fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

ستات العرقي.. منبوذات لا مواطنات

تتركز هموم هؤلاء النسوة في توفير الأكل للعائلة، وخيارات تحقيق ذلك محدودة إما في غسل الثياب أو صناعة العرق أو بيع الشاي. ومع زيادة أسعار البلح فإنهم يعملن في البيوت لتجميع كلفة شراء البلح وكراء أدوات التقطير
ــــــــ العملــــــــ المـكـان
7 يونيو 2023

تعرّفنا بالزميلة والصديقة الراحلة رؤيا حسن في ورشة كتابة صحافية نظمها خط 30 بإشراف الكاتبة الصحفية داليا شمس في أكتوبر/ تشرين أول من العام الماضي، حيث وضعت رؤيا مسودة لموضوع كان يشغلها حول واقع اللاجئات السودانيات الهاربات من حروب وقسوة العيش في جنوب البلاد وغربها للعيش في الخرطوم، هؤلاء تضطرهن ظروفهن القاهرة إلى بيع العرق والمخاطرة بالتعرض للحبس والجلد والتغريم. 

كانت رؤيا تنوي العودة إليهن في زيارة أخرى لاستكمال قصصهن، قبل أن يقسم المرض حياتها بين المشفى والبيت. انقطعت أخبارها عنا، إلى أن وصل خبر رحيلها، الجمعة الماضي، متأخرًا بسبب ظروف الاتصال في البلاد. 

عدّلنا قليلًا على مسودة رؤيا حين رأينا ذلك ضروريًا، ولكننا تركنا النص وفيًا لما كانت تفكر فيه آنذاك أو تؤجل الاسترسال حوله أو تبحث عن إجابة عنه. ننشر هذه المسودة لنفي بوعد رؤيا لجوجو وأمينة وأخريات شاركنها الونسات والأسرار والحكايات، ننشر هذه المقابلات ونحن نعرف أن حياة النساء اللواتي قابلتهن رؤيا أكثر تعقيدًا ومشقة وخطرًا اليوم في ظل العنف والاضطرابات التي تجعل من حياة ناسه جحيمًا يوميًا لا بد من عبوره.

كانت رؤيا حريصة على أن تترك كلام ستات العرقي بالمحكية مثلما هو، مفسحة لأفواههن أن تتكلم براحتها ولأصواتهن أن تُسمع عبرها في وقت لا شيء فيه إلا إخراس الأصوات. 

***

تخرج صانعة العرقي أمينة من الحارة 58 في مدينة أبو سعد بمحلية أم درمان الكبرى، ومع خروجها اليومي للعمل تبدأ الحكاية. تُعرف هذه المحلية بأنها نواة العشوائيات، حيث لجأ كثيرون هربًا من الجفاف والحروب الأهلية والأوضاع الاقتصادية الصعبة، وغالبًا ما يكون سكانها من المجموعات الإثنية المهمشة والأكثر إفقاراً وتهجيراً. 

إلى سكان هذه الأحياء تُكال شتى التهم الاجتماعية التي تُبقي عليهم في القاع، تكرّس ما يُشاع عنهم من أنهم منبع أصحاب الجنح والعصابات. حتى الصحافة تتناقل الصورة كما هي من دون أن تلزم نفسها ببرهان. 

منذ مدة نشرت جريدة “الصيحة” خبرًا -تناقلته مواقع أخرى كما هو مثلما فعلت منصة الراكوبة– يلقي باللوم على “وجود معسكر كبير للاجئين” فيها “فاقم المشاكل التي تواجه السكان. فالمربع أكبر ناشر لعصابات النيقرز في ولاية الخرطوم، لاحتلال سوق الخمور فيه مساحة شاسعة، واحتوائه على مخلفات التمور التي تنبعث منها روائح كريهة تتسرب إلى الأسر المقيمة وتسبب الأمراض”. 

في خبر كهذا لدينا نوعان من البشر، هناك السكان والأسر المقيمة وهناك من هم ليسوا سكانًا ولكنهم يعيشون في هذا المكان بشكل أو بآخر. لاجئون ولاجئات، ليسوا مواطنين ومواطنات وبالتالي ليسوا سكانًا. مهمشون يعيشون في هامش تظهر فيه آثار النزاعات والتضخم بصورهما الأشدّ توحشًا.

يوم من الشغل الحار 

من هنا، ممن هُم ليسوا سكانًا، من المنبع المزعوم للأوبئة الاجتماعية والأخلاقية، تخرج أمينة (اسم مستعار)، إحدى “ستات العرقي”. تقول: “مضطرين نشتغل الشغل الحار، في الشمس نولع الفحم والحطب، ما عندنا شغل غيره”.

