لا تسعى هذه المقالة إلى أسطرة المغني والملحّن والمؤلّف عصام الخطيب بقدر ما ترمي إلى النبش في سيرته الغائبة، وتقديم قراءة موضوعيّة، لكنها منحازة، لتجربة لشاعر ومغنٍّ شذّ صوته عن كلّ إطار سوري معروف، في وقت تعذّر فيه تبادل الكلام حتّى لو لم يكن يطال السياسة. ظلّ المغنّي يُغنّي ولو أنّه لم يجد لصوته مكاناً في القاعات الكبرى أو المدرجات الجماهيرية. ضغطة واحدة على زرّ التسجيل في الراديو، كانت المعبر الآمن لصوت الفنان السوري الذي توارى من الحياة العامة قبل موته، ولم تظهر نعوته في الصحف إلا بعد خمس سنوات.
لهذا الانحياز المعلن أسباب كثيرة، أولّها وأهمها، محاولة نزع صورة نمطية سادت ردحاً طويلاً من الزمن وتعزّزت في العقدين الأخيرين، عن أنّ الساحل السوري هو الخزّان البشري والثقافي والعقائدي لنظام الأسد. تؤكّد تجربة الخطيب أنّ للقمع أشكال مختلفة وذكية، تنمو سريعاً في ذاكرة المجتمعات البشرية كالنباتات الزاحفة وتغطّي ذاكرتها السابقة، فتعيد إنتاج الخيبات “بدايةً كمأساة ومرةً كمهزلة” بتعبير سلافوي جيجيك، على مستوى الأفراد كما المجتمعات.
بدايات الطائر الأحمر
قليلون من الأجيال الجديدة يعرفون عصام الخطيب وأغانيه وألحانه، غالباً من خلال وسطاء أعادوا غناء بعض أغانيه العاطفية. وكثر لا يعرفون أنّ هذا المغني بقي خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات “تريند” في سوريا وفلسطين واليمن، ورمزاً من رموز “الأغنية الثورية اليسارية” إلى جوار تجربة أخرى خالدة هي تجربة الثنائي الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم الشاعر، في وقت لم تكن فيه وسائل إعلام سوى الراديو.
ساهمت ولادة المغنّي والملحن السوري عصام الخطيب في قرية جيبول (ريف جبلة الساحلية)، عام 1950، شبه فاقد للبصر، في تكوينه النفسي واللغوي. ملأت البيئة الجبلية قاموسه بمفرداتها وأحاسيسها، وفيها انتهت حياته حيث ينام اليوم هناك في مثوى رخامي اختاره له بعناية صديق من إدلب السورية، ليقيم فيه إلى ما قبل قيامته الثانية.
ينتمي عصام لعائلة الخطيب المعروفة في المنطقة بحضورها الديني والاجتماعي والثقافي. والده المرحوم حسين تخرّج من جامعة دمشق عام 1945، ومارس المحاماة سنوات طويلة كما تسلّم منصب أوّل قاض في قضاء جبلة، وعمّه صلاح هو أول أستاذ من الساحل درّس في الجزيرة السورية مطلع الستينات.
لم يشكّل الابن شبه الكفيف لوالده مشكلة بالمعنى الفيزيولوجي، فالطفل عاش طفولة متكاملة لا بل ظل يلعب الورق مع أصدقائه حتى وفاته، كما حمل جهازاً خليوياً وكان يحفظ أكثر من ثلاثة آلاف رقم هاتف، وفق شهادات أصدقائه!
تعلّم عصام العزف على العود سماعياً في سنوات عمره الأولى عبر راديو ظلّ رفيقه ونافذته على العالم لسنوات طويلة، وساعده كذلك في تعليمه عازف عود من منطقته لم نصل إلى اسمه، ثم انتقل تدريجياً للتلحين، وجمع إلى التلحين قصائد غنائية كتبها بعدما تعلّم العربية وتلاوة القرآن على يد خطيب “سنديانة البيدر” الشهيرة في القرى العلوية.
وما يشهد على تميز إبداعه المبكر، أنّه نجح قبل العشرين من عمره، في تقديم أوّل أغنية له، ولاقت انتشاراً واسعاً أواخر ستينيات القرن الماضي في وقت كانت فيه أجهزة الاستماع قليلة الانتشار، وقد قدّمها عصام في الحفلات الفنية التي أقامها أصدقائه وجمهوره في الساحل السوري ذلك الوقت. هذا التقليد، أعني الحفلات وليس فقط حفلات الأعراس، سوف يتوقف مع زيادة حضور السلطة في هذه المجتمعات.
الأغنية هي “يا وردة اللي عم تتغاوى فوق التلة”، على مقام البياتي، وتقول بعض كلماتها: “ياوردة اللي عم تتغاوى فوق التلي/ مين اللي سارق لونك دخلك قلي/ ياورد السرقوا لونك هو خلاني/ سرقوا من نور النجمة اللون التاني”. حتى اليوم، يتداول مغنون كثر هذه الأغنية ويعيدون غنائها ومنهم صديقه المغني سامر أحمد الذي حصل على بعض حقوق أغاني الراحل، ويمكن التأكد من انتشار هذه الأغنية بالبحث عنها على الإنترنت.
