fbpx
خطــ٣٠ // باستخدام Ai // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

أنت لا تريد أن تكون غريبًا

للغريب طبقات رفيعة جدًا، لا ترى بالعين أحيانًا. ذلك الغريب الهامشي عندما يكون في المركز، يتحول إلى مركزي عندما يكون في بيئته الأصلية
ــــــــ المـكـان
1 مارس 2023

كل شيء كان جديدًا. الهواء شديد النقاوة، والأصوات غريبة ولهجة المتحدثين عجيبة. خليطٌ من لهجات البلاد. ملابسي جديدة والخجل يلتهم نصف وجهي. وصلت إلى الجامعة باكرًا، كأي طالب جديد قادم من مجاهل البلاد، حيث كل شيء ليس جديدًا. الهواء ساخن والأصوات رتيبة واللهجة موحدة والخجل معمم.

بعد ليلةٍ كاملةٍ في سيارة صغيرةٍ وصلت العاصمة تونس أول مرة في حياتي، حيث لم يعرف الشاب الذي كنته مطلع القرن غير الصحراء وجوارها.

جموعٌ من الناس تتزاحم في ممرات ضيقة ينبت على حوافها العشب والحشائش الرقيقة، وعلى المدى أسراب الطير الطائش، تثير ضجة تختلط مع ضجيج الطلاب. كل شيء كان جديدًا. ملابس الفتيات والسجائر بين أصابعهن. كم كنت أرتبك كلما شاهدت فتاة تلتهم سيجارة وتبتسم. وفي غمرة هذا الزحام، لم يبق من تطاوين في خاطري غير وصايا أمي وهي تودعني، لكأني ذاهبٌ إلى الحرب.

كنت في ذلك الصباح وجهًا لوجه مع الغريب، الذي لم يكن أحدًا سِواي. خجولاً كان وخائفًا، رغم أن أحدًا لم ينتبه إليه في تلك المعمعة الصاخبة من العودة الجامعية. وعندما همّ بالعودة إلى السكن الجامعي، كانت تحيط به رغبة لا تُقام كي يدرك اخر سيارة متجهة إلى الجنوب كي يعود فيها. كان الغريب الذي كنته حينذاك يشعر بالاقتلاع من جذوره، مشدوهًا أمام حركة السير الهائلة والبنايات العالية وأزواج العشاق يقطعون الشوارع على مهل والخضرة المديدة.

تعتريه دهشةٌ لم تفارقه إلا بعد سنوات، حين كفّ عن أن يكون غريبًا، وأصبحت العاصمة جزءًا منه. لم أكن غريبًا مرئيًا. شكلي وملابسي وهيئتي ولون بشرتي لا تختلف كثيرًا عن الشكل السائد لأقراني في مكاني الجديد، لكن فور أن أفتح فمي بالكلام، كانت جميع الأنظار تتجه نحوي. في لحظة الكلام أتحول إلى غريبٍ مرئي، أي غريبًا بالنسبة لنفسي وللأخرين. لكن غرابتي اللغوية بالنسبة لزملائي وجيراني، وغربتي عن مكاني الأصلي، لم تكن يومًا ذات أثر سلبي، إلا في بضع مرات، حين تتصاعد أوتار الخصوم مع بعض الزملاء فيصفني بأنني ليبي، وهي عنده كنايةٌ عن البداوة والتخلف وربما السذاجة.

هؤلاء الخائفين على أرضهم من أن يحتلها الغرباء، هم أنفسهم يشعرون في أعماقهم بأنهم غرباء، وما هياجهم الفاشي سوى ردود أفعال غريزية لاشعورية

بين الغريب المرئي في تونس والغريب اللامرئي وشائج عطف. ولكنهما ليسا في المقام ذاته من الوصم والخوف. الغريب اللامرئي يستطيع أن يبتكر حيلاً لغويةً واجتماعية، يستطيع من خلالها التنصّل من هويته الأصلية وقتيًا أو كليًا، إن كان عاجزًا عن المواجهة، أما الغريب المرئي فقدره أن يواجه، وهو ما يخوضه اليوم المهاجرون الأفارقة من جنوب الصحراء، بوصفهم غرباء مرئيون، من خلال اللون والعرق واللغة والعادات.