تتحدث أمينة عن البدائل المتاحة لعملها في صناعة العرق من التمر المختمر. وتذكر العمل في خدمة البيوت، وهذا يتطلب الذهاب إلى منطقة بيت العرب (حيث المجموعات المنحدرة من الخرطوم و الشريط النيلي شمالاً) للعمل في غسيل الملابس الذي غالبًا ما تقوم به نساء من منطقتها. 

تحكي: “قولي اشتغلتي دستتين غسيل (24 قطعة ملابس) بألف جنيه (دولار و 76 سنتًا). تركبي المواصلات وإنت راجعة البيت من أبو سعد الحارة 58 إلى الحارة 15 تذكرة المواصلات بـ 300جنيه، يعني ماشين وجايين بـ 600. باقي كم من الألف؟ 400. وعندك عيال من الصبح ما أكلوا، ومحتاجة مويه بـ 150 لـ 200 جنيه”.  

لتعليم أطفالها تتوسل مدير المدرسة مع بداية كل سنة ليخفض الرسوم. وحين مرض طفلها بالملاريا دفعت لعلاجه أربعة آلاف جنيه (سبعة دولارات) وهي كل ما تملك.

منذ عام 2012 وأمينة (28 عامًا) تسكن الحارة 58 مع أطفالها الأربعة. استقرت بعد تنقلات بين الولايات والمدن السودانية بسبب عمل زوجها جنديًا في القوات المسلحة. 

تقول: “كنت في دارفور عشان راجلي عسكري تابع لكتيبة جيش بارا. ولدت طفلي الأول في منطقة النهود بعدين انتقلت إلى منطقة الدلنج وانفصلت منو، بعدين هو جاء هنا وجيت هنا وراه وتاني فات”. 

بصوتها الخافت تستعيد أيامها في محلية هيبان بولاية جنوب كردفان، هناك عاشت طفلة إلى أن أخرجها والدها من المدرسة لترعى البقر، ثم تزوجت والتحق زوجها بالجيش في الخرطوم وأسكنها في الحي العشوائي إلى أن خرج يومًا وانقطعت أخباره تمامًا منذ خمس سنوات. من دون أي مهارة تملكها كان عليها أن تتدبر أمرها وتعيل نفسها وصغارها فلجأت إلى صناعة العرق من البلح التي تعلمتها صغيرة من والدتها في هيبان.  

لتعليم أطفالها تتوسل مدير المدرسة مع بداية كل سنة ليخفض الرسوم. وحين مرض طفلها بالملاريا دفعت لعلاجه أربعة آلاف جنيه (سبعة دولارات) وهي كل ما تملك. الفقر أيضًا يتطلب نظامًا للأكل تصفه أمينة: “نأكل مرة في اليوم، لو فيه قرش نأكل وجبتين. مافي نطبخ رز للصغار. وإنت الكبيرة تنومي بالجوع”.

لمن المدينة؟ 

تعمل “ستات العرقي”، ومعظمهن من جنوب البلاد وغربها، في ظروف خطرة، تحت ظل مؤسسات اجتماعية ودينية تحظر صنع الخمور وبيعها وشربها منذ عام 1983. وكثيرًا ما يلقى القبض عليهن ويتعرضن للجلد والغرامة والسجن. يتجلى إقصاء المجتمعات لهنَ في التضييق على تأجيرهن بيوتًا داخل المدينة، لذلك يعشن حياتهن على أطراف المدن والقرى. 

لماذا وجدت المدينة إذن؟ من كتابات عالم الاجتماع الفرنسي هنري لوفيفر حول الحق في المدينة وصولًا إلى نظريات الجغرافي الماركسي ديفيد هارفي حول المدن المتمردة، هناك العديد من المحاولات للإجابة على السؤال: ماذا يعنى وجودنا في المدينة كوحدة سياسية واجتماعية. ومن يمتلك ويتمتع بالمدينة؟

رغم تدهور الخدمات المدينية في السودان، حتى أن كثيرين يشككون في تسميتها مدنًا، إلا أن هناك قلة تنتفع فعليًا من خدمات جيدة وهؤلاء هم أبناء الطبقات العليا وأبناء المجموعات الإثنية المهيمنة وهم أيضاً من يُطلق عليهم مواطنات ومواطنين. في حين تُعزل المجموعات الفقيرة والإثنيات المهمشة وتُقصى بطرق مختلفة مباشرة وغير مباشرة إلى مناطق تصنفها الدولة كعشوائيات.