تحوّل عصام في وقت قصير إلى نجم تلك الأيام. تروي سيدة ممن حضرن تلك الأمسيات، أنّ أيّ قريةٍ كانت تعرف بحضور المغني إليها، كانت تجتمع في سهرات أقرب إلى الطقس الرحباني، فتشارك الصبايا والشباب في ترديد تلك الأغاني، ومنها سهرات أُدّيت فيها أعمالاً للأخوين الرحباني مثل “بعدوا الحبايب” في العام نفسه التي ظهرت فيه الأغنية عام 1967.
توجّه يساري على مقام “الصبا”
ساهم جوّ ما بعد نكسة 1967 المائل لليسار شعبياً، خصوصاً في بيئات الساحل السوري بشكل واسع، في صياغة رؤية عصام للعالم وتشكيل مواقفه السياسية اليسارية وقربه من أحزابها، من دون انخراطه في أيّ تنظيم سياسي. كان صديقاً للرفاق خاصة الشيوعيين منهم، وهذا ما أورثه غضب السلطة السورية إضافة إلى غضب عائلي لم يكن قاسياً دائماً لكنه شكّل وجعاً متواصلاً للطرفين.
في السبعينيات، اتّضحت هوية عصام الفنية كعازف عود وصوت منفرد، فلحّن معظم أغانيه على مقام “الصبا” وقلّد أخرى بنجاح، وأغلبها جاء على السجيّة أي في “لحظتها”، كما يخبرنا ابن عمه الشاعر مازن الخطيب الذي عرفه عن قرب ورافقه عقوداً طويلة.
بداية الثمانينيات، قدم عصام إلى دمشق وعاش وسط مجموعة من الشباب اليساريين، وغنى مجموعة أغنيات أزعجت السلطة في دمشق في عزّ قوتها، من هذه الأغاني أغنية “مرمر زماني يا زماني/ الشعب نايم والحكومة عسكر”. يقول الشاعر السوري فرج بيرقدار في حديث معنا “استمعتُ إلى بعض تسجيلات عصام ثم قررتُ التعرّف عليه. أصبحنا أصدقاء وتناقشنا طويلاً بشأن بعض أغانيه وعدَّلنا بعضها. وكتبت له أغنية عن مجزرة صبرا وشاتيلا، ثم أغنية عن الشام، وحين قرأت له قصيدتي عن محمد عبود، الشهيد الذي قتل تحت التعذيب، قرر تلحينها. لم أوافقه في البداية، لقناعتي أن القصيدة طويلة وموسيقاها الشعرية مركّبة بعض الشيء ولا يمكن غناؤها بطريقته التي تعتمد على التراث والألحان الشعبية ذات الجمل الموسيقية البسيطة، ولكنه حين أسمعني لاحقاً صيغة لحنها الأولى غيّرتُ رأيي”.
يتابع بيرقدار “عكفنا على مناقشة تفاصيل اللحن والنقلات بين المقامات الموسيقية. كان عصام معجوناً بمقام الصبا الغارق في الحزن وكنت أدفعه إلى التخفيف منه في أغنية محمد عبود بشكل خاص. كنت أريد للحن أن يمزج الحزن والألم بنوع من التحدي والتعالي على الجراح. للأسف أني انقطعت عنه لكوني صرت مطلوباً بإلحاح، وبعد سنوات اعتُقلتُ وأمضيت أربعة عشر عاماً قيد الاعتقال، وحين خرجت زارني عصام في بيتي، واتفقنا على أن نبلور مشروعاً موسيقياً يتضمن بعض أغانيه مع أغنيات جديدة، ولكن سارت الأمور على غير هوانا، إذ ما كدت أعود من غياب السجن حتى أخذني غياب المنفى، وذهب عصام إلى غيابه الأقصى وحنان ترابه الأول”.
لم تتوفّر لنا هذه الأغاني، ولكن الشاعر بيرقدار قدّم لنا كلمات من قصيدته “هذا هو الآن” عن شهيد التعذيب محمد عبود الذي كان من أوائل شهداء “رابطة العمل الشيوعي”، يقول أحد مقاطعها:
“أيُّ مرثيةٍ/ حين قامته رمحهُ/ وجناحاه سرب من الطير؟!
هذا دمٌ ساحليٌّ/ فلا تغلقوا الشرفات
وهذا صباحٌ دؤوبٌ/ يدقّ الزنازين ..
سيلٌ من الخيل يعدو / إلى جهة القلب
والليل يشرح أكفانَه البيض/ ماءٌ سريرة هذا السراب
وفي دمه كوكب فائض/وسهول من القمح لا تنتهي/ ويدان مشاعيتان”.
