fbpx
خاص خطــ٣٠

مشاهد من خلف سور كومباوند

في الكومباوند توجد مساحات عامة تبدو ممكنة الاستغلال.. لكن تبقى هناك حدود
ــــــــ المـكـان
2 أبريل 2021

في فبراير 2015، مر علي صديقي رامي (اسم مستعار) قبل الانتقال مباشرة للسكن في التجمع الأول. حينها كنت أعتبر أي منطقة مسبوقة بكلمة “تجمع” هي بمثابة مكان بعيد، لا نذهب له إلا للمناسبات الضرورية كحفلات الزفاف أو العزاء، هي مناطق الأغنياء شرقي القاهرة، حيث الفلل والسيارات الفارهة. 

قبلها استغربت حين أبلغني رامي في 2014 أنهم اشتروا فيلا من ثلاثة طوابق في أحد كومباوندات التجمع الأول، وأنه خلال مدة لا تتعدى الأربعة أشهر سينتقل إليها.

رفيق عمر بظروف خاصة

حتى الالتحاق بالثانوية العامة كانت قوانين منزلنا صارمة، ونظام الرقابة على المصروف كان يمنع أي فسح أو خروجات لا تكون مع شباب العائلة، والاستثناء الوحيد لتلك القاعدة كان رامي، أول صديق عرفته في المدرسة الابتدائية، وجاري بالشارع الذي أسكن فيه بالحي السابع مدينة نصر، شمال شرق العاصمة. 

ولأن رامي عرف طريق المخدرات مبكرًا، ولأنه لم يكن يتعامل مع ديلر واحد في حياته من قبل بشكل شخصي، فقد كانت أغلب خروجاتنا تنحصر في جلسات “الكيف”، والتي يشارك فيها زملاء بالمدرسة أو رفقة من المنطقة، أو معارف جدد التقاهم في جلسات “كيف” حضرها بالمصيف.

أول ما عرف رامي كان الترامادول والتامول في الصف الأول الإعدادي، كنا في 2011، وهو ما جعله ينقطع عن تمرين “كرة اليد”، ولم نقم بأي نشاطات طوال الخمس سنوات التالية سوى الجلوس على القهوة للنميمة لساعات. 

كنا كسالى للغاية، حتى الشجارات بالمدرسة لم نكن نشارك بها. وعلاقتنا بالفتيات اقتصرت فقط على الانترنت، أنا بسبب قواعد المنزل، ورامي لم يكن يهتم بوجود علاقات في حياته، فقط بعض الفتيات اللاتي يتعرف عليهن في جلسات “الكيف” التي كان ينظمها صديق لنا، انتقل منذ 2009 للتجمع الخامس؛ يتعرفان لمدة قصيرة، يتعاطيان سويًا، ثم يفترقان سريعًا.

مغامرات مراهقين

أقلع رامي عن الترامادول والتامول بعد عامين أو عام ونصف فقط من التعاطي بسبب حادثة كدنا نفقد فيها صديق أصابته نوبة صرع بسبب جرعة زائدة، لكنه ظل مداومًا على شرب الحشيش، وعلى جلسات “الكيف”. فكرت كثيرًا في أن أكف عن الذهاب معه لتلك الجلسات، لكنها كانت المفتاح الوحيد للخروج من المنزل.

عشت أربع سنين من التوتر والخوف في كل نزولة ننزلها، فقد كان رامي حريصًا أن تكون جلسات “الكيف” التي نحضرها خارج إطار المنطقة كي لا يراني أحد الجيران أو الأقارب أو والدي شخصيًا. كنا نذهب إلى ميدان الساعة بشارع عباس العقاد، خلف المقاهي الداخلية للميدان، أو بشوارع خلفية بشارع مكرم عبيد، أو بمجموعة من محلات البلاي ستيشن المملوكة لأصدقاء أصدقائنا، أو ببعض المناطق بمصر الجديدة.

مشاهد من خلف سور كومباوند

خاص خطــ٣٠

كل تلك الجلسات كانت مهددة إما بكبسة أمنية، تؤدي في أسوأ الظروف إلى دخولنا الأحداث أو السجن بتهمة التعاطي، وفي أحسنها سيعرف أهلنا حقيقة خروجاتنا وهو ما يعني المزيد من التضييق والعقوبات والمعاملة السيئة.

