fbpx

من المخيم إلى المدينة.. البحث عن لون أخضر في عمّان

محاولات فردية أو لمجموعات متفرقة يبحث أصحابها عن مستقبل لبقعة خضراء تقاوم تهديد شح المياه والتغير المناخي في الأردن
ــــــــ حالة أرض
10 مارس 2022

بينما يفترش أهالي منطقة ماركا الأرض في “حديقة عمر الفيصل” في يوم مشمس، ويتركون أطفالهم يلعبون غير بعيد عنهم، تكبر على مقربة منهم غابة حديثة الولادة تمتد على 250 مترًا مربعًا من الحديقة. هذه هي المساحة التي تطبّق فيها المهندسة ديما عساف طريقة مياواكي اليابانية لزراعة غابة كثيفة سريعة النمو، ويبدو أن النتيجة مبشّرة حتى الآن. فقد نفّذت عساف التجربة في ملكية خاصة عام 2018، وها هي تنقلها بعد أن نجحت إلى منطقتي ماركا والنصر المهمّشتين في شرق عمّان.

الغابة واحدة من المشاريع التي تفتش عن حلول غير عادية في بلادٍ يغطي قطاع الزراعة فيها فقط 19% من حاجاته بينما يستهلك 65% من موارد المياه القليلة، وتبلغ نسبة التصحر فيه 81% من المساحة الكلية أما المهددة بالتصحر فحوالي 16%.

إحصائيات ونسب وأرقام محبطة تملأ معظم المواضيع التي تقارب البيئة في الأردن، تتركك لتتصور عراءً توشك أرضه أن تموت عطشًا. تعرف أن الصورة ليست قاتمة إلى هذا الحد إذا حدث وأن صادفت التجارب التي صادفتها أنا. محاولات فردية أو لمجموعات متفرقة يبحث أصحابها عن مستقبل لبقعة خضراء تقاوم تهديد شح المياه والتغير المناخي.

يبتكر الناس، سواء أكانوا متخصصين في البيئة أو لا، أساليبهم أو يتعلمون أساليب جديدة تستنطق الأرض اليابسة ومساحات الإسمنت، زراعات مائية وحضرية وذكية، يفشلون أحيانًا، غير أنهم يعاودون الكرة بعضهم حبًا في الطبيعة وبعضهم بحثًا عن مصدر دخل وفرصة عمل.

من المخيم إلى المدينة.. البحث عن لون أخضر في عمّان

أسوار الغابة داخل حديقة عمر الفيصل. تصوير رحمة حسين

محاكاة غابة حقيقية 

في السبعينيات، بدأ عالم النبات أكيرا مياواكي في الدعوة إلى استعادة الغابات الأصلية لدى اكتشافه أن نسبة الأشجار الطبيعية النمو لا تتجاوز الـ 6% من أشجار الغابات اليابانية، فالباقي كان أشجارًا هُجّنت وأُدخلت على النظام الطبيعي للغابة للاستفادة من ثمارها وأخشابها.

اعتقد مياواكي أن العودة إلى الأشجار الأصلية هو ما سوف يحل تدهور الأراضي والغطاء النباتي، ومن هنا بدأت تجربته التي بات معروفًا اليوم أنها تتيح في عشرة أعوام فقط تكوّن غابة لا تتشكل عادة إلا بعد عقود طويلة من الانتظار. الشرط لنجاح هذا النهج زراعة الأشجار الأصلية في تربة غنية بالأسمدة الطبيعية ورعايتها لمدة ثلاثة سنوات فقط، بعد ذلك ستعتني هي بنفسها.

يقف بجانب شجرة بلوط رفيعة أطول منه عمرها سنة وشهر. “كنت متشككاً في البداية، هل يعقل أن تكون هذه الطريقة مسرّعة لنمو الأشجار بالفعل؟”

جرت تجربة طريقة مياواكي ونجحت في فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وأميركا وماليزيا والهند وباكستان وسيرلانكا، ولا يوجد معلومات حول تجارب جدية لتطبيقها على نطاق واسع في البلاد العربية. ولكن بدأت تجربتها في عمّان نهاية عام 2020، حيث زُرعت أعداد كبيرة من الشتلات المتنوعة الأصيلة، كالبلوط واللوز البري والسويد والخروب والبطم والإجاص البري وغيرها، في محاولة لمحاكاة الغابة الحقيقية التي لا يتدخل البشر فيها.

