في قصة المعطف للكاتب الروسي “نيكولاي غوغول”، يُدعى أكاكي الموظف المطحون لحضور حفلة خاصة في منزل رئيسه في العمل. تنسيه سعادته البالغة بالدعوة الاستعلام عن عنوان المنزل. في المساء يستعد أكاكي للذهاب إلى الحفلة متخذًا منهجًا فريدًا للبحث عن منزل رئيسه يعتمد فقط على الاختلاف والتشابه. يخرج أكاكي من حيه مدقع الفقر فيجد مفترقًا للطرق يؤدي إلى شارعين. شارع يشبه شوارع الحي الذي يسكنه فيبتعد عنه، وشارع يختلف عنه فيسلكه.
كلما وجد نفسه أمام أكثر من خيار، اختار الطريق الذي لا يشبه شيئًا يعرفه، ليقطع في تلك الليلة نصف أحياء مدينته بهذا المنهج حتى يجد نفسه في النهاية أمام أكثر شيء غير مألوف بالنسبة له، وهو منزل رئيسه في العمل.
كانت هذه السنة السابعة لي في الولايات المتحدة. زرت ولايات أمريكية عديدة خلال هذه السبع سنوات، راعني التشابه في التخطيط العمراني الذي وصل في كثير من الأحيان إلى درجة التطابق في المدن التي زرتها. مجمعات الأسواق، المتنزهات، محلات السوبر ماركت، مناطق السهر، المكتبات، المتاحف. يمتد هذا التشابه إلى داخل هذه الأماكن أيضًا، لتشعر بأنك قد زرت هذا المكان من قبل مرات عديدة رغم تأكدك أنها المرة الأولى التي تزور فيها هذه المدينة.
يسعى النمط الرأسمالي المعاصر، إلى توحيد شكل المناطق التي يشغلها في شكل يعرفه المحتل -القديم/ المعاصر- جيدًا كي يسهل عليه العيش فيه. بداية من فرض لغة المحتل وعملته وبنيته التحتية في الطرق والمرافق، وليس انتهاءً بالموسيقى والطعام وأماكن التسلية. كان هذا ما وجدته في سواحل الولايات المتحدة الشرقية والغربية وما بينهما.
لولا الطبيعة المحيطة بهذا التخطيط العمراني لأصبحت الولايات المتحدة الأمريكية نسخة من المجمعات السكنية في دول الكتلة الشرقية التي طالما انتقدتها دول الكتلة الغربية -وعلى رأسها الولايات المتحدة- بسبب التماثل وفقر الخيال.
لكن تهرب مناطق مثل هاواي وجوام وجزر فيرجن وماريانا الشمالية وبورتريكو من هذا التماثل المفروض إلى تماثل حديث من نوع آخر تحت عنوان السياحة. المنتجعات وسلاسل الفنادق العالمية والتوزيع الموسيقي للألحان المحلية وترويض أكثر الأطعمة جموحًا لتناسب ذائقة الزبون الجديد (السائح في هذه الحالة). أتذكر أحد جيراني البورتريكيين أثناء فترة دراستي في نيويورك الذي أخبرني أنه أصبح يشعر بالغربة كلما عاد لزيارة بلاده، وأنه يفضل الجو الحميمي للجالية البورتريكية هنا في حي “كوينز”.
أثار هذا الخاطر الرغبة في داخلي في السفر إلى بلده لفهم ماذا يقصد، لأني كنت قد بدأت أشعر بشيء مشابه لتغييرات أصابت الحياة العمرانية في القاهرة. بعدها بأيام ذهبت لاستلام الجرين كارد الخاص بي، وأخبرتني الموظفة أنني يمكنني السفر بالجرين كارد إلى البلاد التي تشارك الولايات المتحدة حدودًا برية أو بحرية كالمكسيك وكندا وجامايكا. سألتها عن بورتريكو، فأجابتني مستهزئة من جهلي: بورتريكو مقاطعة أمريكية!
كانت محقة ومتعجرفة تمامًا كحقيقة استيلاء حكومتها على بورتريكو. الثقافة المميزة للجالية البورتريكية التي جاورتها وأحببتها وتعلمت لغتها لم تشعرني بالحاجة إلى التأكد من معلوماتي بشأن الوضع السياسي لهذا الجزء من العالم. بالرجوع إلى المراجع التاريخية، وجدت بالفعل أن الجزيرة تم التنازل عنها من قبل الإسبان إلى الولايات المتحدة بعد احتلال دام 300 سنة.
