fbpx
خطــ٣٠ // باستخدام Ai // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

أوديب شيخاً

حكاية قديمة جديدة، قد تصلح تعويذةً ضد كتب التنمية الذاتية ونصائح التفكير الإيجابي
ــــــــ تقدمـ العمـر
12 يوليو 2023

“العمر مجرد رقم” أو “ليس للتقدم بالسن أي معنى”، عبارات من هذا النوع كثيراً ما نصادفها في مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصاً في منتجات التنمية الذاتية، تبشرنا بأننا نستطيع في أي عمر البدء من جديد، لنحقق جميع أحلامنا. 

أنا شخصياً من هواة التنمية الذاتية، لا أستحي أن أستمد منها الدوافع الإيجابية، وكثيراً ما أصغي إلى مقترحاتها في كتب صوتية وبرامج بودكاست، حتى لو لم أكن متفقاً مع آراء أصحابها. أستمع إليها كما الموسيقا، كمن يشتري قهوة في كوب ورقيّ من كشك، أو يجلس على مقعد حجري في الشارع ليتشمس قليلاً في انتظار الموعد القادم. 

أكثر مما يقوله بائعو التنمية البشرية، تعنيني الكيفية التي يطرحون بها بضائعهم، الأمر يشبه من بعيد قراءة الشعر، حيث لا تهم الحقائق، بقدر حيوية اللعب بالصور والكلمات والإيقاعات والألوان، يطرحونها بالعواطف والأماني.

هل العمر مجرد رقم؟

عمل جورج برنارد شو وبابلو بيكاسو وسُعدا بالحياة كل على طريقته حتى أواسط التسعينات من العمر، برترند رسل عاش مائة عام تقريباً، ومازال أوتو كيرنبيرج، المحلل النفس الأمريكي من أصل نمساوي في أواسط تسعينه حيوياً فعالاً منتجاً يقظ الذهن، يقرأ ويكتب ويعالج ويمنح مقابلات يدلي فيها بآراء وتقييمات نافذة لآخر ما نشر في مجال التحليل النفسي. أدونيس أيضاً أصدر ديواناً جديداً قبل سنة تقريباً. فهل العمر مجرد رقم؟ 

يستلزم الاستسلام للطرب اللامنتهي بهذه العبارة إنكاراً لحقيقتين، أولاهما مطلقة، وهي الموت، والثانية نسبية وفردية، وهي المرض والعجز. فنجاح هذه العبارة رهن تردادها دون تعمّق فيها، شأن أغلب مزاعم التنمية الذاتية، فبعد عمر مليئ بالإبداع توفي كل من بيكاسو ورسل وبرنارد شو، كذلك فإن كيرنبرج وأدونيس كغيرهما، لن يعمّرا إلى الأبد.

إلى أي حد يمكننا تجاهل الشيخوخة والمرض والعجز؟ وكيف يمكن أن نستمتع بحياتنا ونشعر بجدواها رغم هذه التهديدات الجدية المتربصة بنا؟ 

في “أوديب ملكاً” يصور سوفوكليس تقليب أوديب لآمال عدة، عساه لا يرتكب، أو لا يكون قد ارتكب فعلاً، خطيئتيه الكبريين اللتين توعدته بهما النبوءة: قتْله لأبيه، ومشاطرته لأمه السرير. عندما يأتيه رسول من كورنثة، حيث نشأ أوديب، ليخبره بوفاة بوليبوس، أبيه بالتبني، ينشرح قلب أوديب قليلاً، فموت أبيه ميتة طبيعية لا على يد أوديب مناقض للنبوءة المشؤومة. حتى تلك اللحظة اعتقد أوديب أن بوليبوس أبوه الحقيقي، ولم يكن يعرف بعد أن ملك طيبة، لايوس، الرجل الذي بادر بمهاجمة أوديبَ عند مفترق طرق ثلاثة، فارتد عليه الأخير وقتله، هو أبوه واقع الأمر. 

لتقليب أوديب للآمال تجنباً للوقوع بين براثن مشاعر ذنب متربصة شبهُه في رغبتنا العميقة بأن يكون ما يرعبنا أوهاماً وتخوفات لا أكثر: لربما ننجو من الشيخوخة والمرض، بل ومن الموت أيضاً!