أيضا كنا معرضين لخطر بلطجية أو “كبار” تلك المناطق؛ أن ينكلوا بنا أو يعتدون علينا، أو يسرقونا. أضف إلى ذلك الاشتباكات البدنية التي كانت تحدث بسبب أن “البغال” قد أفرطوا في الشرب وبدأوا في نطح بعضهم البعض، وكان علي أن أفض العراك بينهم في أغلب الظروف، كوني الوحيد أو من القلائل الذين لا يشربون في الجلسة. كنت لا أدخن بسبب الربو الذي ولدت به، ولأني أعاني الأمرين فقط لتغطية رائحة الدخان التي تفوح من ملابسي.

اختفاء تدريجي

بعد شهرين من انتقال رامي للكومباوند أجريت عملية جراحية دقيقة، ولم أستطع النزول إلا لحضور الامتحانات فقط. كان رامي يزورني بشكل دوري كل أسبوع، لكنني أعفيته من ذلك الواجب نظرا لاقترابنا من امتحانات الثانوية العامة. 

منذ ذلك الحين بدأ تفاعله يقل، ليس فقط معي كصديق مقرب، لكن أيضًا حضوره لجلسات “الكيف” بمدينة نصر. 

كنت أعرف أن رامي سعيد بخطوة النقل، فقد مثلت له نقلة اجتماعية كبيرة، فيلا من ثلاثة طوابق بدلًا من الشقة، طابق كامل منها يقطنه هو وأخوه فقط، ولدى والده نية أن يلحقه بجامعة خاصة بدلًا من عناء مشاوير الجامعات الحكومية. 

مساحة من الهدوء والخصوصية، لا جيران فضوليين، لا أمن، لا بلطجية، وقد تعرف على صديق كان زميلًا لنا بالمدرسة -كان يسكن بمنطقة الزهراء بمدينة نصر- ومنتقل حديث هو الآخر للكومباوند، وهو بدوره عرّفه على مجموعة من المنتقلين حديثًا.

تكونت بينهم جلسات “كيف” أكثر تنوعًا في المكيفات الموجودة، وبها كحوليات، إذ كانت ثقافة شرب الكحول غائبة بشكل كبير عن مدينة نصر لأسباب دينية واجتماعية، كونها منطقة طبقة متوسطة محافظة، وكان معظمنا يصدق حتى وقت قريب أسطورة نجاسة الكحول التي تظل بالجسد لأربعين يومًا.

بعد الثانوية العامة أجريت عملية جراحية أخرى، وليلة إجراء العملية لم أستطع إبلاغ رامي بذلك. فوجئت بأن هاتفه مغلق، وكذلك جميع حساباته على موقع التواصل الإجتماعي، وطوال أربعة أشهر بعد ذلك الاختفاء ظللت أسأل أصدقاء ورفاق جلسات مدينة نصر عنه، وقد أنكروا حدوث أي تواصل بينه وبينهم، فقط بالصدفة وجدت صورة له مع صديقة مشتركة على إنستجرام كنت أعرف أنها انتقلت حديثًا للتجمع الخامس، وبعد أن سألتها عنه، وجدت الصورة قد تم حذفها. 

هنا أدركت أنه بخير، وأنه فقط أراد تغيير دوائره الاجتماعية لتناسب وضعه الإجتماعي الجديد. غضبت من ذلك التصرف، لكن انطوائي وتربيتي المغلقة وضعتني حينها أمام تحدّ أكبر، وهو أن ألتحق بجامعة حكومية، وهو تحدّ جديد بالنسبة لي على الصعيد الاجتماعي والنفسي والدرامي.

أهلا بك في الكومباوند

بعد أحد عشر شهرًا من الاختفاء، وجدت رسالة ومحاولة اتصال من رقم رامي القديم. تجاهلت المكالمات ليومين، ولم أفتح الرسالة في البداية، لكنني قلقت أن يكون ذلك الإلحاح في الاتصال سببه وقوعه في ورطة جديدة ففتحت الرسالة. كانت اعتذارًا مطوّلًا عن الاختفاء مع رجاء منه أن أزوره وسيوضح لي أسباب تصرفه. طلب مني أن أركب أي أتوبيس متجه للتجمع الأول من طريق العاشر – زهراء، ووصف لي نقطة سينتظرني عندها لنذهب إلى الكومباوند.