في وقت قصير، تحوّل عصام بفضل نوعية أغانيه وثوريتها وفرادتها، إلى مغنٍّ معروف في أوساط اليسار السوري لينال حظه من الغضب الأمني. ووفق بعض الشهادات، فإنّ كاسيتات عصام كانت دليلاً على يسارية المعتقلين وسبباً في اعتقال من يقتنيها، وفي تلك المرحلة ترافقت أغانيه مع أغاني الثنائي اليساري المصري أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام عيسى، مع فارق دعم السلطة السورية للثنائي المصري بسبب موقف دمشق من اتفاقيات “كامب ديفيد” ورفضها القاطع لعصام.
المشي إلى “أجمل ضفة”
مع استمرار غضب السلطة السورية على عصام، عملت “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” على تهريبه إلى لبنان قبل الغزو الصهيوني للبنان عام 1982 بقليل، فعاش هناك حقبة بين المقاتلين، وفتح له اليسار الفلسطيني والعربي أبواباً جديدة.
في بيروت وبعد تدخّلات عدّة، وافق محمود درويش الذي كان حينها عضواً في اللجنة المركزية لـ “منظمة التحرير الفلسطينية”، على لقاء عصام الخطيب لمدّة نصف ساعة. وفي لقائهما، طلب عصام موافقة درويش على تلحين نشيد “ﻷجمل ضفة أمشي“، فأسرّ له الأخير أنه مستغرب من رغبته هذه ﻷنّ النشيد صعب التلحين، لكن اللقاء طال واستمرّ لسبع ساعات، وفق رفيق دربه مازن الخطيب.
بعدما لحّن عصام القصيدة، انتشرت الأغنية على الكاسيتات، وما زالت تؤدّى إلى اليوم بأصوات مختلفة منها كورالية. وقد لحّن عصام قصائد درويش بالتزامن مع تلحين مارسيل خليفة وأحمد قعبور ومخوّل قاصوف وغيرهم لقصائده، وربّما قبلهم. لاحقاً، لحّن عصام أيضاً قصيدة “الأرض” (1976)، وهي القصيدة نفسها التي لحّن منها مارسيل خليفة مقاطعاً أخرى مثل “يا وطن الشهداء تكامل”.
أدّى عصام أيضاً عدداً كبيراً من أغاني الرحابنة في مطالع سيرته، انطلاقاً من إعجابه بتجربة تتقاطع كثيراً مع الموروث الشعبي السوري من الدلعونا إلى هيهات يابو الزلف. لكن أدائه للفن الرحباني لم يجعله متّكئاً على تلك التجربة، وبالمعنى الحقيقي فإنّه بقي متميّزاً ولم يكن نسخة من تلك التجربة الفريدة.
حاول عصام الاستفادة من تاريخه في تقديم الأغنية الرحبانية، لتكوين علاقات مع العائلة الرحبانية، فالتقى في بيروت فيلمون وهبة ونصري شمس الدين وجورجيت صايغ وآخرين، ولا ندري إن كان التقى عاصي ومنصور الرحباني.
كان هاجسه الأوّل لقاء نصري شمس الدين الذي كان مولعاً به وبأغانيه، واتّفقا على أن يغني نصري أغنية “بفي الياسمينة” من كلمات عصام وألحانه. أجريت بروفات عدّة في “مسرح البيكاديلي” في بيروت إلا أن الموت عاجل نصري في آذار عام 1983، فلم يكتمل المشروع. علماً أن عصام كان قد غنّى عدداً من أغاني نصري شمس الدين بتوزيعها نفسه وبصوت شجي، منها أغنيتي “ع الدورة” و”يا دروبي”، وهذه الأخيرة أدّتها مع عصام صبية من قريته اسمها صباح، وكان من الممكن لصوتها الشجي الجميل أن يكون ظاهرة لولا أنّها استجابت لرغبة حبيبها، وزوجها لاحقاً، وتوقفت عن الغناء.
في حزيران عام 1996، التقى في بيروت أيضاً بزياد الرحباني الذي كان قد وصف عصاماً بأنه “قنبلة موقوتة” وفقاً للشاب عمار ابن عم الفنان الذي رافقه في رحلته تلك. اتفق الفنانان على مشروع فنّي لم يكتمل بسبب مزاجية عصام بشكل رئيسي، الأمر نفسه الذي حدث لمشروع عصام مع جورجيت صايغ. غنى عصام كذلك أغنية “يا طير الحزين” لمروان محفوظ (ألحان الرحابنة)، وفي سؤال للفنان محفوظ أشار إلى أنه لم يتعامل مع عصام.