لطالما طغت استخلاصات فرويد المعروفة عن مروية سوفوكليس، أو كادت تطغى، على العبرة التراجيدية التي وضعت في سياقها مآسي الإغريق، وبمقتضاها تحتكم الإرادةُ البشرية لإرادة عليا، ما يجعل مساحة حرية الإنسان وقدرته على التأثير في مصيره محدودتين. 

فرغم ما له من حرية وعلى الرغم من إمكانياته الإبداعية وقدرته على التحكم بالطبيعة وبغيره من البشر أيضاً، يبقى الإنسان محكوماً بمصائر لا يمكنه التحرر منها إلا إلى حد: قوانين البيولوجيا والموت المحتم، إضافة إلى الدوافع اللاواعية المؤثرة بعمق في اختيارات الإنسان وقراراته. 

لا تتحكم هذه المصائر الفوقية (التي تمثلها في التراجيديات الإغريقية إرادة آلهة يمكن النفوذ إليها بالنبوءات في التقليد الإغريقي) برغباتنا وطموحاتنا اللامحدودة من خلال فعلها بصيرورة أقدارنا فحسب، بل من شأن حضورها الكثيف والمستمر في وعينا أن يعكّر من صفو هذا الوعي، ويؤثر سلباً على آمالنا وهممنا، وأن يدفعنا بطريقة غير مباشرة إلى تصرفات متطرفة، ما يتمثل في سلوك ياكوسته ولايوس، والدي أوديب البيولوجيين، إذ دفعا بابنهما رضيعاً إلى التهلكة، خوف تحقق النبوءة، أو بعبارة أخرى عابرة للأزمنة والثقافات: خوف تحقق ما لا يمكن منعه. 

فإن كنا ممن يتمتعون بالصحة الوافرة، فقد نستطيع إقناع أنفسنا بأن ما أصاب أقارب أو جيراناً لنا من مرض وعجز وشيخوخة إنما مرده، ككل ما يصيبنا في هذه الحياة، كما يقترح كثير من مدربي التنمية البشرية، إلى نمط حياتنا الذي اخترناه، وما “نجذبه” إلينا في هذه الحياة عبر موقفنا منها والأفكار النمطية التي نقبل الوقوع في فخوخها، أو عبر “الترددات” المرتبطة بهذه الأنماط. 

هكذا يمكننا لوقت قد يطول أو يقصر أن نستمتع بالزعم بأننا على ما يرام، وسنبقى كذلك، “العمر مجرد رقم”، والشيخوخة والمرض والعجز ليست أكثر من نبوءات محقّقة لذاتها. ومثلما حاول أوديب أن يتقبل غشاوةً تجمّل من واقعه المأساوي، ما لبث فيما بعد أن رفضها مأخوذاً بدافع لا يهدأ لمعرفة الحقيقة، بإمكاننا نحن أيضاً أن ننكر ما أمكننا احتمالات المرض والعجز ووقوع الحوادث والنوائب، بل وحقيقة الموت المطلقة أيضاً. وخاصة أن لدى الإنسان نفور فطري من كل هذه المصائر المقلقة، التي لا تنفذ بسهولة إلى عقل المتمتعين بصحة نفسية وجسدية

أيخون إنسان بلاده؟ 

أذكر في بداية عملي الطبي في سوريا مشاعر الغربة التي انتابتني قبالة معاناة مرضى الحوادث الوعائية الدماغية، المصابين بالخزل الشقّي مثلاً، وبه يعاني المريض من صعوبة من منشأ عصبي دماغي في تحريك ذراعه وساقه في جانب واحد من الجسم. 

لم يكن التفسير الطبي والآليات الإمراضية غائبين عن ذهني بالتأكيد، مع ذلك لم أفهم، أي لم أستطع أن أتصور: كيف يعجز الإنسان عن تحريك ذراعه كما أحرّكها أنا: هكذا! أليست ذراعه؟ فلماذا لا يحركها ببساطة؟ كيف يمكن للجسد أن يخذلنا ويخلخل بديهياتنا؟ كيف يمكن للمرض والعجز أن ينالا منا؟ 

يعيدني هذا الشعور بالعجز عن فهم ما يفترض بأنه مفهوم إلى قصيدة “غريب على الخليج” التي كتبها بدر شاكر السياب خلال إقامته في الكويت، يقول فيها: “إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون!/ أيخون إنسانٌ بلادَهْ؟/ إن خان معنى أن يكون، فكيف يمكن أن يكون؟” فالجسد وطن بدوره، أصغر الأوطان الملموسة، وألصقها، لكن الشعور بالخيانة بالعلاقة مع الجسد أحرى به أن يكون معكوساً عن ظاهر قول السياب، فما يفهم عادة من “خيانة الجسد” ليس الارتياب بأن نكون نحن الخائنين (وإن كنا ربما نرتكب ما يشبه ذلك بإهمالنا للجسد وإيذائنا له) بل خيانته هو لنا. 