كان الطريق سهلًا والمسافة ليست بالبعد الذي تخيلته. أخذني في البداية لجولة سريعة بالكومباوند، تخطيطه بسيط للغاية، والدخول من البوابات سهل ولا يحتاج للكثير من الإجراءات حتى للغرباء. 

يتكون المجمع من شوارع متشابهة، على جوانبها فلل كلها من ثلاثة طوابق، وتنتهي كل وحدة صفوف بحديقة عامة كبيرة، وفي جوانب الكومباوند الحدودية توجد مدارس “مالتي ناشيونال” متاخمة لسور الكومباوند. 

قطع رامي تأملي.. “الألوان مفروض تبقى ثابتة لون “بيج” واحد، بس زي ما انت شايف، كل ساكن لون بمزاجه.. “بيج” غامق، “بيج” فاتح، “بيج” ملطش في برتقاني، وساعات ألوان مختلفة تماما زي الرمادي، تركيبة ألوان مش مختلفة عن مدينة نصر في حاجة، جم وخدوا عشوائيتهم معاهم”.

مشاهد من خلف سور كومباوند

خاص خطــ٣٠

ديموجرافيا

أخذ بعدها يشرح لي تركيبة أغلبية سكان الكومباوند الإجتماعية، مؤكدًا أن أغلبيتهم من الطبقة الوسطى، يتفاوت وضعهم المادي بين “المرتاح” و”المش مرتاح”؛ فبينما يمتلك “المرتاح” إستثمارات صغيرة في مجال ما أو وظيفة بشركة ضخمة بمرتب عالي أو وديعة في البنك ينفق من أرباحها، فإن الـ “مش مرتاح” لا يملك إلا وحدته السكنية وعائد وظيفته، وإن تأزم معه الوضع يقوم بتأجير أحد طوابق فيلته، لأن كل طابق له تكوين كامل لشقة صغيرة. 

عندما خرجنا من الكومباوند للطريق الرئيس لم يختلف المنظر كثيرًا؛ فلل من طابقين لأربع طوابق في صفوف، تجاورها في بعض الأحيان عمارات من أربعة طوابق، المعلم الوحيد المختلف هو مول واحد صغير فيه بعض المطاعم المجمعة من العلامات التجارية الشهيرة في شكل يشبه الـ “الفوود كورت” بالمولات التجارية الضخمة، وهايبر ماركت واحد لتلبية متطلبات سكان المنطقة بأكملها. 

بعد أن قطعنا مسافة تتراوح بين  الكيلوين والثلاثة من بوابة الكومباوند، ركنّا بأحد الجراجات بمنطقة تبدو مشابهة لعمارات مدينة نصر؛ العمارات المحيطة يمتد ارتفاعها بين الأربعة والستة طوابق. وعلى بعد أمتار منها جلسنا بمقهى بلدي يعرف “رامي” الجميع فيه. 

“القهوة هنا هي البيت اللي بيجمعنا، عشان المول مش ألذ حاجة، فيه تحرشات واعتداءات حصلت فيه قبل كدة.. معظم اللي بيقعدوا فيه مبيبقوش من الكومباوند، بيبقوا ساكنين في مناطق تانية شعبية بعيدة، عيال من برانا.. أنا مثلًا لما بروح أجيب حاجة من هناك ولا أطلب حاجة عشان شعري طويل كله بيبصلي، بحس كأن بنطلوني مقطوع. إنما القهوة هنا كلنا عارفين بعدنا وعارفين أولنا من آخرنا فمحدش بيستجري ييجي ناحية التاني، كل واحد قاعد في حاله”.  

أوضح لي أنه كانت هناك في بدايات المقاهى مساحة لتواجد الإناث من الصديقات من الكومباوند، لكن صاحب المقهى ألغاها، لا لمشاكل حدثت، ولكن لأن بعض المرتادين المداومين من الذكور وصاحب المقهى نفسه يفضلون أن يتعاملوا مع جعجعة ذكورية على أن يتعاملوا مع مساحة فيها ضحكات مختلطة من ذكور وإناث.

