مع نهاية الدورة 37 المعرض الدولي للكتاب بتونس، وبينما نحن بصدد تقييم تقييمها – ورغبة التقييم رياضةٌ وطنية عندنا سواء كنا نقرأ كتبًا أم لا– نمّت عن صديقي تنهيدةٌ طويلة. ظننا في البداية أنه أرسلـها أسى وحزنًا على معرضٍ أمسه خير من حاضره، ولكن فيما بعد تبين لنا أنه حزين حقًا ولكن على نفسه.
ومردُّ حزنه، تذكره لأيامٍ كان فيها شابًا في عنفوانه، يغزو معرض الكتـاب ويعود محملًا بالكتب من شتى الأصنـاف دون أن يدفع فيها مليمًا واحدًا. وبقطع النظر عن المصطلح المتعارف عليه لوصف ما قام به، إلا أن صديقي لم يكن أبدا استثناءً بقـدر ما كان جزءًا من جــيلٍ كامـل، جعل من معــرض الكتــاب مسرحًا لبطـولاتٍ عنوانهـا تأميم المعرفة ومشاعية الثقافة.
عن جذور الاختلاس
تحدثنا المصادر المتعلقة بالقرن التاسع عشر عن الوزير الاكبر والمصلح الكبير خير الدين باشا ومدى اهتمامه بالمطالعة والقراءة، ولكنها تحدثنا أيضًا عن مصائر تلك الكتب التي تقع بين يديه، ومن ذلك ما يروى عن استعارته لنسخةٍ يتيمة لمخطوطٍ نادر يعود تأليفه لأحد أقطاب الصوفية في القرن الخامس عشر، كانت عند أحد أحفاد هذا الولي. وبطبيعة الحال، ودون أن نكمل، من الممكن التكهن بنهاية القصة.
لم يكن خير الدين وحيدًا في هذا، بل كثيرًا ما وقع الربط بين رموز الفكر أو الثقافة وذلك الهوس الكبير باختلاس الكتب، حتى أن عبد الرحمن منيف ضمّن في روايته ” الآن … هنا”، قولًا صار ملازمًا له ولذكراه:
“أحمقُ من يُعير كتابًا، لكنَّ الأكثر حماقةً من يستعير كتابًا و يردّه”. وهذا الاقتباس الأخير لم يغب عن الممثلة المسرحية التونسية نجوى ميلاد، أيامًا قليلةً من انطلاق معرض الكتاب في آخر بودكاست لها.
صحيحٌ أن ذاكرتها لم تسعفها لتذكر كامل الاقتباس بعباراته الأصلية ولغته الفصيحة، إلا أنها جاوزته لتتجه مباشرة، بلهجتها التونسية الطليقة، نحو مستمعيها من الشباب موجهة لهم الدعوة التالية: إقرأ كل ما وجدته أمامك من مجلات وكتب ولو وجدت أثمان الكتب غاليةً، لا تتردد، اسرقها، المهم أن تقرأ.
هنا تأخذ ميلاد الموضوع نحو منعطفٍ آخر، لا يقتصر فقط على من يقترض كتابًا ثم يتناسى، ولكن نحو ذلك الصنف الذي ينشد أخذ الكتب عنوة منذ البداية. والحق أن ميلاد لم تكن في دعوتها هذه مجددةً بقدر ما أعادت التذكير بحقٍ كرسته الأعراف والتقاليد منذ عقود.
في الاختلاس المؤدلج
قبل كل شيء، لابد من الإشارة لوجود صنفين متباينين من اختلاس الكتب. يمكن أن نصف الأول بكونه “سرقةً تقليدية” يُقدِم عليها هواةٌ أو متطفلون أو مجموعاتٌ لصوصية صغيرة، لا ترى في الكتب أكثر من منتجٍ قابل للسرقة وإعادة البيع تماما مثل الأواني الفخارية في معرض “دار العروسة” أو التحف النحاسية من معرض الحرف والفنون التقليدية، وهو صنفٌ يخرج عن اهتماماتنا هنا، رغم أنه أثبت ديمومته واستمراريته رغم موت كل الأيديولوجيات وإعادة بعثها -وموتها مرة أخرى- ولذلك فإن ما يعنينا هنا هو الصنف الآخر.