فقد اتفق الغرباء غير المرئيون الكثيرون الذين يشكلون تونس من أقصاها إلى أقصاها على نبذ هذا الغريب اللامرئي، بزعم أن هذا الغريب الإفريقي المرئي يهدد وجودهم على أرض كان جزء كبير منهم غريبًا عنها.

لكن هذه الوطنية، ذات الكمون الفاشي، تبدو في قفاها المقلوب تعبيرًا عن ضعف استحقاق لدى أصحابها بكونهم جديرين بأن يكونوا أصحاب هذه الأرض، حيث يكون الجدير عادةً هادئًا واثقًا، لا تزعزع يقينه أي مخاوف مختلقة.

هذا الضعف وقلة الجدارة، تبدو لي علته الأساسية في كون هؤلاء الخائفين على أرضهم من أن يحتلها الغرباء، هم أنفسهم يشعرون في أعماقهم بأنهم غرباء، وما هياجهم الفاشي سوى ردود أفعال غريزية لاشعورية، ذلك أن جولةً قصيرةً على المقاطع المصورة التي ينشرها قادةالحزب القومي التونسي، التنظيم الفاشي الذي يقود حملة التحريض العنصرية ضد مهاجري جنوب الصحراء، تكشف لنا من خلال اللهجة أنهم، كحالي وحال الأغلبية من الشعب التونسي، غرباء بالمعنى الذي فرضه المركز السلطوي والاجتماعي لفكرة الغريب. فما هو هذا المعنى؟

سيرة الغريب وطبقاته

للغريب في تونس قصة طويلة. منذ أن تخلت تونس عن اسمها القديم للقارة التي تنتمي إليها ”إفريقية”، واتخذت من اسم عاصمتها اسمًا لها، تحولت العاصمة والاسم إلى غولٍ ابتلع كل شيء.

كم كان ذلك التحول مثقلًا بالدلالة، من الاتساع إلى الضيق، اختزلت العاصمة كل ذلك السديم الكبير من القبائل والمدن والعروش والعادات والتقاليد والروائح والأطعمة واللهجات.

من العصر الحفصي وحتى السيطرة التركية، كان الغريب كل كائن من خارج المركز. والمركز كان مدينة تونس التي تحيط بها الأسوار. وضمن نماذج مماثلة كانت مدن القيروان وصفاقس وسوسة تحيط بها الأسوار، وخلفها من الخارج يقبع الغرباء، من الفلاحين والبدو والقبائل.

كانت تلك الأسوار حائلاً بين الغريب والحضارة، وبينه وبين المكانة، وتحول اجتيازها إلى حلم يراود أبناء العوام، والذين نجح بعضهم في التسلل إلى الداخل من فتحةٍ اسمها طلب العلم الشرعي.

ضمن هذا التقسيم أصبحت ثقافة “داخل السور” هي الثقافة المهيمنة، كونها ثقافةُ السلطة وطبقتها الإقطاعية، أما المغلوبون خارج السور فقد كانت أقصى أمانيهم أن يعترف بهم المركز كأعيان بين قومهم.

وعندما  كان القرن التاسع عشر يوشك على الأفول، أفاق الجميع، خارج السور وداخله، على صدمة الاستعمار. كانت قاسيةً وخلاقةً في الوقت نفسه. فقد أصبحت مماحكات الغريب مع مركزه الغالب مجرد لعب صبيان أمام الغريب الزاحف من وراء البحار. غريبٌ أبيض اللون، أشقر الشعر، لا يدين بالإسلام ولا يتكلم العربية، قويٌ وغالب. 

هنا ستولد الوطنية التونسية. وهي تحالفٌ موضوعي بين جمعٍ كبيرٍ من الغرباء: جماعة دواخل الأسوار من أعيان الأمس، وسكان الأرياف والبوادي وأهل المدن والقبائل في مواجهة المركز الاستعماري الجديد.