يقتصر فقط تقديم بعض خدمات المشاريب والشيشة على مرتادات يجلسن بسياراتهن إلى جانب المقهى بالجراج، هذا بالإضافة إلى أن العديد من أهالي الإناث يعودون لأصولٍ محافظة متدينة، ولن يسمحوا بتواجد فتيات بمقهي بلدي مع ذكور حتى ولو كان في إطار مساحات آمنة.

صلح واكتشاف لعالم جديد

بعد أن انتهينا من جولة تعريفية أولى بحياته في الكومباوند، كشف لي عن سبب اختفائه وانقطاعه عن مدينة نصر وجلساتها وأصدقائه بها.. “كنت في الأول خالص أول شهر بنزلهم كل يوم مع إن ده كان مرهق جدًا، بعدها بطلت لأنهم مبينزلوليش، يعني انت تنفّضلي، لو مش عايز تبذلي نفس المجهود أبذلهولك ليه؟، وبعدين من ساعة ما جيت حسيت بفرق سلوكيات ابن وسخة، في فرق كبير فشخ بين آخر الكوبري وأول الكوبري، أي نزولة هناك بحس إني بقلل من نفسي”. 

سكت قليلًا قبل أن يقول لي السبب المحوري.. “العيال بتبصلي إني مختلف، وبتتقال كده، إحنا بتوع مدينة نصر وإنت بتاع التجمع، مش عارف الكلام ده جيه منين، إحنا حالتنا المادية والإجتماعية واحدة، ليه تشوف إني هنظر لك نظرة دونية عشان سكنت في حتة تانية، خصوصًا إن طلع ميتينّا عشان نعمل النقلة دي، شفت والدي ووالدتي وإزاي اتفشخوا عشان نروح هناك، ولحد دلوقتي مفيش إحتياطي مالي سايل”.

لذلك فقد كان موقف رامي بعد إحساسه بالنبذ أو التنمر هو الانقطاع التام عن مدينة نصر، وظل على هذا الحال لسنة ونص بعد التحاقه بالجامعة، منخرطًا مع رفقة أصدقاء الكومباوند من مهاجرين مدينة نصر في كل أنشطتهم. 

مشاهد من خلف سور كومباوند

خاص خطــ٣٠

حدث تغير آخر لرامي جعله ينطوي أكثر على نفسه، ويبتعد حتى عن رفقة الكومباوند، فقد تعرف على مجموعة مختلفة بكلية الإعلام التي يدرس بها، مجموعة أخرى بعقلية مختلفة وأفكار أكثر انفتاحًا على كل ما هو مختلف، ولأول مرة يجد نفسه قادر على نقاش مواضيع تخص التابوه الجنسي والسياسي والإجتماعي، ويستطيع تكوين رأي في قضايا مثل الحرية الجنسية، وحرية اختيار الهوية الجنسية والسياسية والدينية. 

لكن لأن الجامعة كانت تقع في مدينة السادس من أكتوبر، بالجزء الغربي من القاهرة، بينما يقع هو في الجزء الشرقي، فقد اقتصر لقاؤه بهم على فترة الدراسة بالجامعة، وكان كلما يحاول فتح مثل تلك النقاشات في وسط دوائره يقابل بالرفض والسخرية، شعر ساعتها بأزمة هوية.. “طب أنا أحسنلي أفضل زي العيال اللي بقعد معاها على طول، ولا اللي بشوفهم في الدراسة؟”. 

ما جعل الأمر صعبًا أيضًا، أن رامي كان يكره التواصل الإلكتروني، تلك الأزمة جعلته يفضل الجلوس وحده بالمنزل، أصبحت مشاهدة فيلم أو مسلسل أفضل له من الجلوس مع رفقة الكومباوند، وأصبح أي حوار بالنسبة له مرهقًا للغاية، وفي تلك الفترة قل إستهلاك رامي للحشيش والكحول، قد يمر شهر أو شهرين ولا يصطبح رامي سوى مرة أو مرتين بسطح الفيلا، وأصبحت دائرة رامي الحالية مكونة من ستة أفراد أو سبعة على الأكثر يمكن الحور معهم في أي مواضيع بمساحة آمنة ورحبة، أضافني لهم بعد أن خرج من عزلته وعرف وظيفتي. 