وهذا الصنف يمكن أن نعرّفه بكونه “سرقةً مؤدلجة” للكتب -أو تأميمًا لها، يقدم عليها أصحابها لا بهدف تحقيق أرباح مالية ولا لعجزهم عن دفع ثمن الكتب المسروقة بالضرورة -وللأمانة يجب التذكير بأن هؤلاء عادةً ما يكونون مفلسين- بقدر ما يدفعهم لذلك هدفٌ سياسي وفكري معيّن يسعون لتحقيقه من وراء السرقة. ومعهم، تصبح سرقة الكتب عملًا أشبه بالبطولة بل وحتى فرضًا يكون الإخلال به خيانةً لمشروع تأميم الثقافة ومحاربة برجزتها.
ارتبطت سرقة الكتب الفكرية في العقود الماضية أساسًا باليساريين، وتحديدًا الطلبة منهم والمنضوين خاصةً في الاتحاد العام لطلبة تونس بمختلف خلفياتهم الفكرية والسياسية من ناصريين وبعثيين وشيوعيين وغيرهم.
أغلبهم آمن بأنّ القراءة فعل فكري وثوري الهدف منه تنوير الجماهير وتثويرها وتمكينها من الأدوات المعرفية اللازمة لاكتشاف مظاهر الهيمنة الطبقية أو الاستعمارية -وغيرها من مظاهر الهيمنة التي تتنوع حسب خلفية كل تيار- وبالتالي فإن الوصول إلى مصادر المعرفة وتعميمها، جزءٌ من استراتيجية تلك التيارات السياسية.
بذلك تكون القراءة التزامًا نضاليًا، يخلو من كل رفاهية أو نوازع ذاتية، وكل ما يعدوه هو تصرفٌ أو سلوك رجعي، فلا قراءة فقط من أجل القراءة وبطبيعة الحال لا فن من أجل الفن. أما من يرى غير هذه المقولة فتهمة “البرجزة” ثابتةٌ في حقه، والبرجزة تشمل حتى أولئك الذين وإن شاركوهم مقولة القراءة “الملتزمة” إلا أنهم اختاروا شراء الكتب عوضا عن اختلاسها. والتنديد بهؤلاء أمر ضروري، إذ أنهم يساهمون في دعم البرجوازية الرثة والطفيلية ومن لفّ لفّها من ناشرين ومكتبات ومؤسسات بحثية وفكرية تحول دون تأميم المعرفة وحصرها ضمن فئات الانتلجنسيا وكلاب الحراسة المداهنين لقوى الهيمنة الرجعية والذكورية والامبريالية والنيوليبرالية.
وتأسيسًا على كل هذا يكون على طلبة اليسار واجب والتزام نضالي يمليه عليهم ضميرهم الحي، لمحاربة هذه الهيمنة وضربها وتنوير الطبقات المهمشة، ويُمسي معرض الكتاب إلى جانب مدارج الكليات والحانات، فضاءً محببا لممارسة هواية النضال.
رومانسية الاختلاس
لم تكن سرقة الكتب فقط واجبًا تفرضه على الطلبة أعراف الانخراط في النضال السياسي، بل كثيرًا ما دفعتهم نحو هذا الفعل دوافع أخرى شتى، اجتمعت مع بعضها لتحول العملية لما أشبه بمغامرةٍ من زمن الرومانسية القديمة، فالطالب ولو توفرت لديه الأموال، ما كان عليه أن ينفقها على الكتب حتى لا يظهر بمظهر البرجوازي، بل عليه أن يسعى لاختلاسها. وليتسنى له إرضاء السعي إلى المكانة فهو مثقفٌ ملتزم من جهة، وهو أمر أساسي للترقي ضمن نخبة اليسار، وقادرٌ على المجازفة وله حدٌ من الشجاعة من خلال فعل الاختلاس وهو ما يمنحه المشروعية النضالية ويبوئه لاحتلال المراكز القيادية.
