fbpx

عزيزي محمود الورداني ابن العشرين

لا أدعوك لتبني رأي واحد من الآراء التي أوردتها، فليس هذا من عادتي حتى مع أبنائي، لكنني أدعوك فقط لتأملها
ــــــــ تقدمـ العمـر
20 يونيو 2023

ربما يكون مناسبًا أن أتحدث معك قليلًا في البداية وقبل كل شئ عن مسألة “اليٌتم”؛ لن تبرأ من جرحه أبدًا، سيظل الجرح صاحيًا على الدوام، ولن تتجاوزه وستظل تكتب عنه مرات عديدة. ربما لأن وعيي بالدنيا بدأ وأنا يتيم فعلًا، فقد مات أبي بعد عامين من ولادتي. لا  أتذكره قط بالطبع ولا أعلم عنه شيئًا، وأول ما أتذكره هو مقبرته ومشاهد “طلوع القرافة” مع أمي حيث اللقاء بأقربائي الأفندية المطربشين الذين يدخنون ومباسمهم طويلة أراها بوضوح، وقريباتي من الهوانم المرتديات ملابسهن السوداء الضيقة المحبوكة على أجسامهن.

لن تبرأ من اليٌتم -أؤكد لك- سيكون جرحًا نكأه الجميع بقصد وبدون قصد. الأقارب والجيران والمدرسة والشوارع القريبة. الكل يعلم أنك يتيم، وأنت تعرف أنهم يعلمون. هناك نوع من الضعة في تحمل ذلك الحنو البذئ اللزج الذي كرهته بشدة. هناك أيضًا ما يكاد يكون ذُلًا وانتقاصًا دائم منك.. لن أكون مغاليًا أبدًا عندما أقول لك أنني وأنا في هذه السن المتقدمة مازلت أشعر بذلك اليٌتم الذي كرهته.

أما ما سوف يكون مفيدًا لك بشدة ككاتب فهو البداية المبكرة جدًا. قرأت مبكرًا بين العاشرة والخامسة عشرة كل ما كان متاحًا -وهو كثير جدًا- من القصص والروايات الخفيفة المترجمة وغيرها. لم تكن القراءة في البدايات إلا محاولة لاحتمال الحياة بعد أن أجبروك -لأنك يتيم- على أن تفارق أمك وتعيش مع عمتك وزوجها لضيق ذات اليد، لذلك فالقراءة كانت تعني أن تغمض عينيك وتعيش داخل عالم خلاب يٌنسيك ما أنت مجبر عليه.

 أحس أن حظي كان حسنًا إلى أقصى حد. فالمهن التي اشتغلتها صبيًا ومراهقًا عجمت عودي، ولم أمارسها باعتباري مظلومًا. على العكس، كانت شهور الإجازة الصيفية الثلاثة كل عام، على مدى عدة سنوات زادًا لا ينفد وتجارب كبرى ..

وعندما تعود إلى أمك ستعيش حياة طبيعية مع شقيقيك، لكنها ستكون حياة بالغة الفقر وعدم الأمان، وتختلف بشدة عن الحياة في فيلا بها بيانو وتقع على مقربة من نهر وحافلة بأشجار الفاكهة وحظائر الدواجن. لكنك لن تتنفس إلا بعد أن تنجح محاولاتك للانفلات أخيرًا، والعودة إلى حياة لا توفر لأسرتك الحد الأدنى ولا الحد القريب من الأدنى. غير أنها حياة ستحبها بشدة ولن تندم مطلقًا على حياتك السالفة. 

وهكذا ستعرف طريقك مبكرًا للعمل كصبي في محال وورش. ستعمل بائعًا للثلج تجرّ عربة خشبية لها يدان ومملوءة بألواح الثلج. ستعمل صبيًا في مطبعة، وفي محل عصير قصب، واستوديو تصوير، ومجلة للإعلانات. 

في البيت الفقير الذي سوف تعيش فيه في مطلع مراهقتك؛ لن يٌغلق الباب، وحتى إذا أغلق، فالكل يعرف مكان المفتاح في فجوة صغيرة في الجدار الملاصق للباب. تردد الكثيرون على ذلك البيت، خصوصًا بعد أن عمل الشقيق الأكبر في وظيفة بسيطة في مجلة الإذاعة والتليفزيون ويبدأ تردد أصدقاؤه مثل يحيى الطاهر عبد الله ونجيب شهاب الدين إلى جانب زملائه في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب، وفيما بعد سيعرف كثير من الأصدقاء اليساريين طريقهم إلى البيت. يأتون بدون ميعاد ويقيمون ما شاء لهم، ومن بينهم من امتدت إقامته لما يزيد عن عام مثل يحيى الطاهر عبد الله.