دمشق.. الإقامة المؤقّتة
عاد عصام إلى دمشق منتصف الثمانينيات أو بعدها بقليل، ما طرح أسئلةً عن أسباب تغاضي السلطة عن اعتقاله.. ألكونه كفيفاً، وهذا أمر لم تكن السلطة لتهتم به، أم لأسباب أخرى مرجّحة منها تقصّدها عدم تحويل المغني إلى إيقونة يسارية مضادّة ليساريتها المدّعاة؟
واحدة من الروايات المتناقلة تقول: إنّ عصاماً اعتقل بعد عودته من بيروت لدى وصوله إلى دمشق لكنّ تدخلات عائلته أفضت إلى الإفراج عنه فوراً بتدخل من ضابط أمنيّ نافذ، ومن الملاحظ أنه لم يغنّ أي أغان سياسية بعد عودته إلى سوريا، ولعلّ ضغوط عائلته الكبيرة والصغيرة – كان قد تزوّج حينها – فرضت عليه التزام الصمت كما سنرى لاحقاً.
بعد عودته، سجّل في إذاعة دمشق عدداً من الأغنيات بصوته وبأصوات أخرى نالت نصيبها من الشهرة، منها “يا سوريا” و”يا بلادي فيك الخير” التي غناها معن دندشي وصلاح عرنوق. وهناك معلومة تم تداولها بكثرة، وذكرتُها في مقال سابق (مطبوع ورقياً وغير متوفر إلكترونياً) نقلاً عن أصدقاء الراحل، تقول إنه لحّن أغنية المطرب فؤاد غازي “جايي تشرين” وفيها مديح للرئيس حافظ الأسد، وأعيد ذكر المعلومة هنا دون تأكيد أو نفي. ووفق أصدقاء الراحل، فإن هناك أكثر من عشر أغان سجّلتها اﻹذاعة ولم تذع حتى اليوم.
في العام 1987 هاجر الفنان اختيارياً إلى البرازيل وعاش هناك ثماني سنوات شق طريقه فيها مستخدماً عوده وصوته وأغانيه كي يعيش.
تحدث لنا ابن عمه عن تلك الحقبة فأشار إلى أنّه كتب ولحّن أغنيته “يا جاي من مغرب” هناك ثم وانتشرت ووصلت إلى المشرق العربي، وغنى هناك أغنية “يا سوريا” مرة ومرات، ويأتي فيها: “يا سوريا ال اسمك فوق/ والنجمات اللي بعنقك طوق/ من أرضك طارت الحروف/ بْهالكون تسافر وتطوف/ ولو طيرك عن حورك غاب/ يرجعلك قلبو محروق/ ولو هاجرنا من مهاجرنا / تبقي الحب ونحنا الشوق”.
لم يكن عصام يتقن أي لغة غير العربية، لذا من المستغرب أنه كتب الموسيقى التصويرية لمسلسل برازيلي حمل عنوان “طريق الحرير”. لسنا نعرف كيف قام بذلك، ربما عن طريق وسيط قرأ له السيناريو، ويعتقد أنّ التسجيل متوفّر في إذاعة دمش، على ما نقل لنا أصدقاء الراحل. وهناك، تزوّج صبيّة برازيلية لم ينجب منها، لكنّها بقيت وفية له، وحين علمت بوفاته جاءت إلى القرية لتبكي على قبره حيث بقيت حوالي الساعتين ثم غادرت في السيارة التي جاءت بها.
في العام 1995، ظهر عصام على مدرج جامعة دمشق للمرة الأولى والأخيرة بحضور جماهيري كثيف، غنى فيها أغنيته “أقسمت كل العواصم، أن يظل الظلم قائم” (غناها للمرة الأولى في الثمانينيات ولم نتمكن من تحديد مؤلفها)، وأعاد غنائها لاحقاً الفنان سامر أحمد في حفل دار الأوبرا بدمشق عام 2017 محافظاً على كلماتها ولحنها دون تغيير، إلا أنّ سياق الأغنية الأصلي لا علاقة له بتوظيفها في دار الأوبرا ضمن سياق “المؤامرة على سوريا”، فقد غنّاها عصام باﻷصل للدلالة على خيانة كل العرب لقضية فلسطين.
لقاء عصام مع الفنان الشاب سامر أحمد شكّل مرحلةً فاصلة لحماية تجربته من الاندثار في غياهب الذاكرة السورية، أقلّه في الجانب العاطفي للغناء، بعدما التقيا في آخر سنوات عصام (العام 2004 ما تلاه). أجرى عصام على صوت المغني الشاب اختبارات عديدة كان هاجسها تلقينه دروساً في الأداء الصوتي واللحني مع العود، وفي مرّات كثيرة، وباعتراف الفنان سامر نفسه، كاد أن يطرده من بيته لأنه نشّز في جملة لحنية معينة إلى أن جاء اليوم الذي ضحك فيه للمغني الشاب وأجاز له غناء ألحانه.
