخاوف من الآخرين، والرغبة في فرض تصورات معينة وتحقيق سيادتها. هذا ما يفعله الناس وهو أمر مهم وضروري، ولكنه أيضاً يحمل مخاطره الذاتية من أن يتحول المجال العام من ساحة للنقاش العمومي إلى مكان للإقصاء والقمع وانهيار الثقة وذلك باسم الديمقراطية نفسها، خاصة في غياب تقاليد النقاش العام. 

هنا، تبرز أهمية النخب السياسية وقدرتها على الوصول إلى تسويات. بقدر ما يلعب الناس واندفاعهم للتعبير دوراً في خلق المجال العام، فإن النخب السياسية هي التي تصون المجال العام وتمنع انهياره تحت وطأة تناقضاته الخاصة، خاصة أنه لم يزل غضاً وهشاً، وما يحمله الناس إليه -في هذه اللحظات- هو خيبة وانكسارات ومخاوف وعقلية عقود من الاستبداد والقهر.

خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

المهمة في مواجهة السوريين

يتمثل التحدي السوري اليوم في الحاجة إلى خلق مجال عام لمواجهة أي استبداد جديد، ولكن الأهم في مواجهة عقلية وتقليد سياسي يعزز الاستبداد والحاجة إليه باسم الأمن والاستقرار وعبادة الشخصية والحاجة إلى البطل الحامي. كما يتمثل الجزء الثاني من هذا التحدي في قدرتهم على الوصول إلى تسويات تأسيسية لضمان استقرار هذا المجال العام وعدم انهياره تحت وطأة تناقضاته الخاصة.

تبدو المهمة شديدة الصعوبة، وخاصة مع بدء القوى السورية بوضع تابوهات أمام المنخرطين في النقاش العام والحوار الوطني، مثل إقصاء الأكراد وفرض تصور موحد ومركزي لسوريا، أو اختزال التنوع السوري في بعده الطائفي وبالتالي تحويل المسالة الطائفية إلى كامل المسألة السورية، وهي المختزلة بدورها في “أمن الطوائف” لا أكثر.

إن مسائل الدستور أو انتخابات جمعية تأسيسية، على أهميتها، تبدو أمور لا يمكن للسوريين حقاً القيام بها بغياب مجال عام يسمح للسوريين بالنقاش والتعبير عن أنفسهم، مجال عام يشكل إطار عام تأسيسي لكل حوار وتسوية واتفاق، بما فيها الدستور أو نظام الانتخابات للجمعية التأسيسية. الاستعجال في التأسيس للجمهورية بغياب المجال العام لن ينتج جمهورية للسوريين، بقدر ما سينتج جمهورية قوى الأمر الواقع في هذه اللحظة، وهي أساساً قوى اقليمية ودولية من ناحية وقوى الأمر الواقع على الأرض في لحظة غياب الثقل والتنظيم عن الآخرين.

على الجميع أن يتحدث، أن تتحدث الطوائف عن نفسها كطوائف (وليس كأخوة مع اعتادوا فعله على عهد البعث، الخوري مع الشيخ)، لكن أيضاً، أن يتحدث سوريون آخرون عن أنفسهم كما يرغبون خارج الطوائف وحصريتها، خارج القوميات وحصريتها. وبشكل أساسي، أن يتحدث السوريون عن أنفسهم كأفراد ومواطنين. لا شيء يجب أن يلغي شيئاً آخر، لسنا مواطنين وحسب، بل نحن قوميات وطوائف وطبقات، ولكننا لسنا أيضا طوائف ومواطنين وطبقات وحسب، بل أفراداً ومواطنين.

كيف نكون كل هذا، دون أن نكف عن الحديث سوية؟ هو تحدي على السوريين خوضه ولا ضمانة لهم بالنجاح سوى المحاولة نفسها. ومعها نتعلم أن نتحدث عن كل شيء، ولكن هذا بدوره يعني أننا لن نحصل على كل شيء، بل على ما يمكن لنا جميعاً قبوله وبشكل مشترك.