وهنا ينبهنا صديقي لأمرٍ ضروريٍ على الطالب الراغب في اختلاس الكتب أن لا يغفله، ألا وهو عدم الاستهانة بمظهره الخارجي، إذ عليه أن يكون في كامل أناقته أثناء أداء المهمة لا فقط من أجل التمويه وتجنب إثارة الشبهات وعدم الخلط بينه وبين سارقي الكتب العاديين –وهو حتما سبب رئيس– ولكن أساسًا للتأكيد على الطابع النضالي والمقصد النبيل من وراء هذا الفعل.
فالطالب لا يستجدي حقه ولا يثير الشفقة من أجل ذلك، فهو كممثلٍ لطليعة التغيير عليه أن يحافظ على مكانته حتى وهو بصدد تنفيذ واجبه النضالي، وبطبيعة الحال لابد هنا من التذكير بأن الطالب الأنيق والمثقف والشجاع توليفةٌ مثالية عند الزميلات –والزملاء مرةً أخرى.
أولى تمارين الحرية
قبل سنوات وفي إحدى الندوات الصحفية المخصصة للتعريف ببرنامج تلك الدورة من المعرض الدولي، وجه أحد الصحفيين سؤالًا للناشرٍ التونسي منصف الشابي، صاحب دار نقوش عربية، حول الاجراءات التي يريد اتخاذها للحد من ظاهرة سرقة الكتب. ساد صمت طويل في القاعة، قطعه الناشر بابتسامة أردفها بقوله “لا شيء، أنا مع مشاعية الثقافة!”
تلك الإجابة وإن صدمت الحاضرين لبرهة، لم تكن في حقيقة الأمر مستغربة من ذلك القومي والبعثي القديم. ففي زمن مشحون – على خلاف عصرنا هذا- بالمثل العليا والأحلام الوردية عن تغيير العالم والوحدة والانعتاق، لم تقتصر فكرة أدلجة الفكر والثقافة على الطلبة بل جاوزتهم نحو الكتاب والناشرين والعارضين داخل المعرض، بل ولدى غيرهم، فالجميع كانوا مسكونين بشكل أو بآخر بهذه الفكرة ولو بدرجات متفاوتة.
ولكن هذا التعاطف دائمًا ما حمل في طياته أهدافًا أخرى، لعل أهمها مواصلة الصراع مع السلطة والرقابة، ففي زمن الصنصرة والتضييق على الحريات بشتى أصنافها، كان معرض الكتاب واحدًا من آخر مساحات النزاع والشدّ والجذب بين المُبدع والمفكر، من جهة، والرقيب من جهة أخرى.. وهو أمرٌ لازلنا نشهده حتى في هذه النسخة من معرض تونس الدولي للكتاب.
هذا المعرض، أيضًا، لطالما كان فرصةً يسهل فيها تهريب تلك العناوين “المحظورة” أو شبه المحظورة وتوزيعها سرًا من تحت طاولات العرض أو ضمنيا من خلال غض البصر والتغافل عن سرقتها، وسط ذلك الكم الرهيب من كتب الطبخ وتفسير الأحلام وعذاب القبر والبستنة وقصص الأطفال والأدب “البرجوازي” وبروباغندا تمجيد النظام القائم ومناقبه.
سرقة هذه العناوين المهرّبة، قد تكون جوابًا يقوله الناشر للرقيب حين يتخلّى عن أي تبعاتٍ محتملة، فهو لم يوزع الكتب عن قصد ولم يهبها، فقد تمت سرقتها منه ولو كان يعلم بذلك لما سمح به بطبيعة الحال، أو هكذا يزعم.