يقول الفنان سامر أحمد أنّ “عصام الخطيب كان شديد الاهتمام بالسبك الفني لأغنياته فهو يعتني بالجملة الفنية المتناسبة مع طبيعة الأغنية ويقدم توازناً بين الكلمة واللحن محتفياً بالفكرة، وفي ذات الوقت لم يتخل عن الشعرية عالية الحساسية تجاه المتلقي. امتلك الفنان الراحل حساسية عالية تجاه المشهد البصري المنقول له، فلم تكن تروى له واقعة إلا وكانت تتجسد لديه أغنية بكامل تفاصيل الحدث، وبسوية فنية عالية ولحن يلامس روح الحدث“.
اصبع على زرّ التسجيل
في الزيارة الوحيدة والأخيرة لقبره ربيع العام 2012، اتفقت مع مُضيفي، ابن عم الراحل على وعدٍ بفتح قناة على اليوتيوب نتيحُ فيها أغانيه للعموم، وبالفعل جمعت قسماً منها وبضع فيديوهات خاصة وثّقها أصدقاء الراحل قبل وفاته بسنوات قليلة. ثم اندلعت الحرب في البلاد وتوقف المشروع. هل كانت حروب الأخوة القتلة عذري لعدم إكمال المشروع؟ لم تكن هي السبب، بل تقصير مني في تقدير قيمة العمل نفسه، وضعف التعاون من الورثة غير المدركين لأهمية الراحل ربما بسبب اختلاف سياسي معه، وربما ثالثاً، كنت أشعر بأنّ على جهة فنية أو ثقافية أن تتولى عملاً ليس من اختصاصي.
عندما نستمع اليوم إلى بقية تسجيلات أغاني عصام المتوفرة، نسمع صوت “تكة كبسة التسجيل” و”خشّة” ملازمة للتسجيل الحي على كاسيتات “سانيو” و”سوني”. هذه الحالة تحوّلت إلى لحظة انتباه دائمة في ذاكرات الكثير من محبيه، مسجّلة “السانيو” نفسها، ببطارياتها المعلقة على هيكلها الخارجي ظلّت ترافقه لسنوات طويلة، وظلّ يحن إليها وينفر من “السيديات والديفيديات” وغيرها من تقنيات “بلا روح” كما كان يسميها.
سُجّلت أغلب أغاني عصام بواسطة تلك المسجّلات عبر أشرطة الكاسيت الحساسة ﻷي صوت خارجي، لهذا لا يمكن مقارنتها بتسجيلات الاستديوهات ولا بأي من مقومات صناعة الأغنية الحقيقية. تداول الناس أغانيه رغم سوء تسجيلاتها، مع العلم أنّ التسجيلات ليست بالسوء نفسه، كون بعضاً من أغنياته سُجّلت في استديوهات مثل استوديو “سفانا” للكبير الراحل سعدو الذيب، ابن السويداء.
ووفق مصادر متقاطعة، فإن عصام قدّم أكثر من ثلاثمائة أغنية له ولغيره، وثّقنا جزءاً صغيراً منها، ولكن الجزء المفقود هو في أكثره من أغانيه السياسية التي بثتها إذاعات فلسطينية من عمان وبيروت ودمشق وإذاعة عدن اليمنية. ومع إغلاق هذه الإذاعات، لا ندري ماذا كلّ بأرشيفاتها، وهذا أحد أهم أسباب توقف مشروعنا التوثيقي لأغانيه، ونعيد عبر خط 30 النداء لمن لديه هذه التسجيلات التواصل معنا لعلنا نمنع ضياع ما تبقى منها والنداء مفتوح للجميع.
أووف أخيرة في وجه عالم ضيّق
خلال سنواته العشرة الأخيرة، ولم يكن قد تجاوز الستين من عمره، عانى عصام وضعاً اقتصادياً سيئاً في ظل تجاهل رسمي وفني لما قدّمه من أغان تحوّلت إلى أعمال أيقونية في الغناء السوري. تلك المرارة الساكنة في شغاف القلب هي التي تسببت له بصدمة قلب كهربائية أوقعته في غيبوبة نقل على إثرها إلى المشفى الوطني في اللاذقية، في شهر تشرين الأوّل الذي غنّى له كثيراً.
دخل عصام في غيبوبة مؤقّتة بعد إصابته بالنوبة القلبية، وينقل أصدقاءه أنّه بعدما استفاق منها سأل من حوله “ماذا حصل؟”، فأجابوه “لقد مت وعشت مرة أخرى، وأنت بحاجة لعملية جراحية كي تنجو”، فكان ردّه “إذا كان الموت هكذا فالموت سهل، ولن تكون هناك عملية جراحية لي”. لم يطل به الأمر، وتوفي في الشهر العاشر من العام 2007 ودفن في قريته تاركاً خلفه زوجة ثانية وثلاثة أولاد.
قبل رحيله ببضع أيام، لحّن وكتب أغنيةً وسجّلها على الهاتف بعنوان “لقيتك عم تشتي“، وهي على مقام الصبا مشبعة حتى التخمة بالحزن الصادر عن قلب ممتلئ بالحب واﻹحساس بالقهر. يقول مطلع الأغنية “لقيتك عم تشتي ودموعك شتي“، وتكمل “شتي ع الجناين ت يصحوا الأحبة والوردة الناطرتك تشلح وردة بعبها.. تقلا بكرا جاي لعندك جايبلك شتي“، ثمّ تتبعها أووف طويلة، ولعلّها كانت آخر أووف أطلقها عصام متأفّفاً من ضيق هذا العالم.