فإن استسلمنا لغوايات التداعي والتحليل والتأويل، فإن السياب الذي فقد أمه مبكراً في سن السادسة، يشقّ العراق في وطنين مثلما تشق مخيلة الوليد الأم في أمّين حسب المحللة النفسية والمؤلفة النمساوية ميلاني كلاين؛ أم طيبة ترعى وتغذّي وتهدّئ، وأم شريرة تتسبب بالجوع والذعر والفقد. فالعراق المثالي، أرض خبرات السياب الإيجابية الأعمق “الشمس أجمل في بلادي من/ سواها، والظلامْ/ حتى الظلام هناك أجمل، فهو/ يحتضن العراق” مفارق للعراق الذي شرّد الشاعر والمثقف الكبير وجعله يضرب في الأرض بحثاً عن الرزق. 

فوراء السؤال كيف يخون إنسان بلاده، يلطِئ السؤال عن كيف تخون البلاد إنسانها وتهب عبقرياً كالسياب لبلاد غيرها: “واحسرتاه … فلن أعود إلى/ العراق!/ وهل يعود/من كان تعوزه النقود؟” وإن تأوّلنا أكثر نبلغ السؤال: كيف للأم أن تغادر باكراً وتترك الولد الذي يقول في أنشودة المطر: “كأَنَّ طفَلاً بات يهذي قبلَ أنْ ينامْ/ بأنّ أمَّـهُ التي أَفاقَ منذُ عامْ/ فَلمْ يجدها ، ثُمَّ حينَ لَجَّ في السؤال/ قَالوا لهُ : “بعدَ غدٍ تَعودْ .. „/ لا بدَّ أنْ تعودْ/ وإنْ تهامسَ الرِّفَاقُ أنَّـها هُناكْ/ في جانِبِ التَّلِّ تنامُ نومةَ اللُّحُودْ/ تَسفُّ مِنْ ترابِها وَتشربُ المَطَر”. 

وراء السؤال: “أيخون إنسان بلاده؟” قد تبادرنا إذاً أسئلة من قبيل: أتخون بلاد إنسانها؟ ومن منطلق ذاتي صرف: أتخون أم إبنها وتتركه لليتم؟ ومن الأم نتداعى إلى ما كان متمادياً مع جسد الأم في ذاكرتنا السابقة للغة، جسدنا الخاص: أيخوننا الجسد؟ “إن خان معنى أن يكون، فكيف يمكن أن يكون؟”.

إن الإنسان لفي خسر

ليس سؤال الشيخوخة غريباً عن أوديب. فقبل أن ينصّب ملكاً على طيبة ويقترن بمليكتها (التي سيعي فيما بعد أنها أمه) كان عليه أن يحل أحجية السفنكس: “ما الكائن الذي يمشي صباحاً على أربع، ظهراً على قائمتين، ومساء على ثلاث؟”. عندما توصل أوديب إلى الحل: “الإنسان”، الذي “يحبو في بدء حياته على اليدين والقدمين، ليمشي بعد ذلك منتصباً على قائمتين، فيستعين أخيراً على شيخوخته بعصاً كساق ثالثة”. تسبب عثوره على هذا الحل بفناء السفنيكس. بعدما كان هذا المخلوق يطرح كل يوم الأحجية على أحد سكان طيبة ويقتله عندما يعجز حيالها، سيلقى مصرعه عندما تُحل الأحجية. 

عادة ما يركّز التحليل النفسي في تناوله لأحجية السفنكس على لغز الإنجاب وسؤال المنشأ الذي يطرحه على نفسه كل طفل: “من أين جئت إلى العالم؟”، فإن توصّل الطفل إلى جواب معقول: “من والدين”، تداعى إلى السؤال التالي: “هل هذان هما والداي؟”، لكنّ أحجية السفينكس لا تقف عند سؤال المنشأ، بل تتجاوزه إلى سؤاليّ مسار ومصير الإنسان، الذي بعد أن يحبو يمشي على قائمتين، فثلاث. 