لوجه الله.. لما لا؟
“لن نعجز على إيجاد فتوى ولو على مذهب الأحناف” هكذا برر أحمد، صديق ثاني، وبسخريةٍ بعضًا من اختلاساته، لم يكن هذا الصديق يساريًا ولا من اتحاد الطلبة، بل لعله كان يجنح اكثر نحو اليمين وإن لم يختر لنفسه قالبًا يتقوقع ضمنه.
وبطبيعة الحال فإن قراءاته لم تشمل الديالكتيك ولا الفلسفة السياسية أو الفكر العروبي ولا حتى نقد التراث، بل على العكس، فإنها كانت منصبة على سير الأولين ومناقبهم ومواعظ العصر ومكارم الأخلاق. ومع ذلك يبدو أن اختلاس بعض الكتب لم يكن أبدًا من العراقيل المحتمل أن تحول بينه وبين سمو النفس وتقواها.
وكحال أهل اليسار، كانت لهذا الصديق حججه وسرديته الخاصة لشرعنة عمله، ولعل أبرز أركانها حديثٌ نبوي لابد أنه سمعه في كليلة ودمنة -لا في أحد الصحاح الستة- أيام اعداديته ومفاده أن “من سُئِل عن علم، فكتمه؛ ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار”.
وتأسيسًا عليه لابد أن كثيرًا من هؤلاء العارضين لا يخدمون العلم بقدر رغبتهم في تحقيق الربح من خلال كتمه واحتكاره وبذله فقط لأصحاب المال. وعبر هذا الاستدلال السقراطي القويم، نستشرف لا فقط بؤس مصيرهم الأخروي بل أيضًا وجوب اختلاس كتبهم.
وبالعودة للصديق اليساري القديم نجد أن لديه أيضا صدى لهذه الفكرة، صحيحٌ أنه منخرط في نسق تنويري حداثي، إلا أن له من التضامن مع شرائح القراء الفقراء والمعوزين بشتى أصنافهم و مآربهم الكثير، لذلك يحدثنا عن تعاطفه الكبير مع تلك المرأة التي أعجبت بطبعةٍ حديثة للمصحف، في حين لم تملك ثمنها.
وفي حالة نادرة من التجلي الروحاني والإيماني تقدم منها بكل لطف وطلب منها أن تذهب نحو كافيتيريا المعرض وتنتظره، وهناك بعد قليل التحق بها وسلمها المصحف الشريف. وبطبيعة الحال كان يعلم أنها تعلم –ونحن كذلك نعلم– أنه لم يقتنه بماله الحلال، وبالرغم من كل هذا، تقبلت الهدية بكل خشوع.
ولكن أين ذهب كل هؤلاء؟
بطبيعة الحال لم تنقطع السرقة من المعرض اليوم بل هي مزدهرة كعادتها وأكثر، ولكن مع تغيرٍ جذري في الفاعلين، إذ سطع نجم اللصوص المحترفين وتوارى الطلبة بعيدًا. عوامل كثيرة قادت لهذه النتيجة، لعل أبرزها “موت الإيديولوجيات” و”أزمة اليسار الكبرى” وغيرها من العبارات الكبيرة والتي تعكس جميعا حقيقة مفادها التراجع الكبير للشغف الثوري ويوتوبيا التغيير وحرارة الفكرة.
كثيرةٌ هي الأسباب التي قادت لهذا الوضع، قد يكون أبرزها فقدان الجامعة لبريقها كفضاءٍ حاوٍ لذلك الزخم الفكري، دون أن نغفل أن للسلطة نصيبٌ في هذا الحال فهي ما عادت خائفةً -في العموم- من تأثير الكتب كما كانت قبل، ولو أن هذه النقطة بالذات تحتاج لكثيرٍ من التنسيب، خاصةً عندما نرى عودة الرقابة والمنع لهذه الدورة من معرض الكتاب.
ولهذه الأسباب وأخرى، ما عادت قصص سرقات الكتب تروى وسط مجامع الطلبة المتعطشين، ولكن وسط حلقات متقاعدي النضال وشيوخه، كمغامرات من زمن الثقافة الجميل.