يُظهر عمر الشريف الذي يعمل حارساً لحديقة الفيصل منذ مدّة طويلة شغفاً تجاه المشروع الممول من وكالة ألمانية. يُريني مقطع فيديو لثعلب الحصيني الذي زار الغابة ليلًا والذي لم يُشاهد في المنطقة من قبل، ويضيف “ربما أن مملكة النبات قادرة على جذب الحيوانات البرية إليها”. يقف بجانب شجرة بلوط رفيعة أطول منه عمرها سنة وشهر. “كنت متشككاً في البداية، هل يعقل أن تكون هذه الطريقة مسرّعة لنمو الأشجار بالفعل؟”.

زرع الشريف شجرة بلوط خارج الغابة في نفس وقت زراعة الأخرى داخلها. ذهبنا إليها للمقارنة، كان طول شجرة البلوط خارج الغابة يُقاس بالسنتمترات. 

في “النصر”، لايزال المشروع في خط البداية بعد أن نشبت فيه حريق مرتين، ما قد يؤدي إلى أن ينتهي قبل أن يكتمل مع انتهاء مدته المحددة من الممول، ولا يبدو أن هناك خطة مستقبلية واضحة لتدارك الأمر لو حدث. سمعت روايات مختلفة؛ البعض ذكر بأن الحريقين كانا متعمدين، وأن الأطفال أنفسهم هم من أشعلوا النار فيه، البعض ذكر بأن ثمة الكثير من القش وأنه اشتعل وحده لقربه من الشارع.

تخبرني سيدة عاملة في المشروع من جهة الممول أن فضول الأطفال نحو المشروع كان متوقعًا، وأنه بالرغم من الحريقين، فالمنظمة تعدّ انخراط الأهالي في التجربة لاحقاً وبدء إيمانهم بها إنجازًا، خاصة وأن سكان المنطقة لم يعلموا شيئًا عن المشروع إلا بعد أن بدأ واحتل المساحة المفتوحة الوحيدة التي كانت متاحة للأطفال والمراهقين للعب فيها. 

يبدو أن هذا يقول شيئًا عن علاقة بعض القائمين على المشاريع “المؤنجزة” (من NGOs) بالمجتمعات المحلية الصغيرة المحيطة بها، خاصة في الأماكن الشعبية الفقيرة. ثمة شيء من “التعالي”، تمارسه بعض هذه الجهات، عن مشاركة ساكني المكان نوايا المشروع قبل البدء في التنفيذ وإطلاعهم على أثره المباشر والمستقبلي على حياتهم ليكونوا هم أنفسهم جزءًا من رعايته.

والحقيقة إن عدم المشاركة هذا ينسحب على العلاقة مع الصحافيين الفضوليين أمثالي، فلكي تحصل على معلومات وتفاصيل عليك أن تقبل “البروتوكول” المعتمد من هذه المنظمة أو تلك في التعامل مع الصحافة، وأن ترضى بالمعلومات العامة المقدمة إليك، وأن توافق المنظمة على وجهة النظر في المقال!

من المخيم إلى المدينة.. البحث عن لون أخضر في عمّان

عمر الشريف أثناء وجوده داخل أسوار الغابة. تصوير رحمة حسين

زراعة مائية في مخيم غزّة.. مشروع لم يكتمل 

في مخيم غزة الواقع بمحافظة جرش؛ يعيش حوالي 31,000 لاجئ فلسطيني ضمن ظروف اقتصادية صعبة وببنية تحتية متهالكة. أنهى ابن المنطقة محمد صيام دراسته للتمريض في الـ 2009. لكنه لم يحصل على تصريح للعمل ممرضًا لأنه لا يحمل الرقم الوطني. حاول محمد منذ ذلك الحين البحث عن عمل، ومن قصة إلى أخرى ومن عمل لآخر انخرط في أعمال التنمية الإنسانية إلى أن استقر على العمل في مشاريع تستهدف أهل مخيمه في الأساس، عبر البدء في مؤسسة أطلق عليها “صنارة”.   