وجه مختلف.. وجديد

بعد تلك المرة أصبحت مداومًا على الذهاب لرامي، قليلًا ما يلتقي برفقة أخرى في وجودي، وتكلفة التنقل لا تتعدى العشرين جنيها على الأكثر. نجلس بالمقهى أو نذهب للمنزل ونطلب طعامًا. 

وجوده وحده في طابق، مع غياب أخيه الأكبر لمعظم الوقت للعمل، أعطانا المساحة للحديث بقضايا حساسة، أو بصوت عالٍ، وفي بعض الأحيان كنا نجلب بعض الكحوليات لنشربها، كما أنه أسرّ لي بأنه يستقبل في بعض الأحيان إحدى الفتيات ويمارسون الجنس.

وبعد أن أنهينا غدائنا في أحد المرات وجدته يخبرني بأنني مدعو لجلسة كيف “من بتوع زمان”، لم أكن أريد أتذكر تلك الجلسات، لكن كان لدي فضول أن أجربها في ظل مساحة أكبر من الأمان والخصوصية. 

وصلنا لنهاية أحد صفوف الفلل بالكومباوند، حديقة هي الأقدم كما أخبرني، لكن مستوى الإضاءة بها عالٍ للغاية، حتى أني كنت قادرًا من بعيد أن أرى المشاركين بالجلسة. 

“يا بتشرب هنا، يا بتشرب عند سور الفندق البعيد اللي وريتهولك، يا ناحية أسوار المدارس، بص أي جنينة أو ناحية متطرفة هي مساحة للشرب والعط، وقعدات زي دي، وقعدات نم عادية كمان، بس هنا أهدا ومحدش هيقولك الصوت ولا المزيكا عالية، ولا حد يبضن عليك”.

بسيارتين مفتوحتي الأبواب والشنط، تكونت الجلسة، كانوا ثلاثة شبان وأربع بنات، بدوا هادئين، ومظهرهم يقول إنهم من مستوى رامي الإجتماعي أو أعلى منه، كانت جلسة اليوم تحتوي على جوبات حشيش وزجاجات “كوبانا”، وكان الجو لطيفًا ومشجعًا للحديث المتبادل بين الجميع. عرفت أن الحشيش والفودو يأتيان من مناطق الرحاب، التجمع الخامس، والعاشر، والهيدرو من الرحاب، أما الكحوليات من كشك بالحي العاشر، أو من فرع إحدى شركات الكحول الرسمية على طريق التسعين الشمالي، أو عن طريق تطبيقات الشركة الافتراضية.

ذكَرت إحدى الجالسات على سيرة المخدرات الجميع بوباء الفودو الذي اجتاح التجمع بكل أحيائه، “كيسين كانوا في كل حتة في الكومباوند وبراه؛ “مستر هابي” و”سكوبي سناكس”. ليعقب رامي موجها حديثه لي “بس بطلناه من ساعة ما أيام الفلجرة خلصت”.

ضحك الجميع وبدأ أحدهم يحكي لي أغرب ما يمكن أن أسمعه عن رامي، فالشاب الذي أعرفه ولم يدخل خناقات من قبل، كان أحد “كبار” المنطقة هنا في فترة من الفترات.. “أول ما جينا هنا كنا بنطلع برة مجموعة صغيرة، أو واحد لوحده، وكان بيتقلل مننا بلا سبب، خاصة لو في الرحاب، قررنا نجّمع نفسنا ييجي 30 – 35 فرد وأي حاجة تحصل لحد منا إن كان من طرف مناطقنا القديمة زي العاشر مدينة نصر، الزهراء، أو المحيط الجديد.. التجمع الخامس والرحاب، ومرة في مرة بقى اللي يزعلنا بنعّلم عليه، وممكن نخش المناطق دي وناخد حقنا تالت ومتلت، وماشيين هناك محدش يلمسنا، وعلى حق”.  

