«بكتب اسمك يا حبيبي عالحور العتيق/ بتكتب اسمي يا حبيبي ع رمل الطريق/ بكرا بتشتي الدني عالقصص المجرّحة/ بيبقى اسمك يا حبيبي واسمي بينمحى». كانت أغنية «بكتب اسمك» تذاع على الراديو بينما نترك مقاعدنا أطفالاً في السيارة المركونة عند مدخل الملعب الروماني في مدينة صور جنوبي لبنان. يومها تخيّلت فيروز وحبيبها يكتبان اسمَي بعضهما، هي على الجذع العريض وهو على الرمل الذي يغطّي الطريق المؤدّي إلى الساحة الواسعة للملعب التاريخي؛ الذاكرة التي تشكّلت لديّ حول كلمات الأغنية، عبرت نحو المكان بذاته وولّدت لديّ حبّاً تجاهه. ولعلّ الشاعرة والفنانة الراحلة إيتيل عدنان توصّف هذه اللحظة بدقّة في قولها «لكن الحب بمعناه الأكثر أصالة موجود. وقد يبدأ منذ الطفولة: في سن التاسعة أو العاشرة (…) ينمو هذا الشعور، يصير رغبة بتكرار التجربة. يصير مساراً ورحلة. تستولي المخيلة على هذا الواقع وتشرع في بناء تخيّلات، أحلام ومشاريع».
أُنجزَت العديد من الدراسات حول الذاكرة ومدى دقّتها، وقابليتها على التلاعب إلى درجة إمكانية تشكّل ذاكرة عن قضية أو حدث من العدم، وقدرة الذاكرة على تشكيل هويّاتنا الفردية والجماعيّة بصرف النظر عن صحّتها. وفي هذا السياق، يصنّف الأكاديمي وعالم الأنثروبولوجيا الفرنسي جويل كاندو الذاكرة إلى ثلاثة مستويات، إحداها «ما وراء الذاكرة»، أي تلك المرتبطة بالتمثّلات والتصوّرات التي يكوّنها كلّ فرد عن ذاكرته الشخصيّة ومعرفته بها. ومن تمثّلات الذاكرة أنّنا عندما نختبر الحب تجاه مكان، يدخل ضمن أدواتنا في التعبير عن حبّنا لشخص آخر، فنصر على اصطحاب من نحبهم إليه، أن نعرّفهم به وننتظر أن نرى بأعينهم بريقاً يدلّل على مشاركتنا الحب تجاههم. ويوم أصبح مكاني مهدّداً بالزوال، شعرت أن الحب بمعناه الأكثر أصالة داخلي، مهدّد أيضاً.
مدن مأهولة بالأشباح والأحياء
من المقعد الخلفي للسيارة وبخطوات الأطفال، عبرت هذا المسار من الشجرة العتيقة إلى الملعب؛ تكرّر هذا العبور، بخطواتٍ أكبر، خلال ثلاثة عقود مرّت من عمري. أمرّ بقوس النصر، باب المدينة الذي يرتفع 20 متراً، فيدفعني الزحام. ربما هو زحام العائدين من «النيكروبوليس» – مدينة الموتى – بعدما شيّعوا إليها محبوباً، أو أنها حشود مشغولة بالإمبراطور هادريان الذي، ربّما، بني القوس العظيم على شرفه. الأسباب لا تعود مهمة عندمة تزدحم الأماكن بأشباحها، ما يهمّ حقّاً هي الدلالة على أنّ هذا المكان لطالما كان مكتظاّ، يعجّ بالحياة والحضارة. إذ أنّ مدينة صور هي واحدة من أقدم المدن في العالم التي لاتزال مأهولة منذ 4000 عام.