 لم يكن محمد يعرف الكثير عن الزراعة، إلا أنه قرر المضي بمشاريع الزراعة المائية بعد أن ألهمته تجربة العم أبو عبدلله أول من زرع بهذه الطريقة في المخيم. فبعد أن أنهى عمله مع إحدى المؤسسات قرر العم أن يزرع سطح منزله. في البداية جرب الزراعة التقليدية لكن التراب كان معيقاً إلى حد كبير، فطوّر تقنيات خاصة به للزراعة المائية.

شجعت التجربة آخرين في المخيم فزرعوا هم أيضًا أسطح منازلهم. في 2019، تبنت اليونيسف تمويل مشروع أكبر في المخيم وأشرفت “صنارة” على تنفيذه، فجهّزت المنظمة في المرحلة الأولى عشرة أسطح منازل بأنظمة الزراعة المائية، مملوكة 50% لليونيسف و50% لـ “صنارة”، مع ربح تصل نسبته 75% للعائلات والباقي هو ربح المنفّذ.

حاول الاثنان الاستفادة من الأخطاء السابقة وجعل الأنظمة الزراعية أكثر مرونة وتستوعب مجموعة متنوعة من الخضار بما يتناسب مع تغيرات السوق

تعلّم الأهالي كيفية التعامل مع الزراعة المائية رغم أنها ليست سهلة وتحتاج للكثير من التدريب. ورغم أن الزراعة كانت منتجة من الناحية التقنية إلا أنها لم تجد سوقاً لها. الأمر أن منفذي المشروع اختاروا زراعة الخس الأخضر والأحمر الذي يُستخدم في الفنادق والمطاعم ويُباع لها بشكل أساسي.

وبعد أن كان القطاع السياحي المتضرر الأول بسبب الجائحة وسيكون آخر المتعافين، فقد كان الاستمرار في قرار زراعة هذا المنتج معضلة أساسية. فدراسة المشروع وآلية تنفيذه قُدّمت قبل انتشار الوباء، ونُفّذت بعد فتح بعض القطاعات مجدداً دون النظر إلى التغيرات التي شلّت السياحة. 

لم يخل الأمر من ثغرات أخرى كان يمكن تداركها، فقد عوّل بعض المشاركين فيه على معرفتهم الشخصية بمحمد، وتخلفوا عن الوفاء بما التزموا به. كان ذلك عكس توقعاته، فقد ظنّ أن اختياره لمستفيدين يعرفهم معرفة شخصية، في المرحلة الأولى على الأقل، سيزيد من شعورهم بالمسؤولية تجاه المشروع.  

لا حضور لليونيسف اليوم في المشروع، فقد انتهى التمويل بنهاية 2020، أحد من حضروا اجتماعات المنظمة العالمية ذكر لي كيف أنها اعتبرت أن المشروع فشل دون الأخذ بعين الاعتبار ظروف الجائحة وتعثر البدايات. المنظمة تريد فكرة تنفّذ وتنجح من أول محاولة وإلا! تستكمل “صنارة” اليوم العمل مع منظمة “دار أبو عبد الله” ممولًا! حاول الاثنان الاستفادة من الأخطاء السابقة وجعل الأنظمة الزراعية أكثر مرونة وتستوعب مجموعة متنوعة من الخضار بما يتناسب مع تغيرات السوق. ولاتزال خمسة منازل تستفيد من المشروع السابق لزراعة وبيع أنواع متعددة من الخضار منها الخس والبندورة والفراولة.

من المخيم إلى المدينة.. البحث عن لون أخضر في عمّان

مخيم غزة. تصوير رحمة حسين

زراعة ناجحة ويهجرها أصحابها

يعمل يزن أبو زين الدين وزملائه في مساحة تدعى “جدل”، تتوسط درج الكلحة صعوداً نحو جبل اللويبدة في عمان. وجدوا بأن أنسب طريقة للتخلص من النفايات العضوية التي ينتجها المكان هي تحويلها إلى أسمدة عضوية Compost، فكان السطح هو البقعة الأنسب. ثم فكروا في الاستفادة من السماد الناتج عن المخلفات العضوية للمكان في الزراعة العضوية.