صار الغريب، ليس مجرد بدوي أو ريفي ساذج، بل مستعمرٌ صائل. وصارت الهويات المفتتة واللهجات المفرقة والأصول المتنوعة والمختلفة والمتناحرة، تقاوم كحزمةٍ واحدةٍ في مواجهة الغريب المرئي، الذي يريد أن يمحو وجودها ويستوعبها داخله. شكلت هذه الوحدة الأرضية العاطفية والفكرية التي ولدت منها الحركة الوطنية التونسية، والتي سيعمل من خلالها لاحقًا الرئيس الحبيب بورقيبة على صناعة أمته الخاصة.

كان بورقيبة واعيًا بأن الأمم تصنع على نحو متخيّل، وأن الدولة القومية هي التي تصنع الأمة لا العكس. لذلك شرع منذ وصوله السلطة، منتصف خمسينات القرن العشرين، في صناعة أمته، التي وصف مكوناتها بأنهم مجرد غبار أفراد. مستنفرًا جميع أجهزة الدولة الإيديولوجية، من ثقافةٍ وتعليمٍ ومؤسسةٍ دينية ومنظماتٍ شعبية، توجه نحو جعل أولئك الغرباء في خليط اجتماعي متجانس.

عشتُ في مساحةٍ صحراوية ممتدة، تحولت بفعل وجود الدولة الحديثة إلى “ولاية”، لكن حداثة الدولة لم تنزع عنها تركيبها الاجتماعي ما قبل الحداثي. كانتً ولاية تعيش داخلها أكثر من عشرين قبيلة، بعضها عربي وبعضها أمازيغي وبعضها مستعرب ..

جاء بورقيبة من الهامش، غريبًا كحال قطاعٍ واسع من رفاقه الذين استلموا السلطة، لذلك كسر منذ البداية هيمنة المراكز القديمة الإقطاعية والاستعمارية، وحاول بناء مركزٍ جديد، كانت العاصمة محوره، لكن عناصره من خليطٍ واسع من الغرباء، من خلال عمليةٍ واسعة لتغيير الجهاز البيروقراطي للدولة وتوظيف أفراد ينحدرون من بقات وجهات ومناطق مختلفة وهامشية، وكذلك من خلال توسيع التعليم والسكن الجامعي والمنظمات الشعبية التي جمعت شرائحَ وأفرادَ من جميع أنحاء البلاد، كان من المستحيل جمعهم. بكل ما يعينه ذلك من تبادل اللهجات المختلفة والعادات بين غرباء الأمس.

لكن مشروع بورقيبة كان فوقيًا، يقوده الحزب الواحد، ثم الطغمة الأقلية. صنع نسبيًا ما نعرفه اليوم تحت اسم “الشعب التونسي”، لكنه لم يمحِ غُربة الغريب. بقي الغرباء حاضرون، فيما نجحت العاصمة، التي اختزلت كل شيء، في استيعاب الغرباء الذين قصدوها وعاشوا فيها.

حتى المحاولات التي كان النظام يقوم بها من خلال الدراما أو السينما لإيجاد مكانٍ لهذا الغريب في غابة المركز، كانت تتحول إلى سخرية من الغريب نفسه، إذ كانت صورته في الدراما المدعومة رسميًا خلال عقد التسعينات وبداية الألفية تحيل على السذاجة والغباء، وفي أحسن الأحوال كان يلعب دور المضحك أو المهرج. 

كان المشروع البورقيبي، الذي ورثه زين العابدين بن علي، محروسًا بقوة الدولة المركزية، وحين وصلت هذه القوة إلى نقطة انحدارها عشية ثورة 2011، اكتشفنا جميعاً أن هذه الأمة لم تكن بذلك التماسك الذي سعى إليه الرجل، أو الذي صورته وسائل إعلام النظام على مدى خمسة عقود من عمر الدولة المستقلة. كشفت الثورة عن التونسيين لا يعرفون بعضهم البعض، ولا يعرفون تونس جيدًا. وأن رواسب القبلية والعشائرية مازالت راسخةً وقوية، وأن الجهوية مازالت وستبقى محركًا للسياسة والثروة في البلاد. 