ظن البورتريكيون أن حالهم سيكون أفضل تحت حكم الولايات المتحدة، لكن وضعهم السياسي لم يجعلهم ولاية أمريكية ولم يعط لهم حق التصويت في الانتخابات الرئاسية ومجلس النواب. بل ولم يسمح لهم بالدخول إلى الولايات المتحدة إلا عندما احتاجت الولايات المتحدة لمجندين في الحرب العالمية الأولى.
بعدها بسنوات سُمح للثقافة البورتريكية أن تتواجد في المشهد الأمريكي المعاصر لاحتياجها إلى جرعات يومية من التنوع والغرابة والدهشة للتغلب على رتابة الحياة اليومية المتمحورة حول العمل. فتم اختراع بورتريكو أخرى في المخيلة الأمريكية، صاخبة شاطئية موسيقاها محلية-أفريقية بتوزيعات تكنو غربية، تصور الأغاني في مناطق سياحية لا يتواجد فيها البوريكواز إلا كموتيفة كاريبية لجذب سياح الولايات المتحدة وغرب أوروبا.
لا يظهر في هذه الصور سكان الجزيرة الأصليون الذين أبيد معظمهم، ولا الأقلية السوداء التي تعاني تهميشًا مضاعفًا، فقط السكان ذو البشرة البيضاء من أصول إسبانية في هيئة كاريبية.
هذه هي الوجبة السياحية السريعة التي تقدمها بورتريكو لأحفاد المحتل الأمريكي الذي حاول ترامب تحويل أحياء كاملة منها إلى منتجعات سياحية. هذا خارج حدود البلاد، أما في نيويورك أوكل إلى الجالية البورتريكية مهمة الأنشطة الممنوعة كالإتجار في المخدرات والسلاح والبلطجة، تلك الوكالة التي لا تحدث بعيدًا عن إشراف السلطات.
ذهبت إلى مدينة سان خوان في بورتريكو ذات صيف قبل أعوام في رحلة فوتوغرافية بدعوة من مصورة بورتريكية عاشت وعملت لسنوات في نيويورك كمصورة ومحررة في الـ MTV، قبل أن تعود للعيش في مدينتها بصفة نهائية. كان لوجودها في هذا المنصب فضل كبير في تقديم العديد من الموسيقيين البورتريكيين إلى الجمهور الأمريكي من خلال القناة.
أقلتني من المطار بسيارتها وأخذتني للعشاء في مطعم فخم في الليلة الأولى قبل أن توصلني إلى النزل الذي اخترته لإقامتي. طافت بي في المدينة وفي أحيائها القديمة والحديثة معطية لي إرشادات ومعلومات عن كل منطقة وماذا يمكن أن أصور بها.
نصحتني بالابتعاد عن حي سيء السمعة اسمه “لا بيرلا” (تعني في الأسبانية: اللؤلؤة) أخبرتني بأنه مرتع لعصابات المخدرات والبلطجية وكارهي الغرباء.
بورتريكو تعني الميناء الغني أو ميناء الأغنياء. أسس عاصمتها وسماها المستعمر الأسباني في القرن السادس عشر. بعد قرنين من الزمان، بني خارج أسوارها مذبح الـ”ماتاديرو” وبعض الأكواخ التي أصبحت مأوى لعمال المذبح والعبيد الذين يعملون في عاصمة ميناء الأغنياء، حيث لا يسمح لهم بالتواجد والعيش داخلها.
تعددت الأكواخ فيما بعد حتى تكون الحي المسمى باللؤلؤة، لا بيرلا. وعلى مر التاريخ، لم تنجح أي مشاريع تنموية في هذا الحي سوى الإفقار المتزايد، ليظل الحي مرتعا للجريمة والتجارة الممنوعة مع سكان ميناء الأغنياء وزوارهم من سياح الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية. أنت آمن في زيارتك لهذا الحي إن كنت تبحث عن أي نوع من المخدرات، أو لاستئجار بلطجية، أما أي نشاط آخر كالمشي مثلا أوالتصوير فأنت في خطر حقيقي.