إعلان متأخّر للوفاة
عاش عصام الخطيب حياته فقيراً وانتهى كذلك. وفي سبيل تأمين حياته وحياة عائلته عانى كثيراً، فلا ملكيات أضيفت ولا أموال جُنيت، وفوق ذلك عاش التجاهل بمعناه الحرفي من قبل رفاق الأمس إلاّ قلّة قليلة وفيّة. كما تعمّدت تجاهله السلطات التي يُفترض أنّها ضامنة للإبداع وراعية له، أقلّه كما تدّعي أبواقها اﻹعلامية.
المادّة الصحفية الأولى التي كُتبت عن عصام في اﻹعلام السوري جاءت بعد خمس سنوات على رحيله، وقد وفرّنا فيها بعضاً من تاريخ الفنان فحسب، بشكل تعريفي سريع بحكم نوع الوسيلة اﻹعلامية التي نشرتها، ثم مقال ثان في العام التالي نشرناه في صحيفة محلية دون اسم، ونقل كثيرون عنه ما هو متوفّر حالياً على الشبكة.
توضح هذه الوقائع كيف تعاطى الجميع مع الراحل، وكيف غمر إحساسه العالي بالظلم والتجاهل سنوات حياته الأخيرة فصار مهملاً لكل تراثه، ولم يسع إلى جمعه واصطفائه وتوثيقه باستخدام التقنيات الحديثة. وما ساعد في وصوله إلى مرحلة القطيعة مع تاريخه، أنّ بيئته التي عاش فيها أدّت هي الأخرى المفعول نفسه في قولبته وتحويله من فنان ساحر إلى مزارع تشغله الحياة اليومية.
أغنية منشقّة في ذروة المدّ اليساري
رغم ضيق حاله لعقودٍ طويلة، بقي عصام الخطيب وفياً لما انطلق منه في حياته الفنية وبقي رافضاً لتقديم ما يمكن أن يكون في نظره “تنازلات” مؤثرّة على مسيرته الفنية وقيمتها بما فيها التلحين لفنانيين باتوا في زمن لاحق من فناني الصفّ الأول في سوريا والعالم العربي.
انطلق عصام من اليسار السياسي بمعناه السبعيني، في عز انتشار الحركات اليسار الكبرى في العالم وقتها، وأسّس مع آخرين، مصريين ولبنانيين بالدرجة الأولى، أغنيةً خاصة يمكن تسميتها بسهولة “الأغنية المنشقة”. فأغنتيه التي استخدم فيها أدوات بسيطة قوامها عود وقصيدة ولحن وجمهور ملاحق أو خائف في الحد اﻷدنى، بدت خارجة عن كل سردية قدّمها النظام السياسي السوري أو العربي عموماً لشعبه.
وقفت أغنية عصام البسيطة في تقنيتها ولحنها وكلامها بوجه أدوات سلطوية هائلة عمادها الإذاعة الموجّهة في ذلك الوقت (إذ لم يكن التلفزيون قد غطّى ببثه كل البلاد). واجهت التدجين المركّز في المدارس والمجتمع والأحلام، ووقفت بوجه ما سمّي غناءً وطنياً بينما لم يكن إلا مديحاً للحاكم بصورة مطلقة. وقد تعزز هذا المديح الوطني اﻹجباري بعد استلام الأسد الأب السلطة في البلاد وإطلاق البعثيين شعار “قائد المسيرة”، وهي الحالة المضادّة لما كان ينطق به عود عصام الخطيب.
ميزة هذه الأغنية المنشقة أنها لا تحمل في طيّاتها عرضاً أو ادّعاءاً أيديولجياً مباشراً، وأنّها لم تنطق باسم حزب أو جهة أو منظمة، بل كانت حرّة من كل هذه التقييدات إلى رحابة المطالبة بالعدالة والرفض لما تشيعه الأنظمة العربية من تهميش للفقراء، ونشر ثقافة الاستهلاك (أغنية “بدي قلك ياوردة”)، وتهميش للقضية الفلسطينية، وتعزيز القومية في شكلها الدعائي. من هذه الأغاني نذكر “يا هويدلك يا هويدلك يادلّ شعب المبتلي/ يا ساكني سفح الجبل ضاع الرجا وضاع الأمل” وهناك موال يذكر فيه أحداث حلب وحماة، لكن غالبية هذه الأغاني فقدت.