جرب الفريق الزراعة المائية في البداية ولكنهم عدلوا عنها بزراعة الأصص ذاتية الري wicking pots، فكانت الخيار الأنسب لزراعة عضوية دون اللجوء للأسمدة الكيميائية التي تستخدم في الزراعة المائية hydroponics.  الزراعة بالأصص ذاتية الري هي نظام موجود منذ عقود، حيث يتم سحب الماء من الجزء السفلي للصندوق إلى أعلى. يقول يزن إن هذه الطريقة تحفظ 85% من المياه عن الطرق التقليدية.

يوفر “جدل” منذ 2017، احتياجات العام من الورقيات كالنعنع والريحان والخبيزة وغيرها من أجل مطبخهم، وفي الصيف يستعدون لزراعة البندورة والباذنجان والفلفل وما إلى ذلك من خضار الموسم. يقول يزن الذي يعمل نجاراً في الأساس ويعمل مع أكثر من مؤسسة في صناعة وتركيب الصناديق ذاتية الري للأفراد والمجتمعات، بأن هذه الزراعة لا تحتاج الكثير من المجهود، “في العام الواحد نحتاج لعمل مكثف مدة أسبوعين فقط. أسبوع تحضيري لموسم الصيف وآخر للشتاء. وساعة للسقاية كل أسبوع على مدار العام” ومع ذلك فإن عدداً من المشاريع التي أنجزها من أجل أفراد بطلبهم الشخصي لم تنجح، يقول “النظام صالح ولكنه يحتاج للاستمرارية، رغم أنه لا يحتاج مجهوداً كبيراً ولكن الكثيرين يفتقدون للالتزام”.

تحتاج زراعة الأصص ذاتية الري إلى القليل من التعب، للأسف لا يمكن قول الأمر نفسه عن ميزانيتها. فكلفة زراعة مساحة تمتد ما بين 15 إلى 20 متر مربع تصل إلى 3 آلاف دينار (أكثر من 4200 دولارًا)، هذا لو استخدمت المواد الأقل تكلفة من الخشب، مثل المواد معاد تدويرها والشبيهة بالبلاستيك، وكلفة المساحة نفسها باستخدام الخشب تتراوح ما بين 8 إلى 10 آلاف دينار (من 11 إلى 14 ألف دولار).

من المخيم إلى المدينة.. البحث عن لون أخضر في عمّان

سطح جدل. تصوير رحمة حسين

تحت قبة من البلاستيك

منذ ما يقارب العشرين عاماً، تحاول أمانة عمّان تنفيذ مشاريع ممولة لتجميل أسطح المنازل. سألت عن بعضها وقيل أنها لم تدم لعدم رغبة الأهالي باستكمال المشاريع. رغم ذلك تعتبر المهندسة سوزان الهناندة مسؤولة مشروع الزراعة الحضرية في “حديقة شهداء عمان” أن المشاريع التي نُفذّت هي خطوات متتالية لاكتساب الخبرة من أجل تنفيذ مشاريع متكاملة أكثر نضوجاً.

تنفذ الأمانة حالياً بالتعاون مع مؤسسات أخرى مشروعاً على سطح حديقة شهداء عمان في دير غبار، يستخدم عدّة تقنيات ذكية لزراعة إنتاجية. منها الزراعة الأحيومائية Aquaponics تحت بيت بلاستيكي يشبه القبة للتحكم بالمناخ الخاص بالنباتات، وهي مكلفة إلى حد ما في البداية مقارنة بباقي التقنيات الذكية، إذ يتم الاستغناء عن التربة والأسمدة، ويُعتمد على دورة حياة متكاملة مركبة عناصرها النباتات وأحواض الأسماك. 

تعكس هذه الطريقة ما يحدث عادة في الطبيعة دون تدخل بشري. تزرع النباتات في المياه وتأخد فقط ما تحتاجه من السقاية، وتعتمد في تغذيتها على مخلفات الأسماك. تحمل الهناندة كيساً من المخلفات العضوية التي جلبتها من منزلها لصناعة الكمبوست. تضع بواقي الخضار في صندوق مليء بالديدان المسؤولة عن تحليل المخلفات. وتستخدم فضلاتها المشبعة بالنتروجين كسماد عضوي. تقول إن نظرتها للعلاقة مع الطبيعة والتعامل مع المخلفات العضوية اختلفت بعد هذا المشروع، فالمحيط من حولنا قادر على أن يجدد نفسه بنفسه، إذا أعطي فرصة، وأن يرمم الجروح التي تتركها يد الإنسان فيه.