 وفي الكتابة أيضًا سيكون ماتكتبه من قطع زجلية أو قصص قصيرة محل اهتمام من هؤلاء الكبار، وستسأل عن مكتب عبد الفتاح الجمل في جريدة المساء، وتترك له أول قصة أعجب بها الأصدقاء، وستفاجئ بأنه نشرها على الفور وأنت لم تتجاوز  الثامنة عشرة من عمرك.

عندما أفكر الآن – أنا الرجل العجوز الذي تجاوز السبعين- فيما جرى، أحس أن حظي كان حسنًا إلى أقصى حد. فالمهن التي اشتغلتها صبيًا ومراهقًا عجمت عودي، ولم أمارسها باعتباري مظلومًا. على العكس، كانت شهور الإجازة الصيفية الثلاثة كل عام، على مدى عدة سنوات زادًا لا ينفد وتجارب كبرى. لم أشعر بذلك أثناء الممارسة الفعلية بل بعدها بعدة سنوات.. لذلك أتمنى لك حظًا حسنًا مثلي، وأدعوك لانتهاز أي فرصة تلوح لك.

عزيزي محمود

مبكرا جدا ولجتٌ، عالم الكتاب والمثقفين. قرأت مبكرًا جدًا كل ماهو ضروري ومفيد وجميل ولم أتورط في الكتابات الشائعة أو الأسماء الكبيرة، تجنبت قراءة يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس وعبد الحليم عبد الله ومن لف لفهم. قرأت ما يقرأه الأصدقاء الكبار. تأثرت مثلهم بالهزيمة القاسية عام 1967، تعرفت مبكرًا أيضا على الماركسية وقرأتها بشغف، وسرعان ماتم تجنيدي في إحدى المنظمات السرية. وواصلت العمل فيها لسنوات، مع رفيقات ورفاق لا يغادروا الذاكرة أبدًا، وحصلت على أقصى مايمكن الحصول عليه من التحقق وذلك النوع من الفرح، والإحساس بأنك تشارك في تشييد صرح كبير. وعندما تحللت المنظمة تلقيت واحدة من أقسى هزائمي، وأشدها عصفًا لي. 

أؤكد لك أنني راض كل الرضا عن اختياراتي، وإن كان ليس ضروريًا أن أكون راضيًا عما كتبته، ولا راضيًا عن الوقت الطويل الذي استغرقته في قراءة الماركسية وما ارتبط بها. أتقبل التجربة بكل أخطائها وخطاياها وأوهامها. أعترف بمسئوليتي عن أخطائنا، لكن هذا لا يقلل من احترامي للتجربة.

راض عن انخراطي في حركة الكتابة الجديدة، وكنت قريبًا جدًا من تجربة جاليري 68 ومنحازًا لمغامرات كٌتاب الستينيات (القرن الماضي طبعًا)، وشهدت معارك كبرى خاضها كتاب ذلك الزمان مثل معركة اتحاد الكتاب ومجلة الكاتب ومقاطعة مؤسسات الدولة والدفاع عن الاستقلال عن أجهزتها.

على المستوى الشخصي أنا عاجز عن اللحاق بأقل ما وصلت إليه التكنولوجيا. لقد تخلفت حقًا وأشعر بخسارة بدون أي شك. ومع هذا فربما تكون هذه النقلة الكبرى هي الأمل الغامض والوحيد، على الرغم مما يتهددها من فخاخ وأشراك، ولاننسى أن قوى الشر ممثلة في الاحتكارات العالمية تسيطر على اللعبة بكاملها ولديها مصالحها ..

كل هذا أنا راض تمامًا عن انخراطي فيه، ولا أعتبر أن سجني عدة مرات يمكن أن يعطيني الحق في أن أطلق على نفسي أنني دفعت الثمن أو شيء من هذا القبيل، والأهم أنني لا أعتقد أنه عطّلني واقتطع من وقتي، وفرضت عليّ -مثلما فرضت على غيري من كتاب ذلك الزمان- ممارسة للحياة عمومًا وليس فيما يتعلق بالكتابة والدور الذي يمكن أن يلعبه الكاتب؛ أنا راض طبعًا ومنحاز لتلك الممارسة وأحترمها. 

كنت ومازلت أعتبر الكتابة جزءًا من الإيديولوجيا، لكنني لا أعتبر الكتابة تعبيرًا مباشرًا عن الواقع أو انعكاسًا له، أو وسيلة للدفاع عن القضايا الكبرى أو التحريض ضدها. لذلك لم يكن لدي في أي وقت ما يمكن أن تطلق عليه مشروعًا، والكتابة بالنسبة لي هي المشروع، وبين كل عمل وآخر أستكمل خبرتي بالكتابة التي أستمدها من الكتابة.