عبر قوس النصر، أسير فوق الطريق الروماني المرصوف بأحجارٍ كلسية حفرت فيها آثار عجلات العربات على مرّ السنين. إلى جانبها، رصيف مسقوف كان يحمي المُشاة والعابرين من الشمس والشتاء. أيضاً، ترى قناطر مكسوّة بترسّبات المياه التي عبرت في القناوات المرفوعة فوقها. عرفت مدينة صور شبكات نقل المياه منذ زمن، إذ كانت تجرّ المياه من برك رأس العين، على بعد حوالي 6 كيلومتر إلى المدينة. في هذه الأيّام، تستطيع أن تعبر إلى الملعب من بين هذه القنوات، أو أي مدخل آخر تختاره من المداخل، بخلاف العبور الذي كان سائداً خلال فترة حكم الرومان، حين كان لكل طبقة اجتماعية مدخلها الخاص إلى الملعب.
أتسلّق المدرج الضخم. أجلس على الدرجة الأخيرة. هنا يتقلّص الزمن وتمتدّ الثواني. هذا مكان يتكثّف فيه الحاضر لشدّة هدوئه، وتتفتّح أبواب الماضي من باب الخيال لشدّة أصالته
الملعب شاسع، يتّسع لرياضة سباق عربات الخيول التي كانت تُمارس فيه. أعبره ببطء من ناحية إلى أخرى باتجاه المدرج العالي. وعند المدرج أدخل إلى الغرف في باطنه، بقناطرها الحجرية المرصوفة بمثالية، أبوابها مفتوحة على بعضها مشكّلة ممراً طويلاً بقناطر كثيرة. هنا كان السوق التجاري، بيعت فيه الأواني الفخارية والأقمشة والتماثيل الصغيرة، والحبوب والخمور والعطور. شكّلت التجارة للرومان شكلاً من أشكال الأنظمة الاقتصادية في الامبراطورية، لكن سكان مدينة صور عرفوا التجارة منذ الفينيقيين الذين كانوا تجاراً تقليديين، أسّسوا مسارات تجارتهم من مدينة صور وعبرها. تهمس أشباح التجار هنا: «جلنا البحار وصدّرنا الأخشاب من ميناء صور ليبني سليمان معبده».
من الظلال أنتقل إلى الأدراج المرتفعة. أتسلّق المدرج الضخم. أجلس على الدرجة الأخيرة. هنا يتقلّص الزمن وتمتدّ الثواني. هذا مكان يتكثّف فيه الحاضر لشدّة هدوئه، وتتفتّح أبواب الماضي من باب الخيال لشدة أصالته.
التنقيب الأثري كلغمٍ نائم
منذ 23 أيلول وحتى تنفيذ قرار وقف إطلاق نار الحرب الإسرائيلية على لبنان، أصبح الوصول إلى مدينة صور وآثارها محفوفاً بالخطر. فالمدينة التي بقيت محيّدة عن القصف العنيف في حروبٍ سابقة، واجهت القصف الإسرائيلي بصورةٍ شبه يومية في الحرب الأخيرة، وباستخدام قذائف ارتجاجية لا تدمّر المباني المستهدفة فحسب إنّما تجعل المباني المحيطة مهدّدة بالدمار، كما في غارة استهدفت حي الآثار في مدينة صور، وراح ضحيتها 12 مدنياً. طال القصف الإسرائيلي أيضاً محيط المواقع الأثرية في مناطق لبنانية مختلفة ما أدّى إلى تضرّر قبة دورس الأثرية في مدينة بعلبك، وتدمير مبنى المنشية المتواجد على مقربة من قلعة بعلبك الأثرية، بالإضافة الى أضرار لحقت بالسور الروماني المحيط بثكنة غورو والذي يشكل جزءاً من القلعة.