أقمت في نزل في وسط الحي القديم في مدينة سان خوان. كان سعره مناسبا “لي”، ولرواده من زوار المدينة الأجانب. تميز النزل بديكوراته البسيطة وموقعه القريب من أفضل أماكن السهر والرقص في المدينة، التي تلاحقك موسيقاها الصاخبة إلى مخدعك وأسفل وسادتك. نمت ليلتها نومًا عميقًا في أجواء السعادة والرقص واليوفوريا التي استمرت حتى الصباح، ولم يوقظني سوى خوزيه صاحب النزل الذي كان يبكي بكاءًا مرًا بالخارج. كان جالسًا بمفرده في الاستقبال بينما ذهب مساعديه للشراب والرقص.
أخبرني أنه افترق عن حبيبته فراقًا مرًا ولكنه لفرط مشاغله ولعمله الذي يستوجب الابتسام الدائم للسياح لا يجد وقتا للبكاء سوى في هذه الساعات من الليل عندما يغيب الجميع. فوجئ بوجودي وسألني عن مهنتي، ثم طلب مني أن أصوره صورة جديدة في اليوم التالي يبدو فيها سعيدًا. لم تعجبه أيا من هذه الصور في اليوم التالي لأنه كلما جاهد أحزانه ليبدو سعيدًا في الصورة بدا أكثر حزنًا. أخبرته أنه قد يكون من المفيد له أن تكون الصورة صورة لحزنه، ولكنه لم يقتنع وعاد ليباشر عمله.
في نهاري الأول في المدينة، تناولت الإفطار مع صديقتي المصورة في قلب المدينة القديمة حيث يختلط السياح بسكان المدينة الميسورين. في طريقها للعمل تركتني عند مدخل قلعة أثرية تسمى El Morro وتمنت لي قضاء يوم ممتع.
لم أشعر بارتياح في هذا المكان لسيطرة السياح على المشهد، لكن أعجبني مشهد البحر والعمارة القديمة. أفسد استمتاعي بالمكان سيل المعلومات الجافة عن المكان بكل اللغات الأوروبية على لسان مرشدي الأفواج السياحية. هربت منهم ما استطعت حتى انتهيت إلى ساحة كبيرة خارج أسوار القلعة تطل على البحر حيث لا يوجد سوى صخور ترتطم بها الأمواج وقطط تجلس على قممها بكل شجاعة. كان انزعاج القطط من وجودي دليلًا لي على عدم ارتياد زوار القلعة لهذه البقعة.
ما أكد لي ذلك الشعور هو أنني خلال الوقت الذي قضيته هناك ألتقط صورًا لإحساس القطط بامتلاك هذا المكان، لم يمر سوى عامل أمن وعامل نظافة سألوني Estas bien, amigo? ورددت عليهم Si Si, gracias، فتركوني وشأني وهم يضحكون. وعندما سألتهم عن كيفية الخروج من هنا، أخرجوني من بوابتهم المخصصة للعمال والتي أفضت بي إلى مكان لا يشبه المكان الذي تركتني فيه صديقتي.
كانت الشمس عمودية ومحرقة، وقد تمكن الجوع والعطش مني. انعطف بي الطريق إلى حي شعبي يسمى بـ”الحي المفتوح” وجدت العديد من المارة من سكان الحي يتوافدون على حانة صغيرة تنبعث منها روائح أطعمة شهية مختلطة بأنغام موسيقى البوليرو الحالمة تسمى “ركن المنسيين”. طلبت أكلة تسمى “الكابوريا” لتشابه اسمها مع التسمية المصرية لحيوان “السلطعون”. قال لي الرجل الجالس بجواري أنها أكلة شعبية قديمة جاءت مع الأتراك واللبنانيون (يسمي العديد من سكان أمريكا الوسطى والجنوبية العرب أتراكًا).
تتكون الأكلة من الموز الأخضر أو دقيق البطاطس المحشو باللحم أو بالدجاج ثم يقلى في الزيت. رحب بي المنسيون في ركنهم وعبروا عن اندهاشهم لقضاء الوقت معهم بدلًا من الذهاب للشواطئ والاستماع إلى دون عمر وسيلينا جوميز وفاروكو.
كان الحزن جزءًا من المشهد دون أن يخيم عليه. احترمت شجاعتهم في مواجهته بتسمية المكان بذلك الاسم القاسي. يأكلون ويتناولون الشراب وهم يشاهدون بملل برامج الإعلام الرسمي على شاشة التلفاز تتحدث عن قصص النجاح الفردي، ويسخرون منها ويطلقون الضحكات بشكل جماعي أحيانًا. تمنيت لو كان خوزيه صاحب النزل يعرف هذا المكان.