للغريب طبقات رفيعة جدًا، لا ترى بالعين أحيانًا. ذلك الغريب الهامشي عندما يكون في المركز، يتحول إلى مركزي عندما يكون في بيئته الأصلية. عشتُ في مساحةٍ صحراوية ممتدة، تحولت بفعل وجود الدولة الحديثة إلى “ولاية”، لكن حداثة الدولة لم تنزع عنها تركيبها الاجتماعي ما قبل الحداثي. كانتً ولاية تعيش داخلها أكثر من عشرين قبيلة، بعضها عربي وبعضها أمازيغي وبعضها مستعرب.

ربطت بينهم تاريخيًا وشائج قوية وصراعاتٌ دامية. جميهم غرباء بالنسبة للمركز، لكن كل قبيلة في ذاتها مركز، وغيرها غرباء بالنسبة لها. إلى وقتٍ قريب، لم يكن الزواج المختلط بين هذه القبائل سهلًا، وكانت بعض الزيجات تتطلب شجاعةً من الرجل كي ينفذ عملية هرب هولويدية، حتى ينهي قصة حبه بسلام. وإلى وقتٍ قريب كان الفرد من خارج قبيلة يسمى “براني”، أي غريب.

وإلى وقت قريب وربما حتى اليوم، يعرف الفرد نفسه أولاً، لا باسم عائلته بل باسم قبيلته. وكلما التقيت أحدًا سألك السؤال نفسهلمن ترجع؟أي إلى قبلية مرجعك. لكن هؤلاء الغرباء عن بعضهم البعض يعيدون تشكيل أنفسهم كقبيلةٍ واحدة بمجرد أن يرحلوا شمالاً إلى العاصمة للعمل أو الدراسة. يتحولون من غرباء قلوبهم شتى إلى غرباء على قلب غريبٍ واحد.

الغريب وإعادة إنتاجه

“نشأنا جميعًا داخل قاموسٍ عملاق. المجتمع كما نعرفه، هو مجرد مجموعة من التعريفات المشتركة. من هو الطبيعي؟ ما هو الجمال؟ من هو المجرم؟ ما هي المرأة، ما هو الرجل؟ ما هو الحب؟ من هو الغريب؟ كلما زادت موافقتك على التعريفات التي أعطيت لك منذ الطفولة”، كما تقول إيلوغوسا أوسوند، وخلال هذا المسار الطويل من العيش الجماعي، زاد انتمائك.

كلما انتميت أكثر، كلما ابتعدت عن العقوبة. ذلك أنك تريد أن تكون بأمانٍ في هذا المكان المخيف، أليس كذلك؟ إذن أنت تفعل ما يفترض أن تفعله، وتتجنب ما يؤدي إلى المعاناة. أنت لا تريد أن تكون وحيدًا.. أنت لا تريد أن تكون غريبًا.. لذا فأنت تؤمن بالقاعدة: لا يوجد شيء لك خارج الأسطر المحددة سلفاً، أي خارج التعريفات الجاهزة للأشياء والظواهر. ويبدو أن العنصر المحدد في حقيقة اعتبار الشخص “غريبًا” هو التوافق مع المعايير المنبثقة عن المجموعة الاجتماعية التي لديها القدرة، بشكلٍ مؤقت أو دائم، على الاستبعاد أو التضمين. لذلك، ومن منطلقٍ نفسي تحليلي، فإن أكثر المجموعات الاجتماعية حماسًا على وصم الفرد بالغرابة والغربة، هي أكثرها تعرضًا لهذا الوصم. 

باكرًا حلل فرويد هذه المعضلة اللاواعية، في كتابه “قلقٌ في الحضارة” ضمن نقده لمقولة الكتاب المقدس ” أحبب قريبك حبك لنفسك”، مشيرًا بالقول في تحليله لدوافع الأنا في علاقتها بالغريب: “ذلك الغريب ليس فقط جديرًا بالحب بوجه عام فحسب، بل ينبغي أيضا أن أقر، توخيًا للصدق، بأنه يستأهل في غالب الأحيان عدائي، بل كراهيتي، فهو لا يبدو أنه يُكِنُّ لي أي عطف، ولا يدلل نحوي على أي مراعاة. وإذا ما وجد في الأمر نفعًا له، فلن يتردد في إنزال الأذى بي. بل هو لا يتساءل إن كانت أهمية الكسب الذي يجنيه تتناسب مع عظم المضرة التي ينزلها بي، والأدهى من ذلك والأمر أنه حتى إن لم يجنِ ربحًا، وإنما فقط مجرد لذة ومتعة، فلن يتردد البتة في الهزء مني والافتراء عليّ، ولو تباهيًا منه فقط بالسلطان الذي له عليّ”.