صور وبعلبك، المدينتان المدرجتان على قائمة «اليونسكو» للتراث العالمي بقيتا طوال الحرب تحت سطوة القصف العنيف، رغم أنّ المواقع الأثرية في المدينتين تخضع لحماية دولية بموجب اتفاقيتين للـ «يونسكو» (اتفاقية «لاهاي» لحماية الممتلكات الثقافية في حالة نزاع مسلح 1954، واتفاقية حماية التراث الثقافي والطبيعي العالمي لعام 1972). وفيما تؤمّن الاتفاقية الأولى الحماية للموقع الأثري نفسه، وتحظّر تعرّض المساحة المحيطة به (بما يبلغ 500 متر) للقصف أو التخريب، فإنه على المقلب الأخر، تشكّل المدينتان بكاملهما معلمين معلنين ضمن الإرث التراثي العالمي الذي يتعيّن على الدول كافة التعاون لحمايتها بوصفها إرثاً ثقافياً يعني البشرية. بتعريض هذه المواقع للـخطر يعلن الكيان الاسرائيلي مجدداً وعلى الملأ أنه غير معني بالقوانين الدولية، ولا بالذاكرة البشرية، ذلك أن صلب مشروعه الاستعماري يقوم على إبادة حضارات سابقة لإنشاء مدينته على الركام، مدّعياً أنه عمّر الصحراء، تماماً كمقولة «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض» التي استبيحت فلسطين، شعباً وأرضاً وامتداداً تاريخياً، على أساسها.
والنار ليست الأداة الوحيدة للمستعمر الاسرائيلي لممارسة إبادته، بل الاستيلاء على تاريخ مستعمرته المستقبليّة. ففي 21 نوفمبر 2024، قُتل الباحث الجيولوجي الإسرائيلي المتخصّص في علم الآثار التوراتي زئيف حانوخ إيرليخ أثناء تواجده في جنوب لبنان، تحديداً في قرية شمع، حيث يقع مقام النبي شمعون الصفا وقلعة شمع الأثرية التي يُردّ بناءها إلى الفترة الصليبية. وهنا تظهر الأركيولوجيا كامتداد «ناعم»، لكنه صلب، للصواريخ. فالضربات الإسرائيلية المكثّفة على البلدة، والتي دمّرت مقام النبي شمعون الصفا (تُشير بعض الروايات التاريخيّة إلى أنّه كان أحد تلامذة المسيح)، تبدو كأنّما عبّدت الطريق أمام الأركيولوجي الإسرائيلي الذي دخل إلى جنوب لبنان بالزيّ العسكريّ وبرفقة رئيس أركان اللواء غولاني. ومثلما يُستخدم التنقيب الأثري لإفراغ الجغرافيا من سكّانها، رغم ظهوره كأداةٍ حياديّة وعلميّة، كذلك يبدو القتل والتهجير والتدمير كطاعةٍ خالصة للمحو الذي يبرّره ويفرضه البحث الأركيولوجي الإستعماري. هكذا تضرّرت أيضاً القلعة التي تُشرف شرقاً على كل القرى والبلدات في قضائي صور وبنت جبيل، وتطلّ جنوباً على الساحل الفلسطيني، وشمالاً على الساحل اللبناني الممتد من مدينة صور حتى الحدود مع فلسطين. كذلك تشرف من الجهة الغربية على سهول البياضة ورأس الناقورة.
الضربات الإسرائيلية المكثّفة على مقام النبي شمعون الصفا، عبّدت الطريق أمام الأركيولوجي الذي دخل إلى جنوب لبنان بالزيّ العسكريّ وبرفقة رئيس أركان اللواء غولاني
لا يتبيّن حتى اليوم السبب الواضح لوجود الأركيولوجي الصهيوني المُسلّح في الجنوب اللبناني. غير أن الإجابة تكمن في موضعين يتّصلان بتزوير التاريخ ولإيرليخ باع في هذا؛ إمّا للمشاركة في سرقة الآثار، أو تحوير تاريخها استكمالاً للتنقيبات والأبحاث التي أجراها لسنوات في الضفة الغربية بحثاً عن «أرض إسرائيل».