الشمس ما زالت محرقة، فخرجت من الحانة إلى ميدان تتوسطه حديقة أثرية. جلست أسفل إحدى الأشجار لأنعم بالظل والنسمة، وأقلب في صور القطط والمنسيين على كاميرتي. أقبلت علي فتاة سمراء هادئة الملامح، وابتسمت عندما رأت كاميرتي. سألتني كم عليها أن تدفع لي مقابل التقاط صورة فوتوغرافية لها. قلت لها ألف دولارا، فضحكت.
أخرجت لها من حقيبتي ألبومًا يحتوي على عشرات البورتريهات التي التقطتها. أعجبتها الصور كثيرًا وسألتني مرة أخرى عن تكلفة أخذ صورة لها. أخبرتها أن هذا يتوقف على الفكرة واختيار المكان والملابس، وسألتها عن مكانها المفضل لألتقط صورتها هناك، فحكت لي عن حي “لا بيرلا”.
نشأت “روتي” في حي لابيرلا، حيث كانت تسكن مع والدتها وأختها. والدتها كانت تعمل منادية سيارات تساعد قائدي السيارات في صف سياراتهم في قلب المدينة المزدحم وشوارعه الضيقة، ثم تحرسها حتى يعود أصحابها. كانت تحصل على بقشيشًا ليس بقليل مما انعكس على حياتها بعض الشيء في حيها الفقير. تسرعت أنا في استنتاج أن هجومًا ما قد وقع على منزلهم من جراء بعض الطامعين، لكن روتي أخبرتني بأن الهجوم لم يكن بدافع الطمع، ولكن بسبب تسرب الشك إلى بعض أفراد العصابات من أن مظاهر النعمة التي بدت على والدة روتي وابنتيها قد تكون مقابل خدمات وشاية للشرطة على أفراد هذه العصابات.
أشعلوا النار في منزلهم ذات ليلة أثناء تواجدهم بداخله، ولكن عناية السيدة العذراء المرسومة صورتها على واجهة المنزل – كما أخبرتني روتي – قننت خسائر هذا الاعتداء الفادح فلم يتجاوز الخسائر المادية إلى الأرواح. لم تعد الحياة آمنة في هذا المكان مما اضطرهم إلى الانتقال إلى خارج الحي ثم التيه والتشرد. سألت روتي أين تسكن الآن، فضحكت وأشارت إلى حيث أجلس.
لم أنتبه لحقيبة ظهرها المستندة إلى الشجرة التي أجلس عليها. ظننتها جزءا من الشجرة لكبر حجمها. قالت لي أنها تسكن هنا منذ بداية هذا العام فقط. قبل ذلك كانت تغني مع جوقة كنسية وكانت تقيم معهم في نزل تابع للكنيسة وتسافر من مكان إلى آخر في بورتريكو، بل وذهبت مرة إلى المكسيك ومرة إلى نيويورك.
سألتها إن كانت تحب الأغاني الدينية فقط، فغنت لي إحدى أغنياتها المفضلة والتي تسمى “بائعة الورد” (الكلمة في اللغة الاسبانية La Nina de Las Flores تحمل ثلاث معان، بائعة الورد وفتاة الورد وابنة الورد!) تحكي قصتها عن رجل يرى ذات صباح فتاة رقيقة تبيع الورد في أحد الشوارع. يفتن بها ويظل يذهب إلى نفس الشارع كي يمتع ناظريه بجمالها، حتى اختفت في يوم من الأيام وحزن لذلك حزنًا شديدًا. وبعد سنوات، تأخذه خطواته إلى نفس الشارع ليجد وردة في نفس المكان الذي رأى فيه فتاته لأول مرة. عرف أنها هي بائعة الورد وقد عادت إلى الحياة في صورة وردة.
طلبت منها أن نذهب سويًا إلى حيها “لا بيرلا” لالتقاط صورًا لها هناك مقابل تلك القصة الرائعة والصداقة التي نشأت بيننا. أخبرتني أنها لا تستطيع الذهاب إلى هناك لأن “حملها ثقيل”.