أكمل “عملنا حكايات كتير فشخ لدرجة إن الكومباوند بقى معروف، حتى جوا في النادي حد عاكس واحدة تبعنا، خرجناه من أوضة أمن النادي بعد ما كسرنا بابها، وضربناه هو وصحابه وعلمناهم في وشهم، ولما البوليس جيه خدونا وطلعنا في نفس اليوم”. 

تهكم رامي مقاطعًا فكرة أن يكونوا من كبار المنطقة ومسمعين في المناطق المجاورة ولم يبت واحد فيهم ليلة في الحجز.

مشاهد من خلف سور كومباوند

خاص خطــ٣٠

قبل أن نتجاوز الموضوع أراد أحدهم أن يوضح لي قوة هذا الإنجاز وجدارتهم.. “في الرحاب إنت لو دخلت عندهم متطلعش أصلًا، بيلموا بعض في ثانية” ، لتسخر من كلامه إحدى الجالسات موجهة الكلام لي: “الحوارات دي كلها كانت بتبقى يا على نسوان، يا إدوا لحد يعرفوه من هناك فلوس يقضيلهم وباع لهم حاجة أي كلام أو ضربهم على عينهم”.

وعقب رامي معدلًا.. “هنا وفي المناطق المجاورة، إنت لو مش تبع حد من هنا، وشكلك مش عاجبني أو مش عاجب حد من اللي من المكان، وعملت عوق أو حس إنك بتحاول تبرطع، بيتعرضلك، لأنه بيعتبرها منطقته، فيا يسيبك وتبقى اتعودت عليه، يا يحط عليك. ساعات في مناطق تانية ميبحبوش جرابيع أقل منهم في المستوى المادي يبقوا قاعدين في نفس المكان”.

كان لدي فضول لمعرفة مصير مجموعة الـ 30-35 فرد، فأنا لم أرَ إلا سبعة، فربما تكون هنالك تجمعات أخرى أكبر، لكنه أجابني بأن أكبر شلة يمكن أن تتكون من عشرة أفراد، فقد أدت العديد من التطورات لتفرق التكتلات الكبيرة.. “شوية راحوا شرطة وعسكرية وبقوا يقعدوا سوا، شوية كونوا دواير مدمنين، شوية كونوا دواير متعافين، شوية لسه شبيحة وليهم دوايرهم وتجمعاتهم وعلاقاتهم بره وجوا، ولسه بيعملوا قلق، وهكذا”.

وأكمل.. “بس بعد ما بطلنا نتلم بالعدد ده مفيش خلافات هنا، ولو في خلافات لأسباب أيديولوجية، أو دينية، أو غيره،  فالخلافات هنا مهما كانت حدتها آخرها إيذاء لفظي، أو تنمر، أو نبذ، محدش يقدر يأذي التاني بشكل جسدي أو مادي، لأن كل واحد كده كده حتى لو كانت واسطته بعيدة فعنده واسطة برضه، ومحدش هيحب يخش حرب وسايط نفس طويل”. 

بعد الانتهاء من طرقعة زجاجات الكوبانا، نهضنا جميعًا حتى من لم ينه جوبه  لنتمشى في المناطق الخضراء الموازية لصفوف الفلل.

لفت رامي انتباهي لأحد أسطح الفلل التي تنبعث منها إضاءات الليزر، وكلما اقتربنا سمعنا صوت الموسيقى بوضوح، موسيقى تكنو- هاوس، أو تراب.. “دي شوية بتبقى حفلات المرتاحين، عشان تكلفة سيستم الإضاءة والصوت، وبيجيبوا بشكل كبير يا سايكيديليكس يا إم دي إم إيه؛ الحاجات اللي بتظبط الدماغ مع الحفلات، مش فودو أو برشام، ممكن حشيش. وأغلبهم يا عزاب يا أهاليهم بيبقوا مسافرين ساعتها، وطبعا الفلل اللي جمبهم بتبقى يا مهجورة يا فاضية”. 