عزيزي محمود

 أتوقف هنا لأؤكد لك أن الهزيمة التي مٌنيت بها (الاشتراكية) هي هزيمة لقيمة إنسانية كبرى قوّضتها النظم الشمولية، وعجزت الإنسانية عن تطويرها وحمايتها، وأظن أننا سنستغرق وقتًا طويلًا قبل أن تتبدد الظلمة قليلًا ونصل إلى بقعة ضوء وسط توحش النظم التي تحكم العالم شرقه وغربه. هناك الكثير جدًا مما يدعو للتشاؤم والمزيد من التشاؤم.

أريد أن أنتقل سريعًا لما فاتني وأشعر بالخسارة الشديدة بشأنه وهو الثورة التكنولوجية (هي ثورة فعلًا) فيما يتعلق بالاتصال وتقزيم العالم والسيطرة المطلقة عليه بواسطة التكنولوجيا، وفيما يتعلق بما تمنحه هذه التكنولوجيا للكتابة من يٌسر يصل إلى تحرير الكتابة ذاتها من الكثير والكثير من الأعباء، هذا إلى جانب ما تحققه للباحث والكاتب عمومًا من تيسير وسهولة وتدقيق.

على المستوى الشخصي أنا عاجز عن اللحاق بأقل ما وصلت إليه التكنولوجيا. لقد تخلفت حقًا وأشعر بخسارة بدون أي شك. ومع هذا فربما تكون هذه النقلة الكبرى هي الأمل الغامض والوحيد، على الرغم مما يتهددها من فخاخ وأشراك، ولاننسى أن قوى الشر ممثلة في الاحتكارات العالمية تسيطر على اللعبة بكاملها ولديها مصالحها.

لأنني لا أشعر كثيرًا بثقل السنين، فلدي على الدوام رغبة في الكتابة، رغبة لا تفتر، والقلق والتوتر وعدم احتمال الحياة يحدث فقط في الفترات التي أعجز فيها عن الكتابة ..

تجربتي في الصحافة طويلة نسبيًا، وشاركتُ في تأسيس أكثر من صحيفة، وتستمد جانب من أهميتها من اشتغالي عدة سنوات بالصحافة الثقافية. بصفة عامة أنا راض عن التجربة بخيرها وشرّها، وتمكنت أغلب الوقت من أن أكتب ما أريده أو القريب مما أريده، لكنني لم أضطر لكتابة ما لا أريده. كذلك كسرت الصحافة ذلك الحاجز بين الواحد وبين الإمساك بالقلم، وأسهمت بلا شك في التدريب على الصياغة. والواقع أن الصحافة مفيدة في تجنب التورط العاطفي في الكتابة والغنائية وزوائد المجاز. لغة الصحافة لغة محايدة وينبغى أن تتحلى بالصرامة والدقة. لغة الصحافة يجب أن تتضمن رسالة محددة من الضروري أن تكون عارية وصاحية، وأظن أن هذا جانبا مما سعيتُ إليه فيما كتبته من أعمال قصصية وروائية. 

قبل أن أنتهي أود أن ألفت نظرك إلى ضرورة تأجيل الارتباط. للأسف الارتباط قسمة ونصيب كما اكتشفتُ لاحقًا، لكن يمكن تأجيله فهو شر لابد منه. عليك أيضًا تجنب رؤية العالم باعتباره أبيض وأسود. ومن بين خطاياي الكبرى عدم تقدير الاختلاف، ولم أصل إلى اعتباره ضرورة بل وفضيلة إلا متأخرًا. 

كثيرًا ما تأملت، وأنا في هذه السن، أي بعد أن بلغت من العمر أرذله، تسامحي مع الآراء المخالفة، وتقديري للأسباب التي قد تدفع البعض للتنازل، فهمي للضعف الإنساني، وقدرتي على تبين وتمييز الألوان المختلفة .

وفي النهاية أصارحك بأنني لم ولا أثق في مستوى ما كتبته وما أكتبه من أعمال قصصية وروائية، لكنني قد أكون واثقًا إلى هذا الحد أو ذاك في الكتابات الأخرى. ولأنني لا أشعر كثيرًا بثقل السنين، فلدي على الدوام رغبة في الكتابة، رغبة لا تفتر، والقلق والتوتر وعدم احتمال الحياة يحدث فقط في الفترات التي أعجز فيها عن الكتابة.

 أخيرًا لا أدعوك لتبني رأي واحد من الآراء التي أوردتها، فليس هذا من عادتي حتى مع أبنائي، لكنني أدعوك فقط لتأملها.