ميزانية أسرية خاسرة  

تستدين أمينة لصنع الخمور البلدية، وزبائنها بدورهم، يستدينون منها. ولدى مداهمة الشرطة أماكن بيع الخمور تصادر الأدوات التي تستأجرها يوميًا بـ500 جنيه. في حال حبسها، على أمينة دفع غرامة تتراوح بين 50 و70 ألف جنيه (بين 87 و123 دولارًا). تقول: “إذا ما عندك تدفعي غرامة تمشي السجن، والعيال هنا براه قاعدين مع جيران أو لو عندك إخوات بجوا بلموهم ليك لمن تجي”.

قبل ارتفاع الأسعار في السنوات الأخيرة تعاونت بائعات العرق في مساندة بعضهن لدى حبس إحداهن، فقد كانت الغرامة لا تقل عن ثلاثة آلاف ولا تزيد عن خمسة. ولكن ارتفاع الأسعار في السنوات الأخيرة أدى إلى زيادة كبيرة في كلفة مواد صنع الخمر نفسها من سكر وبلح وخميرة وفحم ومواصلات، وبالتالي تحطمت مبادرة التعاون ما بينهن أمام وحش التضخم: “عملنا صندوق الغرامات، ما استمر لأنها زادت من ثلاثة ألف لخمسين ألف. ما قدرنا”.

شهود على هذه المداهمات يقولون إنها عادة ما تتضمن الضرب وكسر أقفال البيوت ومصادرة أي شيء يرغب الأمن في مصادرته والتحرش وبالطبع القبض على بائعات العرق.

حياة أمينة نسخة طبق الأصل من حياة شقيقتها بائعة العرقي التي تعيش في عشوائية أخرى في حيّ جبرونا، غرب أم درمان. مكان آخر داهمت القوات الأمنية ساكنيه أكثر من مرة بهدفٍ أطلقت عليه شرطة ولاية الخرطوم “مكافحة الجريمة والظواهر السالبة”، شهود على هذه المداهمات يقولون إنها عادة ما تتضمن الضرب وكسر أقفال البيوت ومصادرة أي شيء يرغب الأمن في مصادرته والتحرش وبالطبع القبض على بائعات العرق.

تقتصر أمينة في تواصلاتها مع أختها على الاتصالات، كما أنها لم تر والديها -المقيمين في هيبان-منذ تسعة أعوام، بسبب الحروب، وأحيانًا بسبب أمطار الخريف التي قد تجرف أي شيء في طريقها بالنظر إلى غياب طريق أسفلتي، وأحيانا أخرى بسبب تكلفة السفر التي تصل وفقًا لأمينة إلى 200 ألف جنيه سوداني (351 دولار).

ونسة مع جوجو وصديقاتها

جوجو امرأة لا يمكن معرفة سنها بشكل دقيق. ربما تكون في الأربعينات من عمرها، تصنع ابتسامتها مع صوتها العالي توليفة شخصيتها التي تمزج القوة بالمرح. هي من سهّلت لنا مقابلة أمينة بسبب علاقة الصداقة التي تجمعهما. كما ساعدتنا في الوصول إلى الإنداية (مكاﻳﺠﺘﻤﻊ ﻓﻴﻪ ﻛﻞ ﻣﻦ ﻳﺮﻳﺪ ﺷﺮ العرقي والخمور ﻟﻤﺤﻠﻴﺔ). انتقلنا بمعيتها إلى الحيّ المعروف بأنه خارج نطاق سيطرة الدولة، ودعتنا جوجو أيضًا إلى حضور جلسة الونسة مع مجموعة من النساء اللواتي يتشاركن العمل والحياة والهموم نفسها. 

للوصول إلى البيت المقصود مررنا بأزقة حملت أحاديثنا وضحكاتنا، بيوت طينية ذات مساحات صغيرة لا شجر فيها. الكثير من الأطفال يلعبون في الأزقة، صوت المغني محمود عبد العزيز في كل مكان يزاحمه أو بشكل أدق يتقاطع معه أغاني الزنق ونباتات الصبار المنتشرة في المنازل.

يتكون المنزل الذي استضاف الونسة (جلسة الأحاديث) من غرفة مبنية من طين أخذت مكانها وسط الحوش، في زاوية يوجد المطبخ أو مكان تصنيع العرقي، وأمامه “راكوبة” أو مظلة صغيرة جدًا بالكاد اتسعت لنا، أنا وصديقاتي الأربعة وست نساء من الحي. المظلة لم تحمنا من الشمس والحر، ولا أتوقع أنها تقي من البرد عند اللزوم أو تصمد في مواجهة الأمطار.