ظننتها تقصد شيئا مجازيًا بالحمل الثقيل، فسألتها إن كانت ما تزال تحمل مشاعرًا سلبية تجاه هذا المكان من جراء ما حدث لعائلتها. فقالت لي بالعكس، إنها تتمنى أن تذهب إلى هناك لولا الحمل الثقيل. وأشارت إلى حقيبة ظهرها الضخمة. ضحكت وقلت لها أني سأحملها بالنيابة عنها، ثم ذهبت لأضعها على ظهري لأكتشف ثقلها الهائل وأفهم أخيرا أنها كانت تقصد المعنى الحرفي للحمل الثقيل.
قالت لي أنها لا تستطيع التحرك خارج مثلث رأسه في الحديقة حيث نقف الآن، والثاني في الكنيسة حيث تأكل وجبات مجانية وتبحث يوميًا عن فرص أفضل للسكن والعمل، والأخير في البحر حيث تغتسل وتستجم.
لم أفكر قبل ذلك اليوم أن حياة الإنسان ونطاق حركته مرتبط بما يحمل من حمول، عاطفية كانت في حالة الارتباط بالوطن أو بالحبيبة أو بالأهل والأصدقاء، أو مادية مثل العمل والمال والتدرج الوظيفي، وفي حالة روتي التي لا تملك سوى حقيبتها، فهي الحمول التي تحملها على ظهرها بالمعنى الحرفي لا المجازي.
قالت لي: “اذهب إلى حيي القديم غدًا في الصباح الباكر. نم مبكرًا كي تستيقظ في الفجر. فمع شروق الشمس، يذهب تجار المخدرات والمجرمون إلى النوم بعد ليلة عمل طويلة. تستطيع أن تتحرك في الحي بشكل آمن. ولكن كن حذرًا على كل حال. مشكلة هؤلاء السفلة هي أنهم يظنون أن الكاميرات أداة تجسس عليهم لمصلحة الشرطة. فعلى أسوأ الفروض، أرهم صور القطط وصوري وصور القلعة والبحر وسيتركونك وشأنك. ولكن حاول الانتهاء من التصوير قبل العاشرة عندما يستيقظون وتستيقظ شياطينهم”
وصفت لي خطوة بخطوة الطريق من النزل الذي أقيم به إلى منزل أمها المحترق إلا من الجدار الذي تسكنه صورة السيدة العذراء. ثم وصفت شوارعها المفضلة وبعض الجداريات التي شهدت رسمها بنفسها وتلك التي كانت تفضلها وبعض التماثيل والصخور الموجودة بالقرب من البحر والتي كانت تبدو لها في هيئة حيوانات خرافية كانت تتحدث إليها وهي طفلة صغيرة. وصفت لي أيضًا منزل صديقتها حيث كانت تقضي معظم وقتها هناك حتى تعود أمها ليلًا من عملها. كانت تسند رأسها على شجرة وهي تحكي لي كل هذا. وجهها كان مبتسمًا معظم الوقت إلا من غيوم حزن تمر سريعًا.
عاد أكاكي بطل قصة المعطف لـ”نيكولاي غوغول” أدراجه بعد الحفلة التي قضاها في منزل رئيسه في العمل. اتبع في طريق الرجوع عكس المنهج الذي اتبعه في الذهاب. سلك أكاكي كل طريق مألوف له حتى يعود إلى منزله. انتظره حفنة من الأنذال في طريق العودة وأوسعوه ضربًا وسرقوا منه معطفه. دفعه هذا إلى حزن شديد انتهى بموته. وتنتهي القصة بمطاردة شبحه لسكان المدينة وسرقة معاطفهم.
وعدت أنا بمجموعة الصور راغبًا في عرضها بمعرض في بورتريكو في الصيف التالي أدعو فيه روتي لتكون ضيفة الشرف وتغني فيه أغنيتها الرائعة، ولكن إعصار ماريا النذل يعترض الطريق ويهدم الجزيرة – وبالأخص حي لا بيرلا – ويحدث بها فوضى عارمة دمرت البنية التحتية للاتصالات والمنشآت والمرافق لسنوات.
لم أستطع التوصل لروتي منذ ذلك الصيف وحتى الآن. فرقم هاتفها أصبح مغلقا أو غير متاح منذ وقوع الإعصار. طاف معرض صوري مدنًا عديدة وأسميته باسم أغنيتها المفضلة ووضعت صورتها المبتسمة في صدارته. حكى المعرض حكايتها بالصور التي رسمتها لي وكنت أنا مجرد أداة لالتقاطها لتحكي حكاية وردة في حي لابيرلا كانت تسمى روتي في حياة سابقة.