يلاحظ المحلل النفسي الهولندي فان دير ستيرن (في كتابه أوديب، دراسة تحليلية بناء على مأساة سوفوكليس) نقاطاً يتطابق فيها موقف أوديب في مواجهة السفينكس مع موقفه في مواجهة يوكاسته، أمه وزوجته. فكما ترتب على عثور أوديب على حل أحجية السفينكس فناء الأخير، ترتب على إيجاد حل أحجية يوكاسته بانجلاء أمر كونها أمه: موتها، وإن انتحاراً. ويلمح سوفوكليس إلى أن أوديب كان يتمنى أن تموت أمه (من قبل أن يعرف أن يوكاسته هي أمه)، فموتها ضمانته كيلا يجد الطريق إلى سريرها. 

كلا الموقفين يحدّه الموت من كل الجهات، موت الذات أو الآخر، فلو لم يحل أوديب أحجية السفينكس للقي مصرعه هو، كذلك فهو ما كان ليواجه أحجية يوكاسته إلا بعد أن نجا من دفعها به إلى الموت طفلاً رضيعاً كيلا تتحقق النبوءة المشؤومة. كلا المواجهتين مع السفينكس ومع يوكاسته تحمل وجهاً لمأساة أوديب الفردية والعائلية حيث يتربص الموت والقتل والخسارة والعار. 

فكأننا نشهد هنا تماسكاً بين أحجية الإنسان النفسية المتمثلة بدوافعه العميقة كما قرأها فرويد والتي تملؤه بالاندفاع والشغف والطموح المجنون، حتى تخوم الذنب والندم واللعنات، وبين سؤال الإنسان الفلسفي عن مصيره العام وظروف نشأته ووجوده فمآل هذا الوجود؛ كيف أنه لم يكن، فكان، لينكس في العمر ويكف مرة واحدة عن الكينونة والوجود: يحبو في الصباح، ليصير راجلاً في الظهيرة، فشيخاً غابراً في مساء اليوم نفسه..

تستجرنا هذه التوأمة بين سؤالي السفينكس ويوكاسته إلى المقابلة بين مخاوفنا تجاه الأصول المحرّمة لدوافعنا الجنسية والعدوانية، وبين مخاوفنا تجاه مصائرنا المحتملة، الشيخوخة والعجز والمرض، والحتمية: الموت والفناء. فنحن نتجنب مواجهة مخاوفنا تجاه مصيرنا مثلما نتجنب مواجهة الأصول “الأوديبية” لدوافعنا، نفرّ في الحالين فرار الإنسان من الأوبئة، كالتي تسببت بها الخطايا التي كان يحملها أوديب على كاهله بغير وعي منه والتي تفشت في مدينة طيبة. 

كم نستطيع أن نضع عيننا في عين الحقيقة؟ وكم نحب فعل ذلك؟ أوديب اختار أن يسمل عينيه! مأساة أوديب تعويذة ضد “التنمية الذاتية” وترياق ضد “التفكير الإيجابي”!

وأوديب لاجئاً..

لا تتسع “أوديب ملكاً” لمصير أوديب النهائي، فيفرد له سوفوكليس عملاً خاصاً “أوديب في كولونوس”، حيث نراه غارقاً في الذنب والفشل منفياً من طيبة، محروماً من الدفن فيها، ضريراً، متوكئاً على أنتيجون ابنته الأثيرة، ملعوناً، منبوذاً، منفياً. هل تفكيكنا لأحجيات وجودنا مقدمة لبؤسنا؟ 

لكن نبوءة أخرى تنقذ أوديب من العار الذي ألم به، وتحيله إلى مجد ومسك ختام، إذ تجعل النصر حليف من يُدفن أوديب في ظهرانيهم. فيطلب منه كريون ملك طيبة العودة إليها، لكن أوديب يرفض عرض كريون، ويختار أن يدفن في كولونوس، مسقط رأس سوفوكليس، حيث يرافقه تكريماً له، ملك أثينا الأسطوري، موحّد آتيكا، وقاتل المنيوتور، ثيسيوس، إلى مثواه الأخير. 

لكن أوديب لا يموت بالمعنى المعتاد للكلمة، ولا يدفن حتى، بل يختفي، كأنما الأرض انشقت وابتلعته، لينحدر إلى العالم السفلي، ويصير مصدر بركة لكولونوس وأثينا القريبة.