تتركز هموم هؤلاء النسوة في توفير الأكل للعائلة، وخيارات تحقيق ذلك محدودة إما في غسل الثياب أو صناعة العرق أو بيع الشاي. ومع زيادة أسعار البلح فإنهم يعملن في البيوت لتجميع كلفة شراء البلح وكراء أدوات التقطير (الحلّة والبرميل) بـ 1500 جنيه في اليوم.

تقول جوجو “تشتغلي عشان تطلعي حاجة الأكل، ولمن يكون غالي؟ بجي بقعد لمن ربنا يقول. نلقط خمسين خمسين عشان أجيب ربع كيلو بلح. أو بمشي بيوت العرب أغسل باليومية، نغسل دسته دستتين يدوك خمسمائة جنيه”. تتابع “نحن الشغالين ما بنكسب الـ يبيعوه بالقطاعي يستفيدو ونحن الخسرانين”. تعني هذه العبارة وجود سلسلة موزعين وموزعات، وأن صانعات العرق في أدنى هذه السلسلة، إذ يشتري منهن الموزع عبوة البيبسي الكبيرة (2 لتر) بألفي جنيه، ليبيعها في مكان آخر بـ 5-6 آلاف جنيه. 

تضيف بطالة الأزواج أو غيابهم من الأساس الملح إلى جرح وضعهن كـنازحات، وعلى احتمالهن العناء اليومي من مواجة العنف الجنسي والجسدي والعنصرية والخطاب الأخلاقي الذي يجردهنَ من إنسانيتهنَ ويتركهنَ وحيدات في ظل غياب مطبق للعدالة الاجتماعية.

تجارة الرقم الوطني 

لن تتعرف الدولة عليهنّ كمواطنات إلا عبر أوراق ثبوتية لا يملكنها. حاولت جوجو استخراج رقم وطني يمكنها من العمل فرّاشة أو عاملة نظافة في مستشفى، تقول: “مافي شغل سمح نشتغله، اشتغلت شاي في دار السلام مافيها قروش وكلوا تعب شغل نار. لو كان عندي رقم وطني كنت اشتغلت في شركة  النظافة، فراشة في مستشفى أو مدرسة”. ثم تضيف بحرقة “الرقم الوطنى بقى تجاري باتنين ألف ونص. في ناس بتشهد (لاستخراج الأوراق الثبوتية) بـ 20 لـ 25 ألف”. 

بالنسبة إلى الأطفال فمنهم من يملك أرقامًا وطنية وهناك من لم يحصل عليها. تشرح جوجو “يقولوا ليك الولد جا بطريقة غير شرعية. لازم يطلعوا ليهو رقم وطني، طولي (افترضي) أبوه نكروا، أو هو مافي كلوا كلوا. ما ح يطلعوا ليهو مستند؟ أنا أعمل شنو في الحالة دي أوديهو وين؟ الأطفال بمشوا بيلقطوا الخرد ويبيعوها”، تنهي المرأة كلامها بالقول “تشتغلي شغلك دا وتعتبيروا مصدر لمواجهة متطلبات الحياة”.

بين محاولات النجاة اليومية وحماية أطفالهنَ والرغبة في الحياة، لا وجود لهنَ في الخطابات النسوية والحقوقية  كفاعلات ومصدر لتجليات المقاومة اليومية للأنظمة البوليسية ومعنى أن  يعشنَ دائمًا في الهوامش

قالت جوجو جملتها الأخيرة هذه بفخر، إنها تعدّ العمل في صناعة الخمور البلدية أداة لمواجهة الحياة رغم السياق الأخلاقي الذي يلاحقهنَ بالإزدراء من جهة، و رغم تجاهل الدولة لوجودهم ورغم سياسات الإقصاء: فلا خدمات سكنية لائقة، ولا فرص عمل، وفوق ذلك ترسل رجال الشرطة لمطاردتهنَ. 

واصلت الحديث مازجة المرح بالقوة والأسف بالتحدي، بينما أخذت أفكر في ذلك الخطاب النسوي الليبرالي الذي يرفع شعار “رفع الوعي” ويفترض أن هؤلاء النساء والفتيات لا يعرفنَ شيئا ولا بدّ من محاضرتهنَ حول ما يعشنه يوميًا. بين محاولات النجاة اليومية وحماية أطفالهنَ والرغبة في الحياة، لا وجود لهنَ في الخطابات النسوية والحقوقية  كفاعلات ومصدر لتجليات المقاومة اليومية للأنظمة البوليسية ومعنى أن  يعشنَ دائمًا في الهوامش، هوامش المدن وهوامش الدولة وهوامش الحياة. أسمعها تسأل ولا تنتظر إجابة “أنا اشتغلت ليه؟ لأنى بجازف ما دايرة حق زول. بقوم ببادر بالبسيط لحد ما ربنا يوديني محل تاني”.