في هذا الحيز من ضيق الأفق المدفوع بأنانية الأنا، تولد الحدود، التي تفصلنا عن الآخرين، ويتكاثر الغرباء، مع أن الحدود الوحيدة التي لا يجب عبورها هي تلك التي تفصل الاعتراف بالآخر عن الهوس بالهوية.. في ترجمةٍ لشعار، المسرحي القرطاجي پوبليوس ترنتيوس: ‘’أنا إنسان ولا شيء غريب عني”

كل غريبٍ مجهول وكل مجهولٍ خطرٌ محدق. هكذا تتعامل الأنا مع الغرباء، فهي لا تحدد الغريب كفرد، بل كعلاقة. ولحل هذه الإشكالية سيكون أمامها خياران، غمام استبعاد الغريب بوصفه شيطاناً أو مرضاً، أو استيعابه وتحويله إلى شبيهٍ لها، أي أن يكف عن كونه غريبًا، ليس من حيث مشاعره تجاه نفسه، بل من حيث نزع مكمن الغرابة فيه، أي تجريده من خصوصيته الثقافية أو اللغوية أو العرقية.

ويظهر هذا بوضوح في سياسات الاندماج التي تفرضها بعض الحكومات الأوروبية على المهاجرين. لكن هذه الآلية الدفاعية التي تنتهجها الأنا، تتجلى في الأشكال العنصرية للخطاب والسلوك، التي نشاهدها اليوم، والتي تكاد أن تكون فاشيةً.  في هذا الحيز من ضيق الأفق المدفوع بأنانية الأنا، تولد الحدود، التي تفصلنا عن الآخرين، ويتكاثر الغرباء، مع أن الحدود الوحيدة التي لا يجب عبورها هي تلك التي تفصل الاعتراف بالآخر عن الهوس بالهوية. في ترجمةٍ لشعار، المسرحي القرطاجي پوبليوس ترنتيوس، الذي عاش عبدًا في روما وخبر قيمة الحرية مجردةً عن أي انتماء: ‘’أنا إنسان ولا شيء غريب عني”، في نوعٍ من التعبير عن إنسانيةٍ متكاملة جوهرية: كل ما هو بشري بداخلي، أنا موجود في كل ما هو بشري.

عندما وجدت نفسي غريبًا لأول مرة في ذلك اليوم الخريفي طالبًا جديدًا في العاصمة تونس، اكتشفت سريعًا لعبة النظر إلى العالم والأشياء من خلال مسافة. حيث تبدو العوالم من بعيد في كمالها وتمام حجمها، فيما تكون عملاقةً عندما نحيا داخلها. عندما كنت أعيش داخل بلدتي الصحراوية كنت أعتقد أنها العالم كله، وعندما غادرتها ذات خريف نحو العاصمة اكتشفت أن العالم أكبر من مجرد بلدة تحاصرها الرمال، وأصبحت العاصمة عندي كل العالم، وحين غادرتها هي الأخرى في صيفٍ مشهودٍ نحو شمال المتوسط اكتشفت مرة أخرى أن العالم أرحب من بلدةٍ أو عاصمة مهما تعلقت بها وبأزقتها.

وهكذا الإنسان يمسك بذيل العالم دائمًا بعد أن يكون العالم قد توسع. ثم، وفي أثناء لعبة الاكتشافات تلك، وجدت أن العالم ليس مكانًا، بل علاقة. عوالمٌ متعددة بتعدد أنفاس الخلائق، كل منا له عالمه الخاص، يعيش فيه ويقيم داخله. علاقات تتناسل مع الأحياء والأشياء، لأعود إلى الوراء جامعًا عوالمي التي غادرتها واحدا تلو الآخَرِ، محتضنًا إياها كأم حنون. جمعتها في صرةٍ وحملتها معي حيث ما رحلت.