تعرّضت هذه التواريخ المزوّرة إلى نقدٍ جدّي حتى من الداخل الإسرائيلي. تطرح مجموعة من المؤرخين الإسرائيليين المعروفين بـ «المؤرخين الجدد»، ومن بينهم المؤرّخ إيلان بابيه، وجهات نظر تدعو إلى إعادة دراسة الصراع الإسرائيلي – العربي بمعايير محايدة، ما يُهدّد بتحطيم المسلّمات التاريخية التي بنيت عليها الرواية الصهيونية والإسرائيلية حول أحداث 1947 – 1948. يوجّه هؤلاء المؤرخون انتقادات لاذعة إلى المؤرخين الصهيونيين الذين أنتجوا روايات عن حرب 1948 وما ارتبط بها من أحداث، بهدف ترسيخها في الوعي الإسرائيلي العام كحقائق ثابتة. كما يتهمونهم بتمجيد بطولات قادة عسكريين إسرائيليين تورطوا في ارتكاب مجازر ضد الفلسطينيين في أنحاء مختلفة من بلادهم. أما عن الآثار بما تشكّله من إرثٍ ماديّ لحضارات لم تعد موجودة، فإن المتاحف الإسرائيلية هي خير دليل على النهج الاستعماري القائم على السرقة والتلاعب. ففي المتحف الإسرائيلي في القدس، تستقبل الزائرين خمسة تماثيل كنعانية ضخمة سُرقت من دير البلح في قطاع غزة.
تشير الدراسات المتخصصة بالآثار الفلسطينية إلى أن الآثار في الضفة بما فيها مدينة القدس؛ تتعرض منذ عام 1967 إلى عمليات سرقة وبيع متزايدة من قبل إسرائيل، وقد تفاقمت تلك الظاهرة بعد انطلاقة انتفاضة الأقصى في نهاية شهر أيلول (سبتمبر) من عام 2000. وقد أشارت دائرة الآثار والتراث الثقافي الفلسطيني التابعة للسلطة الفلسطينية إلى تعرّض ما يزيد عن 500 موقع أثري وأكثر من 1500 معلم أثري فرعي للسرقة والتدمير من قبل لصوص الآثار والاحتلال الاسرائيلي.
هويّة عالقة بين الذاكرة وتصوّراتها
عندما وقفت صديقتي أمام منزل جدّيها المدمّر في قريتها الجنوبية عام 2006، وصفت شعورها بـ «الانسلاخ» مختصرة بذلك الأثر الفردي لتدمير الأمكنة. قالت إنّها تحاول منذ ذلك اليوم استعادة شعورها بالانتماء إلى قريتها، إذ لم تُفلح إعادة إعمار البيت في إعادة بناء شعورها اتجاهه أو حتى ترميمه. يمتدّ هذا الشعور الخاص ليشكّل تجربةً عامةًّ لفقدان مكان عام يحمل ذاكرة الأجداد التي تشكّلت منها ذاكرة جمعية.
في حالة مدينتي صور وبعلبك، فإن هذه الذاكرة الجماعية لا تتعلّق حصراً بسكان المدينتين، إنما بكافة المدن الممتدة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط من شمال فلسطين وصولاً إلى جنوب سوريا، والتي تتشارك ذاكرة متشابهة من التواريخ والأساطير. تشرح المعالجة النفسية العيادية اللبنانية تاتيانا نصّار كيف «تُشكّل الذكريات والعلاقة بالأماكن جزءاً أساسيّاً من هويّتنا وتصوّرنا عن أنفسنا، فلا يعود المكان مجرّد موقعٍ جغرافيٍّ إنّما أيضاً جزء من تركيبتنا العاطفية وشعورنا بالانتماء، كحاضنٍ ماديّ لهويتنا المرتبطة بالذاكرة والعادات والتقاليد والثقافة التي يتمّ تناقلها من جيل إلى جيل»، مضيفة أنّ «الذكريات ليست صوراً نسترجعها، إنّما تملك دوراً مهماً في تشكّل شخصيتنا وعواطفنا وتعكس لنا خبراتنا بأعيننا». والحال أنّ كلّ ذكريات الفرد عن مرحلة محدّدة تكون مرتبطةٍ بأماكن وأشخاص، و«بعد فترة من الغضب والرغبة بالانتقام» تؤدّي خسارة الأفراد لأماكنهم إلى «مواجهة أزمة هوية وشعور بعدم القدرة على التواصل وعدم الانتماء».