حكايات عن العلاقات

 يمارس رامي رياضة “الأمريكان فوتبول”، رياضة يخرج فيها طاقته المكبوتة، وضغطه من أعبائه اليومية، ولا تتطلب كشوفات مخدرات كثيرة، كما أنها منتشرة في محيط أحياء التجمع وبالجامعات الخاصة مثل الجامعة الألمانية. يؤجر فريق رامي الملعب الخاص بمركز شباب التجمع الأول بشكل سنوي للتدريب ولعب المباريات الخاصة ببطولة دوري كرة القدم الأمريكية. 

وحينها يتم تقسيم التكاليف على أفراد الفريق الذي يضم ضباط شرطة يأتون في أوقات فراغهم، أو شباب جامعي، أو موظفين عاديين، لكن لا يسمح بشكل كبير لمن هم دون سنّ الـ 21 بالانضمام للفريق. 

في إحدى المرات بعد أن أنهى “رامي” تمرينه، جلسنا في أحد الحدائق العامة فضحكت وقلت له إن الحدائق الخاصة بالكومباوند بشكل عام ذكرتني كيف كنا نراقب الشباب ممن كانوا في نفس سننا حاليًا  وهم يحاولون خطف قبلة أو حضن أو لحظة حميمية بالحدائق العامة بمدينة نصر، وكيف كنا نسمي المناطق الهادئة بالـ soft spot، وهو ما جعلنا نفتح مساحة للحديث عن العلاقات هنا.

ذكر لي أن الكثير من الشباب من الجنسين منفتح على العلاقات الرضائية خارج إطار الزواج، والتي لا تشترط وجود مشاعر عاطفية بين الطرفين، وتوجد مساحات لممارسة تلك العلاقات بالحدائق العامة.. “الحاجات دي أمان بشكل كبير من ناحية، وخطر فشخ من ناحية تانية برضه.. المساحات مكشوفة تقدر تشوف مين جاي من كل حتة وتعدل نفسك، بس لو اتقفشت من أي شباب هنا، بتطلع الحتة الشرقي اللي عندهم؛ الواد هيتضرب علقة موت، والبنت هتتجرس، ويتقال لأهلها، ويتسرق موبايله ومفاتيحه ويتساب يروح فيللته مشي، ومحدش يقدر يتشددله، في زي قانون عام إن ده جزاء عادي”.

ظهر الاستياء الشديد على وجهي من رد فعلهم؛ صيغة وطريقة حديث رامي تقول إنه خارج تلك الحسبة، لكن مجرد تخيل طرق التنكيل تلك أصابني بالرعب، ولاحظ رامي ذلك ليحاول تلطيف الجو.. “بس الموضوع أريح وأأمن عن بره، وفي مساحات، وقليل ما بتحصل حوادث التنكيل دي.. قليل فشخ يعني”. 

الذي استغربته من حديث رامي أن أيّاً من سكان الكومباوند لا يلجأ لممارسة مثل تلك الأنشطة في الفلل المهجورة. يقتصر التسلل لفلل مهجورة على طلبة يهربون من المدرسة، أو هاربين من كاميرات النادي. وقد كان ذلك التمسك الكبير بممارسة تلك الأفعال في المساحات العادية طالما أنه لا يؤذي أحداً، رغم وخامة العواقب.

مشاهد من خلف سور كومباوند

خاص خطــ٣٠

في مناطق البين بين

في طريقي للمنزل توقفت في الحي العاشر، كان الموقف الممتلىء بالتكاتك والميكروباصات يزدحم بالبشر من كل جهة، تخيلت لو حدثت حالا مشاجرة بين السائقين أو بين بلطجية، كيف يمكن حماية من ليس له ناقة أو جمل، وإن تمت سرقة أحد المارة، كيف نصل للسارق في ذلك الزحام. هنا أدركت ما كرهه رامي بعد نقلته؛  السلوكيات غير المنظمة التي لا يمكن توقع عواقبها ونتائجها. 

بين أماكن مثل كومباوند رامي، يسير فيها قانون هو خيط بين نظام موضوع من الأعلى وعُرف بين ساكنيه، ومكان آخر، مثل وسط المدينة يكون الضامن للنظام فيه هو التواجد الأمني المكثف، تقع في المنتصف أماكن مثل التي أمر بها.. أسأل نفسي كيف تسير أمور الناس بها؟ لم ألقَ ردًا.. وواصلت طريقي للبيت.