من أهداف أغنية عصام في تلك الأوقات، التحريض على السائد بطريقة ذكية جمعت السخرية والجدّية بالتوازي، وخاطب فيها أطرافاً كثيرة؛ السلطتين الدينية والسياسية والنظام الحاكم، وقلّل فيها من وهم السلطة عبر سخرية لاذعة وفكاهية مثل أغنية تقول كلماتها “يا عودي قول وغني/ غني ولا تخجل مني/ فتش لك ع لحن جديد/ تنضل نقولو ونعيد/ هربت منا ليالي العيد/ وصفينا ع الترتني/ عالترتنّي الترتنّي/ فات الثعلب ع القنّي/ أكل لي كل الجيجات/ وراح يزقّف ويغني.. يا عودي الثعلب مكّار/ بدو القن وبدو الدار/ طير الصدفة رفّ وطار طار بوجهو عالجنّه”.
كلمات يردّدها المواطنون سرّاً ..
كان عصام يرى العالم من زاويتين ضيّقتين في عينيه، بسبب شحّ نظره، لكنّهما زاويتين تحوّلتا إلى عدسة لاقطة لكل ألوان العالم وصوره المتحرّكة، يعيد إنتاجها في رأسه بصورٍ شعرية رهيفة. ومن هذه الزاوية الضيقة أبدع في تصوير حالات الحب الإنساني الشفاف بكثيرٍ من البراعة التي تمتزج فيها عناصر الطبيعة بكثافة، فهي شواهد، وهي فواعل في سياق هذه العلاقة، وحتى غربة الشاعر شاركت في نسج مكونات النص والجملة الموسيقية لديه بشفافية تصل إلى المتلقي بعرفانية الحب ذاته. ويغلب على خطابه الغنائي هذا تبادل الأفكار والشجون والأحزان والحالات مع تلك العناصر إلى درجة التماهي والانعجان الكامل، فمن سرق لون الوردة هي العاشقة الخجلة من حبيبها، كما تقول أغنية “حبيناك يا حلوة”.
وإذ يتفاوت مستوى لغة عصام بين أغنية وأخرى، سواء تلك التي كتب كلماتها أو التي انتقاها من شعراء وكتاب آخرين، فإنها شكّلت ثورةً على السائد في الكلام السوري، في حقبة كانت فيها تكلفة الكلام المسموح باهظة، قد تودي بصاحبها أو صاحبتها إلى الاعتقال سنيناً طوالاً. وأمّا النكات السياسية فقد كانت ترقّم، وتتداول كأرقام، وكان الكلام في السياسة “كبيراً” وخطيراً، وإنّ تغيّرت محاولات الضبط والعقاب لاحقاً.
ثورة عصام الكلامية استحالت أغنيات وجمل قصيرة تناقلها الناس كأنها منشورات ممنوعة، وهذا يعني ببساطة أن الرسالة وصلت إلى المتلقي، الهدف المنشود، وأنّ قوة قمع هائلة لم تستطع أن تقف بوجه عود ومغنٍ شبه ضرير يكتب كلماته ويقدّها من لحم الخيال المرّ. وفي هذا انتصار حقيقي في وقت خلت فيه الساحة السورية تقريباً من أصوات رافضة لما كان يجري من تقليم وتعقيم للفضاء العام، خصوصاً بعد أحداث حماة 1982، حيث تجرأ عصام وغنى للمدينة وناسها كما غنّى لصبرا وشاتيلا والشام والضفة وبيروت ولكل مصائبنا المستمرة.
قليلة هي الشعارات التي ظهرت في غناء عصام، خاصّة الفصيحة منها، ربما جاء الأمر اعتباطيّاً بحكم قرب عصام الكبير من الناس وحياتهم اليومية وابتعاده عن التعاطي مع النخب السياسية والثقافية، وحتى أيامه الأخيرة كان يفضّل قضاء وقته وسط السهرات اليومية التي كان يضجّ صوته فيها بالضحكات والفرح والسخرية من سواد هذا العالم.
خارج النقابة.. خارج المحافل الفنية
قليلة ونادرة هي المسارح والمدرّجات التي وقف عليها عصام، ومنعدمة هي المهرجانات التي شارك فيها على كثرتها تلك الأيام، فقد غنى خارج الاحتفالات الرسمية و”الشعبية” كما كان اﻹعلام الرسمي يسمّيها. غنى في القرى والحارات والبيوت وفي مزة 86 ومخيم اليرموك بدمشق وبرج البراجنة في بيروت، وقدّم أشكالاً من الغناء هي النقيض لمفهوم الترفيه الحالي، ولكنه الغناء الذي يستجلب المتعة القصوى في الكلمة واللحن والحدث وتفاعل الحضور بحبٍّ وقوّة.
جمهوره كان ذاك الوقت مشكّلاً من يساريين حالمين بقلب الكرة الأرضية مثلما حلموا بقلب بلادهم، وآخرين من أصدقاء اليسار ومن عشّاق أغانيه العاطفيّة. وجمهور هذين القسمين الافتراضيين، كانوا يعيشون في الغالب على هوامش المدن مثل دمشق وبيروت، ويعيشون الخوف من الاعتقال والملاحقة والسجن لمجرّد سماعهم المغنّي.