عندما يتعرّض التاريخ إلى التوظيف السياسي من قبل سلطةٍ ما، فإنّه يقترب من أن يكون ذاكرة، وربما يغذيها ويندمج معها، ليصبح التاريخ قائماً على جدليّة الإدراك والنسيان
عندما يكون المكان موقعاً أثرياً «تكون الخسارة على مستوى أوسع، وهي خسارة تطال الهويّة الجماعية، الأمر الذي يولّد لدى المجموعة ككل شعوراً بالعجز وخسارة الأمل بأن يتعرّف أحد إلى حقيقة هويّتهم» وفق نصّار. بهذا المعنى، يتفاقم الشعور بالعجز كلّما كانت الصدمة جماعية، لأنها تختلف عن الصدمة الفردية التي يشعر معها الأشخاص «أنّ لديهم من يتكؤون عليه لكونه لا يعاني مثلهم، الأمر الذي يفتقده الجميع في الصدمة الجماعية». وفي حالة الصدمة الجماعية يذهب الناس «في البداية إلى بناء رابط ما، من خلال إخبار الجيل اللاحق عن هذه الخسارة التي حلّت بهم، لكن الذاكرة المتصلة بالإرث تندثر جيلاً بعد جيل، فالجيل الأول لديه تجربة مباشرة متصلة بهذا المكان، أما الجيل الثاني فتصبح لديه صورة عن هذه التجربة، فيما يرث الجيل الثالث صورة عن الصورة، ويستمر الأمر على هذه الوتيرة إلى أن تندثر ذاكرة المكان». هكذا تتعرض الذاكرة الجماعيّة إلى تصدّعات وفجواتٍ مع كلّ حرب أو خسارة على المستوى الجماعي من تلك التي تطال مدناً وقرى، وهنا تضيف نصّار أنّه «بينما تنمحي هذه الذاكرة، يتلاشى الشعور بالاستقرار والانتماء، ويندثر الشعور بالفخر المتصل بتاريخ المجموعة جيل بعد جيل».
في الواقع يؤدّي تدمير الأماكن على نطاق واسع، بما في ذلك المواقع التراثية والأثرية، «إلى صعوبة في تمرير العادات والأفكار والثقافة من جيل إلى جيل، ويجعل إمكانية المحافظة على اللحمة الاجتماعية أصعب بسبب خسارة المساحات الماديّة التي كانت تجمع الناس». وبكلمات أخرى «عندما يخبرني جدي عن ذكرياته على النهر، إما أن يكون النهر لا يزال موجوداً وأنا أعرفه فتصبح لدي ذاكرة مزدوجة عنه تتعلق بذاكرة جدي وبذاكرتي، وإما أن يكون النهر قد جفّ، فيصبح لدي تصوراً عن النهر وليس ذاكرةً عنه». والحال أن المستعمر الإسرائيلي يسرق الآثار ويدمّر الإرثين الثقافي والتراثي في البلدان التي يطأها، إلى أن يتمكّن لاحقاً من تحويلها إلى تصوّرات عن ذاكرة، ثم إعادة بناء تصوّر جديد بما يعزز سرديّاته المختلقة.
فجوات التاريخ
في كتابه «التاريخ والذاكرة»، يشرح جاك لوغوف كيفيّة تشكّل التاريخ، وتعذّر عزله عن المتخيّل والمتذكّر. يميّز المؤرّخ الفرنسي بين التاريخ الذي يدرس أحوال البشر في زمانِ ما، وبين الذاكرة بصفتها المادة الخام لعلم التاريخ، والتي تقوم أيضاً على جدلية الإدراك والنسيان، ما يعرّضها دائماً للتوظيف والتسويغ. بهذا المعنى، عندما يتعرّض التاريخ إلى التوظيف السياسي من قبل سلطةٍ ما، فإنّه يقترب من أن يكون ذاكرة، وربما يغذيها ويندمج معها، ليصبح التاريخ قائماً على جدليّة الإدراك والنسيان.