حين قال القاضي: افطميه عادي 

الزواج الرسمي، كما تعرفه الدولة ليس مهما بين بعض المجموعة الإثنية في السودان، ولا يتحمل الرجل المشقات التي تتبع ذلك، النساء وأطفالهن هم عادة من يتحمل الوصم والتشرد ويلاحق بالعار ويركض هنا وهناك في محاولات إثبات الأبوة حال أنكرها الشريك، وهم من يسعى إلى تأمين لقمة العيش لأسرة هجرها ربّها. 

تسترجع إحدى الجالسات، والأم لطفل رضيع، يوم القبض عليها واحتجازها، طلبت من ذويها إحضاره طفلها إلى قسم الشرطة لترضعه. فكرت دون أن أصرح بأفكاري إن كان من المناسب جلب الرضّع إلى أقسام الشرطة أو السجون لأمهاتهنَ، وما البديل لدى عائلات تجد ما يسد جوعها بشق الأنفس؟ 

أعيد تركيزي إلى المرأة التى رفض القاضي السماح لها بإرضاع طفلها، أجابها على سؤالها الاستنكاري “الطفل دا كيف؟ افطموا؟”، أجابها ببرود “أيوا افطميه عادي”. قبض على هذه المرأة ليس كبائعة خمر، بل كشاربة. فقد أحضرت المريسة وهو نوع من الخمور البلدية يصنع من الذرة/الدخن ويشرب أثناء الطقوس الاحتفالية لبعض المجموعات الاثنية. قالت للقاضي الذي حكم عليها بغرامة ثلاثة آلاف جنيه “شربت عشان أجيب ليهو لبن يرضع. ماعندي قروش آكل. مشيت أجيب مريسه عشان نرد ليهو اللبن يرضع”. 

في الحراسات، أي في أقسام الشرطة، لا تحصل النساء على مياه الشرب قبل أن يصدر القاضي حكمه فإما الجلد أربعين جلدة أو الغرامة. وقد تدفع إحداهن رشوة في القسم لتجنب الجلد والاكتفاء بمصادرة عدة صنع العرقي، وقد تكون هذه الرشوة علاقة، لن يكون إنهاؤها سهلًا بعد الخروج من الحبس، بحسب خبرات وشهادات جوجو ومجموعة من النساء في الجلسة.

مخاطرة الجموعية 

حين لا تجد ستات العرقي في الحارة 85 زبائن في الإنداية تصبح الرحلة الخطرة إلى الجموعية (منطقة على الضفة الغربية من المنطقة المقابلة لجبل الأولياء جنوب أم درمان على النيل الأبيض) ضرورية. هذا ما تفعله جوجو عندما لا تجد زبائن و تحتاج الى بيع ما صنعته من أجل وجبة الطعام وتسديد الديون: “بمشي للجموعية بشيل لي خمس كرستالات (زجاجات). بركب مواصلات من الحارة 58 إلى الجموعية باتنين ألف ونص. مع المخاطرة دي ببيع الكباية بـ 200 أو 250 جنيه. بعض مرات بتلاقي العصابات البيجي ينهبك، والبيحتال عليك من الزبائن نفسهم. في النهاية يمكن ما يدوك قروشك ويطلّع ليك السكين. الناس الزرق (السود) ديل و الله ما مرتاحين”. 

بصوتٍ عالٍ أمامنا في الجلسة، تحسب جوجو المكسب والمصاريف والنقص بعد عودتها من رحلة الجموعية، ثم تردف “بتندهي للموت عشان ربنا يشيلك. طفلك يمرض عليك وانت ما عندك حاجة. أها الفايدة شنو في الحياة؟”. 

المبيعات 

2 كرستال عبوة البيبسي الكبيرة بـ 2500 جنيه. 

المصروفات المطلوبة 

بلح للعرقي 1200 جنيه 

مياه للشرب والطبخ 150 جنيه 

صابون 350 جنيه 

سجائر 400 جنيه 

تسديد ديون 200 جنيه 

حاجيات أطفال 500 جنيه 

النقص 

300 جنيه

 

*سعر صرف الدولار المذكور كان وقت إجراء المقابلات 

*للمزيد عن رؤيا حسن (1993- 2023) يرجى القراءة