وإذ يسجّل أنه قدّم على مدرج جامعة دمشق مجموعة من أغانيه عام 1995، بدعوة من الحزب الشيوعي، وحضرها آلاف الطلاب والمعجبين، فإنها كانت المرة الوحيدة التي يقف فيها على ذلك المدرّج أو على غيره، في حين أنّ مهرجان “عاديات جبلة” التي ينتمي إليها عصام، لم يقم بدعوته، رغم أنّ فنانين عرب وسوريين أقل حضوراً وقيمةً شاركوا فيه، ربما ﻷنه لم يكن مسجّلاً في نقابة الفنانيين السوريين!
حين يصمت المغنّي
في جزء كبير من تجربته الفنية كانت حساسيّة عصام العالية حاضرة بقوّة وثبات، وحكم مزاجه المتقلّب كثيراً من مواقفه الحياتية. يروي لنا أحد أصدقائه أنهم نزلوا في أحد فنادق دمشق، ولم يكن في جيوبهم جميعاً، وكانوا ثلاثة، سوى مبلغ خمسين ليرة سورية، حين تحدّاه أحد التجار الشوام الحاضرين أن يغني لعبد الوهاب أغنيته الصعبة “عندما يأتي المساء” فما كان من الراحل سوى أن أداها كاملة مع أغنية ثانية، فعرض التاجر الذوّاقة على الفنان مبلغاً كبيراً مقابل تسجيل الأغنية والتعاقد معه فرفض الخطيب رفضاً قاطعاً!
تقترب هذه المزاجية من السوداوية الساخرة من العالم، ولعلّها ناجمة عن أسباب نفسية أو إحساس طويل بالظلم أو التفرد ربما. يتّضح ذلك في نظرته لنفسه على أنه ليس أقلّ شأناً من فنانين آخرين نالوا نصيباً وافراً من الشهرة، فقد عُرض عليه في التسعينات التلحين لعدة مطربين تحولوا لاحقاً لمطربين من الصف الأول، فرفض لأن خاماتهم الصوتية لم تعجبه. كما أنه على ما نقل لنا، ترك مشروعاً مع جورجيت صايغ وآخر مع زياد الرحباني نتيجة عدم التزامه بالمواعيد!
حين استقر في بيته وأرضه بداية القرن الحالي، دون اهتمام من أحد، اكتفى بما صنعه قبلاً فلم يسع إلى تقديم أي جديد مكتفياً بغناء ما سبق وألّف ولحّن. ومنذ عودته من بيروت العام 1996 وحتى وفاته بعد عشر سنوات قدّم فقط أغنية جديدة واحدة، وفق الوثائق المتوفّر لدينا.
تعدّدت الآراء في تفسير هذا الأمر، فمنهم من عزا الأمر إلى مزاجيته الحادة ورفضه أشكال الغناء المنتشر، ولكلّ ما كان يسميه موسيقى “الهشك بشك” ورفضه الغناء في المطاعم والصالات رفضاً قاطعاً، فيما ذهب آخرون إلى إلى أنه فقد حساسيته فلم يعد يكتب ويلحن كما سبق. وفي الحقيقة، يحتاج هذا التفسير تدقيقاً، إذ أن العود لم يفارقه سنوات حياته كلها وكانت أمامه عشرات القصائد المتاحة للتلحين، كما كان بوسعه تعليم وتقديم خبرته للأجيال الجديدة، ولكن الأمر أعمق من ذلك كما نتصور.
يقدّم الفنان سامر أحمد تلميذه الوحيد تفسيراً أبسط فيقول: “انقطع عصام عن التلحين لظروف الحياة الصعبة التي عاشها فقد تزوج ثانيةً وأصبح لديه أولاد وعليه إعالتهم، ولم تكن الموسيقى والتلحين تطعمه وعائلته، بالمعنى الحرفي للكلمة، فاكتفى بالزراعة وسيلة وحيدة للحياة”.
من جهتي أقترح تفسيراً آخر، وهو أنّ عصاماً، إلى جانب ضغط الحياة اليومية، بات لديه إحساس مستند إلى وقائع عاشها منفرداً، بأنّ هناك تجاهل رسمي وفني مقصود، وأنّه يعاقب من قبل قوة لامرئية استبعدته من الحضور في كل الأمكنة عقاباً له على مواقفه السياسية السابقة.
هناك شهادة من أحد أبرز ملحّني التجربة الرحبانية فيلمون وهبي الذي قال عنه “رنة عودك يا عصام رنة عود السنباطي“، ولكنه السنباطي الذي اضطر في وقت من الأوقات إلى بيع ألحان بقيمة بخسة كي يأكل ويشرب هو وعائلته، وأجزم أنه لم يلحّن أيّ من الأغاني المسمّاة وطنية، ولو فعل ذلك لكان حاله أفضل بكثير من مما صار إليه.