وهنا، أستعير مثالاً عن اصطحابي صديقاً إلى الملعب الروماني في مدينة صور، وإخباره عن أغنية فيروز وعن ذكريات أخرى لي في هذا الملعب. ففي هذه الحالة، تتكوّن لديه ذاكرة مزدوجة حول هذا المعلم الأثري، أي ذاكرتي أنا وذاكرته هو عن المكان. أما لو اكتفيت بوصف الملعب له، كما فعلت في هذا المقال، من دون أن يتمكن من زيارته، فإن صديقي سيكون كالقارئ، قادراً على بناء تصوّر عن المكان فحسب وليس ذاكرة. إلى ذلك، فإنّ الدمار الذي يلحق بالمواقع الأثرية يشكّل خسارة لقدرة كل مهتم في المعمورة على بناء ذاكرة له حول هذا الموقع من خلال زياراته وعلاقته معه. هذا ما يُبرّر اعتبار حماية المواقع وإدراجها على لائحة الإرث الثقافي العالمي، مسؤولية دوليّة وحفظاً لحق كل إنسان بتشكيل ذاكرة فعليّة وليس مجرّد تصوّر عن تاريخ حضري أثّر على تطوّر هويته وبلاده أينما كان يعيش. وهو ما يبرر مثلاً شعور ضابط اليونيفيل القادم من مدينة روما الايطالية ليؤدي خدمته في حفظ السلام في الجنوب اللبناني، عندما عبّر أنّه ينتمي إلى هذا الموقع الذي يُعدّ امتداداً لأجداده، في كلمة ألقاها خلال إحدى الفعاليات الثقافية في موقع البص الأثري عام 2015.
يؤدّي هدم أيّ موقع أثري إلى تحويل التاريخ المتصل به إلى ذاكرة يتمسّك بها الجيل الذي تمكن من بناء خبرات شخصية مرتبطة بالموقع. ومن شأن التدمير والإبادة المعرفية التي ترتكبها إسرائيل من فلسطين وصولاً إلى لبنان، أن يعزلا التاريخ عن الذاكرة، وأن يحوّلانه إلى تصورٍ عنها بالنسبة إلى الأجيال اللاحقة وإلى كل شخص لم يتمكن من زيارة تلك المواقع. لا يعود لهذا الارث الثقافي والحضاري أيّ تأثير في بناء هوية الأجيال المقبلة، فتحلّ القطيعة بين الجيلين الحالي واللاحق في هذه المدن، وبين الحضارات التي مرّت عليها في السابق.
ومثلما تهدّد الحروب الأماكن الحضريّة والأثريّة، من شأنها أن تثير أيضاً مسائل إشكاليّة مثل موضوع الذاكرة المبتورة في الحالة اللبنانية. التغييب المنهجي للذاكرة الجماعية، ترك ضحايا الحرب الأهلية اللبنانية عاجزين عن الوصول إلى حقّهم بالإنصاف. لهذا تُركت أبواب تكرار هذه الحرب مفتوحة على مصراعيها أمام أجيال ما بعد الحرب، في ظل فشل القدرة على تبني رواية تاريخية مشتركة حول أحداثها والاعتراف بأخطاء من شاركوا بها. لا تنفصل اللحظة الحاليّة عن ضبابية الذاكرة الجماعية للحرب الأهلية أو للحروب السابقة في لبنان، فالذكريات التي ستتناقلها الأجيال المقبلة حول هذه الحرب في مناطق مختلفة، ستكون أيضاً متفاوتة. وأمام هشاشة الذاكرة الجماعية، يصبح هيّناً التلاعب بها بإضافة أو حذف أجزاء منها، خصوصاً كلّما قلّت الدلائل التي تنتج توازناً يُعيد المجتمع إلى الالتفاف حول بعضه. وما يحفظ هذا التوازن في حالتنا، هو تاريخ ما قبل الحرب الأهلية اللبنانية، وما يُعمّقه هي الشواهد على الحضارات التاريخية التي سكنت المدن اللبنانية وأسّستها. المدن نفسها التي تتشابه مع مدن شمال فلسطين الساحلية، وجنوب سوريا، بانتمائها إلى الحضارات المتتالية نفسها عبر التاريخ، قبل تقسيمها وتفتيتها من قبل الدول الاستعمارية.